الفصل الرابع والعشرون
إله يسوع المسيح إله يهتم بالبشر
إن الاله الذي يتحدّث عنه يسوع هو ذاك الذي يعرفه سامعوه: إله ابراهيم واسحاق ويعقوب. إله موسى والانبياء والحكماء. الاله الذي ظهر فيما مضى في تاريخ شعبه، والذي انتظر منه المؤمنون تدخّلاً جديدًا وساطعًا. الاله الذي تحدّثت عنه كرازة يسوع في معرض الحديث عن ملكوت الله.
إذا عدنا إلى الأناجيل الازائية (متى، مرقس، لوقا) نرى أن يوحنا المعمدان ويسوع يتطلّعان إلى تدخّل الله بصورة مختلفة؟ وهذا ما يؤثّر في حديثهما عن الله. ويورد التقليد الازائي جدالاً بين يسوع والصادوقيين حول الاعتقاد بقيامة الموتى، فيتحدّث يسوع عن إله يجهل الصادوقيون قدرته: "ما هو إله أموات، بل إله أحياء" (مر 12: 27).
والتقى يسوع بالفريسيين والكتبة العارفين بالشريعة والمحاولين المحافظة عليها في دقائقها. فالطريقة التي بها تصوّرت التقوى الفريسية ممارسة الديانة، تقابل صورة الله في قلوبهم. هنا نجد ردّة الفعل لدى يسوع. فصورة الله التي تخيّلها أهل الورع في عصره لا تبدو صحيحة في نظره. لهذا قدّم صورة أخرى سيكون لها تأثير في الديانة الجديدة.
هناك خطان يلفتان انتباهنا. الاول: الطريقة التي بها يتكلّم يسوع عن الله: إنه لا يهتمّ أولاً بالأبرار، بل بالخطأة وبالعائشين على هامش المجتمع الديني. هذا الاله لا يسمح أن يستأثر به مجموعة "الاتقياء". إنه حرّ في أن يرسل نعمته على جميع البشر. هذا ما نكتشفه في مرحلة أولى: إله يسوع هو إله يهتمّ بالبشر. يهتمّ بالخطأة. يهتمّ بصغار القوم. يهتمّ بأولئك الذين يرذلهم المجتمع.
1- إله يهتمّ بالخطأة
يقدّم لنا مثلُ الخروف الضائع (مت 18: 12- 14؛ لو 15: 4- 7) نقطة ننطلق منها لنكتشف هذه الحقيقة. لقد أورد يسوع هذا المثل من أجل سامعين يعتبرون أن خروفًا واحدًا ضائعًا لا أهميّة له تجاه تسعة وتسعين بعيدين عن كل خطر.
غير أن سلوك الراعي الذي يهبّ ليبحث عن خروفه هو بعيد كل البعد عن لغة الأرقام. هنا يفترق لوقا عن متى. فلوقا يفكّر بأولئك الذين ضاعوا فذهب يسوع يبحث عنهم ويخلّصهم. أما متى فيرى في هؤلاء "الصغار" أعضاء من الجماعة قسى عليهم المسؤولون أو احتقروهم فضلّوا.
وهكذا نحدّد موقع هذا المثل في حياة يسوع الرسولية: إنتقده سامعوه بسبب موقفه تجاه أناس وجب عليه أن يبتعد عنهم إذا أراد أن يكون من "أهل الورع". دنا العشارون والخاطئون من يسوع ليسمعوه. فتذمّر الفريسيون وقالوا: "هذا الرجل يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم" (لو 15: 1- 2). فقدّم يسوع مثَله جوابًا على مثل هذا الانتقاد. وفي الوقت عينه قدّم لنا صورة عن الله.
فسلوك الراعي يدلّ على استعدادات الله نفسه: ترك التسعة والتسعين في الجبل، وذهب يبحث عن الذي ضاع. وحين يجده يشعر بفرح يتفوّق على فرحه "بتسعة وتسعين من الابرار لا يحتاجون إلى التوبة" (لو 15: 7). وجهُ الله في هذا المثل يختلف عما تصوّره السامعون: فهذا الاله يهمّه خاطئ واحد أكثر من تسعة وتسعين بارًا.
