عاموس والعدالة الاجتماعيّة
أو عاموس نذير خلاص الرب
مقدّمة
منذ ألفين وثمان مئة سنة وقف نبّيٌ راعٍ (نقد= راع وصاحب ماشية أو مربّيها): عبارة لم يطلقها الكتاب المقدس إلاّ على شخصيتين كتابيتين: النبي عاموس (عا 1: 1) وميشاع ملك موآب (2 مل 3: 4). لكنّ النبيّ يلقّب ذاته أيضًا بعبارة أخرى فريدة من نوعها في كل الكتاب المقدّس وهي بوقر- أصل الكلمة ب ق ر = بقر- وتعني: راعي بقر، مربّي ماشية، راعي... "إني لست نبيًا ولا إبن نبيّ، إنّما أنا راعي بقر (ب ق ر) وجاني جميّز..." (7: 14). كل هذه العبارات تدلّ على أن عاموس كان ينتمي إلى بيئة زراعيّة ريفيّة وكان صاحب ماشية أو كان أجيرا يرعى قطيع أحد الأغنياء أو ربما مواشي الملك. كان من قرية تقُوَّعْ (عا 1:1)، وهي قرية في اليهوديّة تقع في جنوب أورشليم على مسافة 18 كلم وتبعد 9 كلم إلى الجنوب الشرقي من بيت لحم، تدعى الآن "تقوعة". كانت معروفة في أيام داود الملك (2 صم 14: 2) وفيما بعد جدّد رحبعام بناءها وحصّنها (2 أخ 11: 6). في جوارها تقع بريّة تسمّى "بريّة تقوّع" (2 أخ 20:20) لا تصلح إلاّ لرعي الغنم، وغنمها صغير ونحيف ولكنّ صوفه جيّد ومرغوب. والجميّز (7: 14) لا يوجد إلاّ في بعض الوديان المجاورة لها إلى جهة الشرق. وكان عاموس، فضلاً عن اهتماماته برعاية المواشي في بريّة تقوّع، واخز جميّز. كان ينخز الثمار ليجعلها حلوة وليعجّل في نضجها. في تلك البلاد المقفرة، تربّى عاموس واستعّد لرسالته كما استعّد موسى في أرض مديان، ويوحنا المعمدان في برية يهوذا، بجرأة عظيمة في وجه "الفوضى الأشوريّة" التي سحقت بهمجّيتها البائس والمسكين من أبناء المشرق القديم واسرائيل (1: 3-2: 16).
منذ أكثر من ثمان وعشرين قرنًا، لمع شهاب عاموس النبي "ع م وس، الرب يحمل". هو من أصل قروي كما رأينا، ولكنّه ليس بذلك الأمّي وغير المثقَّف، فلا نرى في نبوءته لغة رجل بسيط بل فصاحة الكلام وإتقان الترتيب. ونستنتج أن عاموس كان يتردّد إلى مدن اسرائيل لأجل بيع منتجاته الزراعية، فكان يخالط كل طبقات المجتمع وخاصة المثقفين، فيسمع الأحاديث ويتأملها ويلاحظ الامور السياسية والدينية، فيتأثرّ مما يرى. تنبأ في الربع الثاني من القرن الثامن ق.م. يوم كان يملك في اسرائيل يربعام الثاني (787-747) وفي يهوذا عزيّا (781-740). في ذلك الوقت، كانت مملكة اسرائيل، مملكة القبائل العشر، تعرف ازدهارًا سياسيًّا وماديًّا كبيرًا، وذلك لأن يربعام الثاني ردّ تخم اسرائيل من مدخل حماة إلى بحر العربة أو بحر الميت (2 مل 14: 25)، في زمن ضعفت آدام (وعاصمتها دمشق) بسبب هجمات أشور على حدودها. فبعد سنوات من القلاقل، حلّ في مملكة اسرائيل السلام والازدهار، وكثر الغنى عند بعض الفئات، وأخذت الطبقة الميسورة من المجتمع تعيش حياة الرفاهيّة والبذخ والترف. ولكن كان زمان ظلم وفساد ورياء وتمسك بطقوس دينيّة فارغة من جوهرها (عا 5: 21-24؛ رج أش 5: 8-23). لمع شهاب عاموس في سماء الشرق، فكان كالبرق قصير المدى وكالرعد قويّ الصدى يُنذر بقدوم العاصفة. وهبّت "العاصفة العاموسيّة" من الجنوب، فضربت مجتمعًا باليًا سكرانًا بالفسق، مترنّحًّا بين ذراعي دليلة الفاجرة، فعرّته من أوهامه الكاذبة كما تعرّي الرياح الخريفيّة شجر الغاب، فأيقظته من نومه العميق على صوت نبيّ يقول: "إستعدّ للقاء إلهك يا إسرائيل!" (4: 12).
لقد فقد عاموس الصبر أمام مجتمع فاسد، ظالم، يدّعي الايمان بالله ويُكثر من تقدمة الذبائح وإقامة الشعائر الدينيّة المنافقة. لم يجامل الظلم، فهو نذير لإله يرفض الصنميّة على أنواعها كما يرفض أن يُباع الله باحتفالات طقسية مزيفّة. لقد دوّى صوته في مدن مملكة الشمال ومعابدها، خاصة في معبد بيت إيل (وهو المعبد الرئيسيّ الذي حاول أن يزاحم هيكل أورشليم، 4: 4-5)، فأطلق الحريّة لله ودعا الأوهام لكي تتبخرّ وتتوارى من أمام وجهه القدّوس. فغاب الأمل الهشّ والخدّاع تاركًا المكان للرجاء الصالح الآتي من السماء.
