الفصل التاسع
أخطار الأزمنة الأخيرة
3: 1- 9
بعد أن تذكّر بولس الماضي (ف 1) وأشار إلى تيموتاوس كيف يواجه الصعوبات الحاضرة (ف 2)، أخذ يحاور تلميذه حول الأخطار الآتية: الفساد الخلقيّ، التعاليم المضلّة، الاضطهادات. وأعطاه الطريقة التي بها يواجه هذه الأخطار: أمانة للكتب المقدّسة ومثابرة على قراءتها. فجنديّ المسيح يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى، إلى قدرة الله، لأن تهديدات الخصوم تتزايد. أجل، الحياة الخلقيّة لدى المسيحيين الأوّلين ليست مثاليّة، كما نتصوّر. فالهرطقة والجحود يجتذبانهم. ولكن هذا لا يدفع الراعي إلى القنوط واليأس. فالصراع بين الخير والشرّ معروف، وانتصار ظاهر للشرّ قد تحدّث عنه الربّ، ولا سيّما في خطبة العشاء السريّ (يو 15: 18ي). يبقى على الرسول أن يتّخذ ثلاثة مواقف: أن يتجنّب الهراطقة كي لا يُفسدوه بمثلهم السيّئ. أن يتشجّع حين ينظر إلى حياة بولس فيبقى أمينًا للتعليم الذي تسلّمه. أن يقرأ الكتب المقدّسة فيتعلّم منها كيف يحارب الضلال وينتصر عليه، وكيف يعلّم المؤمنين من أجل خلاصهم.
1- مناخ الحرب من أجل الايمان
حين نقرأ 1تم، نجد أن الحرب على الخصوم هي في بدايتها (1تم 1: 3ي، حول الشريعة)، في مسيرتها (1تم 4: 1، حول النسك)، وفي نهايتها (1تم 6: 3ي، حول المال). فإن لم توجد هذه الحرب في جميع التحريضات، إلاّ أنها تُشرف على الرسالة ككلّ. لماذا طلب بولس من تيموتاوس أن يبقى في أفسس؟ ليوصي "بعض الناس أن لا يعلّموا تعاليم تخالف تعاليمنا" (1تم 1: 3). إن الحرب على المعلّمين الكذبة هي الوجه السلبيّ للتعليم. والوجه الايجابيّ هو المحبّة وممارسة الفضائل (1تم 1: 5). هذه الحرب هي التي تُبرز تيموتاوس كمثال للمؤمنين (1تم 4: 1ي). وتدلّ على أن مهمّته هي أن يحفظ الوصيّة منزّهة عن العيب، وأن يحفظ الوديعة التي تسلّمها من الله (1تم 6: 14، 20). إذن، الخطبة ضدّ الخصوم هي في خلفيّة التحريضات التي توجّهت إلى تيموتاوس في ما يخصّ تصرّفه وتعليمه. وهي تتسجّل في إطار الجماعة وفي خطّ تسلّم المسؤوليّة في الكنيسة. فتيموتاوس تجاه الخصم هو بمثابة التعليم الصحيح تجاه التعليم الآخر.
وأخيرًا، إن الخصوم حاضرون في كل الأزمنة: في الماضي الذي عاشه بولس والجماعة (1: 19- 20). في الحاضر الذي يعيشه تيموتاوس (1تم 1: 4ي؛ 4: 3ي؛ 6: 3ي). وفي المستقبل، في الأزمنة الأخيرة (1تم 4: 1- 2)، أي في حاضر الجماعة (2تم 3: 1ي؛ 4: 3- 4). كأني ببولس رأى مسبقًا، بإلهام من الروح، ما سيفعله المعلّمون الكذبة في وقت يكون تيموتاوس عائشًا في أفسس.
غير أن الجدال مع الخصوم، لا يتوقّف في 2تم، عند الجدالات الكلاميّة، فهو يترك أثره في إشارات شخصيّة، حيث يبدو الضّال وكأنه ترك بولس. إن 1: 15- 18 يُوجز التحريض الأول في نقيضة بين "تذكّر" و"لا تخجل" من جهة، وبين "جميع الذين تخلّوا عني في أفسس" من جهة ثانية (آ 15)، وفي تضمين يجد جوابه في 4: 16: "تركني الجميع".
