الفصل السابع
تحذير من المعلِّمين الكذبة
2: 6- 15
يبدأ هذا المقطع بتحريض لكي يعيش المؤمنين متجذِّرين في المسيح، فيقابل بين التقليد الحقيقيّ وتقليد البشر. فالمسيحيّ لا يبحث عن ملء آخر سوى ملء المسيح الذي يشاركه في حياته بواسطة العماد. أما القوّات فقد عُرّيت من كل سلطان لها بواسطة صليب المسيح. نصّ غنّي جدًا نجد في قلبه (آ 12 ب- 15) نشيدًا حول غفران الخطايا وهزيمة هذه القوات بالصليب. وهو لا يتوقّف فقط عند آ 15 بل يصل إلى آ 23 في موضوع عام هو الأمانة للانجيل. في 2: 6- 15 نفهم كيف نعيش في أمانة المسيح، رئيس القوّات، بالتنبّه من المعلِّمين الكذبة. وفي 2: 16- 23 نعود إلى حرّية المعمّدين.
1- التأليف
* تحريض أول بشكل عام: في صيغة الأمر الايجابي (آ 6- 7) "أسلكوا في المسيح، كونوا متأصّلين".
أ- تنبيه يتعلق بالممارسات العباديّة: في صيغة الأمر السلبي (آ 8): "إحذروا".
ب- أسباب كرستولوجيّة: المسيح والمؤمنون معه (آ 9- 15): سيادة المسيح المطلقة.
أ أ- استعادة التنبيه مع فعلين سلبيين في صيغة الأمر (آ 16- 19): "لا يحكم عليكم أحد".
* تحريض ختامي (آ 20- 23): "قد متّم مع المسيح...".
إن آ 8- 19 تميّز التحريض البولسي، ونحن نجده في رسائل أخرى مثل 1 كور.
أ- انتبهوا (تحريض أو أمر)
ب- الاسباب
أ أ- إذن، انتبهوا (يتجذّر التحريض أو الأمر).
أما (ب) أو الوحدة المركزيّة (آ 9- 15) فتقدّم الاسباب في محطتين براهينيتين.
+ أسباب ترتكز على الوضع الحاضر (آ 9- 10)
* الآن فيه (= المسيح) يكمل ملء اللاهوت جسديًا (علاقة المسيح بالله)
* وفيه تمتلئون (علاقة المسيح بالمؤمنين)
* هو رأس كل رئاسة وسلطان (علاقة المسيح بالقوى).
+ أسباب ترتكز على الأحداث الماضية (آ 11- 15)
* انطلاقًا من تحوّل تمّ في المؤمنين (آ 11- 12)
انفصال عن البدن والخطيئة (آ 11): ختان (إشارة إلى العماد)
اتحاد مع المسيح (آ 12): موت وقيامة (إشارة إلى العماد)
* انطلاقًا من عمل الله بواسطة المسيح من أجلهم بالصليب (آ 13- 14) وتعرية القوى (آ 15)
النقطة الحاسمة هي الملء الذي ناله المؤمنون في المسيح: امتلأوا فيه. قاموا معه. وهكذا يتّضح أن المؤمنين نالوا منذ الأن كل شيء في المسيح فلا يحتاجون إلى ممارسات تفترض أن عطايًا الخلاص التي نالوها في المسيح هي ناقصة أو هم لم يبلغوا إليها بعد.
2- التأويل (2: 6- 15)
أ- المقدّمة (آ 6- 7)
إن آ 6- 7 تؤمّنان الرباط مع القسم المتعلّق بالممارسات الكنيسيّة فتذكّران بأن الايمان بالانجيل كما بشِّر به وقبلوه، هو الأساس الوحيد والأكيد والثابت للحياة المسيحيّة.
"بارالمباناين" تقبّل (تعلّم). لسنا أمام استماع منفعل بل أمام ارتباط الحياة كلها بشخص هو المسيح وهو ارتباط يجد نموذجه في الرسل. هذا الفعل يلخّص القسم السابق (1) حيث صوّر بولس جهاده من أجل الجماعات. فعلى المؤمنين أن يجاهدوا مثله. (2) حيث الجوهر هو المسيح: لقد تقبلّ المؤمنون الانجيل الذي جاء إليهم في كلمة الرسول. (3) حيث المسيح هو رجاء المجد: فيه، هو الرب (كيريوس). في ملئه يجب أن يسلكوا. كل شيء يتأسّس على سيادة المسيح (هو الرب) وملئه.
في آ 7، يصوّر فعلُ "باريبتاين" (سلك) بشكل إجمالي سلوك الجماعة (1: 10). ويحدَّد هذا السلوك في أسماء فاعل ترسم خطًا متدرجًا ينطلق من الأساس الكرستولوجيّ إلى التعبير الكامل عن حياة المؤمن في فعل الشكر. لا يتوسّع النص في هذا السلوك كما في 1: 10- 12: لا يقول شيئًا عن الأعمال الصالحة ولا عن العمل الخلقيّ. والسبب واضح: إشكاليّة الفصل هي إشكاليّة متانة الايمان الذي موضوعه المسيح الرب فنعرفه معرفة أعمق كل يوم ونكتشف غناه.
إن صمورة الكائن المتجذّر (المتأصّل) وصورة الكائن المشيَّد على (المبنيّ) هما صورتان نجدهما في الكتاب المقدس (عا 5: 11؛ 9: 14- 15؛ إر 1: 9- 10؛ 2: 15...). لا نجدهما في العهد الجديد إلاّ هنا وفي أف 2: 18. هما تذكّراننا بـ "غرس" (فيتاواين) و"بنى" (اويكودوماين) كما في 1 كور 3: 10- 12 حيث المسيح هو الأساس الحقيقيّ الذي عليه يُبنى المؤمنون.
