لفصل الحادي والثلاثون
حكمة الله وبره في رسائل القديس بولس
1- حكمة الله
أ- مفهوم الحكمة
نقرأ في روم 11: 33: "ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أصعب ادراك أحكامه وفهم طرقه"! هنا نعود إلى مز 139 حيث نقرأ: "أنت تراقب سفري وأقامتي وتعرف جميع طرقي. قبل أن ينطق لساني بكلمة، أنت تعلم بها يا رب... معرفتك هذه ما أعجبها. هي أسمى من إدراكي" (آ 3- 6). ما قاله بولس هنا يتبع بصورة مباشرة آ 32 التي تقول: "جعل الله البشر كلهم سجناء العصيان حتى يرحمهم جميعًا". ونقرأ أيضًا المجدلة الاخيرة (روم 16: 27): "المجد لله الحكيم وحده". تستعيد هذه العبارة الموضوع عينه، فترتبط بمدلول سر الله حول خلاص الجنس البشري.
ونجد الرباط عينه بين حكمة الله وسره في أف 3: 9 حيث نقرأ: "لأبيّن (أنا بولس) لجميع الناس تدبير ذلك السر الذي بقي مكتومًا طوال العصور في الله خالق كل شيء بيسوع المسيح". وبكلمة أخرى: لأبيّن للناس كيف تحقّق هذا السر، كيف تمّ الكشف عن غنى المسيح الذي لا حدّ له (آ 8). وبعد هذا، ستفهم السلطات والرئاسات "حكمة الله في جميع وجوهها" (آ 10). فالقوات المسؤولة عن الشريعة اليهودية (الملائكة هم الذين قدّموا الشريعة لموسى) وعن العالم الديني السابق للمسيح (كو 1: 16: ظن الناس أن هذه القوات شاركت في تدبير الكون قبل المسيح واعتبرت المحامية عن الشريعة الموسوية ونظامها. رج غل 3: 19؛ كو 2: 15) جهلت مسيرة مخطّط الله (1 كور 2: 8). أما الكنيسة فجمعت اليهود والوثنيين وشكّلت الظهور الاخير لمخطّط الله، كما أبرزت الحكمة وكأنها شخص حي.
نظرت هذه القوات إلى الكنيسة، ففهمت أن البشرية الجديدة اتصلت مباشرة بالله في المسيح (أف 3: 10- 11). لقد زال دور هذه القوات بما فيه من وجه ملتبس وعابر. وهكذا نقلنا الله بحكمته من التدبير القديم، وحقّق فينا فداءه.
وإليك المقطع الاخير الذي نجد فيه عبارة "حكمة الله" لدى القديس بولس. "فالعالم بحكمته عجز عن معرفة الله في حكمة الله" (1 كور 1: 21). لقد تجلّت حكمة الله هذه في الخلق (رج روم 1: 19- 20: "ما يقدر البشر أن يعرفوه عن الله قد جعله الله واضحًا"). ولكن هناك اختلافة في النص. ولهذا نستطيع أن نقرأ: "بتدبير حكمة الله". أو: "في زمن حكمة الله" (بدل "في حكمة الله").
إذن، لا يفكّر بولس في هذا المقطع بشكل خاص في حكمة مخطّط الله الخلاصي (كما في روم 11: 33 وأف 3: 10)، بل في حكمة الله التي تنعكس في نظام الكون والتي وجب على الناس أن يكتشفوها: يستعملون حكمتهم وفهمهم لكي يصلوا إلى الخالق. غير أن بولس يعلن أن البشر عرفوا حقًا الله، وهذا ما يجعلهم غير معذورين لأنهم لم يمجّدوه ولم يشكروه ولم يعترفوا به على أنه الله (روم 1: 21). لذلك نستطيع التكلّم عن حكمة الله التي تظهر في مخطّطه الخلاصي بشكل يحيّر الافكار، يحيّر العقل البشري.