ربط الكاتب موضوع التخلّي بموضوع ألم الرسول في قلب 2تم. فمن ترك الرسول ترك حقيقة الانجيل (1: 12، 15؛ 2: 8؛ 4: 10). وهذا التلاقي بين الرسالة والرسول نجد تعبيرًا عنه في 4: 14- 15: "اسكندر النحاس أساء إليّ كثيرًا... فاحترسْ منه أنت أيضًا، لأنه عارضَ أقوالنا معارضة شديدة". ونقول الشيء عينه عن ديماس "الذي أحبّ العالم الحاضر" (4: 10)، والذي ترك بولس: إنه يقابل جميع الذين "أحبّوا ظهوره" (4: 8)، أي ظهور الربّ.
والمقطع حول الخصوم في 3: 1- 9، يليه حالاً التحريضُ الشخصيّ الذي توجّه إلى تيموتاوس (آ 10- 14)، فتأسّس على ماضيه كتلميذ بولس. والآية 13 تندّد أيضًا بالمعلّمين الكذبة الذين هم "خادعون ومخدوعون". إن تسمية هؤلاء توافق المقابلة مع ينيس ويمبريس (آ 8) اللذين هما شخصان قال فيهما التقليد إنهما كانا من السحرة في مصر، وقاوما موسى، فلا بدّ من نزع القناع عنهما، والدلالة على تفوّق الاله الحيّ. في هذا المجال، نقرأ ما كتبه يوسيفوس في العاديات البيبليّة (2: 285ي) وذلك بعد أن ابتلعت عصا موسى عصيّ السحرة: "في الحقيقة، أيها الملك، أنا لا أحتقر حكمة المصريين، بل أعلن أن ما فعلتُه يتجاوز سحرهم وفنّهم، بمقدار ما الالهيّ يتجاوز البشريّ. وسوف أبيّن أن أعمالي تصدر لا عن الكذب، ولا عن تشويه التعليم الحقيقيّ، بل عن عناية الله وقدرته". هذا ما نجده في 2تم 3: 1ي. ظاهرهم ظاهر التقوى. (آ 5). يتعلّمون بدون الحقّ (آ 7)، يتقدّمون ولكنهم لا يصلون إلى شيء (آ 9- 13).
إن الصراع مع الخصوم يشير إلى فهم السوتيريولوجيا، إلى فهم خلاص يسوع المسيح، كما يُبرز القيمة اللاهوتيّة للزمن الحاضر. إذا كان الخلاص حدثًا، فهو حدث يوصلنا إلى الله. ينطلق من مشيئة الله الأزليّة إلى تفاصيل حياتنا اليوميّة. وهكذا يكون التعليم على المحكّ: على مستوى الخلاص، كما على مستوى العلاقات بين الناس. تجاه مخاطر الخصومات والمجادلات والبلبلة في نظام الجماعة، تجاه نظريات تجعل من الدرس حركة فارغة، تجاه فصْل بين "قال" و"عمل"، تتكلّم الرسائل الرعائيّة عن النظام في البيت، في الكنيسة، عن رئيس لا توجّهه الكبرياء والأموال، بل نداء جاءه من بولس ومن الربّ، عن "تقوى" هي أسلوب حياة متوازنة تستطيع أن تكون نموذجًا للذين في الخارج، للوثنيين الذين لم يدخلوا بعد إلى الكنيسة.
2- دراسة النصّ
تجاه شرّ البشر وكذب معلّمي الضلال، يبقى تيموتاوس واثقًا، ليس فقط لأن الأساس الذي وضعه الله متين (2: 19)، بل لأن ثورة قوى الشرّ "في الأزمنة الأخيرة" قد أعلنت سابقًا وسوف تُقهر. هذه الثورة هي جزء من مخطّط سريّ يُشرف عليه الله. فلا نتحيّر ولا نتبلبل.
يتحدّث النص عن معلّمين ضالين (3: 1- 5) ويصفهم في ضلالهم. وفي جزء ثان، يرينا الكاتب نتائج عملهم (آ 6- 9) وما فيه من شرّ يعود إلى زمن موسى.
أ- معلّمون ضالون (3: 1- 5)
يتطلّع بولس إلى المستقبل. هذا ما يفعله من يعلن وصيّته عند ساعة موته. ولكن هذا المستقبل هو في الواقع حاضر الكنيسة كما يعيشه تيموتاوس. وهو حاضر مظلم.
