الفصل الحادي والعشرون
مشاعر الامومة عند الله
حين نتحدّث عن مشاعر الامومة عند الله في الكتاب المقدس، يبدو حديثنا نوعًا من المفارقة أو شكلاً من أشكال التحدّي. فالله لا يسمَّى أبدًا "الام" بل الأب. ولكن أما نجد نصوصًا بيبلية يصوَّر فيها الله كما تصوّر الأم، وتعطى له مشاعر أم؟ أجل نجد. وهنا تأتي "الامومة" الالهية فتغني الابوّة الالهية. الله أب وأم معًا. فكل أب على الأرض يجد مثاله في الله الذي لا يعطي الحجر بدل الخبز والحيّة بدل السمكة (مت 7: 9- 10). وكل أم على الأرض تجد مثالها في الله الذي هو رحمة وحنان، الذي أحشاؤه أحشاء أم. هل ننسى أن لفظة رحمة ترتبط بالرحم الامومي؟!
1- الله أم شعبه
نقرأ في عد 11: 11- 15 صلاة يتوجّه فيها موسى إلى إله اسرائيل. "لماذا تعذّبُ عبدك؟ لماذا لم أنل رضاك، حتى وضعتَ أثقال كل هذا الشعب عليّ؟ هل أنا حملت هؤلاء الشعب كلهم؟ هل أنا ولدتهم حتى تقول لي: إحملهم على صدرك كما تحمل الحاضن الرضيع (وأوصلهم) إلى الأرض التي أقسمت لآبائهم عليها؟ من أين لي لحم أعطيه لجميع هؤلاء الشعب، فإنهم يلاحقوني ببكائهم ويقولون لي: أعطنا لحمًا نأكله. لم أعد أقدر أن أحمل هذا الشعب وحدي، لأنه ثقيل علي. فإن كنت تعاملني هكذا، فالافضل أن تقتلني، إن كنت راضيًا عني، فلا أعود أرى بليّتي".
إن صلاة موسى هذه هي تشكٍّ يحاول فيها رئيس الشعب أن يتفلّت من المهمّة التي سلِّمت إليه: الرب هو أم الشعب لا موسى، فكيف يترك الرب مهمّته كأم؟ لماذا لا يهتمّ بأولاده ويطعمهم؟
ونتوقّف عند الالفاظ
في آ 11، يعاتب موسى الله لأنه يُسيء معاملته. هو لا يراعيه، لا يلتفت ولا يصغي إليه. وفي آ 12 يستعمل موسى فعل "حمل"، حبل. فالمرأة هي التي تحمل وتحبل. هكذا حملت حواء بقايين (تك 4: 1)، وحملت سارة باسحاق (تك 21: 2). ثم يستعمل فعل "ولد". الله هو الذي حبل بالشعب وولده، كما تفعل كل أم. فلما يترك الله هذا الحمل الثقيل ويلقيه على موسى؟
وتتكامل الصورة: حمل على صدره، أو في حجره، في حضنه (في العبرية: حُق). ثمّ نتحدّث عن الرضيع الذي تحتضنه أمّه وتطعمه.
هذا الرضيع سيحمله موسى إلى الأرض التي أقسم الله عليها. من حَمْل على الصدر إلى حَمْل إلى الأرض. موضوع الطعام هو في وسط تشكي موسى: هو لا يستطيع أن يطعم هذا الشعب. إنه ليس أمه. فلتهتمّ به أمه، ليهتمّ به الله.
2- الله أب وأم في شعبه
ويقدّم لنا نشيد موسى الذي يعود إلى ما بعد السبي، مثالاً حيًا عن التطلّع إلى الله، على أنه أبو شعبه وأمه. "أهكذا تكافئ (ترد جميل) الرب، أيها الشعب الاحمق الذي لا حكمة له؟ أما هو أبوك الذي أعطاك الحياة؟ أما هو الذي صنعك وكوّنك" (تث 32: 6). ونقرأ في آ 18: "تركت الخالق الذي ولدك (أو حبل بك)، ونسيت الاله الذي وضعك" كما تضع الام طفلاً. هذا ما يقول أش 51: 2: "أنظروا إلى سارة التي ولدتكم".
