الفصل العاشر
الكهنوت بعد منفى بابل
نتوقّف هنا عند قسمين كبيرين: تجديد الكهنوت وإحياؤه، بعد أن سقطت أورشليم وهيكلها وراح الكهنة إلى المنفى. ثم معارضة الفئات لكهنوت ظلّ محافظًا على أطره ورفض أن يتغيّر.
1- تجديد الكهنوت
حين سمح قرار كورش لليهود بالعودة إلى فلسطين، كان أمامهم برنامج تجديد. وإعادة بناء الهيكل (520- 515 ق م)، بتشجيع من النبيين حجّاي وزكريا، ستساعد على إقامة الكهنوت من جديد. ولكن كانت هناك برامج مختلفة، وتصارعت العائلات الكهنوتيّة تصارعًا طالب بيرنامج تسوية. في ذلك الوقت، كانت تتثبّت المؤسّسة الكهنوتيّة مستفيدة من امّحاء أمير يهودي على المستوى الزمني هو زربابل.
أ- عودة الصادوقيين
قدّمت لنا لائحة عز 2 (= نح 7) الطريقة التي بها تكوّنت مجموعة المنفيّين الذين عادوا مع زربابل الذي قد يكون ششبصّر. قدّمت لنا فقط أربعة بيوت (عائلات) كهنوتيّة: يدعيا من بيت يشوع. إمير، فشحور، حاريم. هم يرتبطون بالعائلات الكهنوتيّة الصادوقيّة الذين مارسوا الكهنوت في نهاية الملكيّة. يشوع هو حفيد سرايا. وإمير يُذكر في إر 20: 1. كان الجلاء قد ضرب الصادوقيين ضربة قاسية. وها هم يستفيدون من عودة العائدين الأول، ليستعيدوا سلطتهم. كان عددهم 4289 (عز 2: 36؛ نح 7: 29).
أما عدد اللاويين فكان قليلاً جدًا. كانوا 74 شخصًا، توزّعوا على ثلاث عيال (عز 2: 40؛ نح 7: 43؛ رج عز 3: 9). لم يعد هناك سوى عائلة واحدة من المغنيّن هي عائلة آساف (128 شخصًا). وست عائلات من البوّابين (139 شخصًا). في هذه اللائحة، يتميّز المغنّون والبوّابون عن اللاويين. فالدمج لم يتمّ بحيث صار المغنّون والبوّابون لاويين. وتورد اللائحة "ن ت ن ي م" أي "المعطين" بعد المغنين والبوّابين. والذين ما استطاعوا أن يقدّموا لائحة أنسابهم استُبعدوا من الكهنوت على أنهم نجسون (عز 2: 59- 63؛ نح 7: 61- 65).
ب- حجّاي وإعادة بناء الهيكل
وضعت توراة حزقيال أسمى إصلاح كهنوتي في هيكل الله الجديد. وساعة إعادة بناء الهيكل، استعاد المسألة حجاي وزكريا (زك 1-8) بالنظر إلى تطوّر الوضع. ففي جماعة دينيّة فقدت استقلالها السياسيّ، اتّخذت المسائلُ العباديّة المكانة الأولى. لا نتوقّف هنا عند العلاقات بين الأنبياء وشعائر العبادة، ولا عند مسألة الأنبياء الذين ارتبطوا بالعبادة.
يتسجّل تدخّل النبيّ حجّاي بين نهاية آب ومنتصف كانون الأول سنة 520. أمّا في ما يتعلق بتاريخ الكهنوت، فنشير إلى عنصرين رئيسيّين.