فالايمان الذي يجب على الكولسيين أن يثبتوا فيه هو بلا شك ايمان (فعل ايمان وموضوع ايمان) بالمسيح الربّ كما ذكّرت به بدايةُ الرسالة وعبّرت عنه، وكما سمعه الكولسيون يعلَن عليهم فاعترفوا به.
ويُذكر فعلُ شكر أيضًا كتعبير عن ايمان قويّ ومؤسّس في المسيح أو كطريقة سلوك، فيه فعل الشكر هو شكل من أشكال الحياة في المسيح والقمّة التي تعطي حياة المؤمن عنصر المجانية والدهشة كما في 2: 3.
ب- تنبيه حول الممارسات العباديّة (آ 8)
إن فعل الأمر (احذروا) يبدأ البرهان ويدلّ على وظيفته: هذه الآية تتوخّى أن تنبّه وتحذر فتدلّ على الخطر (أ- أ أ) وتُعارضه بالقيم الحقيقية (ب).
"استلب ". وضع خطير يقيم فيه الكولسيون: نحن أمام النصر أو الهزيمة، الحياة أو الموت. إن قُهر الكولسيون سيُسبون. سيصبحون سلبًا وغنيمة. هناك حديث عن "الغش" (اباتي). ولكن المدافعين عن هذه "الفلسفة" لا يعتبرون أنهم يحملون الضلال إلى الكولسيين بل أنهم يردّونهم إلى الحقيقة.
"الفلسفة (فيلوسوفيا) مع "الغشّ الباطل" يلخّصان تعليم "ملافنة" كولسي. هي الفلسفة مع أل التعريف. لا فلسفة غيرها. وهذا يكفي ليدلّ على الغشّ الذي فيها. "تقليد الناس"، رج مر 7: 7- 8؛ رج أش 29: 13. "أركان (أو: عناصر) العالم". رج غل 4: 3- 10، نحن هنا أمام تفاسير عديدة.
(1) تفسير عرفاني. الاركان هي مبادئ أو أفكار أوليّة لدراسة موضوع (آباء الكنيسة). حين استعمل معلّمو كولسي هذه المبادئ لم يصلوا إلى معرفة سامية، بل لبثوا على مستوى معرفة ماديّة لا تستطيع أن تبلغ بالمؤمنين إلى المستوى الرفيع الذي وصلوا إليه وهو المسيح.
(2) تفسير كوسمولوجي. الاركان أو العناصر هي الأرض والهواء والنار والماء (فيلون الاسكندراني). هذه العناصر تقيّد الانسان وتمنعه من الارتقاء إلى السماوات. ويعتبر معلّمو كولسي أن الممارسات النسكية تحرّرهم منها.
(3) تفسير شخصاني (التفسير المعاصر). "أركان العالم" هي أرواح تحرّك مركّبات الكون الماديّة، أو ملائكة أوكلوا بتسيير الكون. فيجب أن نربح ودّهم بعبادة وصلوات لكي نصل إلى معرفة الله السامية. نجد نصوصًا يهوديّة من القرن الأول المسيحي تُسند هذه الفرضيّة: هناك سلطات روحيّة تسود على عناصر الكون. وإن كو 2: 20 تتحدّث عن هذه القوى المشخَّصة. ولكن مثل هذه العبادة جاءت متأخرة كما في وصيّة سليمان (8: 2- 18). ورأى بعضهم في كو 2: 18 (عباة الملائكة) أول أثر لمثل هذه العبادة: حين نكرّم هذه القوى السامية نؤمّن حمايتها لنا، لأنها تؤمّن الوصول إلى الملكوت السماويء وإلى الرؤى السامية. ويذكر الشرّاح، كسند لهذا التفسير، المقاطع التي فيها يذكر بولس الرئاسات والقوّات. وهكذا نفهم ضرورة الممارسات النسكيّة. تردّ كو هازئة على مثل هذه الممارسات فتسمّيها "تقليد الناس" وهي لا علاقة لها بالمسيح الذي ملؤه يكفي المؤمن (رج 1: 15- 20).
من هم "أركان العالم"؟ لا نستطيع أن نقول الآن. بل ننتظر آ 20. ففي آ 11- 19 الممارسات المتعلّقة بالطعام والشراب كما تفرضها قواعد الطهارة (هي تقاليد بشريّة في نظر الرسول) هي خضوع لأركان العالم للأرض، وهذا الخضوع لا يليق بمؤمنين حرّرهم المسيح فصار منزلهم منذ الآن في السماء. فالعودة إلى القواعد (البشرية) التي تعتدّ بانها تحرّر المؤمن ساعة تبقيه عبدًا لأركان العالم (على مستوى الطعام والشراب)، أمر مذلّ ومهين.
ج- أسباب كرستولوجية: المسيح والمؤمنون معه (آ 9- 15)
أولاً: الوضع الحاضر (آ 9- 10)
السبب الأول يرتبط بملء المسيح. "فيه يحلّ كل ملء اللاهوت جسديًا". يستعمل النصّ صيغة الحاضر: لا يلمّح النصّ إلى يسوع الارضيّ ليؤكّد أن اللاهوت سكن (في الماضي) في جسده (ضدّ البدعة الظاهرية)، بل يتحدّث عن يسوع القائم من الموت (في الزمن الحاضر). ولكن كيف نفسّر "جسديا" (سوماتيكوس)؟ (1) هل يعود هذا الظرف إلى الجسد الروحي للقائم من الموت فيشعّ كل مجد الله (1 كو 15: 44؛ فل 3: 21)؟ حنيئذ تعني الجملة أن الجسد الروحي للقائم من الموت له مجد اللاهوت وقدرته. (2) هل يدل على ما هو واقعي كما يقول الأدب اللابيبلي؟ عندئذ تشدّد الآية على الواقع تجاه الظلّ (كو 2: 17)، تجاه لا شيء. يبدو أن السياق اللاحق يفرض هذا المعنى الأخير.