ب- خطيئة العالم
ويتابع النص البولسي: عجز العالم عن معرفة الله "فشاء الله أن يخلّص المؤمنين بحماقة (عكس الحكمة) البشرى" (1 كور 1: 21). ولكن إن قرأنا النصّ بهذا الشكل، نسبنا إلى الله وإلى حكمته خطيئة العالم ورفضه بأن يتعرّف إلى الله. ولكن بولس لا يجعل الله في الواقع مسؤولاً عن هذه الخطيئة. غير أنه يعيّن لخطيئة العالم موضعًا في مخطّط حكمة الله. إنه يقول لنا ما سيقوله بعبارات جريئة في غل 3: 22: "ولكن الكتاب حبس كل شيء تحت سلطان الخطيئة، حتى ينال المؤمنون الوعد لإيمانهم بيسوع المسيح". ويقوله أيضًا في روم 11: 32: "جعل البشر سجناء حتى يرحمهم".
وسيقول اللاهوت اللاحق: الله لا يريد الخطيئة، ولكنه يسمح بها. وسيعود بولس إلى عبارة مأخوذة من العهد القديم ليؤكّد هذه الحقيقة. ويتميّز في هذا "السماح" تعبيرًا عن حكمة الله الذي يدلّ هنا أيضًا على "مبادرته".
إن التعليم البولسي عن الخطيئة ينتمي إلى مجموعة يجب أن لا نفصله عنها. ليس من كاتب في العهد الجديد أعطى مكانًا للخطيئة مثل بولس، أو شدّد على شمولية الخطيئة. لكن، إن تفرّد بولس في التذكير بتضامن البشريّة كلها مع آدم، فقد توخّى من تشديده الكشف عن تضامن آخر، هو تضامن البشرية كلها مع يسوع المسيح (روم 5: 12- 21). ففي فكر الله، يسوع المسيح هو النموذج المعاكسة لآدم، هو الأول: هذا يعني أن خطيئة آدم لم تصبح ممكنة (لم يسمح بها) إلاّ لأن المسيح سيتغلّب عليها. فقبل أن يعرض بولس المشابهات بين دور آدم الأول ودور آدم الثاني (آ 17- 19، 21) شدّد بصورة واضحة على الاختلافات (آ 15- 16). إذا كان قد كرّس فيما سبق ثلاثة فصول ليصوّر "وحي غضب الله" (1: 18- 3: 20)، فقد فعل ليهيِّئ الانسان لتقبّل التبرير في يسوع المسيح كعطيّة مجانية محضة.
ويفسّر الرسول موقفه بألفاظ صريحة في الآيات التي تختتم هذا التوسيع: سمح الله أن تجتاح الخطيئة البشر كلهم، دون تمييز بين يهود ووثنيين، ليغلق كل فم (أي: ليسكت كل انسان). فعليه أن يتخلّى عن اعتبار نفسه بارًا. عليه أن يضع يده على فمه ويسكت (أي: 40: 4). عليه أن يتراجع عن كلامه ويتوب في التراب والرماد (أي 42: 6). حينئذ يستطيع أن ينال التبرير من الله مثل العشّار في المثل الانجيلي (لو 18: 9- 14). أو مثل المرتّل الذي يشير بولس إلى موقفه في روم 3: 20: "فالعمل بأحكام الشريعة لا يبرّر أحدًا عند الله" (مز 413: 2: لا تحاكمني أنا عبدك، فما من أحد يتبرّر أمامك"). إن المرتّل مقتنع بما يقول: فإن أراد الله أن يدينه، لم يعد له أي حظّ بالتبرير.
2- برُّ الله
أقرّ المرتّل بتواضع أنه خاطئ أمام الله، فتخلّى عن موقف أيوب الذي قال: "ليزنّي الله في ميزان العدل فيعرف سبحانه نزاهتي" (أي 31: 6). تخلّى عن طلب دينونة الله، فالتجأ إلى رحمة الله وأمانته، لجأ إلى برّ الله. فقاد: "يا رب إسمع صلاتي، أنصت إلى تضرّعي وأعنّي بأمانتك وبرّك. لا تحاكمني أنا عبدك، فما من حي يتبرّر أمامك".