أولاً: سفر حجاي يدلّ على رضى على الكهنة الصادوقيين الذين عادوا إلى أورشليم. ففي الإطار السرديّ للأقوال النبويّة، يقف عظيم الكهنة يشوع بن يوصادق مع الداودي زربابل بن شألتئيل (1: 1، 2، 14؛ 2: 2- 4). يشوع هو صادوقي لأن يوصادق هو ابن سرايا، آخر رئيس كهنة الهيكل في حقبة ما قبل المنفى. فلقب "عظيم كهنة" فرض نفسه في محيط يشوع، وظلَّ بعد ذلك. أما التقليد الكهنوتي فاهتمّ بالاحرى بأن يكون عظيمُ الكهنة ابنَ هارون، وهذا ما لم يكن اهتمام حجاي ولا معاصره زكريا. وهكذا نال البرنامج الهيروقراطي (يجعل الكهنة يحكمون) مع حجاي وزكريا الإقرار الشرعي على يد الأنبياء.
ثانيًا: السؤال في 2: 10- 14 يبيّن اهتمام النبيّ بأمور الطهارة. كما يدلّ على أن الكهنة ما زالوا مستودع "توره" (يجعلون الناس يرون). فاللفظة التقنيّة التي تتحدّث عن سؤال قول إلهي (ش أ ل) هي المستعملة هنا. وأن يكون حجاي قد أرسل ليسأل الكهنة، يعني أنه ليس بكاهن. نشير إلى أن 2:14 لا تنطبق فقط على السامريين، بل على الشعب كلّه.
ج- لا هوت زكريا
بما أن الكهنة يُذكرون في 7: 3- 5، اعتبر بعضهم أن الوفد الذي أرسل إلى الكهنة "في بيت إيل"، أبرز أهميّة كهنة بيت إيل خلال المنفى. لهذا أجبر الصادوقيّون على التعامل مع الهارونييّن في بيت إيل. ولكن يبقى البرهان ضعيفًا، لا سيّما وأنه يستند إلى نص السبعينيّة، لأن النص الماسوري غير واضح. ولكن مجموعة الرؤى والإضافات تقدّم لنا معطيات مهمّة من أجل دراستنا. ونحن نتوقّف عند ثلاثة نصوص.
أولاً: المنارة والزيتونتان (ف4)
إن رؤية المنارة والزيتونتين (4: 1- 6أ، 10ب- 14) تبدو بارزة في شكلها الأدبي، وتقع في قلب مجموعة أصيلة من الرؤى. زربابل ويشوع هما الزيتونتان. هم أبناء الزيت (الذي ينير المنارة). وقد يكونان نالا مسحة بالزيت. هما على مستوى واحد. هذا على مستوى المقام. وعلى المستوى التدويني، توخّت هذه الروية أن تسجّل الانتظار المسيحانيّ والملكي في إطار رجاء الأوساط الكهنوتيّة المنغلقة حصرًا على الهيكل وعلى شخص عظيم الكهنة.
ثانيًا: الإكليل لزربابل (6: 9- 15)
أضاف الكاتب هذا العمل الرمزيّ على خبر الرؤى الليلية السبع. تحدّث النصّ العبريّ عن أكاليل في الجمع. ولكن الفعل هو في المفرد. فبالنسبة إلى العبريّ، الإكليل هو يشوع عظيم الكهنة. ولكن هناك صعوبة للحديث عن إكليل عظيم الكهنة. لهذا قرأ الشرّاح زربابل بدل يشوع. ورأى بعضهم القول الإلهي يسير في مرحلتين. الأولى (آ 10- 12) تعلن مجيء زربابل وتتويجه، لأنه الشخص الأهمّ في تجديد الشعب والأرض. ورسالة عظيم الكهنة تكون خاضعة لرسالة الأمير الذي سيعيد البناء. في المرحلة الثانية تصبح السلطة برأسين. أما التطبيق على يشوع فهو تفسير قديم يسجّل امّحاء الملكيّة وارتفاع الكهنوت.