وقد فسِّر "سوماتيكوس" منذ آباء الكنيسة بأشكال مختلفة: كليًا، حقيقيًا، في الواقع (ضدّ ما هو ظاهر)، بالتجسّد، في الكنيسة لأنها جسد المسيح (الذهبي الفم)، في الكون الذي يعتبر جسد المسيح. إن ملء اللاهوت يُوجد في المسيح وفيه وحده وليس في أحد غيره (لا في الكنيسة ولا في الكون).
وتدلّ آ 10 على أنه لا يكفي أن نقول إن اللاهوت يقيم في المسيح (آ 9). فعلى المسيحيين في كولسي أن يقتربوا من هذا الملء دون اللجوء إلى قوّات روحيّة وإلى ممارسات تُفرض عليهم. فالملء لا يسكن فقط في المسيح بل يُمنح أيضًا للكولسيين، لجميع الذين انضمّوا إلى المسيح. ولا يكتفي بولس بالاعراب عن تمن بل يعلن خبرة حاليّة، حاضرة.
تعود آ 10 ب إلى أولويّة المسيح "الذي هو رأس كل رئاسة وسلطان". بعد العلاقة بين المسيح والمؤمنين، ها هي العلاقة بين المسيح والقوات. لا شكّ في أن العلاقة ليست هي هي في الحالتين. فالمؤمنون ينالون الملء من المسيح الذي يحيي الجسد، يسنده ويوحّده. أما على مستوى القوات، فنحن أمام تفوّق تخضع له هذه القوّات فلا تستطيع أن تهدّد الملء الذي يناله المسيحيون منه وحده. وهكذا نال المؤمنون كل شيء من المسيح فما عادوا خاضعين لأية قوة كانت، ملائكية أو أرضيّة.
ثانيًا: الوضع السابق (آ 11- 15)
إن آ 11- 12 تتحدّث بشكل متكامل عن عبور المؤمنين الذين وحّدهم بشكل نهائي بالمسيح في موته وقيامته. وهكذا ينتقل البرهان من وضع المؤمنين الحاضر (آ 9) إلى ما انتج هذا الوضع (آ 11- 15).
* فيه ختنتم (آ 11)
إن ذكر الختان لا يعود إلى ممارسة يريد المعلّمون فرضها على الكولسيين (كما هو الوضع في كنائس غلاطية). ولكن هذه الصورة التي تدلّ على الانتماء إلى العهد في نظر اليهودي، تُفيد بولس في برهانه: ينطلق بولس من الطقس (نتخلّص من اللحم) فيشدّد على السموّ الذي يميّز "ختانة المسيح": نحن أمام ختانة روحيّة تحوِّل الانسان كله فتحرّره من كل بدني فيه. وإذا كان لا بدّ من التخلّص من البدن لندرك الوحدة مع العالم السماوي (رج سياق آ 16- 23)، فهذه الموهبة قد وصلت إلى جميع المعمَّدين الذين يستطيعون أن يبلغوا إلى ملء اللاهوت باتحادهم النهائي مع المسيح الذي مات وتمجّد.
هل تلمّح العبارة "في خلع الجسد البشري" إلى موت المسيح؟ بل بالأحرى إلى وضع المسيحي الجديد الذي ما عاد ينتمي إلى البدن (رج 3: 9؛ روم 7: 24؛ غل 3: 27). حينئذ تدلّ العبارة على مرور من نظام البدن إلى نظام المسيح. وما يثبت هذا التفسير هو صورة الدفن "مع المسيح" (آ 12). اتّحد المؤمن بالمسيح، فدخل في جسد المسيح. وهكذا نكون في المعموديّة.
إن وظيفة الختان (اختاره بولس) الذي يتضمّن تجرّدًا عن اللحم وانفصالاً، هي أن تدلّ على أن العماد فصَل (وعرّى) جميعَ المؤمنين ممّا هو بشري، فما عادوا يحتاجون إلى شيء آخر، لا يحتاجون إلى ممارسات نسكية ولا إلى طقوس خاصة.
* تدفنون معه في المعموديّة (آ 12)
بعد أن عبَّر الكاتب عن تحوّل المؤمنين بالعماد بلغة الفصل والتجرّد، ها هو يصوره الآن بلغة الاتحاد: كموت وقيامة مع المسيح. هناك الحياد "ببتسما" (عماد) أي العماد المسيحيّ. أما المذكر "ببتسموس" فيدلّ على الاغتسال الطقسي الذي يمارسه اليهود والوثنيون (مر 7: 4؛ عب 6: 2؛ 9: 10). هل هناك تماثل بين الدخول في الماء كعبور والوضع في القبر، وهكذا تصبح المعموديّة تمثّلاً أسراريًا لموت المسيح (= يكون المؤمن مع المسيح)؟ بل إن المذكر "ببتسموس" يدلّ على أن العماد في المسيح يستعيد ويوحّد طقسين يهوديّين، العبور والارتداد.
"قمتم معه". في الماضي. هي المرة الأولى يتحدّث بولس عن القيامة كحالة حصلنا عليها. في الرسائل الكبرى، هي خير ننتظره في نهاية الأزمنة. أما هنا فهي نتيجة العماد الذي نلناه. ما يريد الكاتب أن يقوله هو أن المؤمنين يمتلكون منذ الآن الجسد الممجّد الذي تؤمّنه القيامة لهم في نهاية العالم. نحن هنا أمام استعمال يتفرّع، يفصل ما جمعته الرسائل، بين الحياة القائمة والمجد مع المسيح: ففي روم 6: 1- 14؛ 8: 1 ي؛ 1 كور 15: 1 ي، تتضمّن القيامة مع المسيح تحوّلاً تامًا للجسد الأرضي، بل تمجيدًا. فبه يشعّ المؤمنون مجد الله مع القائم من الموت ومثله، لأن مجده صار مجدهم، ولأن مجده لا يفترق عن مجدهم.