1- عاموس نذير الحق في مجتمع اللاعدالة
تتّسم رسالة عاموس بطابع "مسكونيّ" شامل. فهذا النبي الذي هو من مملكة يهوذا (مملكة الجنوب) يُؤمر بالتنبؤ في مملكة إفرائيم (مملكة الشمال). فقدومه إلى تلك الديار علامة وحدة. فإسرائيل، وإن كان منقسمًا على الصعيدين السياسي والديني (تمّ الأنقسام بعد موت سليمان الملك سنة 933 ق.م.)، لا يزال يشكّل شعبًا واحدًا لإله واحد. هذا النبي المزعج رفض المساومات السياسية والدينيّة، رفض كل جور وظلم يصيب المساكين في مملكة عرفت الازدهار واللاعدالة معًا أيام يربعام الثاني (787-747 ق.م.)، كما رفض أن ينغلق على نفسه في شعب اسرائيل، فتطلّع إلى الشعوب الوثنيّة المجاورة، فندّد بظلمها وجوْرِها مهددًا إيّاها بالعقاب الآتي من السماء. هذا الإله الذي ملأ حياة عاموس، ليس إلهًا فئوّيًا لشعب معيّن، بل هو إله جميع الشعوب. فلا امتياز ولا اختيار. لذا لا يذكر عاموس في سفره عبارة "إله اسرائيل"، بل "رب الجنود" أو "السيد الرب" أي رب الجميع دون تفرقة، هو الذي يرعى العدالة والحق ويدافع عن حق الفقراء، بمعزل عن هوّيتهم الشخصيّة، أمام جشع الاغنياء. إّنه إله الحق يهدّد ويوّبخ الوثني كما الاسرائيلي، لكنه يمنح الخلاص لكليهما بالتوبة.
أ- عاموس نذير الرب عند الامم المجاورة
لمّا بدأ عاموس رسالته في مملكة إفرائيم، كانت الضمائر سكرى بالعنف والظلم. وكان البشر، في الأمم المجاورة واسرائيل، يعيشون وكأن الله ليس في الوجود. فأتى عاموس ليُخرج الله من صمته ويؤكّد أن الله في يقظة دائمة وحضوره يملأ كل الأحداث والأزمان: "الله يزأر من صهيون ويجهر بصوته من أورشليم فتنتحب مراعي الرعاة وييبس رأس الكرمل" (1 :2). من خلال صورة الأسد الزائر والجفاف القاتل، نجد عبارة "مراعي الرعاة" أي بريّة تقوّع وهي بلاد عاموس في مملكة الجنوب، وعبارة "رأس الكرمل" المشهور ينباته وأشجاره وهو في مملكة الشمال: عبارتان ترمزان إلى مملكتي الشمال والجنوب أي إلى كل أرض اسرائيل. يُعلن عاموس مجيء الرب القريب والمهيب ليدين الأمم واسرائيل نفسه (1: 3-2: 16). إذا جمعنا يهوذا واسرائيل في شعب واحد، نكون أمام سبعة شعوب مجاورة لإسرائيل. هذا يعني أن شعوب العالم هي كلّها تحت نظر الله وهو يدينها. يدين الشعوب الوثنيّة كما يدين شعبه، فلا فرق بين الإثنين. وأوّل الماثلين أمام المحكمة الإلهيّة هي دمشق (1: 3-5). ولماذا تُحاكم العاصمةُ الآراميّة؟ لأنها داست جلعاد، وهي منطقة في شرقي الاردن حيث تقيم قبيلة جاد وبعض قبيلة منسّى. إحتلها الملوك الآراميون عدّة مرات: الأوّل هو رزون بن ألياداع الذي هرب من سيّده هدد عازر ملك صوبة (1مل 11: 23-24)، وفي أيام بعشا ملك اسرائيل ضرب بنهدد عيّون ودان ونفتالي وغيرها من نواحي اسرائيل الشماليّة (1مل 15: 20). وبنهدد الثاني حارب آحاب ملك إسرائيل (1مل 20) وفي أيام ياهو ضرب حزائيل اسرائيل بقساوة (2 مل 10: 22-23)، وكذلك في أيام يوآحاز ملك اسرائيل ويوآش ملك يهوذا (1 مل 12: 18 و13: 3). بقيت هذه المنطقة مدّة طويلة بيد دمشق إلى أن استعادها يربعام الثاني (2 مل 14: 25). داسوا الناس بنوارج من جديد كما يُداس القمح على البيادر. هذه الهمجيّة التي لا تمتّ بصلة إلى العاطفة البشرية، لا يرضى الله عنها إطلاقًا، بل سيعاقب أسيادها. ويأتي حكم الله: سيكون مصير دمشق، مصير كل مدينة يدخلها الغزاة: خلع مغلاق المدينة (1: 5) (قوّة الباب من المغلاق وقوة المدينة هي بابها فإذا انكسر المغلاق انكسرت المدينة)، واحتلالها، وإحراق القصر الملكي (يذكر النبي بيت حزائيل فيدلّ على السلالة الملكية في دمشق، ويذكر قصور بن هدد فيعني نهاية مملكة الآراميين في دمشق)، وإجلاء السكان مع الملك والرؤساء. لماذا؟ لأنّ المدينة الظالمة أصبحت "ب ق ع ت. أون، بقعة الإثم" و"ب ي ت ع د ن، أي بيت الملذات" (1: 5)، فاستحقّت بعدل القصاص المهيّأ لها على يد تغلت فلاسر الأشوري (733-732 ق.م.). هذا جاء في أيام آحاز ملك يهوذا (2 مل 16: 9) فاحتلها وقتل ملكها رصين وجلا أهلها إلى قير (2 مل 16: 9)، أي إلى مسقط رأس آرام بحسب عا 9: 7.