أولاً: في الأيام الأخيرة (آ 1)
"إعلم". يبدأ النص في صيغة الأمر، ليدلّ على أشياء عُرفت سابقًا (روم 6: 6)، أو ليُعلن أمورًا جديدة (2بط 3: 17)، بل نحن أمام لفت انتباه. أنظر كيف تمّ ما سبق وحدّثتك عنه (1: 18). ويدلّ "إعلم" على الأزمنة الاسكاتولوجيّة (2تس 2: 6)، فيطلب منّا أن نأخذ موقفًا شخصيًا: لا ننغشّ. فالعالم يسير من سيّئ إلى أسوأ. فاستعدّ للأسوأ. هذا ما قاله الربّ لإرميا حين حاجّه: "إن كنت جريتَ مع المشاة فأتعبوك، فكيف تتسابق مع الخيل؟ وإن كنت تطلب أرضًا مطمئنّة لتكون في سلام، فماذا تفعل في أدغال الأردن" (12: 5).
"الأيام الأخيرة" (رج أش 2: 2؛ أع 2: 17؛ يع 5: 3؛ رج مي 4: 1؛ 2بط 3: 4). هي الأيام الآتية أو الآتي من الأيام. في المستقبل القريب أو البعيد. على المستوى النظريّ، هي حقبة في تاريخ الكنيسة تقع بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني، وفيها يتمّ الخلاص: الأزمنة الأخيرة (عب 1: 2) تقابل زمن المواعيد والتهيئة المسيحانيّة.
إن ملك الأدهار (الايونات، 1تم 1: 17) وزّع أزمنة الكون، كما الفصول في السنة. والمرحلة الأخيرة في التاريخ هي الساعة الأخيرة (1يو 2: 18). هي مؤلمة وتشبه ساعة الولادة. وهكذا تفسّر كلُّ محنة على أنها علامة عن نهاية الأزمنة (مر 13: 22؛ مت 25: 10- 12؛ لو 18: 8؛ 21: 5- 36). ويُدعى تيموتاوس لكي يرى في فساد التعليم والأخلاق، في تكاثر معلّمي الضلال (أع 20: 29؛ 2بط 2: 1- 2)، ظهورًا للشرّ الاسكاتولوجيّ (غل 1: 4؛ أف 5: 16). "خالابوس"، صعب. يحمل الخطر للايمان وللكنيسة. يحمل الشرّ (مت 8: 28؛ 2مك 4: 16). ويكون هذا الضررُ من الخطورة بحيث يقصّر الربّ تلك الأيام من أجل المختارين (مت 24: 12).
ثانيًا: بشريّة فاسدة (آ 2)
ماذا سيكون في "الأيام الأخيرة"؟ فساد البشريّة. "انتروبوس". الانسان. جاء الاسم في صيغة الجمع مع التعريف، ليدلّ على انتشار الفساد مع الرذائل المذكورة. نحن هنا أمام 19 لفظًا (رج 1: 29ي) قريبًا من فيلون ومن اللاهوت اليهوديّ. الأنانيّة هي المسيطرة، وسلطتها تستبعد كل شريعة سوى شريعتها: شريعة الله، شريعة الوالدين، شريعة العلاقات مع القريب. هؤلاء الوحوش الذين لا قلب لهم هم ثمرة جيل شيطانيّ (يو 8: 44). يقيمون حتّى في الكنيسة فيحافظون على ظاهر الدين. هنا نتذكّر تدخّل الضابط الكل ليغلب التنين والوحش (رؤ 16: 13- 14).
الانسان يحبّ نفسه، كما قال أفلاطون وأرسطو. أما "الأنانيّ" (فيلاوتوس) عند بولس، فيتركّز على ذاته، ويحبّ نفسه بحيث يضيع الحسّ الخلقيّ عنده. فتصبح نفسه لادينيّة في عمقها. الأنانيّ يعتبر نفسه المقياس، فيَعبد نفسه، ويصبح إله نفسه. كيف تظهر الأنانيّة؟ في حب المال، في الجشع (فيلاغيروس). هو أصل جميع الشرور (1تم 6: 9- 10). الجشع (والبخل) رذيلة الفريسيين (لا 16: 14)، ورذيلة السفسطائيّين الذين يبيعون الكلام، والفلاسفة الذين يشوِّهون الحقيقة، والهراطقة (تي 1: 11) الذين يبيعون الايمان. والعجرفةُ رذيلة الانسان الغني ورجل السياسة، والبليغ والفيلسوف. المتعجرف يحاول أن يرتفع، وبالتالي يحتقر الآخرين. وهناك المتكبّر والشتّام (1تم 1: 20؛ 6: 4؛ أع 6: 11؛ 2بط 2: 11).