ثالثًا: تنصيب يشوع (3: 1- 7)
تنصيب يشوع أو ارتداؤه ملابس الكهنوت. تبدو هذه الرؤية في شكلها الأدبيّ وكأنها زيدت على رسمة الرؤى السبع. قد تعود إلى نهاية رسالة زكريا، أي قبل فصح 515. اختفى زربابل عن المسرح، وسمّي يشوع عظيم الكهنة. لسنا إذن أمام تنصيب بالمعنى الحصري للكلمة. وقذارة ثيابه لا تعني نجاسة ما من قبَله. هذه الرؤية تدلّ على أهميّة يشوع الذي صار رئيس كهنوت متجدّد، وورث بعض الامتيازات الملكيّة (آ 6- 7).
ومختصر الكلام أن تطوّر نصوص زكريا يقابل تطوّرًا في بُنى المجتمع، بعد أن ترك الداودي المكان كله لعظيم الكهنة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، قدّم زكريا إمكانيّة أخرى لبرنامج حزقيال فوضع الأسس اللاهوتيّة للتجديد وإعادة البناء.
د- جماعة يقودها الكهنة
إنّ استمراريّة السلطة الملكيّة وسلطة الكهنة اللاويين تجد ما يكفلها في مقطع متأخّر أضيف إلى سفر إرميا (إر33: 17ي). فآخر تدخّلات زكريا تفهمنا أن الجماعة التي ستعيش حول الهيكل الذي أعيد بناؤه، لن يوجّهها إلاّ الكهنة. ونجد هذا المدلول عينه في خر 19: 6 (نصّ موضوع جدال). فمعظم الشرّاح يرون في عبارة "مملكة كهنة" امتداد الكهنوت إلى كل بني اسرائيل. وفهمها آخرون في المعنى الحصريّ. أما كازيل الذي رأى تقاربًا بين هذه الآية والمرجع الكهنوتي، فقرأ في "م م ل ك ت" مسألة تتعلقّ بالحكم والسلطة. فالكهنة يمارسون مهمّة من أجل الأمة ومن أجل الحياة. واستخلص الكاتب: »بين حقبة الملكية مع الدولة في زمن داود والملكية المسيحانيّة لابن داود، هيّأت هذه المقطوعةُ الكهنوتيّة الطريق أمام نظم المعبد والكهنوت الهاروني التي تحافظ على خاصيّة اسرائيل وسط الأمم. وهي تُختم بالتزام الشعب بحفظ العهد في المحافظة على الوصايا. وسيكون دور السبعينيّة وتحقيقيات العهد الجديد (1بط 2: 9) أن يُشرك جميعَ الشعب في المسحة الهارونيّة وفيض الروح.
في الفصول الأخيرة من كتاب أشعيا، نجد آيتين صعبتين تتضمّنان الكهنوت في رؤية مستقبلية فتعطيانه وظيفة رمزيّة هامة. إن أش 61: 5- 6 يطرح مسألة العلاقة بين بني اسرائيل والغرباء. هناك من رأى في هاتين الآيتين إضافة (بعد أن درس الأسلوب والأفكار). لا نحتاج أن نفهم أن جميع بني اسرائيل سيكونون كهنة بدون تمييز في الطبقات. فعبارة "كهنة يهوه" يمكن أن تُفهم كاستعارة فتدلّ على وضع اسرائيل المميّز بالنسبة إلى الأمم. أما الآية فتذهب أبعد من ذلك. نحن نقرأ أش 66:21: "ومن هؤلاء اتّخذ كهنة ولاويين يقول الرب". هناك تفسيران ممكنان بحسب الرباط مع الآية السابقة. إذا كنا أمام إخوة أعيدوا من كل الأمم، فهذا يدلّ على أن يهوه يختار لنفسه خدّامًا من بين بني اسرائيل دون أن يراعي قواعد القبول في الكهنوت واللاوية. وهكذا تكون الفكرة جريئة إذا عاد اسم الإشارة إلى جميع الأمم. فالغرباء يستطيعون أن يرتقوا الكهنوت. ولكن النظرة هي اسكاتولوجيّة. أي هذا لن يحدث في التاريخ، بل في نهاية الزمن.