أما كو 2: 12- 13؛ 3: 1- 4 فتميّز بين ما هو هنا منذ الآن من الكائن الذي قام مع المسيح (تسمّيه الرسائل الكبرى حياة المعمّد الجديدة والمتحوّلة)، وبين الظهور الأخير حيث يكون المؤمنون في المجد مع مخلّصهم. إن قيامة المؤمنين مع المسيح قد تمّت لأنهم آمنوا "بقوّة الله الذي أقامه من الأموات". حين ينفتح المؤمن على قدرة الله التي يدلّ عليها الانجيل، فالحياة الجديدة هي هنا. هكذا تَبرز الأهميّةُ الحاسمة لفعل الايمان.
* كنتم أمواتًا (آ 13)
مع أن التعارضات التي قرأناها في آ 11- 12 تتواصل في آ 13 مع ألفاظ أخرى (موت- حياة؛ سقوط- مسامحة)، تعبّر أيضًا عن طريقة حياة المؤمن مع المسيح، إلاّ أن التبدّل واضح على مستوى النموّ: لم يعد المؤمن فاعل فعل في المجهول (خُتن). فالأفعال هي في المعلوم، والله (أو المسيح) هو الذي يعمل. الله هو الذي يعمل. ولكن لم يُذكر الله بوضوح لتبرز وساطة المسيح.
قبل المعمودية هو كيان ميت، هو انفصال يتعارض مع العيش مع المسيح. وسبب هذا الموت: السقطات، لاختان اللحم. لا يحتفظ الكاتب بتعديّات على وصايا محدّدة، بل بعدم ارتباط بإرادة الله (= لاختانة القلب، ورفْض بأن نتخلّى عن البدن). وتنتهي هذه الآية، شأنها شأن آ 11- 12، عند القطب الايجابي في التعارض، الحياة مع المسيح والمسامحة. مع هذه الصور الثلاث، بيّن الكاتب كيف أن المؤمنين انضمّوا إلى ملء المسيح بالذات.
* محا الصك المكتوب (آ 14)
إن آ 14- 15 آيتان صعبتان بسبب ألفاظ ترد مرّة واحدة في العهد الجديد. قد نكون هنا أمام مديح عماديّ. نحن في إطار السوتيريولوجيا: الوجهة الحاسمة لحدث الصليب الذي به محا الله الخطايا وعفا عن الخطأة.
"خايروغرافون". ما كُتب باليد. الصكّ المكتوب. نحن أمام وثيقة مكتوبة تقيّد ذاك الذي وقّعها. ورقة تقرّ بأننا استلفنا مالاً (رج طو 5: 3؛ 9: 5). رج فلم 19 حيث نجد الفكرة: "أنا بولس كتبت بيدي، سأدفع، سأعوّض". لم يقل الكاتب "كتاب الحياة" مثلاً، لأنه أراد أن يبرز الأصل اللاإلهي لوثيقة (الصكّ) ألغاها الله.
"دوغماتا" الأحكام (جمع حكم). هو قرار يفرض علينا أن ننفّذ حكمًا اتّخذ في شأننا. ما هو المعنى؟ (1) قرار شخصيّ يجبر ذاك الذي يأخذه (ولكنه معنى غير معروف في ذاك العصر). (2) أحكام الشريعة: "خطايا متعلّقه بأحكام الشريعة". ولكن وصايا الشريعة الموسويّة لا تسمّى عند بولس كذلك، بل "انتولاي". (3) وصايا الانجيل. هذا تفسير الآباء. ولكن لا سند لهذا المعنى في القاموس. (4) الخضوع للقواعد النسكيّة على مستوى الطعام وشعائر العبادة (رج 2: 20). حينئذ تصبح الأحكام: قواعد الاستعداد النسكي (مع فرائض الشرائع، الموسويّة) المعدّة للذين يريدون أن ينعموا بعبادة روحيّة ورؤى سامية. (5) عقاب يطلبه الملائكة الذين يشتكون على البشر. "بعد أن ألغى الوثيقة التي فيها سجّلت أعمال البشر مع الأحكام التي تحكم عليها والتي كانت معاكسة لنا". قد نتوقّف عند (4) و(5) اللذين يتكاملان.
* الدين وإلغاؤه
(1) إن آ 14 تفسَّر انطلاقًا من أف 2: 15: الوثيقة (مع الأحكام) هي الشريعة الموسويّة ووصاياها. حين ألغى المسيح الشريعة، ألغى كل ما استحققناه بسبب عصياننا. تحفّظ الشراح. إن كان هذا الصك قد كُتب بيد بشر يعترفون فيه بدين (محاه الاله)، فكيف يمكن أن تكون هذه الوثيقة الشريعة، إلاّ إذا كان موسى كتبها باسم البشريّة، وهذا ما يتعارض مع التقليد البيبلي كله؟ وفي الرسائل البولسيّة، ليست الشريعة هي التي سمِّرت على الصليب، بل المؤمن (غل 2: 19 ب) الذي مات هكذا مع المسيح عن هذه الشريعة.
(2) إلغاء الميثاق (آدم والبشريّة بعده) مع آدم. ولكن لا ذكر لميثاق مكتوب بين آدم وابليس، لا في العهد القديم، ولا في الأدب اليهودي، ولا في العهد الجديد.
(3) إذا قلنا بوثيقة مكتوبة فيها نعترف بالدين، فالله هو صاحب الدين ونحن ندفع له. وهكذا نكون أمام استعارة عن إلغاء الخطايا التي هي دين لله. هذا هو تفسير الآباء والتفسير الأكثر شيوعًا منذ ايريناوس حتى أيامنا. رج اللعنة كما في تث 27: 14- 26. وضمير المتكلّم الجمع (علينا) يفهمنا أن اليهود والوثنيين هم معًا.