ويعكس مثل الابن الضال (الابن الشاطر) (15: 11- 32) الوضع عينه في أسلوب أخّاذ. ما هو الحلّ بعد أن ترك الابن الاصغر البيت وبدّد مال أبيه مع البغايا؟ قد يجيب سامعو يسوع: هذا الابن لا يستحق شيئًا، إلاّ أن يكون أجيرًا في بيت والده. ولكن موقف الآب تعدّى كل الحدود حين استقبل الابن "الخائن"، ذاك الابن الذي نسي الوفاء وذهب إلى البعيد.
دلّ الأب على سخاء لا حدود له، دلّ على اتساع قلبه، دلّ على فرح عظيم، وطلب من سامعيه أن يشاركوه في هذا الفرح. هل يعرفون من خلال الابن الاكبر أن الخاطئ هو أصغرهم، وأن عودته إلى الله تملأ قلب الله فرحًا؟
ونكتشف وجه الله بشكل يتحدّانا في مثل العمّال الذين دعاهم "الرب" ليعملوا في كرمه (مت 20: 1- 15). لقد منح العمّال الذين اشتغلوا ساعة واحدة أجرًا يساوي ذاك الذي أعطاه لأولئك الذين حملوا ثقل النهار وحره، الذين اشتغلوا اثنتي عشرة ساعة. لا شكّ في أنه كان اتفاق بين رب الكرم والعمَّال. ولكن أما وجب عليه أن يعطي أكثر للذين اشتغلوا أكثر؟
أجاب يسوع: كلا. وهو في جوابه يكلّمنا عن الله: فالله في لطفه هو حرّ بأن يمنح خيراته لأشخاص "لا يستحقونها"؟ بأن يمنح خيراته بصورة مجّانيّة. هل لنا أن نمنع الله من إظهار حنانه تجاه أناس نظنّهم غير جديرين بالاهتمام؟
2- إله يهتمّ بصغار القوم
هذا ما ظنّه الفريسي حين رأى العشّار يصلّي في الهيكل. ولهذا وصل تشكّكه إلى الذروة في مثَل الفريسي والعشّار (لو 18: 10- 14). يقدّم لنا المثَل في البداية رجلين يصعدان إلى الهيكل للصلاة أمام الله. ويعلن في النهاية أن العشّار نزل إلى بيته مقبولاً عند الله. أما الفريسي فلا. فما الذي حدث؟
شكر الفريسي الله مطوّلاً على كل الأعمال الصالحة التي أعطي له أن يقوم بها. أما العشّار فدلّ بموقفه أنه واعٍ لخطيئته. ولهذا كانت صلاته طلبًا للرحمة. لعب كل من الفريسي والعشّار الدور الذي يليق بوضعه. ولكن كيف نفهم الاعلان الأخير (نزل إلى بيته مقبولاً)؟
هناك علاقة بين الاعلان الأخير وحكم الفريسي على العشّار. قال في صلاته: "شكرًا لك يا الله فما أنا مثل سائر الناس... ولا مثل هذا العشّار الذي هو هنا". لقد حكم الفريسي على العشّار، فجاءت العبارة الاخيرة تحكم عليه: "أقول لكم، إن هذا الرجل الذي هو هنا نزل إلى بيته مقبولاً. أما الآخر فلا". جاء الفريسي بأعمال صالحة تجعل منه مثال التقوى "فتؤمِّن" له أمام الله تفوّقًا على الخطأة المعروفين. ولكن الله فضّل النداء إلى الرحمة الذي وجهه إليه "خاطئ" سلّم ذاته بكليتها إلى رأفته وحنانه.
وفي هذا الاطار نقرأ نشيد التهليل الذي أطلقه يسوع: "أحمدك أيها الآب، يا ربّ السماء والأرض، لأنك أظهرت للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء والفهماء" (لو 10: 21؛ رج مت 11: 25- 26). فنفهم محلى مستوى آخر خبرة عاشها يسوع خلال رسالته. يسوع يشكر الله الآب، لا لأنه أخفى بعض الأمور عن بعض الأشخاص، بل لأنّه أخفاها عن هؤلاء "الناس" (العظماء) وكشفها للصغار.
إن الحكماء الذين يمثّلون نخبة اسرائيل الدينيّة قد رفضوا اعلان الانجيل. فاستقبله أولئك الذين يحتقرهم الرؤساء ويسمّونهم" الصغار"، "البسطاء"، الجاهلين والاميين (مثل بطرس ويوحنا، رج أع 4: 13: عديم العلم، عديم المعرفة).