نقرأ هذا الايراد في الرسالة إلى رومة، وهو يختتم التوسّع حول وحي غضب الله، ويدخلنا في إعلان وحي برّ الله. فهذا البرّ تجلّى في المسيح (بمعزل عن الشريعة)، فحقّق بالمسيح ما لم تحقّقه الشريعة، حقّق تبرير الانسان. وهكذا نفهم أن البر يُبرز أكثر من حكمة الله وغضبه، مبادرةَ الله في عمل الخلاص.
أ- معنى العبارة
نجد هذه العبارة في روم 1: 17 (أعلن الله كيف يبرّر الانسان: بالايمان وللايمان، كما جاء في الآية: "البار بالايمان يحيا")؛ 3: 5 (إذا كان لابرّنا يُبرز برّ الله، فماذا نقول؟)؛ 3: 21- 26 (ترد كلمة برّر أربع مرات: برّر بالايمان، برّر مجانًا)؛ 10: 3 (جهلوا البر الذي يأتي من الله، وسعوا إلى البرّ على طريقتهم)؛ 2 كور 5: 21 (لنصبح برّ الله). وبحث الشرّاح عن معنى الكلمة.
هل أراد بولس أن يشير إلى صفة من صفات الله (البرّ الذي به يكون الانسان بارًا)، أو إلى عطيّة يمنحها الله للانسان (البرّ الذي به يبرّرنا الله، يجعلنا أبرارًا)؟ هل فكّر بولس ببرّ به يعاقب الله الخطأة (يحكم على الهالكين) أو ببرّ يخلّص به شعبه؟
إن الجواب على هذه الاسئلة يفرض نفسه إذا جعلنا العبارة في سياقها البيبلي، وهذا ما يدعونا إليه القديس بولس: نحن أمام البرّ الذي أشار إليه المرتّل (مز 143) كما ورد في روم 3: 20. عن هذا البار يقول بولس: "تشهد له الشريعة والانبياء" (روم 3: 21).
المعنى واضح في مز 143: 1: يتعارض البر المطلوب مع الحكم بالدينونة (آ 2)، فلا يختلط بما يسمّى في مكان آخر "غضب الله"، أو بالبر الذي به يجازي الله أو يعاقب الانسان على أعماله. هذا البر هو الذي لجأ إليه يعقوب أو اليهود الذين عاصروا بولس. بل يتحدّث المزمور عن البر الخلاصي الذي به يبرّر الله البشر بالنظر إلى مواعيده (في آ 11 يقول المرتّل: "تحييني بحسب برّك". أو "اكرامًا لاسمك").
من هنا كانت الموازاة المتواترة في العهد القديم بين برّ الله وأمانته. الله بار لأنه يتصرّف حسب الالتزام الذي اتخذه بحرية بأن يمنح شعبه ميراث ابراهيم. هذا هو المدلول الذي يستعمله القديس بولس ليحدّثنا عن برّ الله.
ب- برُّ الله في التقليد البيبلي
يذكر العهد القديم مرارًا "برّ الله" ولاسيّما في سفر المزامير وفي أشعيا الثاني. وهو يربطه بالخلاص والنجاة والرحمة والأمانة. الأمثلة عديدة ونحن نختار بعضها.
"لا إله آخر سواي، إله بار ومخلّص، لا إله غيري" (أش 45: 21). "برّي قريب وخلاصي آت" (أو حسب السبعينية: "لا أؤخِّر خلاصي") (أش 51: 5). "خلاصي اقترب أن يجيء وبرّي (في السبعينية: "رحمتي") أن يظهر" (أش 56: 1). "الرب أعلن خلاصه، ولعيون الأمم (الوثنية) تجلّى برّه. تذكّر رحمته وأمانته لبيت اسرائيل" (مز 98: 2- 3)". يا رب إلى السماوات رحمتك (أو: محبتك)، وإلى الغيوم أمانتك، برّك مثل الجبال الشامخة، وأحكامك يا رب غمر عظيم (رج روم 11: 33). أنت تخلّص البشر والبهائم يا رب. ما أكرم رحمتك يا الله (مز 36: 6- 8)!