ولكن يبقى علينا أن نعطي تفسيرًا إجماليًا لما في آ 14- 15.
* جرّد الرئاسات والسلاطين (آ 15)
"اباكديسامانوس". جرّد، عرّى، نزع عنه سلاحه، ثيابه. أو: كشف، عرّف الرئاسات والسلاطين. لسنا هنا أمام عداء بين هذه القوات والله. فالله هو الخالق القدير لهذه الكائنات السماويّة (1: 16). والمسيح هو رئيسها المطلق. وهكذا تصبح الترجمة: "كشف الرئاسات والسلاطين فعرضها (= الله) بشكل فاضح وجعلها تعرفه (في المسيح)".
من هم "الرئاسات والسلاطين"؟ في 1: 16 عرفنا أن القوات والسلاطين هم كائنات روحيّة سامية. هم الملائكة، لا الشياطين (لا حديث عن الانتصار). عملَ الله (أو المسيح) مثل قائد منتصر يعرض جنوده. وهذا بشكل علني. عملَ لا لفئة محدّدة تحصل على هذا الكشف بممارسات نسكيّة. إن هذا التطواف يراه جميع المؤمنين في المسيح. هذا تفسير. وهناك تفسير ثان: إن الله (أو المسيح) قد حرم الملائكة من سلطة كانت لهم على البشر قبل الموت على الصليب. ولكن إذا كان هؤلاء الملائكة لم يخطأوا، لماذا يُعرضون أمام الناس، إن لم يكن للتشديد على خضوعهم الذي به يعبّرون عن تعبّدهم للاله القدير أو مسيحه. والتفسير الثالث: إذا فُسِّرت آ 14- 15 على ضوء 1: 13- 14، نستنتج أن الاعفاء من الدين أو غفران الخطايا يترافق مع انتزاع سلطة الأرواح الذين اتهموا البشر وهددوهم وتعاملوا معهم كقوى معادية: الغفران الذي يمنحه الله للمؤمنين يعرّي هذه الرئاسات ويدلّ على ضعفهم الحالي.
"دايغماتيزو": عرّض للهزء. أو قدّمه ليصفّق له. كمثل يعجب به الناس ويقتدوا به. الغاية هي التي تحدّد المعنى. "تريامبوساين". لا النصر، بل احتفال وتطواف بالنصر مع الأناشيد، حول القائد. قد لا يكون الأعداء في الموكب. فقد يكونون ماتوا.
إذا عدنا إلى قواعد الصرف والنحو، نحن أمام انتصار على القوات (آ 15 أ) واحتفال بهذا الانتصار على حساب هذه القوات (آ 15 ب). إذن، القوّات قد تكون شريرة وتكون صالحة لكي يعاملها الله كمقهورة: فبين ملكوت الابن وملكوت الظلمة، وبين القوات السامية والقوات الأرضية، بل في داخل القوات السامية، هناك تعارض وصراع. فالسلام لم يتمّ بدون حرب بحيث إن هناك الغالب والمغلوب. وحين سمّت كو المسيح "الرأس" دلّت على أن كل سلطان يعارض هذا السلام منذ الآن، سيجرَّد من سلاحه.
3- نظرة عامة
نحن هنا أمام تحذير من هرطقة تقلّل من شخص المسيح وعمله.
* إن ظهور أول فعل أمر (اسلكوا، آ 6) يعلن بداية ارشاد (وتحريض) يمتدّ حتى 4: 6. يستند هذا الأمر إلى صيغة الحاضر: "كما تقبّلتم المسيح اسلكوا". مع الأداة "إذن" (أون) يعود بنا بولس إلى "متانة إيمان" الكولسيين (آ 5)، وينطلق من هذا الايمان ليقدّم لهم إرشاده. فعبارة "كما تقبّلتم المسيح يسوع الرب" تذكّرهم، في شكل احتفالي، بمن آمنوا به. هم يعرفونه منذ بشّرهم به ابفراس وعلّمهم عن شخصه وعمله (1: 7). وهكذا "تقبّلوا المسيح" الذي به تؤمن الكنيسة، الذي حمل في التاريخ اسم يسوع، والذي رُفع بقيامته إلى كرامة الربّ (أع 2: 36؛ فل 2: 9)، فمارس السلطان على كل خليقة (فل 2: 10). فإن أصاب تعليم الهراطقة أولويّة المسيح الشاملة (1: 15- 20)، يجب على الرسول هنا أن يذكّر إخوته في كولسي بسيادة (هو الرب) يسوع المسيح، ويدعوهم إلى استخراج النتائج من هذا الواقع. وهكذا يلحّ عليهم لكي يعرفوا كمال الخلاص الذي منحوه في المسيح، وذلك حين يعيشون فيه.
* استعمل بولس من أجل ذلك لفظة مصوّرة عزيزة على قلبه: أسلكوا فيه (1: 10؛ رج روم 6: 4؛ غل 5: 16...). ورافقها الضمير مع حرف الجرّ "فيه". هذا يعني أن على الكولسيين أن يظلّوا أمناء في الحالة التي جعلها الله لهم في المسيح، وهي حالة أناس مبرّرين، مقدّسين بعد أن تبنّتهم النعمة (آ 7). صاروا في هذه الحالة بواسطة المعموديّة. وعليهم أن يلبثوا فيها بطاعة الايمان. "تأصّلوا (تجذّروا، صارت جذورهم) وبُنوا فيه بناء". استعمل بولس هنا صورتين مختلفتين. "تأصّلوا" كما تتأصّل (تتجذّر) الشجرة في الأرض التي تغذّيها بواسطة الجذور التي تغرزها فيها. ولكن هذه الصورة تبقى جامدة. لهذا زاد عليها بولس صورة أخرى تشير إلى حركة الحياة في الجماعة. "مبنيّين". مثل بيت يُبنى. يرتفع يومًا بعد يوم.