وماذا فعل الفلسطيون في غزة (1: 6-8)؟ لقد سبوا الجميع دون تمييز. جاء الفلسطيون من بحر إيجه، وأقاموا على الشاطئ الجنوبي الغربي لكنعان حيث كوّنوا تحالفًا من خمس مدن: غزة، أشدود، أشقلون، عقرون وجتّ. (ليست جت مذكورة هنا ولعلها كانت قد دمّرت، رج 2 أخ 26: 6؛ 2 مل 12: 18). أمّا غزة فكانت على حدود مصر وكانت مركزًا تجاريًّا هامًّا. سبوا الرجال والنساء والأطفال (2 أخ 21: 16-17)، وباعوهم كالعبيد إلى آدوم التي كانت مركزٌ هامًّا لتجارة العبيد. وفي عقرون كان يوجد معبد لبعلزبوب (2 مل 1: 2). مثل هذا العمل يستحق عقابًا من الرب على غرار دمشق. فتمّت النبؤة بدمار أرض الفلسطيين على يد عزيّا (2 أخ 26: 6ي) وحزقّيا (2 مل 18: 8) وتغلت فلاسر وسرجون الملكين الأشوريين (أش 20: 1)، ولم يبق من الفلسطيين حتى البقية الباقية (1: 8).
وخطيئة صور (1: 9-10) هي في نقض "عهد الأخوّة"، والمقصود هو العلاقات الطيبة والعريقة القائمة بين صور واسرائيل منذ زمن سليمان (1 مل 5: 26 و9: 13)، حيث يسمّي الملك حيرام سليمان "أخاه". ثمّ توثّقت علاقة الفينيقيين بمملكة اسرائيل يوم تزوّج آحاب بإيزابيل بنت ملك صيدون (1 مل 16: 31). لكنّ عاموس يعلن أن الفينيقيين نقضوا عهد الأخوّة، وسبوا بني اسرائيل وباعوهم عبيدًا لآدوم (1: 9)، ثمّ سبوهم ثانية وباعوهم لليونانيين (يوء 4: 6). لأجل ذلك ستُحرق صور وتُدكّ أسوارها وقصورها (1: 10).
والحكم على أدوم (1: 11-12). سكن الآدوميون جنوبي البحر الميت وهم يُعتَبرون إخوة بني اسرائيل عبر عيسو (= أحمر) شقيق يعقوب (اسرائيل) (تك 25: 21ي). حُكم عليه بالنار بسبب عدائه المستمّر لإسرائيل. فخطيئته الكبرى أنّه تبع بالسيف أخاه يعقوب (عو 8).
والحكم على العمونيين (1: 13-15). كانت بلاد عمون إلى الجهة الشمالية من موآب وإلى الجهة الشرقية من جلعاد حيث يقيم سبط رأوبين وبعض أسباط منسىّ. اتّهموا بجرائمهم الوحشيّة إذ قد شقوّا بطون الحبالى في جلعاد واستهانوا بالحياة البشريّة وكرامتها واتحدوا مع نبوخذ نصّر ضدّ اسرائيل (2 مل 24: 2؛ حز 21: 28؛ 25: 2-6). أمّا عقابهم، فنار آكلة تزيل عاصمتهم ربّة (عمّان الحاليّة) من الوجود، ويذهب ملكهم وعظماؤه إلى السبي.
والحكم على الموآبيين. تقع بلاد موآب شرقيّ عبر الميت. أمّا "قريت" حيث عاش ملك موآب في القرن التاسع ق.م، فهي "الكرك" الحالية. حُكم عليهم بسبب عملهم البربري (2: 1-3) إذ أخذوا عظام الملك الآدومي من قبره وأحرقوها حتى صارت كلسًا (2: 1) (كانت العداوة قديمة بين الشعبين الموآبي والأدومي رج قض 3: 22-24). في الأقوال السابقة، حكم الرب على الأمم التي تعدّت على شعبه اسرائيل، أمّا الآن فيدافع عن شعب عدّو ووثني هو شعب آدوم. إنّ التعديّ على قبر الميت هو من المحرَّمات، وهذا ما يثير غضب الرب، وإن كان التعدّي من أمّة وثنية على أمّة وثنيّة أخرى، فحق الميت في الدفن هو حقٌّ مقدّس. وكان دمار موآب الكامل قبل السبي، والأرجح أنّه كان عن يد نبوخذ نصّر بعد خراب أورشليم.
والحكم على يهوذا المتهّم بخيانة الرب (2: 4-5) وعبادة الاصنام. فدينونته أعظم من دينونة الأمم الذين ليس عندهم شريعة الرب وكهنتُه وأنبياؤه. أما العقاب فهو أن الرب سيحكم على يهوذا كما على الأمم المجاورة، فتحرَق قصورُ أورشليم. وقد تمتّ النبوءة عن يد نبوخذ نصر الكلداني (2 مل 25: 9).