والتمرّد على السلطة رذيلة خاصة بالوثنيين والهراطقة. وهناك غياب التقوى النبويّة (روم 1: 30). نرفض الطاعة لوالدينا، ننسى حسناتهم (حك 14: 20) ونقع في الشرّ، بما فيه الزنى ضدّ الطبيعة.
ثالثًا: لا رأفة لهم ولا عهد (آ 3- 4)
"استورغوس" (روم 1: 31). رذيلة ترتبط بالموت والجحيم، بالانسان الذي لا يحبّ زوجته وأولاده. لا حنان في قلبه ولا محبّة، بحيث لا يعرف صداقة مع أحد. هو من لا رأفة في قلبه. ويرافقه: من له عهد له (اسبوندوس). هناك البغض والعداوة. يصبح الانسان ذئبًا لأخيه الانسان. والنمّامون يفترون على القريب. والمتهوّرون لا يسيطرون على ذواتهم.
والخونة (آ 4) يُشبهون يهوذا (لو 6: 16) ويرافقون القتلة (أع 7: 52)، فيسلّمون أهلهم وأقاربهم إلى سلطة الاضطهاد (مت 24: 10). صاروا عميانًا فغرقوا في الملذات، وتركوا الله والفضيلة.
رابعًا: ابتعد عنهم (آ 5)
بيّنتْ هذه الآية العلاقة بين هؤلاء الناس والهراطقة الذين يعرفهم الكاتب: لهم ظاهر (مورفوسيس روم 2: 20) الدين. يتمسّكون بقشور التقوى (اوسيبايا). رج 1تم 6: 5. هم يعظون في الكنيسة. يخضعون لبعض الأمور. ولكنهم أنبياء كذبة (2كور 11: 14 والشيطان الذي يتزيا بزيّ ملاك النور). يُفرغون المسيحيّة وكلام الله من مضمونه، بحيث لا يعود يفعل في المجتمع (رج نفْيهم للقيامة). في أي حال، هم مراؤون (مت 23: 3)، كاذبون، ينزعون كل قدسيّة عن الدين، ويفسّرون التقليد ويكيّفونه ليكون بحسب أذواقهم. الألفاظ هي هي، ولكنها تُعطى معنى جديدًا. يؤخذون بالكلام، فينسون أنهم أمام وحي الله وخلاص البشر. من عاشرَ هذه القبور المكلّسة عرّض إيمانه للخطر. فليبتعد (أبوترابستاي، مراحدة في العهد الجديد) عنهم تيموتاوس دون ندامة، ولا يوجّه إليهم كلامًا (سي 20: 29). بما أن الهراطقة الثرثارين تركوا الايمان بشكل نهائيّ، فلتكن القطيعة معهم حالاً.
ب- نتائج عملهم (3: 6- 9)
إذا كان هذا عمل هؤلاء "الهراطقة"، فما تكون نتيجة عملهم؟
أولاً: يتسلّلون إلى البيوت (آ 6- 7)
وإذا أردت أن تتعرّف إلى هؤلاء "المعلّمين"، تراهم يتسلّلون إلى البيوت حيث ينقلون دعاوتهم ويضمّون النساء إلى أفكارهم. إندينو" (تسلّل). مراحدة في العهد الجديد. ارتدى، لبس. ثم دخل خلسة، تسلّل مثل لصّ، أو مثل الحيّة التي جاءت إلى حوّاء. يفرضون نفوسهم بتقوى ظاهرة، أو يخلبون العقول بكلامهم. "أيخمالوتيزو": قيّد، سجن، أسر (لو 21: 24؛ روم 7: 23؛ 2كور 10: 5). طريدة بسيطة مثل هذه النسوة (النسيوات، مع التصغير): "غينايكاريون". لفظ احتقار. نساء غير مسيحيّات. لم يتطهّرن بعد ولم يتحرّرن من الخطيئة بالعماد. هن وثنيّات (لا مؤمنات جاحدات) يشكّلن حقلاً لزرع الضلال: خطاياهن كثيرة. مكدّسة: "سوراوو"، جمّع، كدّس. رج يه 15: 11؛ أم 25: 22 = روم 12: 20. ويقدّمن نفوسهنّ لهؤلاء المعلّمين الجدد الذين يقتادونهنّ كما يشاؤون (مت 10: 18؛ 1كور 12: 2). أهواءهنّ، نزواتهنّ، عديدة ومتنوّعة (تي 3: 3؛ رج عب 13: 9: بويكيلوس).