بعد أن ألحّ بولس بقوّة على الحالة الوضعيّة للحياة المسيحيّة، التي هي "في المسيح"، ها هو يذكّر الكولسيين بالحالة الذاتية التي لا يمكن أن تنفصل عنها: "موطّدين في الايمان". وجب عليه أن يقول هذا لمسيحيين ما زالوا على أمانتهم، لأنه خاف عليهم أن يبتعدوا عن الايمان بسبب تعاليم الهراطقة: لا يستطيعون أن يظلّوا في المسيح، على الأساس الحقيقيّ للحياة المسيحيّة، إلاّ شرط أن يكونوا "موطّدين في الايمان"، في هذا الايمان الذي كان إيمانَهم منذ البداية وقد تكوّن بواسطة التعليم الذي تلقّوه. إن بولس مقتنع كل الاقتناع أن أفضل وسيلة بها يعطيهم المناعة ضدّ شرّ هذه التعاليم، هي أن يشجّعهم على الثبات في الايمان. والعلامة الأكيدة على أنهم موطّدون في الايمان، هي اهتمامهم بأن يؤدّوا الشكر لله. فبقدر ما يعون ما أعطي لهم في المسيح، يعون كل ما أعطي لهم، بقدر ذلك "يفيضون بالشكر".
* وبعد أن حرّضهم بولس على الأمانة للمسيح، الربّ الوحيد، وبعد أن حذّرهم من الضلال، ها هو يندّد أخيرًا بالخطر الذي يهدّد (آ 8) الكنيسة في كولسي. هذا ما استشففناه منذ بداية الرسالة، وها هو قد صار واضحًا الآن، بعد أن نُزع عنه القناع. خاف بولس من أن ينجح "شخص" في اجتذاب الكولسيين الذين يسيرون وراءه ويصبحون فريسة براهينه الكاذبة. فتعليمه يظهر لهم مع كل نفوذ "الفلسفة"، نفوذ حكمة رفيعة تعد بالنور على جميع المسائل الروحيّة تشغل بال البشر، ولاسيّما المسألة التي تشرف على كل المسائل وهي مسألة المصير. لو لم يكن في هذه الفلسفة كلام عن الخلاص وعن الوسائل التي بها ندرك هذا الخلاص، لما كانت دخلت في مزاحمة مع الانجيل، ولما شكّلت تجربة للمؤمنين في كولسي.
وإذ أراد بولس أن لا تعود هذه "الفلسفة" تجربة، بحيث لا يتردّد الكولسيون بينها وبين المسيح، عرّاها من نفوذ اسمها الكاذب، وأراهم إياها على حقيقتها على ضوء الوحي: غرور باطل. "أباتي": الوهم، الغشّ، الخداع. هذه الفلسفة تغرّ، لأنها تجتذب إليها أولئك الذين لا يستطيعون أن يميّزوا الكذب. هو "كاذب، فارغ، باطل". فإن واجهناه مع الحقياتة التي هي في المسيح، تلاشى مضمونه وما ترك شيئًا للذين وضعوا فيه ثقتهم.
هذه الفلسفة هي مخيّبة للآمال. هي حسب "تقليد الناس". حسب "أركان العالم"، لا "حسب المسيح". شدّد بولس على الضعف الجذريّ في تعليم الهراطقة، الذي لا يقدر أن يعطي الحقيقة والحياة اللتين لا تأتيان إلاّ من الله في المسيح. هل تذكّر الرسول تنديد يسوع بتقليد المعلمين فسمّاه "تقليد البشر" (مر 7: 8)؟ هل عاد الهراطقة إلى تقليد قديم في الكنيسة، فحطّ بولس من قدره وأعلنه "حسب تقليد البشر"؟ مهما يكن من أمر، إن بولس يعطي تنديده كلَّ بعده، فيضيف: "حسب أركان العالم. لا حسب المسيح". فما هي "أركان العالم" في نظر الرسول؟ بما أنه يجعلها تقاوم المسيح، فيجب أن تكون قوى شخصيّة وفوق أرضيّة. وإلاّ كيف يقبل الهراطقة في كولسي أن يكون تعليمهم بشريًا فحسب؟ بل كانوا يقدّمونه، بلا شك، كوحي فائق الطبيعة يرتبط بسلطة الله. وحين أعلنه بولس "حسب أركان العالم"، شدّد على طموحاته الدينيّة، وفي الوقت عينه ندّد بموقعه تجاه الوحي المسيحيّ. من المعقول أن يكون بولس رأى في "أركان العالم" القوى الملائكيّة التي ذُكرت في 1: 16- 20، والتي تشرف على العالم والتاريخ، كما تقول التعاليم اليهوديّة. هي تعمل من خلال كل أشكال الحياة التي سبقت المسيحيّة أو خرجت منها، من خلال وصايا وممارسات الشريعة الموسويّة، كما من خلال شعائر العبادة الوثنيّة.
فإن كانت تعاليم الهراطقة "حسب أركان العالم"، فهي ترتبط بالوضع الحاضر للبشريّة الخاطئة. وهي بالتالي لا تستطيع أن تشفي الانسان المشارك فيها، من شقائه. قد عفّاها الزمن مثل كل شيء وضع له المسيح حدًا في هذا العالم (1 كور 2: 6). لا مساومة ممكنة بين هذا التعاليم والايمان بالمسيح الذي تقبّله الكولسيّون (آ 6- 7). من جهة، نجد تعليمًا مطبوعًا بطابع هذا العالم. تعليمًا يشارك في شقاء العالم ولا يستطيع أن يخلّصنا منه. ومن جهة ثانية، المسيح "الذي تُوجد فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة" (آ 3). الذي يُوجد فيه عمل فداء الله الذي "يجدّد كل شيء".