وأخيرًا يأتي الحكم على مملكة اسرائيل، ولأجل أي علّة ستُحاكم؟ لقد ندّد الله بمعاصي الشعوب الوثنية المجاورة التي خالفت بجرائمها مبادئ الإنسانية وشريعتها، وأظهر بذلك مدى أهميّة الإنسان بالنسبة إليه، فتغاضى عن عباداته وانتماءاته وأعلن عن محبته له والوقوف معه في وجه الظلم والاستعباد (عا 1: 3-7، 9، 11، 13؛ 2: 1). إن عدالة الله تنال الوثني والاسرائيليّ معًا، لأن الربّ هو الحق الذي لا يحابي الوجوه.
ب- عاموس نذير الرب في اسرائيل
والآن ينتقل عاموس من التنبوء على الأمم إلى التنبوء على اسرائيل. يتوّجه النبي بكلامه إلى مملكة اسرائيل الشماليّة، ولكنّه لا ينسى مملكة يهوذا الجنوبيّة. فالمملكتان تشكّلان بنظر عاموس شعبًا واحدًا. تكلّم النبيّ فأكّد بذلك عدم التمييز بين شعب الله والوثنيين. فبدأ بالحكم على القضاء المتهّم بظلم البائس وهضم حقوقه من أجل حفنة من الفضّة (2: 6). فاستسلم حماة العدل والحق للرشوة العلانية، فباعوا البار بنعال المقتدرين (2: 6) وأصبح القاضي يُباع ويُشرى ويحرّف حق المظلوم بشيء زهيد (فضة، نعلين... لقد حارب الأنبياء كثيرًا الرشوة والمرتشين، وخاصة رجال القضاء- راجع عا 5: 7؛ 6: 12؛ أش 1: 23؛ مي 3: 1-3، 9-11؛ 7: 1-3). وتجاهل أصحاب النفوذ حقوق الضعفاء، فاستثمروا عامة الشعب واشتروا القضاة وأفلتوا العنان لشهواتهم التي طالت أملاك الفقراء كما فعلت الملكة إيزابيل بكرم نابوت اليزرعيلي (1 مل 21: 1-16). وهذا الظلم في معاملة المساكين رافقه فجور، إذ دخل الرجل وابنه على صبيّة واحدة (2: 7؛ 1 كور5: 1)، على الجارية التي في البيت (أو على المكرّسة للزنى المقدّس في معابد العشتروت)، فدّنسوا اسم الرب وكسروا شريعة الزواج الإلهيّة التي رسمها الخالق في بداية سفر التكوين (تك 2: 24؛ مت 19: 5؛ 1كور 6: 16؛ أف 5: 31). إن تجاّر النساء هم هم في كل عصر، ولم يتغيّروا من زمن عاموس إلى يومنا! لا بل أصبحت أساليبهم حديثة وأكثر تطورًا، فتقدّمت تجارتهم واصبحت قانونيّة لها مكاتب رسميّة معروفة لتسويق بضاعة العهر والنجاسة. يجبرون الصبيّة على بيع جسدها سلعة رخيصة لمرضى النفوس، فيكدّسون الثروات على حساب التي خلقها الرب لتكون أمًّا ومربية الأجيال.
وهناك شرّ أعظم من هذا: استغلال الأغراض المرهونة (2: 8). فقد ارتكب بنو اسرائيل أعظم الخطايا، لأن الثياب التي تمدّدوا عليها بجانب كل مذبح، هي ثياب الفقراء المأخوذة ظلمًا. وكأنيّ بهم يتحدّون الله بأعمالهم الجائرة في عقر داره المقدّس.
2- من التنديد إلى التذكير
بعد التنديد بأعمال الظلم، ينتقل عاموس الى التذكير بأعمال الله الخلاصيّة تجاه شعبه.
يذكّرهم كيف أن الرب مهّد الطريق لهم، فاستأصل من أمامهم الأموريين (هم سكّان أرض كنعان قبل مجيء العبرانيين إليها وقد سكنوا أورشليم وحبرون وجبعون وباشان) وكانوا طوال القامة (عد 13: 32ي؛ تث 1: 28) كالارز بين الاشجار وكالسنديان بالقوّة، لكن الرب أبادهم: "قرضت ثمارهم من فوق وجذورهم من تحت" (2: 9) فما عادوا يفرخون. ومن نعم الرب عليهم، أنّه أخرجهم من مصر واعتنى بهم أربعين سنة في البريّة. وأقام من بينهم أنبياء كصموئيل وأخيا وميخا إبن يملة وإيليا وأليشاع وهوشع الذين كانوا من مملكة الشمال. كما أقام النذراء من بينهم أيضًا، فأظهروا فضل الحياة الروحية، فنذروا نفوسهم للرب وصاروا نساكًا يرسلون شعرهم ويمتنعون عن الخمر والنجاسة (عد 6: 1-21). لكنّ أبناء السامرة الفاسقين أرادوا أن يصيّروهم مثلهم، فسقوهم الخمر وكسروا لهم نذرهم: أراد بنو اسرائيل بعملهم هذا استئصال الأطهار والمكرسين من مملكة الشمال فتصبح كل المملكة نجاسة بنجاسة. وأرسل الرب لهم أنبياء نذروههم بالخلاص، فمنعوهم من التنبوء. وهكذا رفض أهل السامرة بشرى الخلاص. وهذا ما حدث لعاموس نفسه في معبد بيت إيل. والآن يأتي العقاب: سيُسحق اسرائيل كما تسحق العجلة المملؤة حزمًا الأرض وكل ما في طريقها. فلا ينجو القوي ولا خفيف القدم ولا شديد القلب (2: 13-16). يشير عاموس بذلك إلى السبي العتيد الذي سيتّم على يد الأشوريين. تمّت النبوءة سنة 721 ق.م. حين سقطت السامرة في أيدي الأشوريين (رج 2 مل 17).