هناك تعليم وتعليم. هناك نساء ونساء (آ 7)، هي صفة حلوة أن تهتمّ المرأة بأمور الدين وتتعلّم (مانتاناين) إيمانها (1تم 2: 11؛ تي 3: 14). ولكن هناك نساء يتعلّقن تعلّقًا مريضًا بكل ما هو جديد دون أي تفكير في الحقيقة. في هذه الظروف، نكون على المستوى الدنيويّ، لا على المستوى الدينيّ. فالاستعدادات الخلقيّة وحدها هي التي تكفل البلوغ إلى معرفة الحقّ (2: 25؛ 1تم 2: 4) والخضوع للوحي الالهيّ.
ثانيًا: ينيس ويمبريس (آ 8)
إن هراطقة الأزمنة الأخيرة هم من هذا النوع (أع 7: 28)، على شاكلة ينيس ويمبريس. اسمان مجهولان في التوراة وفيلون ويوسيفوس. ولكن التقليد اليهوديّ جعلهما شخصين معروفين. قد يكون مفسّرو "الخرافات اليهوديّة" (تي 1: 16) علّموا هذا الخبر لأهل أفسس، فأخذه بولس ليندّد بهؤلاء المعلّمين. حين أجرى موسى (وهارون) معجزات أمام فرعون، دعا الملك الحكماء والسحرة، فصنعوا ما صنعه موسى، بواسطة علمهم الخفيّ. وأعطى ترجوم يوناتان المزعوم اسمًا لاثنين منهم، فأنبأا بأن موسى سيدمّر مصر كلها (في خر 1: 15). وقال الترجوم أيضًا إنهما ابنا بلعام (في عد 22: 22)، وأبرز معارضتهما لموسى (في خر 7: 11). اشتهرا شهرة واسعة فكان "كتاب ينيس ويمبريس" الذي عرفه اوريجانس.
ما فعله هذان في الماضي، يُفعل لدى الهراطقة في نهاية الأزمنة. "انتستيمي": وقف في وجه، ضدّ. قاوم. هي مقاومة الايمان (أع 6: 10؛ لو 21: 15) كما عارض عليما (أع 13: 8) والاسكندر (2تم 4: 15) بولس الرسول. يستعملون سحرهم لكي يقفوا في وجه خدّام الله وانجيل الحقّ.
استعمل 1 مك 8: 11 الفعلين "قاوم" و"فسّر" (1تم 6: 5) معًا. في العهد القديم "كاتافتايرو" يعني فسُد، تشوّه على المستوى الخلقيّ (2 أخ 27: 2) مع إشارة إلى العنف (تك 6: 12- 13). ويعني أيضًا: خرّب، دمّر، هدم (أش 36: 10؛ 1مك 3: 39؛ 15: 31؛ حك 16: 19، 22). إذن، المعلّمون الكذبة فقدوا عقلهم فما عادوا يستطيعون أن يمارسوا وظيفة التعليم، لأن ملكة التفكير عندهم قد فسُدت، مثل شجرة اهترأت فما عاد باستطاعتها أن تعطي ثمرًا (لا 26: 29؛ مت 7: 16ي؛ 12: 33). إذن، خرجوا من الصف، ألغوا نفوسهم (تي 1: 16). ما عادوا يقدرون أن يخضعوا للايمان الحقيقيّ لكي يعلّموه.
ثالثًا: انكشفت حماقتهم (آ 9)
قد نخاف من تقدّم الآكلة وتطوّرها (2: 16- 17). ولكن هذا الوصف المعتّم لدعاوة الضلال تنتهي في جوّ من التفاؤل: لن يذهبوا بعيدًا (2: 16؛ أع 20: 9). فالناس كلهم سوف يرون أن لا حسّ لهم. يرون فساد عقلهم (نوس)، وعبث تنظيراتهم الخرافيّة (أنويا). رج لو 6: 11؛ 2مك 14: 5؛ 15: 33. غاب العقل، غاب الفكر، فسد. وفي النهاية، ينكشف الكذب، والضلال لن يكون له النجاح الدائم. ذاك كان وضع ينيس ويمبريس (خر 7: 12؛ 8: 14ي؛ 19: 11).