* في آ 9، بدأ بولس يبرّر بشكل إيجابيّ، التنبيه الذي وجّهه إلى كنيسة كولسي، بعد الشكل السلبي الذي قرأناه في آ 8 (احذروا). لهذا استعاد عبارة استعملها في 1: 19 وأوضحها ليدلّ الوثنيين على أنهم يكونون جهلة إن وضعوا في الميزان "فلسفة" الهراطقة من جهة والمسيح من جهة ثانية. قال: "فيه يسكن كل ملء اللاهوت جسديًا". لم يقل "ملء الله"، بل "ملء اللاهوت". فضّل اللفظة المجرّدة وغير المحدّدة كما هي الأولى، ليعبّر بقوّة عن الطابع المطلق للوحي في المسيح. أما مرمى كلام الرسول فنجده في الظرف: "جسديًا".
ولكن ألم يقل بولس كلّ شيء حين أكّد أن كل ملء اللاهوت يسكن فيه، في المسيح الذي هو موضوع إيمان الكنيسة، المسيح الذي صُلب وقام، الرب؟ إذن، على ما يبدو، لم يعد الموضوع سوى "جسد" القائم من الموت (فل 3: 21)، الجسد الذي ليس على مستوى هذا العالم، دون أن يكون واقعيًا مع ذلك. لقد أراد الرسول بلفظة "جسديًا" أن يشدّد بأكثر ما لديه من القوّة، على حضور ملء اللاهوت في المسيح. هو في شخصه، ويقدَّم في شخصه وفي شخصه وحده. ولكن حين تفسَّر اللفظة بهذ الشكل، هل تزيد شيئًا على تأكيد حضور ملء اللاهوت في المسيح؟ كلا، على ما يبدو. لهذا يجب أن نبحث عن تفسير آخر. ففي رسالة يكون جسدُ المسيح الكنيسة (1: 18، 24؛ 2: 19)، نستطيع أن نفسّر "جسديًا" بلفظة "جسد". وهكذا يدلّ على وضع حضور ملء اللاهوت في المسيح. أجل، يقيم "فيه" مع جسده الذي لا ينفصل عنه، فيه وفي الكنيسة، الواقع الوحيد الذي هو من التشعّب والغنى بحيث يكون مسكن ملء اللاهوت.
* ولا يتوقّف الرسول عند هذا القول الكرستولوجيّ ذي البعد الواسع. بل هو أطلقه ليؤسّس تأسيسًا متينًا أقوالاً سوتيريولوجيّة أوجزها في هذا الاعلان الأول: "وفيه أنتم تمتلئون" (آ 10). فكرة الرسول (الملء، امتلأ) تقف على المستوى السوتيريولوجي، لا الخلقيّ، ولا تفسَّر في معنى الكمال. وهي لا ترتبط أيضًا بنظريات الهراطقة المزعومة حول وسائل المشاركة في ملء اللاهوت. ما يريد بولس أن يقوله هو أن حضور ملء اللاهوت في المسيح وفي الكنيسة، يكفل للمؤمنين فداء تامًا وكاملاً. فهم في المسيح قد "امتلأوا". لا شيء ينقص لخلاصهم. وليس من ضلال أسوأ من البحث عن شيء آخر في خطى الهراطقة في كولسي.
ماذا نستطيع أن ننتظر من الملائكة والرئاسات والسلاطين الذين نالوا في المسيح رئيسًا انتزع منهم كل سلطان وأخضعهم لإرادته؟ غير أن بولس لا يتوقّف عند قول عام حول ملء الخلاص الكافي في المسيح. بل هو يتوسع فيه في آ 11- 15 بحيث تظهر كل وجهات هذا الخلاص.
* قال الرسول: "فيه خُتنتم ختانة" (آ 11). إن طريقة التحدّث مع المسيحيين هكذا عن خلاصهم هي غريبة، لاسيّما أنها استلهمت الختان الذي يمارسه الهراطقة في كولسي. نحن لا نعرف معنى هذه الممارسة بالنسبة إليهم. هل كانت بداية مجهود متواصل من إماتة الجسد ومن تطهير اعتُبر ضروريًا للخلاص؟ مهما يكن من أمر، فالختان الذي يعرفه المؤمنون لا يقابَل بهذا الطقس البشريّ الحقير. إنه عمل الله. وهو يُتمّ مرّة واحدة ما لا يستطيع ختان البشر إلاّ أن يصوّره، لأنه لا يستطيع أن يفعل سوى أن "يعرّي" المؤمن "من جسد بشريّته ". وبما أن البشريّة (أي اللحم والدم) هي في نظر بولس مركز الخطيئة، وبما أنها تغذّي الإرادة في ثورتها على الله، فتعرية الانسان من "جسد بشريّته" تعني تخليصه من الخطيئة التي تجتذب إليها اللعنة والموت، وتمكِّنه من الطاعة التي تقود إلى الحياة في اتحاد مع الله.
هذا الختان الالهي يقتلع جذور الخطيئة، ويحقّق ما رمز إليه الختان الطقسي. إنه "ختان المسيح" كما يقول الرسول، لأن الله أتّمه في موت المسح وجميع الذين اتّحدوا به. ولكن كيف يعيد بولس الكولسيين إلى هذا الختان السريّ كتاريخ حاسم في حياتهم؟ متى عرفوا هذا الموت الذي هو "خلع الجسد البشريّ"؟
* يجيب الرسول في آ 12: "حين دُفنتم مع المسيح بالمعموديّة". حين غاب الكولسيون في ماء العماد، دُفنوا مع المسيح. موته صار موتهم. ولكنَّ "خلعَ الجسد البشري" الذي تمّ في المعموديّة وموت الانسان العتيق (روم 6: 6)، ليسا إلاّ الوجهة السلبية للخلاص. وحالاً يذكّر بالوجهة الايجابية: "فيه شاركتم في قيامته بالايمان بعمل الله القدير الذي أقامه من بين الأموات". فالمسيح لم يُصلب فقط ويُدفن، بل قام (1 كور 15: 3- 4). والمؤمنون الذين ماتوا معه، قد أقيموا أيضًا معه. فإن ظلّ "جسد البشريّة"، في القبر مع شهواته ورغباته (غل 5: 24)، فهم يحيون الآن حياة لا يمكن ان تكون إلاّ حياة الروح، حياة تختلف كل الاختلاف عن حياتهم السابقة، حياة أعطيت لهم في قيامة حقيقيّة. حين ردّ الله الحياة إلى ابنه، ردّها لهم أيضًا بذات القدرة السامية. وكما يؤمنون بعمل الله الذي أقام يسوع من بين الأموات، كذلك يؤمنون برحمته القديرة التي وهبتهم فيه حياة جديدة، وهبتهم أن يعيشوا به وله (2 كور 5: 15).