هذا هو البرّ الذي يعلنه المرتّل في الجماعة الليتورجية: "بشّرت ببرّ الله في الجماعة الكبيرة، وما أطبقت شفتيّ، وأنت يا رب تعرف. ولا كتمت برّك في قلبي، بل بأمانتك وخلاصك تحدّثت. وما أخفيت رحمتك وأمانتك (أو: حقّك) في الجماعة الكبيرة.... فرحمتك وأمانتك دومًا ينصرانني" (مز 40: 10- 12). "أحمد الرب بكل قلبي في مجلس المستقيمين وفي الجماعة. أعمال الرب عظيمة... وبرّه دائم إلى الأبد. لعجائبه ذكر على الدوام... أظهر لشعبه قوَّته فأعطاهم ميراث الأمم. أعمال يديه برّ وحق، وأوامره كلها أمينة" (مز 111: 1- 7). والمزمور 22 الذي تلاه يسوع على صليبه يتحدّث عن هذا البرّ نفسه: "سأخبر باسمك اخوتي وفي الجماعة أهلّل لك... الاجيال الآتية تخبر عن الرب وبرّه لشعب سيولد. هذا ما تمّ على يده" (آ 23، 31- 32).
وماذا نقرأ في اعتراف داود (مز 51: 14- 16): "ردّ لي سرور خلاصك... سأعلّم الخطأة طرقك... نجني من الدماء أيها الاله مخلّصي فيرنّم لساني ببرّك. إفتح شفتيَّ أيُّها رَبّ الرب فيجود فمي بالتهليل لك". وقد عاد بولس في روم 3: 4 إلى آ 6 من هذا المزمور (حسب الترجمة السبعينية)، فتحدِّث عن البر الخلاصي (لا الذي به يجازي أو يعاقب). يظن البعض أن داود اعتبر أنه استحق العقاب الذي حلّ به. بل هو رأى أنه، رغم تقلّب الانسان، يبقى الله أمينًا لنفسه محافظًا على مواعيده. لسنا فقط أمام فعل متواضع (مثل اللص في لو 23: 39- 43)، بل أمام فعل إيمان حقيقيّ بأمانة إله العهد التي لا تتزعزع.
مثل هذا البرّ ليس جزءًا لا يتجزأ من "الاعترافات" التي تقدّم لنا التوراة عنها نماذج عديدة (عز 9: 15؛ نح 9: 33؛ دا 9: 14) والتي نجدها اليوم أيضًا في ليتورجية يوم التكفير العظيم (يوم كيبور). كل هذه الاعترافات قد بُنيت على موضوعين اثنين: خيانات اسرائيل (يعدّدها الكاتب) وأمانة الله الثابتة (عز 9: 6- 15؛ نح 9: 5- 37؛ دا 9: 4- 19).
قد يكون المجمع (أي: العالم اليهودي) جهل مثل هذا البرّ أو لم يجهله. إلاّ أننا نجده في وثائق قمران. فوثيقة دمشق (20: 20) مثلاً تقرّب بين البرّ والخلاص، على مثال أشعيا والمزامير. واعلان الله البار في اعتراف كتاب التأديب (1: 26) يستلهم اعترافات عزرا ونحميا ويعطي المدلول عينه لكلمة برّ. والنشيد الختامي في هذا الكتاب يقابل بين الرحمة والامانة ويربط بهما تبريرَ الانسان وغفران خطاياه كما في روم 3: 21 ي.