مثل هذه الظواهر اللمّاعة تغرّ العيون، ولكنها تنكشف مع الزمن. وفي النهاية نحتقر ما سبق وأعجبنا به (الذهبيّ الفم). والذين ضلّوا يعودون عن غيِّهم. هذا لا يعني أن ما قيل في آ 1، 13 لم يعُد له من وجود، بل يدلّ على أن الأساس الثابت يبقى غير متزعزع (2: 19؛ 1تم 3: 15)، وأن لا قوة شيطانيّة تتغلّب على الكنيسة (مت 16: 18). كل هذا يصيب الضالين في كنيسة أفسس، وفي سائر الكنائس، منذ نهاية القرن الأول: "امتحنتَ الذين يزعمون أنهم رسل وما هم رسل، فوجدتهم كاذبين" (رؤ 2: 2).
3- قراءة إجماليّة
سيبقى تيموتاوس واثقًا بالربّ، ثابتًا في موقفه، رغم شرّ البشر وكذب معلّمي الضلال. فأساس الكنيسة متين وقد وضعه الله. وثورة قوى الشرّ هذه سوف تخمد، كما خمدت في الماضي ثورة المتمرّدين على موسى. يبقى على التلميذ أن يكون واقعيًا وينتظر مثل هذه المقاومة التي تدخل في سرّ الله. فمنذ مجيء المسيح، تعيش الكنيسة انتظار الأيام الأخيرة التي بدأت في موت يسوع وقيامته. ونتذكّر أن المسيحيين في القرن الأول اعتبروا أن عودة الربّ لا تتأخّر وقد بدأت ملامحها تظهر من بعيد.
حسب الجليان اليهوديّ، ستكون الأيام الأخيرة أيامًا صعبة. فالاضطهادات تصيب المؤمنين (مت 10: 17- 22). إلاّ أن 2تم لا تتحدّث عن الاضطهاد، بل عن انتشار الخطيئة (مت 24: 12؛ لو 18: 8؛ 2تس 2: 9- 12). هذا ما قالته وصيّة يساكر (6: 1) التي هي إحدى وصيّات الآباء الاثني عشر: "إعلموا إذن يا أبنائي. في الأيام الأخيرة، يترك أبناؤك البساطة ويتعلّقون بالجشع، يتخلّون عن البراءة، ويتعاطون اللصوصيّة. ينسون وصايا الله ويتعلّقون ببليعار".
في الأيام الأخيرة تفسد البشريّة كلها. هنا تأتي لائحة الرذائل مع التشديد على خطايا العقل والفكر، لا على خطايا الجسد والزنى. يكتفي الانسان بنفسه، فيفضّل حبّ الذات على حبّ الله. والسبب العميق لجميع الخطايا هو رفض وضعنا كخليقة لنعتبر نفوسنا قاعدة حياة. نعتبر نفوسنا آلهة (تك 3: 5) فنقرّر ما هو شرّ وما هو خير. حبّ الذات هو في أصل جميع الرذائل. ويرتبط به حبّ المال، أصل كل الشرور (1تم 6: 10). فمن أحبّ المال كان عابد أوثان (أف 5: 5).
والانسان المكتفي بذاته يشبه الفريسيّ، فيتقدّم (لو 18: 11) ليدلّ على عجرفته وكبريائه. ليس عنده روح دينيّ ولا تقوى بنويّة. هم مجدّفون، رافضون لسلطة الوالدين. امتلأوا من ذواتهم، فاعتبروا أنهم يتنازلون حين يقرّون بجميل عليهم أو بواجب احترام. هؤلاء الناس الراضون عن أنانيّتهم، يكونون بلا قلب، بلا رأفة، في الأيام الأخيرة. لا يُحسّون بآلام الآخرين، ولا يرون حاجاتهم. بالاضافة إلى ذلك، يفترون، فيدلّون على قساوتهم وعلى عدم سيطرة على نفوسهم، على لسانهم. وأبعد من ذلك، هم يشون بالمسيحيين لدى السلطات الرومانيّة. يظنون أن أحدًا لا يقدر أن يقاومهم فيتصرّفون بشكل فظّ، بعد أن أعمتهم الكبرياء واستعبدتهم الملذّات.
