الفصل الثالث والعشرون
الرب الهنا هو الرب الواحد
يخبرنا القديس مرقس أن أحد معلّمي الشريعة دنا من يسوع وسأله: "ما هي أولى الوصايا كلها؟ فأجابه يسوع: الوصية الاولى هي: إسمع يا اسرائيل. الرب إلهنا هو الرب الواحد. فأحبّ الرب إلهك...". فقال له معلم الشريعة: "أحسنت يا معلّم. فأنت على حق في قولك إن الله واحد ولا إله إلاّ هو، وأن يحبّه الانسان أفضل من كل الذبائح والقرابين" (مر 12: 28- 32).
سنتكلّم في هذا المقال عن الله الواحد كما في العهد الجديد. نبدأ بالنصوص التي تبدو امتدادًا للعقيدة اليهودية. بعد هذا، نعالج موضوع عبادة الاوثان الذي واجه المسيحيّة في بداية عهدها. وأخيرًا، نتعرّف إلى وجه هذا الاله الواحد الذي هو أب لابنه يسوع، وأب لجميع البشر ولاسيّما المؤمنين.
1- الرب الواحد
حين حدّث يسوع معلّم الشريعة أعلن إيمان المسيحيين بالله الواحد، فوافقه معلّم الشريعة. فيسوع ومحاوره عادا إلى سفر التثنية في إعلان إيماني يبدأ بكلمة "إسمع" (شماع في العبرية). "الرب الهنا رب واحد" (6: 4). هذا يعني أن إله اسرائيل لا يُجزّأ كما يظن الناس الذين يرون الصور والمعابد تتوزّع في طول البلاد وعرضها. قال العالم اليهودي: "الرب هو إلهنا. الرب هو واحد". وقال التقليد المسيحي: "الرب إلهنا هو الرب الواحد" (مر 12: 29). هذا الاله هو الذي يحب شعبه (4: 37). وهو الاله الذي نخافه ونحبّه (5: 10).
ونقرأ في تث 4: 35: "الرب أراكم ذلك كله لتعلموا أنه هو الاله ولا إله سواه". أظهر المعجزات والعجائب، عمل بيد قديرة وذراع ممدودة. أحبّ آباءكم، واختار نسلهم من بعدك. وينهي "موسى" كلامه: "فاعلموا الآن وردّدوا في قلوبكم أن الرب هو الاله في السماء من فوق، وفي الأرض من أسفل، ولا إله سواه" (تث 4: 39).
إن الاله الذي يعبده اليهود هو ذاك الذي يعبده المسيحيون. فإله ابراهيم واسحاق ويعقوب (مر 12: 26) هو ذلك الذي نؤمن به على خطى الآباء ونحبّه بكل قلبنا وكل نفسنا وكل ذهننا. فإذا كنا للمسيح، فنحن نسل ابراهيم ولنا الميراث حسب الموعد (غل 3: 29)، لأننا نقتدي بأبينا في إيمانه (روم 4: 12). إذا كان لابراهيم وإسحاق ويعقوب والانبياء مكان في ملكوت الله (لو 13: 28) الذي جاء المسيح يدشّنه، فهم لا يختلفون عن المسيحيين المدعوين إلى هذا الايمان عينه والملكوت الواحد.
أجل، عقيدة المسيحيين في الوحدانية هي امتداد لعقيدة اليهود كما نقرأها في العهد القديم. ليست هذه العقيدة تعليمًا مجرّدًا لا يرتبط بالحياة كما عند بعض الفلاسفة الذي يقرّون بالله إقرارًا ظاهرًا دون أن يؤثّر إقرارهم هذا في حياتهم. وهي لا تستند إلى استقصاء قام به العقل البشري، الذي بحث عن وحدة الوجود فاكتشفها في مبدأ يسمو على الكون.
2- اختبار المؤمنين
إن عقيدة الوحدانيّة ترتكز على ما اختبره المؤمنون من عمل الله الخلاصي في قلب الكون والتاريخ. هذا الاله واسمه يهوه، أقام علاقات مع شعبه فمنعه من عبادة أيّة قوّة في السماء أو على الأرض. هذا ما نقرأه في الوصيّة الاولى من الوصايا العشر. قال الرب: "أنا هو الرب الهك... لا يكن لك آلهة سواي. لا تصنع لك رسمًا منحوتًا ولا صورة شيء... لا تسجد للالهة ولا تعبدها، لأني أنا الربط الهك إله غيور" (خر 30: 2- 5). هذا الاله يكره أن يشاركه آخر في حقّه على شعبه.