هـ- مهمّة عزرا والكهنة الهارونيين
حصلت مهمّة عزرا سنة 398. وأعطيت لائحةُ الناس الذين رافقوه في عز 8. وقد أشير إلى الطابع الدينيّ للمهمّة بحضور الكهنة في رأس القافلة. كوّن الصادوقيون الفرقة الكهنوتيّة في القوافل الأولى. أما هؤلاء الكهنة فهم من عائلة فنحاس وإيتامار (عز 8: 2). ارتبطت هاتان المجموعتان بهارون. اختار عزرا اثني عشر كهنة (8: 24). هو رقم رمزيّ. فحسب الفرائض الكهنوتيّة (عد 3: 8- 31؛ 4: 7- 15) هؤلاء الكهنة يهتمّون بالأواني المقدسّة (8: 24، 30، 33، 35). واهتمّ اللاويون بحملها. وكما في العودات الأولى، يصعب علينا إيجاد هذه الأواني (8: 15). فالنصّ أمين لتوجيهات الشرعة الكهنوتيّة التي تميّز بين الكهنة واللاويين (8: 24-33). لهذا يطرح هذا النصّ سؤالين مهمّين: الأول حول العلاقات المتشعبّة بين مختلف العائلات الكهنوتية. الثاني حول تطبيق التشريع الكهنوتي.
و- صراعات وتسويات بين العائلات الكهنوتيّة
وهكذا تطرح مختلفُ لوائح العائدين مسألةَ العلاقة بين الصادوقين والهارونيين، لا سيمّا وأن الوفاق بين مختلف البرامج غاب غيابًا تامًا. فتوراة حزقيال لا تعرف إلاّ أبناء صادوق. والشرعة الكهنوتيّة لا تعرف إلا أبناء هارون.
لم تكن هذه التوتّرات جديدة. فالتزاحم بين العائلات الكهنوتيّة انفجر ساعة خفّف مجهودُ تركيز العبادة في أورشليم، عددَ المعابد في البلاد. ونستطيع أن نستعرض وظيفة هذه الأخبار التي تعطينا صورة عن هذه الصراعات في خر 32؛ عد 12: 25؛ لا 10: 1- 7؛ عد 16. ويستطيع ابنا هارون ناداب وأبيهو أن يمثّلا عائلتين كهنوتيتين زالتا من الوجود. ونحن نقرأ خبر استبعادهما في لا 10: 1- 3.
وكما أن جذور صادوق غامضة، لا نعرف كيف فرض هارون نفسه كرئيس كهنوت وهو الذي لم يكن رئيس كهنوت في التقاليد القديمة. فلائحة المدن اللاوية تدلّ بالأحرى على أنه كان من الجنوب. بعد المنفى، وجب التطلّع إلى تسوية بين الصادوقيين والهارونيين. وكان اتفاق بين نسل صادوق وأبياتر اللذين ارتبطا بابني هارون، واحد بألعازر والآخر بايتامار. ووافق عزرا على الاتفاق المعقود في بابلونيّة، فأخذ معه ممثلّي العائلتين. غير أن هذا لا يستبعد أن يكون حدث شيء مماثل في فلسطين. بعد عزرا، ترتّب الوضع، وتقاسمت العائلتان الكهنوت. غير أن الصادوقين احتفظوا بالأولوية، لأن جدهم كان أرفع محتدًا. وظلّ عظماء الكهنة يُختارون منهم حتى زمن انطيوخس أبيفانيوس.