3- إنذارات وتهديدات لإسرائيل
يتوّجه عاموس بكلامه إلى الأسباط الإثني عشر: "إلى جميع العشيرة التي أصعدتها من أرض مصر" (3: 1)، ويخاطبهم قائلاً:"إياكم وحدكم عرفت من بين جميع عشائر الأرض، فلذلك سأعاقبكم على جميع ذنوبكم" (3: 2). أجل، عرف الرب شعبه فاختاره لمهمّة خلاصيّة، فحسب بنو اسرائيل أن هذا الاختيار يعطيهم حقوقًا ولا يفرض عليهم واجبات، فأكثروا من الذنوب وداسوا المحرّمات، فسيأتي الرب عاجلاً ليطالبهم بالحساب ويعاقبهم. ويصوّر النبيّ مجيء الرب بستة تشابيه مأخوذة من الحياة اليوميّة: أيسير إثنان معًا إن لم يتفقا؟ أيزأر الأسد في الغابة وليس له فريسة؟ أيجهر الشبل بصوته إن لم يأخذ شيئًا؟ أيسقط العصفور في الفخّ وليس هناك فخّ؟ أيرتفع الفخّ عن الأرض ولم يمسك شيئًا؟ إُيُنفخ في البوق ولا يرتاع الشعب؟ (3: 3-6). كلّها تشابيه تطابق كلام النبيّ: أيسير الله مع شعب إن لم يكن معه عهد موّدة؟ نحن أمام رمز إلى العهد القائم بين الله واسرائيل ومسيرة الله الطويلة مع شعبه. وزمجرة الأسد ترمز إلى الأشوريين الآتين لاحتلال السامرة. وسقوط العصفور في الفخّ رمز لسقوط اسرائيل في فخ الأعداء. والنفخ في البوق يرمز إلى الدينونة الأخيرة: "زأر الأسد فمن لا يخاف؟ تكلّم الرب فمن لا يتنبأ؟" (3: 8).
لقد بدأت محاكمة اسرائيل! والرب يدعو إلى المحكمة شاهدين: أشدود (أحدى مدن الفلسطيين) ومصر (أشدود ومصر همّا عدّوان لدودان لإسرائيل ويمثلاّن كل الامم الوثينيّة). يُتخذان كشاهدين على فساد اسرائيل، ولأن بشهادة شاهدين تقوم كلّ شهادة (تث 17: 6؛ يو 8: 17)، ليشهدا على نجاسة السامرة، المدينة الكبيرة التي بناها الملك الاسرائيلي عمري على جبل السامرة (1 مل 16: 34؛ إش 28: 1) والتي كانت عاصمة مملكة الشمال- اسرائيل: فالفوضى والظلم والاغتصاب في كل مكان (3: 9-10؛ رج يع 5: 4). فالعقاب آت لا محال، والعدوّ الأشوري سينقضّ على المترفّهين والمتنعّمين في زاوية السرير (أي مكان الشرف والراحة)، والمتكّئين على الأرائك الدمشقيّة (أسرّة فاخرة مزيّنة بقماش دمشقي غالي الثمن، 3: 12) كما ينقضّ الأسد على فريسته فلا يستطيع الراعي أن يخلّص من فمه إلاّ "قائمتين أو طرفًا من الأذن" (3: 12): الله الراعي يسعى إلى تخليص شعبه من ضربة الأعداء. لكنّ خطيئة السامرة تمنع ذلك، لهذا لا يفلت من فم الأسد إلاّ الشيء الزهيد. والبيوت الصيفيّة والشتوّية المرصَّعة بالعاج (علامة الترفّه) (3: 15)، ستُهدم لأنها بُنيت بمال الظلم، فهي تشهد على شعب نسي الله ومبادئ العدالة والمساواة. و"بقرات باشان"، نساء السامرة المترفهات السمينات (4: 1-3) (باشان منطقة تقع شرقي الاردن بين جبلي حرمون وجلعاد وتشمل حوران والجولان. أرضها مؤلفّة من صخور وأتربة بركانيّة وتربتها مخصبة جدًا واشتهرت بمراعيها ومواشيها، مز 22: 13؛ حز 39: 18)، فهنّ شهوانيات متنعّمات لا يشبعن، بل يطلبن من رجالهّن مالاً، ولو بالظلم، ليصرفن على المآكل والملابس والتنعّم، وهن نساء طمّاعات فاسقات يتسلطنّ ويظلمن بواسطة ساداتهّن. فمصيرهّن السبي والعار: فالسمينات يُرفعن بالكلاليب (2 أخ 33: 11) والنحيفات بشصوص السمك (4: 2). عاشت نساء السامرة كالحيوانات، فكالحيوانات يُسقن إلى السبي الأشوري. والعقاب سينال أيضًا كلّ المترفين الذين يعيشون دومًا في الملذات- فيضطجعون على أسرّة من العاج في وقت الطعام (كما كانت العادة عند الرومانيين- متى 26: 7 و20) (6: 3) ويأكلون أفضل الحملان وأطرى العجول، ويشربون الخمر بكؤوس مثل كؤوس الهيكل الأورشليمي (خر 27 :3؛ 2 مل 25: 15)، ويدّهنون بالطيوب النفيسة مثل الإدّهانات المقدّسة لأبناء هارون الكاهن، وينشدون الأناشيد على صوت آلات الطرب مثل داود. أترى السكر والخلاعة أخذا منهم كل مأخذ فشرعوا يهزأون من الطقوس الدينيّة وأوانيها المكرّسة؟