إذن، نحن أمام مدلول لبرّ الله حيّ في زمن بولس الرسول. وبدل أن نتكلّم عن صفة من صفات الله، يجدر بنا أن نتحدّث عن نشاط إلهي من أجل شعبه بفضل أمانة الله. إذن، نحن أمام مضمون إيجابيّ يتضمّن تبدّلاً في وضع شعب اسرائيل، كما يؤكّد في الوقت عينه على مجانيّة عطيّة الله.
ج- برّ الله وغضبه
حين يعمل البر (في المعنى البيبلي) عمل الخلاص، فهو يتعارض بالضرورة مع الغضب الذي يعمل عمل الهلاك. فالخلاص يفترض زوال الغضب. وهذا ما يطلبه دانيال باسم برّ الله نفسه: "عُد عن شدّة غضبك على مدينتك أورشليم، على جبلك المقدس" (دا 9: 16). لهذا، تعلن التوراة أن زمن الغضب (وهو حقبة شقاء وعار للشعب) تليه حقبةٌ يهتم فيها الله بشعبه. هذه الحقبة هي زمن خلاص يكون فيها شعب الله موضوع "برّ الله"
وإذ يُعلن غضب الله في خطيئة الانسان وفي كل نتائجها، يُعلن أيضًا برّ الله في المسيح الذي يعمل عمل تبريرنا بموته وقيامته (روم 3: 21 ي؛ 4: 25).
هذا لا يعني أن برّ الله يُزيل عمليًا غضبَ الله. فقد جعل بولس أمامه هذه المسألة، لاسيّما وأن اليهود ظنّوا أنهم بمأمن من دينونة الله (روم 3: 2) وغضبه (روم 3: 5- 6)، لأنهم موضوع برّ الله الخلاصي وذلك بفضل الاختيار الذي نالوه والمواعيد التي حصلوا عليها. ظنّوا أن غضب الله محفوظ للوثنيين.
ولكن بولس يحافظ على التأكيدين اللذين تعلّمهما من العهد القديم، وهما برّ الله الخلاصيّ وغضبه. ولقد كشف وأوضح ما لمّح إليه العهد القديم. أي: إن البر يمتدّ إلى البشرية كلها دون تمييز بين اليهود واليونانيين. غير أنه يعلن بقوّة أيضًا أن غضب الله يصيب كل الخطأة المعاندين سواء كانوا يهودًا أم وثنيين. هنا نقرأ روم 2: 9: "الويل والعذاب لكل إنسان يعمل الشر من اليهود أولاً ثم اليونانيين". و3: 9: "هل نحن اليهود أفضل عند الله من اليونانيين؟ كلا، لأن اليهود واليونانيين خاضعون جميعًا لسلطان الخطيئة" (رج روم 3: 19؛ غل 5: 21؛ 1 كور 6: 9- 10).
نحن هنا أمام سر عميق، والنداء إلى حكمة الله لا يلغيه. إنه سرّ حرية جعلها الله قديرة بأن تعانده وترفض نداءه.
د- بر الله وارتداد الانسان
إن برّ الله لا يقودنا إلى نظرة تجعلنا نحسب غفران الخطايا وكأنه لا يُنتج أيّ تبدّل في الانسان. فهذا البر بما فيه من دينامية وإيجابية يعيد خلق الانسان، وهو يعني بالتالي تبدّل الانسان: مال عن الله بخطيئته وتوجّه ضد الله، فأحدث برّ الله فيه انقلابًا، بل إن الله الذي يعامل الانسان ككائن حرّ، يجعله يتحوّل بفعل حرّ باتجاه خالقه. لهذا نستطيع أن نتكلّم عن متطلّبات برّ الله. ولكن هذه المتطلّبات لا تعارض الرحمة، بل هي متطلّبات حبّ الله لنا.