2 - معارضة الكهنوت
بعد العودة من المنفى وإعادة البناء، وُجدت تسويات لحل الصراعات بين مختلف المجموعات. فالتشريع الكهنوتي الذي تحدّد تدريجيًا وتكمّل، دخل في الحياة اليوميّة بفضل مهمّة عزرا. وكتب كازيل: هذه "الأمّة المقدّسة ومملكة الكهنة" لها ما يساعدها على تأمين حياتها مع إلهها، كهنوت هارون وبنيه الذين حلّوا محلّ الملكيّة التي سقطت. فبهذا الكهنوت تستطيع الأمّة أن تتنقّى وتنال خيرات الله. لأن هذا الكهنوت مقدسّ وهو يعيش حياة حميمة مع الله 22. فاللوائح والإحصاءات في نح 11: 1، 12، 26 تشهد أن الجماعة البعدمنفاوية عملت بطريقة عادية فما نقصها كهنة ولا لاويون. وستقودنا لائحة عظماء الكهنة حتى نهاية الحقبة الفارسيّة (12: 10). تلك كانت الحقبة المثاليّة التي فيها جعل يهوذا فرحه في الكهنة واللاويين الذين يخدمونه، والتي كانوا فيها يؤدّون المتوجبّات المقدسة بأمانة. ولكن هذه الأمانة لم تسلم من الصدعات والعيوب. فالمراجع التي بين أيدينا تجعلنا نستشفّ ردّات فعل معارضة، وقد جاءت من أوساط تتطلّع إلى وجهات اسكاتولوجيّة لا إلى هيروقراطية الهيكل، ومن محيطات ورعة انتقدت الكهنة باسم فكرة سامية عن الكهنوت. هناك وثائق عديدة تنير هذه الفترة من التاريخ:1 و2 أخ. المزامير. زكريا الثاني وملاخي.
أ- الكهنة واللاويون في كتاب الأخبار
ضمّ كتاب الأخبار تقاليد مختلفة ولغة متنوّعة. فبدل عبارة "بني هارون" و"كهنة"، نجد بعض المرات العبارة الاشتراعيّة "الكهنة اللاويين" (2أخ 5: 5؛ 3: 28؛ 30: 27)، ساعة كان التمييز واضحًا بين الكهنة واللاويين. ثم إن خدمة (ع ب و د ه) المعبد ارتبطت باللاويين (1أخ 23: 28)، بالكهنة (1أخ 18: 13)، بالكهنة واللاويين (1أخ 28: 21). ليس في هذا ما يدهشنا في وثيقة عمليّة لا تهتمّ بتحقيق برنامج، بل بسرد ما تحققّ في الواقع. فالمسألة متشعِّبة لأن عددًا من المسائل ما زالت مثار جدال: كاتب واحد أم كتّاب عديدون. العلاقة بعزرا نحميا. متى دوّن الكتاب، وما هو محيطه الحياتي؟ هناك من رأى "نشرة" أولى لكتاب الأخبار بين تأسيس الهيكل والانتهاء منه (520-515). أما التدوين الأخير فلا يمكن أن يكون قبل سنة 400. بل سنة 300. وحتى الذين يعتبرون كتاب الاخبار قديمًا، فهم يجعلون جانبًا ما أقحم في زمن متأخّر (1أخ 1- 9؛ 2أخ 23- 27). هي ملاحظة مهمّة لأنها تشير إلى نصوص رئيسيّة تساعدنا على تحديد وضع الكهنة واللاويين. غير أننا نشير إلى أربع نقاط.
أولاً: لائحة الأنساب
إن الفصول الأولى من 1 أخ تقدّم لوائح انساب لها أهميّتها من أجل بناء التاريخ، وقد توخّت أن تحافظ على حقوق الجميع داخل الجماعة. نستطيع أن ندرس الأنساب اللاويّة وكيف دخلت في التاريخ. وقد أخذ الكاتب بخط عالي، هارون، ألعازر، صادوق. هذا الخط يعطي عظماءَ الكهنة. واهتمّ الكاتب بين اللاويين بخط قهات.
ثانيًا: خدّام الهيكل
استعاد كتاب الأخبار التمييز بين الكهنة واللاويين كما في الوثيقة الكهنوتيّة. وأعطانا عن اللاويين بشكل خاص معلومات أصيلة. ورغم تنوّع التقاليد، نستطيع أن نكتشف الخطوط الكبرى لتنظيم الهيكل.