وسيعود الكاتب إلى هذا القول مرارًا. يقول إرميا بفم الله: "ابتعَدوا عني وتبعوا آلهة باطلة (ليست بشيء) وصاروا باطلاً" (صاروا كلا شيء) (2: 5). هي آلهة لا عقل لها ولا تمييز. هي باطلة لفسادها ولعدم قدرتها على أي عمل. يقول فيها المرتّل: "لها أفواه ولا تتكلّم، لها عيون ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع. لها أيد ولا تلمس. لها أرجل ولا تمشي" (مز 115: 5- 7). آلهة صنعتها أيدي البشر من فضة وذهب (آ 4). آلهة لا يُعوَّل عليها ولا نفع منها (إر 8:2) لأنها خشب ورماد (أش 44: 20). بعد هذا، أيعقل أن يترك المؤمنون لأجلها الرب، ويحلفون بما ليس بإله (إر 5: 7)؟ هذه الآلهة التي يصنعها الانسان على صورته (هو 8: 4) تستحقّ أن يحلّ عليها غضب الله الحي.
على خطى العهد القديم سار العهد الجديد، فشدّد على الاعتراف بالله الواحد. نقرأ مثلاً في 1 كور 8: 4- 5: "إن الوثن لا كيان له. ولا إله إلاّ الله الواحد. وإذا كان في السماء أو في الأرض ما يزعم الناس أنهم آلهة... فلنا نحن إله واحد وهو الآب الذي منه كل شيء وإليه نرجع". لا شكّ في أن للميتولوجيا الوثنية "آلهة وأرباب" أو أبطال اعتُبروا في عالم الخلود. ولكن بولس يعتبرهم كلا شيء. وبسبب تأثير عبادة الاصنام السيّىء على الناس، يسمّيهم شياطين. فيقول في 1 كور 10: 20: "هذا يعني أن ذبائح الوثنيين هي ذبائح للشياطين لا لله".
وحين يتحدّث القديس بولس عن الله الذي يبرّر اليهود والوثنيين على السواء، يعلن: "الله واحد" (روم 3: 30). وإذ يكلّمنا عن الوسيط بين الله والبشر. يعلن: "الله واحد" (غل 3: 20). فإله البشر جميعًا يريد أن يخلّصهم لا بالشريعة الموسوية التي تستعبدهم، بل بابنه الوحيد يسوع الذي يحررهم ويوحّدهم بالايمان باسمه. وفي هذا المعنى عينه يعود الرسول إلى خلاص البشر جميعًا، لأن الله الواحد هو إلههم جميعًا: "الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد هو المسيح يسوع" (1 تم 2: 5). ويقول أيضًا في أف 4: 6: "إله واحد أب للجميع وفوقهم، يعمل فيهم جميعًا وهو فيهم جميعًا".
ويعتبر القديس يعقوب أن الايمان بالله الواحد أمر عادي في المسيحية (2: 19: "أنت تؤمن بأن الله واحد"). أما انجيل يوحنا فيعلن في معرض جدال يسوع مع اليهود: "أنتم لا تطلبون المجد الذي هو من الله الواحد" (5: 44). ويعلن يوحنا في بداية صلاة المسيح قبل آلامه: "الحياة الابدية هي أن يعرفوك أنت الاله الحقّ وحدك، ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته" (17: 3). أجل، نعرف المسيح الذي فيه نرى الاله الواحد. ونحن لا نصل إلى معرفة الله الآب إلاّ بمعرفة يسوع الذي قال: "من رآني رأى الآب" (يو 14: 9).
3- وجهات أربع
حين نتحدّث عن الله الواحد في إطار العهد الجديد، نكتشف أربع وجهات.
* الأولى: الله الذي يعبده المسيحيون هو إله الآباء الذين وعدهم الله، فتمّ لنا هذا الوعد، نحن أبناءهم، يوم قام يسوع من بين الأموات (أع 13: 32- 33). والقديس بولس الذي انتقل من اليهودية إلى المسيحية، يذكر الرب إله آبائه الذي اختاره وأرسله ليحمل كلمته إلى البعيد، إلى عالم الوثنيين (أع 22: 14- 21).