إذا توقّفنا عند الوجهة البشريّة، نجد أن ملاحظة يسوع مخيّبة للآمال. ولكننا نكتشف فيها رضى الله واهتمامه بالذين لا يُحسب لهم حساب بين البشر: فمن أجلهم أظهر الله حنانه. وهذا ما يملأ قلب يسوع إعجابًا ودهشة. إلهنا إله حنان ورحمة.
3- إله يهتمّ بالمرذولين في المجتمع
نقرأ في هذا الاطار مثل المدعوين إلى العرس (لو 14: 16- 24؛ مت 22: 2- 10). لم نعد هنا أمام نظرة إلى رضى الله يكتشفه يسوع في تقبّل الناس لتعليمه حيث لم يكن ينتظر مثل هذا التقبّل. بل أمام غضب الله الذي ينكشف في رفض لندائه: فالذين اعتُبروا مهيّأين لتلبية هذا النداء، يصوّرهم الانجيل كمدعوّين رافضين: "أرجوك أن تعذرني. لا أقدر أن أجيء".
ما لاحظه المثل هو أن "النخبة" لا تزعج نفسها. وأن الأماكن التي حُفظت لها صارت لأشخاص لم يفكّر فيهم صاحبُ العرس. هذا هو الواقع الذي يعيشه يسوع. فما ناله أولئك الذي حلّوا محلَّ "الاولين" هو نتيجة رحمة الله التي تنظر بعين العطف إلى المتروكين والمرذولين. "ألزمْهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي".
والطريقة التي بها يسمّي لوقا أولئك الذين تمتّعوا بالوليمة، تقودنا مباشرة إلى التطويبات التي تسبق خطبة الجبل (مت 5: 3- 12؛ لو 6: 20- 26). سمّاهم "الفقراء والمشوّهين والعرج والعميان" (لو 14: 21). هناك الفقراء الذين يتحدّث عنهم لوقا، وهناك الجائعون. أما متّى فيحدّثنا عن الفقراء بالروح، عن الودعاء، عن الجياع والعطاش إلى البرّ. نحن في الأصل أمام إعلان نبوي عن ملكوت الله من أجل الفقراء والمظلومين، من أجل الأرامل واليتامى، من أجل العميان والصمّ والمشوَّهين. أخذه متّى وجعل منه قطعة من الفقاهة في الكنيسة. ولكننا لا نجد أساس هذا الاعلان في صفات روحية أو دينية تحلّى بها هؤلاء "الأشخاص التعساء". بل في صورة عن الله (الملك) الذي يمارس سلطانه تجاه المحرومين في المجتمع. وهكذا تلتقي خطبة يسوع في هذا المجال مع أقوال التعزية التي نقرأها في أشعيا (40: 1): "عزّوا، عزّوا شعبي، يقول الرب".
خاتمة
نتوقّف هنا لنلاحظ تماسك السمات التي تميّز صورة الله التي يقدّمها يسوع. فهي تختلف عمّا نجد في المحيط الذي يعلّم فيه. فهذا المحيط يظنّ أن الله هو بجانب "الاتقياء" و"الممارسين". أنه بجانب أصحاب الامتياز في المجتمع الديني والمدني. فنوعيّة التقوى التي هي تقواهم تفرض معرفة بالشريعة وبالتالي مستوى ثقافيًا رفيعًا. إنهم "حكماء"، و"فهماء". وهذا يفترض أيضًا أنهم بمنأى عن أي شقاء أو ضعف.
تجاه هذه النظرة التقاليدية (احترام دقيق وضيّق للتقاليد)، حدّثنا يسوع عن إله يقف بجانب الذي قست عليهم الحياة. إله يهتم بخاطئ واحد أكثر مما يهتمّ بتسعة وتسعين بارًا. إله يكشف عن ذاته للبسطاء أكثر منه لأصحاب العلم والمعرفة. إله يريده سعادة البؤساء، على اختلاف فئاتهم ومشاربهم. وبما أن يسوع تحدّث عن هذا الاله، إله الصغار والفقراء والخطأة، وجد قلوبًا مفتوحة لدى هؤلاء الاوساط العائشة على هامش المجتمع، ورفضًا لدى نخبة شعبه.
إن إله يسوع ليس إلهًا ينحصر بفئة من الفئات أو بمجموعة منغلقة على ذاتها. فطريقته بأن يكون إله الجميع جعلته أولاً إله المرذولين، إله الذين يحتقرهم المجتمع الديني الوجيه.
وكلام يسوع عن الله سيقوده بعيدًا. ففي النهاية سيكون إله يسوع المسيح إله مسيح مصلوب.