يدير الهيكل عظيم كهنة يسمّى "الكاهن" (هـ. ك هـ ن) 13 مرّة. ويسمّى أيضًا رئيس (ن ج ي د) بيت الله (1أخ 9: 11؛ 2 أخ 31: 13؛ نح 11: 11). وهناك ألقاب أخرى: الكاهن الرئيس (ر و ش). الكاهن العظيم (ج د و ل) هو الذي يوجّه الأمور الدينيّة كما يرتبط بالسلطات السياسيّة. لهذا كان دوره كبيرًا في الأزمات.
وتحدّث كتاب الأخبار عن الكهنة بحماس أقلّ، ولكنه لم يحطّ من قدرهم. فقد حافظوا على وظائفهم التقليديّة: كخدّام المعبد (2 أخ 5: 14؛ 29: 16) كانوا يقدّمون الذبائح على المذبح (2 أخ 29: 21). يرشّون الدم على الذبيحة الفصحيّة (2 أخ 30: 16؛ 35: 11). يشعلون البخور (2 أخ 36: 18). ينفخون في الأبواق (1أخ 16، 6؛ 2 أخ 5: 12). ومع اللاويين كانوا يعلّمون التوراة (2 أخ 15: 3؛ 17: 8).
وكما في التقليد الكهنوتي، ارتبط اللاويون بأبناء لاوي الثلاثة، جرشوم وقهات ومراري. في نظريّة المؤرخ الأصيلة، يحمل اللاويون تابوت العهد في خطّ تث 10: 8، مع أنهم في التقليد الكهنوتي ينقلون المسكن. في الإضافات على النصّ (1أخ 23: 26- 28) هم يحملون الخيمة وينفّذون أوامر بني هارون. بين الوظائف اللاويّة، جعل المؤرّخ المغنيّن في الدرجة الأولى. فصار منذ ذلك الوقت ثلاث عائلات (اساف، هيمان، يدوتون) تماهوا مع اللاويين (1 أخ 15: 1ي). والبوّابون صاروا جزءًا من اللاويين. وبلغ القورحيون إلى وظيفة المغنِّين. وكان اللاويون في خدمة هارون، وكانوا يتمّون الوظائف الاداريّة والعباديّة. يجمعون المال (2أخ 24: 5ي؛ 34: 9)، ينظّفون الهيكل (2 أخ 29). وخارج شعائر العبادة كلّف اللاويون أيضًا بوظيفة التعليم (2 أخ 17: 8- 9؛ 35: 3).
ثالثًا: الاتجاه اللاوي في كتاب الأخبار
في خط المرجع الكهنوتي، ترك كتاب الأخبار المكانة الأولى للكهنة، فصار اللاويون في الدرجة الثانية. غير أن الكاتب الذي استعاد هذه التقاليد، نظر إلى اللاويين نظرة رضى. فجعلهم وارثي التقاليد النبويّة في الحقبة الملكيّة. ورأى بعضهم أن الروح النبويّة وجدت ملجأ لها لدى المغنِّين اللاويين. واكتشف آخرون إشارات تدلّ على أن العهد لم يسر مسيرته بسبب الكهنة. فاللاويون كانوا أكثر اندفاعًا من الكهنة لكي يتقدّسوا (2 أخ 29: 34). وخيانات رؤساء الكهنة والشعب هي التي كانت السبب في دمار الهيكل (2 أخ 36: 14).