بعد الحكم على السامرة، العاصمة السياسية، يأتي الحكم على بيت إيل: في هذا المكان ظهر الربّ ليعقوب (تك 28: 1-22)؛ وفي أيام الملك شاول كانت بيت إيل مكانًا مقدّسًا (1 صم 1: 3). وكانت في جنوب المملكة الشماليّة. تقع بين أورشليم والسامرة، وأختارها يربعام الأول مركزًا رسميًّا للعبادة (1 مل 12: 25-33)، ووضع فيها عجل الذهب الذي يمثلّ يهوه الرب فصارت العاصمة الدينيّة. وقف عاموس واعظًا في معبدها الرسميّ بمناسبة الأعياد وتطلّع إلى المؤمنين الآتين للعبادة. فانتقد إحتفالاتهم الطقسيّة العقيمة الملتحفة برداء الوثنيّة بسبب العجل الذهبي. لقد ظنّ بنو اسرائيل أن اجتهادهم الطقسي يرضي الرب فيرشونه ببعض الممارسات الدينيّة المزيّفة، كما يرشون القضاة والحكام فيغضّ النظر عن ظلمهم وخطاياهم الجسيمة. لذا أكثروا من الذبائح في الصباح وأدّوا العشور في اليوم الثالث على مثال يعقوب (تك 28: 22) وأحرقوا من الخمير ذبيحة شكر على ما جاء في لا 2: 11: "كل خمير وعسل لا توقدوا منهما للرب". وهنا يقول عاموس تهكمًا: "أحرقوا من الخمير ذبيحة شكر". فكأنهم أحبّوا أن يقدّموا للرب تقدمة أفضل من المرسوم في الشريعة (4: 4-5). ونادوا بتقادم طوعيّة وأعلنوها فضربوا أمامهم بالبوق لمّا صنعوا صدقاتهم كما فعل الفريسيون أيام يسوع (مت 6: 2؛ 23: 5). لكنّ الرب يرفض هذه الغيرة الدينيّة الجامحة التي يبديها الظالمون والأغنياء في المعابد المقدّسة. فهم يطلبون مجدهم الخاص لا مجد الرب، ولا يفعلون ذلك إلاّ إرضاءً لأنفسهم لأنهم يحبون المظاهر الخارجيّة. فالذبائح والعشور والتقدمات لا يقبلها الله، والدليل على ذلك أنّه يرسل عليهم الضربات السبع لينبّههم ويّردهم إليه: الجوع، الجفاف، اليرقان، الجراد، الوباء، الحرب، الزلزال (4: 6-11).
لقد صارت العبادة خطيئة تُزاد على خطايا السامرة، لأنها ارتبطت بالفسق والظلم والأنانية واللاعدالة. وما يزيد خطيئة اسرائيل خطورة، هو أنه راضٍ بأعماله، فخور بمظالمه، ومتأكّد أن الله معه: "فاطلبوا الخير لا الشرّ لتحيوا فيكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم" (5: 14). فوقف عاموس في وجه هذه الأوهام ونبّه بأن إختيار الله لإسرائيل لا يؤمّن له الحماية. إذا أخطأ فسيُعاقب بقساوة، لأن حقوق العدالة تتغلّب على امتياز الاختيار، والرب يعاقب الشرّ أينما وجد، أكان في أرض اسرائيل أم خارجها. فهو يحبّ الحق والبرّ ولا يرضى بحفظ الأعياد والتقدمات والمحرقات إن لم تعبّر عن عواطف القلب الصالحة والسليمة. والذين يعبدونه عبادة مزيّفة يهينونه، لأنهم يحسبونه إنسانًا أقل منهم إدراكًا فيمكنهم أن يغشّوه (أش 1: 1-15). فيدّوي صوت الله بلسان النبي ليرفض العبادات المقنّعة: "لقد أبغضت أعيادكم ورذلتها... لبجرِ الحق كالمياه والبرّ كنهر لا ينقطع" (5: 21-27).