هنا يتميّز الاسلوب البيبلي والبولسي عمّا اعتدنا أن نسمع في حياتنا اليومية. فاللغة اليومية تميّز عادة بين رحمة بها يعفو الله عن الخطأة، وعدالة (أو برّ) (يسميها بولس) يعاقبهم بموجبها. ولكن لا نجد تساويًا بين العدالة (أو: البر) والغضب إلاّ حين نتحدّث عن عدالة الله تجاه الهالكين. فالقديس بولس لا يربط بالغضب عقوبات علاجيّة. في هذه العقوبات يتحاشى الانسان الاكثار من الخطايا، أو التشبّت بهذا الابتعاد عن الله بصورة نهائيّة. بل هو يتطّهر من خطيئته ويدشّن أو ينهي عودته إلى الله.
وبمختصر الكلام، يميّز بولس بين الغضب الذي لا يحمل علاجًا ولا شفاء، وبين صفات إلهية أخرى مثل الرأفة والرحمة والامانة والبر، وكلُّها وجهات من حب الله الفاعل من أجل الانسان. هو لا يتطلّع إلى إعادة بناء النظام، ولا يسمِّي باسم واحد البرّ الذي "ينقّي" والبر الذي "يشجب". بل يتطلّع إلى إعادة بناء الانسان فيميّز بأكثر ما يمكن من الوضوح ما به يُعاد بناء الانسان (= البرّ) وما به يتشبّث في خطاياه (= الغضب). ولهذا فبرّ الله يتعارض والغضب تعارضًا تامًا، ويتناسق تناسقًا كاملاً مع الرحمة والعطف والمحبّة.
هـ- برّ الله وتبرير الانسان
وحين يرتبط تبرير الانسان ببرّ الله، يظهر على أنه بالضرورة عمل الله أولاً. هذه ما يؤكِّده بولس فيقول: كما أن الله يدعو وحده إلى النعمة والمجد، فهو وحده الذي يبرّر. هذا ما نقرأ في غل 3: 8: "رأى الكتاب بسابق علمه أن الله يبرّر الوثنيين بالايمان". وفي روم 3: 26: "فهو في الزمن الحاضر يُظهر برّه ليكون بارًا ويبرّر من يؤمن بيسوع"
يدلّ صليب المسيح على ما كان عليه برّ الله في الماضي. إنه البرّ الخلاصي الذي يُتم المواعيد بنعمة الله (روم 1: 17: "أعلن الله كيف يبرّر الانسان"). شدّد بولس على أحد مواضيع العهد القديم، فأكّد على أن الله حبس في الماضي غضبه رحمةً منه، وترك الخطايا من دون عقاب. ولكن لا معنى لصبر الله هذا إلاّ بالنظر إلى الغفران النهائي في المسيح. والآن، قد تجلّى هذا البرّ تجليًا تامًا في صليب المسيح الذي به يبرّر الله بنعمته الانسانَ الخاطئ.
ويقول بولس الرسول: "الله واحد. وهو يبرّر المختونين (أي: اليهود) بالايمان، وغير المختونين (أي: الوثنيّين) بالايمان" (روم 3: 30). وفي روم 4: 5: "من يؤمن بالله الذي يبرّر الخاطئ، فالله يبرّره لإيمانه". وفي روم 8: 29: "هؤلاء الذين سبق وعيَّنهم، دعاهم أيضًا. والذين دعاهم برّرهم أيضًا. والذين برّرهم مجدّهم أيضًا".
يلعب المسيح في عمل التبرير هذا دورًا جوهريًا، هو الدور الذي لعبه في الدعوة إلى النعمة أو المجد، هو دور "الوسيط". "فالله يبرّر من ينتسب إلى المسيح بالايمان" (روم 3: 26). وقد "تبرّرنا مجانًا بنعمته بالفداء الذي تمّ في المسيح يسوع" (روم 3: 24). وتتحدّث غل 2: 16 عن "الايمان بيسوع المسيح" و2: 17 عن "التبرّر في المسيح" وروم 5: 9 عن "تبررنا بدم المسيح"، و1 كور 6: 11 عن الذين تبرّروا "باسم الرب يسوع المسيح وروح الهنا"
هذا هو دور الوسيط الذي يلعبه يسوع المسيح في حياة الكنيسة والعالم.