رابعًا: الردّ الموالٍي للكهنة
لا نستطيع أن نجد تناسقًا سهلاً بين النصوص. ولكنّنا أمام ردّ كهنوتي على هذا الاتجاه نكتشفه خاصّة في الإضافة التي نقرأها في 1 أخ 23- 27. جاء من اكتشف في هذه الفصول طبقتين أدبيّتين. الثانية هي الأوسع وهي ثمرة إعادة نظر موالية للكهنة بتأثير مؤسّسة نظام الفرق الاثنتي عشرة. قد يعود أصل هذه المؤسّسة إلى نهاية عهد الفرس. إن كاتب عز1- 6 الذي ليس كاتب 1و2 أخ، هو عضو في الحلقة التي أخضعت كتاب الأخبار لمراجعة "موالية للكهنة". فإذا كانت هذه المراجعة قد تمّت في نهاية الحقبة الفارسيّة، فهذا يعني أن عز 1- 6 قد عمل في العقود الأولى التي تلت دخول الحكم الهلنستي إلى فلسطين. أما الهدف فهو تبرير شرعيّة هيكل أورشليم وعبادته، بعد تفتّت ممكن في كهنوته، وإقامة جماعة السامريين مع المحاولات الأولى لبناء هيكل على جبل جرزيم. هذه الفرضيّة تجعلنا نستشفّ المشاكل الداخليّة في الكهنوت. ولكن قبل أن نسمع تأنيب الأنبياء له، نحدّد موضعه في مجموع مزامير الهيكل.
ب- المزامير
لا تتكلّم المزامير كثيرًا عن الكهنة. سقطوا بالسيف بعد أن تخلّوا عن الله، فتخلّى الله عنهم في شيلو (88: 64). هناك عودة إلى ملكيصادق في مز 110: 4. ويشير مز 132 إشارة رمزية إلى لباس البرّ (آ 9) والخلاص (آ 16) لدى الكاهن (أش 61: 10). ويضيف مز 99: 6 لقب كاهن على موسى وهارون، ويذكرهما مع صموئيل. وجاء من يفكر بوظائف وسيط العهد التي قام بها يوياداع الكاهن متشفّعًا (2 مل 11: 17). في خلفيّة بعض أقوال أشعيا الثاني، هناك أقوال خلاص قدّمها الكاهن جوابًا على شكوى أو على رثاء.
كانت المزامير قريبة من اللاويين المشاركين في شعائر العبادة. فمعظم المزامير(74 مزمورًا) نُسبت إلى داود. ولكن عددًا منها نُسب إلى اللاويين المذكورين في كتاب الأخبار، ولاسيمّا مزامير قورح (مز42- 49، 84، 85، 87، 88) ومزامير آساف (مز73- 83). وما يلفت انتباهنا هو مكانة الموسيقى خلال الاحتفالات، التي تتوجّه إلى الله لا إلى الجماعة. فالموسيقى هي موهبة مقدّسة يلهمها الله. تنطلق منه وتعود إليه. وعبر الطقوس الذبائحية يُتمّ المغنون اللاويون وظيفة المدائح بمكانتها الجوهرية في حياة الجماعة.
ج- الكهنوت الخائن وعهد لاوي
وتأتي الأصوات النبويّة الأخيرة فتلتقي مع تحفّظات كتاب الأخبار حول ممارسة الكهنوت وما فيه من نقص. هذا ما نجده في زك 9- 14 وملاخي.
أولاً: زكريا الثاني
اتّفق الشرّاح على فصل زك 9- 14 عن زك 1- 8، ولكنّهم اختلفوا حول التدوين وتاريخ الكتاب. ولكن عددًا كبيرًا يعتبرون أن زكريا الثاني دوّن في بداية الحقبة اليونانية. هذا إذا كان الكتاب واحدًا. أما إذا كان مجموعة أقوال، فمسألة تحديد زمن كتابته تصبح متشعّبة.
لا يشير زكريا الثاني بشكل مباشر إلى عظيم الكهنة ولا إلى الكهنة. ولا يتكلم إلاّ مرة واحدة عن عشيرة بيت لاوي بموازاة عشائر شمعي وداود وناتان (12: 13). وهكذا نعود إلى التلميحات غير المباشرة التي يصعب التعامل معها. فتفاسير استعارة الرعاة عديدة. وهناك من يرى في بائعي 11: 4 أشخاصًا ينتمون إلى الطبقة الكهنوتيّة العليا التي تتاجر بالشعب على مثال ما في نح 5: 1- 11، ولكن يتميّزون عن "الرعاة" أي عظماء الكهنة.