هم لا يُقرّون بخطأهم. بل يعتبرون نفوسهم أصحاب فضيلة. هنا يظهر التعارض بين الوجه الخارجيّ والواقع العميق. فالتقوى قوة وديناميّة. هي تفعل في الداخل فتحوّل حياتنا. والمؤمن نال "روح القوّة" (1: 7) الذي يقوده (روم 8: 14) ويحييه (غل 5: 25). فالتصرّف الخارجيّ لا قيمة له إن لم يعبّر عن ديناميّة الروح، إن لم يكن "ثمرة الروح" (غل 5: 22). حذّر التقليد الانجيليّ من هؤلاء "المعلّمين" الذين هم ذئاب في ثياب حملان (مت 7: 5؛ رج أع 20: 29). فمن عمل عمل هؤلاء المضلّين، أنكر جوهر الانجيل وخطئ ضد الروح القدس الذي تكلّم بالأنبياء.
هم ينشرون البدع وما فيها من هرطقة. بما أنهم مراؤون فهم يتصرّفون بطريقة معوجّة. لا يأتون إلى اجتماعات الجماعة لئلاّ يُفضحوا. فيكتفون بأن يتسلّلوا إلى البيوت بحيث لا يراهم أحد، ويعلّموا النساء "الصغيرات"، الضعيفات على المستوى العقليّ والمستوى الخلقيّ. هنّ طريدة سهلة للمعلّمين الكذبة. فيُستعبدن بدون مقاومة. مثل هؤلاء النسوة لسن مثال الفضيلة. بل سحقهنّ ثقلُ الخطيئة فعملت فيهنّ كل أنواع الشهوات. أما المؤمنون الحقيقيّون فيقودهم الروحُ القدس (روم 8: 14).
ما يجعل هؤلاء النسوة سريعات العطب تجاه الدعاوة المهرطقة، هو العطش إلى كل جديد. هن ضعيفات، متقلّبات، يهتمّمن لكل فضوليّ. لا يقدرن أن يفكّرن ليبلغن إلى معرفة الحقّ التي تحرّرهن من الخطيئة. فالحقيقة التي تحرّر هي المسيح (يو 8: 36؛ 14: 6). وقابل بولس عمل "المعلّمين" بعمل ينيس ويمبريس اللذين قاوما موسى. حين ذكر الرسول هذين المتمرّدين أراد أن يدعو المؤمنين الحقيقيّين إلى الثقة والاتّكال على الله. ما استطاع سحرة مصر أن يوقفوا مسيرة شعب الله، بل ماتوا ميتة بشعة. ومصيرهم سيكون مصير المعلّمين الكذبة. قد ينالون بعض النجاح، ولكنهم في النهاية يُكشفون ويُقصون. حينئذ تتواصل مسيرتهم في طريق الشرّ والخطيئة، دومًا إلى الأمام، لا في طريق النجاح لدى الشعب المؤمن. نُزع القناع عنهم، فبان جهلهم، فما عاد أحد يصدّقهم.
خاتمة
ذاك هو الوجه البشع للأشرار في نهاية الأزمنة. وجه المعلّمين الكذبة الذين يتسلّلون إلى البيوت ليسبون عقول السذّج، أو بالأحرى النساء الساذجات اللواتي هنّ قلّة في الجماعة. ولكن الخمير القليل يخمّر العجين كله، والفساد البسيط في الكنيسة قد يصبح كالآكلة فيترك الهريان في الجسم. صورة سوداء عن هؤلاء الناس الذين يشبهون إلى حدّ بعيد الفريسيين باكتفائهم الذاتي وحبّهم للمال ومتاجرتهم بالناس. ولكن اللوحة تنتهي ببعض الأمل: سينكشف شرّهم في النهاية، ويبان فساد تعليمهم. لهذا يتحلّى المؤمنون بالثقة بأن كنيسة الله أقوى من أن تنال منها تعاليم ضالّة ومعلّمون تكون آلهتهم بطنهم ومجدهم عارهم وهمّهم أمور الدنيا (فل 3: 19). فعاقبتهم الهلاك.