4- عقاب اسرائيل
أمام هذا الواقع، لا بدَّ من نبيّ منذر يعلن مجيء "يوم الربّ" (5: 18-20). هذا ما فعله عاموس! لكن كيف كانت ردّات الفعل على أقواله النبويّة؟ ردّة الفعل نقرأها في الفصل السابع: "فأرسل أمصيا إلى يربعام ملك اسرائيل قائلاً: إن عاموس يتآمر عليك في وسط بيت إسرائيل، لا تطيق الأرض احتمال جميع كلامه" (7: 1). إنّ أمصيا الكاهن المكرَّس لعبادة الإله الواحد، أصبح خادمًا لأوثان يربعام الثاني، فيكهن بالأجرة ويُقيم طقوسًا مزيّفة. لقد تحوّل إلى عدّو لله ولكلمته. يتهّم النبي بالتحريض على الثورة ليربح رضى أسياد السامرة، كما لا يتوانى عن لبس ثياب الحريص على حياة النبي فينصحه قائلاً: "أيها الرائي، إنطلق واهرب إلى أرض يهوذا، وُكلْ هناك خبزك وتنبّأ هناك" (7: 12). ينصحه أمصيا بالصمت والهروب من وجه الملك والقبول بالأمر الواقع! لكن عاموس لم يخف ولم يتراجع (7: 14-16)، بل أجاب الكاهن أمصيا بجرأة وشجاعة: "إني لست نبيًّا ولا ابن نبيّ، إنما أنا راعي بقر وواخز جميّز. فأخذني الرب من وراء الغنم وقال لي الرب: إنطلق وتنبأ لشعبي اسرائيل" (7: 15). أمر الرب فمن يَعصي أوامره؟ "زأر الأسد فمن لا يخاف؟ تكلّم الرب فمن لا يتنبأ؟" (3: 8). أجل، لم يتنبأ عاموس بملء إرادته، بل دُفع إلى ذلك دفعًا: "تكلّم الرب فمن لا يتنبأ؟". إن كلمة الرب تفرض على المرسل أن يتنبأ. وهذا ما فعله عاموس في اسرائيل.
لن تستطيع تهديدات كاهن مأجور مزيّف أن تُسكت نبيًّا دعاه الرب ليحمل رسالته، بل بالعكس، فقد انتقل عاموس من الدفاع عن نفسه إلى الهجوم والتهديد والعقاب. فتنبّأ على أمصيا بالشرّ الذي ينتظره هو وأهل بيته وكل ما يملك: إمرأته تصبح زانية، أولاده يُقتلون. أرضه يتقاسمها المحتلّون، وأمصيا يموت في أرض غربة ويُدفن في أرض نجسة واسرائيل يُجلى عن أرضه جلاءً (7: 17).
ولقد عبّر النبي عن السقوط العتيد لمملكة الشمال بخمس رؤى تتضمن تهديدًا بحصول كوارث، يضعها النبي بأسلوب رؤيوي. يتكلم عاموس عن غزو الجراد (7: 1-3؛ الرؤية الأولى) وعن الأرض المحروقة بالجفاف (7: 4-6؛ الرؤية الثانية)، ليصف لنا كارثه المجاعة. كما يتكلّم عن "المطمار" (خيط البنّاء- الشاقول) (7: 7-9؛ الرؤية الثالثة ) الذي يستعمله البنّاء ليزن استقامة الحائط. فالرب سيزن بالمطمار مجتمع السامرة. فكلّ حائط اجتماعي أو ديني مائل وملتوٍ، منتفخ ومتصدّع، سيُسقطه ولن يُبْقيَ إلا حائط الاستقامة والعدالة والمساواة. وتأتي الرسالة نفسها في رؤية سلة الفواكه الصيفية (8: 1-3؛ الرؤية الرابعة). فكما أنّ الثمار التي أصابها القيظ تسقط، كذلك ستسقط المملكة وتزول من الوجود، فتتحوّل أغاني الأغنياء الظالمين المترفهين إلى ولاولْ حين يأتي العدو الأشوري فيقتل البعض ويسبي البعض ويميت البعض الآخر، ويطرح الجثث في كل موضع ويسيطر صمت الموت فلا يتجاسر أحدٌ أن يتكلّم من بعد. وتحصل الرؤية الخامسة (9: 1-4): سقوط معبد بيت إيل. يتحدّث النبي عن زلزال يضرب البناء بكامله، فيُنبئ بقدوم دينونة الرب التي لا ينجو منها أحد. يا لسخرية القدر! هذه المملكة التي عرفت الإزدهار والترف، والتي وسّعت حدودها من مدخل حماة إلى بحر العربة (بحر الميت)، ستزول. كان من واجب الكهنة والملك والقضاة أن يناصروا الحق والعدل، فإذا هم يشجّعون الظلم والرياء. لقد مجّ الرب هذه المملكة فسوف يعاقبها: "فإني... أهزّ بيت اسرائيل... هّز الحنطة في الغربال..." (9: 9). تسقط الحنطة على الأرض ويبقى الحصى في الغربال، ولكن ستبقى بقيّة من بيت يعقوب، لأن الرب سيميّز بين الأبرار والخطأة (9: 8).
5- رسالة عاموس يوبيل دائم
إن كان اليوبيل (= قرن الكبش الذي كانت الشريعة الموسويّة تأمر بالنفخ فيه كما في البوق، كل خمسين السنة، إيذانًا بحلول السنة المقدّسة المكرّسة بكاملها للرب، لا 25: 9-11)، "سنة الرب المقبولة"، زمنًا مكرّسًا تكريسًا خاصًا للرب، ويقع مرّة كل سبع سنوات، حسب الشريعة الموسويّه، ويسمّى "السنة السبتيّة، وفيه يُعتق الشر والحجر (خر 23: 10-11؛ لا 25: 1-28؛ تث 15: 1-6)، فإن رسالة عاموس هي يوبيل دائم، إذ هي صوت الحرية والعدالة والعتق الشامل لجميع المأسورين في كل زمان ومكان.