* الثانية: الاله الذي يعبده المسيحيون هو الاله الواحد. أي الأول والاخير كما نقرأ في أش 41: 4: "من عمل ونفّذ؟ ذاك الذي يدعو الاجيال من البدء. أنا الرب، أنا الأول والآخر". أو: أنا الرب الأول وأكون كما أنا الآن في الأخير. هذا الاله يتحلّى بالبساطة، أي إنه لا يحتمل التعدّدية. إنه الكائن الذي لا نظير له والموحّد في طبيعته. قال عنه يسوع في معرض حديثه مع الشاب الغني: "لا صالح إلاّ واحد". أو: واحد هو الصالح (مت 19: 17). وسيعلّم التلاميذ: "لكم أب واحد هو الآب السماوي" (مت 23: 8). وسيقول لنا بولس الرسول: "واحد هو الله" (1 كور 8: 6) وهو أب لجميع البشر (أف 4: 6).
* الثالثة: الاله الذي نعبد يستثني وجود إله غيره. إنه الاله الفريد الذي لا مثيل له ولا ثاني. إله لا يزاحمه أحد ولا يقابَل به كائنٌ مهما كان. هو وحده من نعبد كما علّمنا يسوع حين جرّبه الشيطان. طلب منه الشيطان أن يسجد له، فقال: "للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (لو 4: 8= مت 4: 10). ربنا هو الاله الحقيقي وحده (يو 17: 3)، هو القدوس والحكيم كما ينشده المختارون في سفر الرؤيا: "من لا يخافك يا رب؟ من لا يمجّد اسمك؟ قدوس أنت وحدك. جميع الأمم ستجيء وتسجد بين يديك، لأن أحكامك العادلة ظهرت لكل عين" (15: 4).
* الرابعة: الله الذي يعبده المسيحيون هو الآب. هو أبو سيدنا يسوع المسيح، وأبونا جميعنا. قال لنا يسوع في عظة الجبل: "صلّوا لأجل الذين يضطهدونكم، فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات" (مت 5: 45). فنحن نعمل أعمالنا الحسنة فيمجّد الناس "أبانا الذي في السماوات" (مت 5: 16). نصلّي إليه في الخفاء فيجازينا علانية (مت 6: 18). نغفر للقريب فيغفر لنا أبونا السماوي زلاّتنا (مت 6: 15). الله أبونا يهتمّ بزنابق الحقل وطير السماء، ويهتمّ بالاحرى بنا لأنه يعرف ما نحتاج إليه (مت 6: 28- 32). أبونا واحد (مت 23: 9) وقد علّمنا أننا كلنا أخوة.
هذا الآب قد عرفناه ورأيناه في المسيح. قال يسوع بعد العشاء الأخير: "لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا ومن الآن أنتم تعرفونه، وقد رأيتموه" (يو 14: 7). فالحدث الفصحي مكّن التلاميذ من التعرّف إلى يسوع وملاقاته. وحين يتعرّفون إلى يسوع يتعرّفون إلى الآب. حينئذ عبّر فيلبس الرسول عن رغبة عميقة في قلب الانسان (يو 1: 18: ما من أحد رأى الله؛ 6: 46: ما من أحد رأى الآب إلاّ من جاء من عند الله). قال: "يا رب، أرنا الآب وكفانا". فقال له يسوع: "أنا معكم كل هذا الوقت وما عرفتني بعد يا فيلبس؟ من رآني رأى الآب" (يو 14: 8- 9). أجل، إن حياة يسوع وكلامه وأعماله هي موضع ظهور الآب للعالم. فيسوع متَّحد كل الاتحاد بالآب، وما يعمله الآب يعمله الابن (يو 5: 17).
خاتمة
هذا هو الاله الواحد الذي نؤمن به. علاقته بيسوع المسيح علاقة الآب بالابن. وعلاقته معنا علاقة محبة أين منها محبّة الآباء لأبنائهم. هذا الآب نسعى إلى العمل بمشيئته (مت 6: 10). هذا الآب نحاول أن نقتدي به كالأبناء الأحبّاء (أف 5: 1). فالانجيل يدعونا لنكون "كاملين كما أن أبانا السماوي كامل هو" (مت 5: 48).