* ولما وصل بولس إلى هذه النقطة (آ 13) أعلن للكولسيين في معنى آخر أيضًا أنهم نُقلوا من الموت إلى الحياة. قبل ارتدادهم كانوا "أمواتًا في زلاّتهم وعدم ختان بدنهم" كانوا، شأنهم شأن جميع الوثنين، يستحقّون بذنوبهم الحكم الذي يستبعدهم من الحياة. أمّا "لاختانة" (قلف) بدنهم" فجعلت منهم غرباء عن شعب الله، عن مواعيده، عن وسائل النعمة التي نظّمها العهد القديم. أمام الله الذي لم يكونوا يعرفونه والذي كانوا يتجاوزون إرادته، كانوا "أمواتًا". ولكانوا ظلوا أمواتًا لو لم يكن الله برحمته قد "أحياهم مع المسيح غافرًا لهم جميع ذنوبهم".
كانوا يشبهون الموتى لأنهم كانوا مذنبين أمام الله، فأعيدوا إلى الحياة بالغفران: الذي مُنح لهم في المسيح. هذا الغفران قد بدّل وضعهم تبديلاً تامًا. لهذا يشدّد بولس على هذه النقطة: غفران الله ليس كلمة فحسب. إنه واقع يتسجّل في واقع التاريخ. واقع وضعَ حدًا للعالم الحاضر. واقع لا يستطيع شيء أن يجعله موضوع تساؤل.
* أجل إن الله غفر لنا فألغى الصك (الدين) الذي كان ضدّنا. وهكذا شهد الله بعمل قام به، على واقع الغفران الذي يمنحنا. كان يمتلك ضدنا "وثيقة" (صكًا) تذكر خطايانا تجاهه، تذكر كل ديننا له وهو دين لم نردّه له. كان باستطاعة الله دومًا أن يضعه أمامنا كحاجز بينه وبيننا. ما كان بوسعنا أن ننكره لأنه كُتب بخطايانا. ولا أن نزيله لأنه لم يعد في يدنا. ولكن الله ألغى الصك الذي يجعلنا أمامه مديونين لا نستطيع أن ندفع، وذلك بنعمة مجانيّة.
كيف ذلك؟ "ألغاه مسمّرًا إياه على الصليب". إن الله أزال "الصك" الذي كان ثقيلاً علينا. سمّره على الصليب. وهكذا عبّر بولس عن يقينه بأننا أعفينا من ديننا. لم نعد مديونين، لأن الله تخلّى عن الوثيقة التي كانت في يده ضدّنا وأزالها بشكل علنيّ. وهكذا لا نستطيع أن ننكر حقيقة دَيننا، ولا الاعفاء الكامل الذي حصل لنا. إن "الصك" الذي سمِّر على الصليب يذكّرنا بما كنا عليه، وبما صرنا إليه بنعمة الله وحدها.
* إذن، حوّل الله تحويلاً جذريًا علاقاتنا معه (آ 5): لم تعد ترتبط بالشريعة، بل بالنعمة. وهذا التحوّل الذي حرّرنا فأتاح لنا أن نتقرب إلى الله بدالة كبيرة، تضمّن انزال القوات الملائكيّة والسلاطين والرئاسات عن عروشها. كانت تشرف على تدبير ديني، ولكن هذا التدبير قد زال اليوم.
ففي اليوم الذي فيه أحلّ الله النعمة محلّ الشريعة، بدم المسيخ، وضع حدًا للدور الذي لعبته القوى الملائكيّة. عرّاها من سلطتها. وأدخلها في الصفّ "مثل سائر الجنود"، في ركاب قائدهم. عرّفها بقدرته السامية التي حاولت أن تنساها ممارسة ببعض الاستقلاليّة سلطانًا نالته منه. ولما عرّاها الله من كرامتها ونفوذها في عالم البدن والخطيئة، جعنها مشهدًا علنيًا، واقتادها في ظفره بالصليب.
لا ننسى أننا أمام صورة. وهي تعبّر بقوّة عن فكرة تقول إن الله قد أنزل الموّات الملائكيّة عن عروشها بموت المسيح، فأجبرها أن تسير وراء مركبة انتصاره في مجموعة الأسرى الضعفاء. إذن، ما عادت تمثّل شيئًا بالنسبة إلى البشر الذين يطلبون الخلاص.
خاتمة
مع هذه الآيات، لم نعد أمام مقطع نثري نقرأه في أف 2: 1، بل أمام أسلوب شعري تعرفه الليتورجيا. أسلوب جميل بصوره الجريئة وألفاظه المختارة والنادرة. أصالة في المبنى وأصالة في المعنى. فالتأكيد على غفران الخطايا يتأسّس على إلغاء الصكّ الذي سمِّر على الصليب. على حطّ القوّات عن عروشهم بالصليب. هذه الأفكار لا نجدها في الرسائل البولسيّة عامة ولا في أف خاصة. هي صلاة الكنيسة في كولسي ردّدها بولس واستفادت منها الرسالة إلى أفسس.