لقد جاء نبيّ تقّوع ليحارب على جبهتين: الأولى دينيّة والثانية إجتماعيّة. ففي الأولى، بشّر عاموس بعظمة الله وسلطانه وعدالته التي تصل إلى كل الشعوب، إسرائيلين ووثنين. لقد جاء السامرة ليُخرج الله من صمته: "الرب يزأر من صهيون ويجهر بصوته من أورشليم" (1: 2)، ويحرّر المؤمنين من عبارات وطقوس وثنيّة ملفّقة: "لقد أبغضت أعيادكم ونبذتها ولم تطب لي احتفالاتكم" (5: 21)، ومن الأصنام اليربعاميّة في معبدي بيت إيل ودان (5: 26). فإله عاموس لا يُغشّ ولا يحابي الوجوه، ولا يُشترى ببعض الحفلات الدينيّة؛ إنه إله الحق وسيّد البشر وكل الخلائق، ولا حدود لسلطانه (5: 8-9؛ 9: 5-6). فما يريده الرب من أجل الشعوب هو: "أن يجري الحق كالمياه، والبرّ كنهر لا ينقطع" (5: 24). في هذا المجال نفهم كيف يعامل الله البشر بالمساواة (9: 7). فما يطلبه من شعبه اسرائيل يطلبه من باقي الشعوب أيضًا، وهو أن يعيش الجميع في يوبيل عتقٍ وخلاص دائم.
وعلى الجبهة الأخرى، فقد حارب عاموس خطيئة الانسان، في اسرائيل والأمم. لقد رفض الواقع وانتقد المجتمعين الاسرائيلي والوثني اللذين يسيران ضد المشيئة الإلهية، فَقَلَبَ العادات السائدة والمتعّفنة بعد أن اصطدم بأربابها ومروّجيها. فلم يرسله الله إلى السامرة للسياحة، بل ليكون بوق إنذار وصرخة خطر تطنّ في آذان الظالمين والمستكبرين. لقد جاء عاموس إلى مملكة الشمال لهدف رئيسيّ سام: الخلاص والتحرر! جاء يحرّر الأمم من العنف والغضب الجامح ويوقظ الضمائر الصامتة. جاء يحرّر أرباب السامرة من الظلم، والمترفهين من الجشع، والملاّكين من الطمع، والقضاة من الرشوة، والكهنوت من كهنة مأجورين مزيّفين، والمعابد من الأصنام اليربعاميّة (3: 13-14)، والعبادة من الطقوس الوثنيّة العقيمة (5: 21-27)، و"بقرات باشان" من الشهوة والسمانة (4: 1-3)، والصبايا من تجّار النساء والفجور (2: 7)، وأرائك العاج الدمشقيّة من الخمولين (6: 4)، والحملان والعجول المختارة من شراهة المترفين (6: 4). جاء يرفع خيمة داود التي سقطت (كان صدقيّا آخر ملك في أورشليم من نسل داود. أسر إلى بابل بعدما قاسى آلامًا شديدة وإهانة عظيمة ومات هناك فسقطت مظلّة داود، 9: 11) ويقيم بقيّة باقية تتحقق فيها المواعيد المسيحانية (9: 11-15). باختصار، جاء عاموس يعلن السنة اليوبيلية لكل جيل وعلى كلّ الدهور.
إنّ الكنيسة، الأمّ والمعلّمة، تتابع رسالة عاموس، رسالة الحق والعدالة. هكذا فهمت الجماعة الأولى الرسولية رسالة يسوع كما يوضح لنا سفر الأعمال: "لا يقول أحدٌ منهم إنهّ يملك شيئًا من أمواله، بل كان كلّ شيء مشتركًا بينهم... فلم يكن فيهم محتاج، لأن كل من يملك الحقول أو البيوت، كان يبيعها ويأتي بثمن المبيع، فيلقيه عند أقدام الرسل، فيُعطى كلّ منهم على قدر احتياجه" (أع 4: 32-35).
لا تستطيع الكنيسة إهمال العدالة الإجتماعية لأنها ضرورة حيوية ومحقّة في عالم تخلّفت فيه شعوب لتستفيد شعوب أخرى، وظُلمت مجتمعات لتحيا أخرى. الكنيسة هي صوت الحق في مجتمع مبنيّ على التفاوت الطبقيّ حيث يتنعّم الأغنياء على حساب الفقراء، وفي مؤسسات استفحل فيها الربح الحرام والاحتكار والظلم والرشوة والاستغلال والقهر والحرمان واللاعدالة.
واليوم في مجتمعنا المعاصر حيث تخدّرت الضمائر وفسدت الأخلاق ونُودي بموت الله، يأتينا صوت عاموس من عمق أعماق التاريخ يقول لنا:"أطلبوا الرب فتحيوا..." (5: 6). إنّ زمن الأنبياء لم ينته بعد، ورسالة عاموس لم يطوها الزمان، فهي لا تزال حيّة تدعونا بلسان الكنيسة أن ننظر إلى كل شيء في الوجود بعينيّ الله، لأن الزمان يشيخ والتاريخ يشيخ والأرض تزول، أما كلمة الرب فحيّة إلى الأبد. وكما قال الحكيم إبن سيراخ: "لتُزهر عظام الأنبياء من قبورها فإنهّم عزّوا شعب يعقوب وخلّصوه في الايمان والرجاء" (49: 10). الخوري يوسف فخري