ثانيًا: ملاخي
يتحدّد موقع النبي ملاخي في منتصف القرن الخامس. أعيد بناء الهيكل. وبدأ النبي يهاجم الإهمال في شرائع العبادة. ذكر الكهنة في 1: 6؛ 2: 1؛ 2: 7. وذكر لاوي في 2: 4. وعهد لاوي في 2: 8. وأبناء لاوي في 3: 3. يبدو أن نصّه يستند إلى تث لا إلى الشريعة الكهنوتيّة التي يعرف تطبيقاتها. سلسلتان من الاتهامات (1: 6- 14؛ 2: 10- 16) تحيطان بإعلان العقاب (2: 1- 9).
تأخذ الاتهامات بلغة العهد، وتصيب بشكل خاص إهمالات الكهنة في شعائر العبادة. يقدّمون ضحايا لا يمكن أن تُقبل كذبائح (رج لا 22: 18- 25). والاتّهام الثاني المهمّ يصيب الزواجات. وقد نجد في 2: 11 (نجّس يهوذا المعبد العزيز للرب. تزوّج ابنة إله غريب) تلميحًا إلى زواج الكاهن بامرأة غريبة. وسيحارب نحميا في مهمته الثانية انحرافات صارخة في الجماعة اليهودية (نح 13).
وبين هذه الاتهامات، يأتي إعلان العقاب. نجد فيه عبارة فريدة "عهد لاوي". ويعود الشرّاح إلى مقاطع عديدة ليشرحوها. العهد مع فنحاس (عد 25: 11- 13). مباركة تث 33: 8- 11. عهد الملح الذي نجده في عد 19: 19. ونجد في إر 33: 20- 26 ونح 13: 29 عهدًا مع اللاويين. تدلّ هذه الآيات، لا على الدور الذبائحي (رج 1: 6- 14) للكاهن، بل على وظيفته التعليمية ومسؤوليّته تجاه التوراة. نحن هنا أمام ثابتة من ثوابت التقليد اللاوي.
خاتمة
مع هذا الفصل ننتهي من التعرّف إلى الكهنوت في العهد القديم. تطوّر الكهنوتُ وتطوّرت بُناه في المجتمع. بدا غير منظّم في إطار القبائل، فتوزّع على مختلف المعابد المحليّة. مع الملكية تبدلّ وضعه. وكان تركيز على معبد واحد، وصل بنا إلى تركيز على عائلة واحدة. توصّل اللاويون إلى فرض نفوسهم ككهنة حقيقيين خلال الإصلاح الاشتراعي. ولكن الصادوقيين في أورشليم حافظوا رغم كل شيء على سلطتهم. ولكن بعد المنفى، أجبروا على المشاركة مع الهارونيين على أساس التسوية.
كان الكهنة موظّفي الملك في زمن الملكيّة، فوبّخهم الأنبياء. وورثوا بعض الامتيازات الملكيّة بعد المنفى، ساعة ارتبط الأنبياء بالهيكل مع تحوّلات عميقة. وظهرت رفعة الكهنوت في النهاية في شخص عظيم الكهنة الذي تثبتّت سلطته في زمن ما بعد المنفى.
نعمَ الكهنوتُ بالتكريس الديني، وشدّدت النصوص على مشاركته السامية في قداسة الله التي يجب أن تصل إلى الشعب. إذن، كان الكهنة الوسطاء المؤهّلين ليجعلوا الشعب المختار يتّحد بإلهه. ومع ذلك، سيدفع الكهنوت ثمن كرامته غاليًا. فالناس ليسوا دومًا على مثل هذا المستوى. وقد أشار ملاخي إلى ضعف يقود الكهنوت إلى دماره.
ويُطرح سؤال: كيف سيواجه الكهنوت أزمة الهلينيّة؟ وكيف يستطيع أن يُشرك في قداسته شعبَ الله المتجدّد؟