سمِّي الله أبًا لشعبه في آ 6 ثم أمًا لشعبه في آ 18. وهكذا انتقل النص من صورة الأب إلى صورة الأم، ولا غرابة في الأمر.
وسنجد فعل "ولد" و"وضع" في مز 90: 2: "قبل أن تلد الجبال وتضع الأرض والمسكونة، من الأزل وإلى الأبد أنت الله". هكذا يتكلّم المرتّل عن عمل الله الخلاّق في صيغة المؤنّث.
وترد الألفاظ عينها في معرض الحديث عن ظاهرات الجوّ، فتطبَّق على ولادة الأرض من يد الله. ففي خطبة يوجّهها الله إلى أيوب، يقول: "هل للمطر من أب؟ من ولدَ (كما تلد الأم) نقط الندى؟ من بطن مَن خرجَ الجمد؟ من ولدَ صقيعَ السماء" (أي 38: 28- 29)؟ إن عبارة "خرج من البطن" تذكّرنا بولادة أيوب نفسه الذي قال: "عريانًا خرجت من بطن أمي" (1: 21). وقال أيضًا: "هلاّ فاضت روحي عند خروجي من البطن" (3: 1). أجل من حشا الله خرج الجمد. الله هو الذي ولد الصقيع كما تلد الأم ولدها.
3- نصوص أشعيا
هنا ننتقل إلى أشعيا الثاني (ف 40- 55) الذي يستعمل صور الامومة لكي يتحدّث عن عمل الله. ويبدو، كما يقول الشرّاح، أن الالفاظ التي تتحدّث عن "أمومة" الله، جاءت متأخِّرة في التوراة. هل خاف العبرانيون من الشرك ومن وجود إلاهة تقابل الاله كما عند الكنعانيين والمصريين؟ مثلاً، أدونيس وعشتروت، إيزيس وأوزيريس. وقد يكون هذا السببَ الذي جعل النصوص تتوزّع فلا تسمي الله أمًا كما سمته أبًا. ولكن كما أن هوشع اقتحم عالم بعل وصوّر الله كعريس يحبّ عروسه التي هي أمّته وشعبه، كذلك اقتحم أشعيا عالم بابل ومصر فتحدّث عن أبوّة الله وأمومته.
أ- النص الاول، أش 42: 13- 14
"الرب كجبار يبرز، وكرجل قتال يثير غيرته (يستعدّ للقتال. حبّه يدفعه إلى التدخّل). يهتف هتاف الحرب ويصرخ متحدّيًا أعداءه. طالما سكتّ وصمت الم أتكلّم، لم أتحرّك، ولم أعمل شيئًا) وضبطت نفسي. فالآن أصيح كالتي تلد، أنفخ وأتنفّس بصعوبة".
في قولة تبدأ في آ 10 وتنتهي في آ 17، يدعو النبي الشعوب لكي تنشد نشيدًا جديدًا، لكي تهتف هتافًا تحمد فيه الله. فالله لن يبقى ساكنًا وساكتًا. هو سيفعل. هو سيتجلّى فيرى الجميع عمله. ويقدّم النص تشبيهين يدلاّن على أن عمل الله قريب. "الرب كجبار..."
أولاً: يشبه عمل الله عمل جبار يهتف هتاف الحرب ويسير على أعدائه. هي صورة الرجل الذي يرعب المهاجمين بصوته، فلا يحتاج إلى سلاح. ثانيًا: يشبَّه الله بالتي تلد. هنا يجعل النبي الله يتكلّم (صيغة المتكلّم) فيعطي حرارة للقول النبوي: أقّر الله أنه صمتَ ولم يفعل شيئًا، فأشار إلى زمن المنفى الذي شعر فيه الشعب أن الله لم يحرّك ساكنًا. ما معنى هذه الصورة الفريدة في تطبيقها على الله؟
لسنا فقط أمام صورة الألم الذي يرافق الولادة فيدلّ على ولادة عالم جديد ونظام جديد. بل أمام صورة المرأة التي تنفخ وتزفر وهي تستعد للولادة. تنفّسُ الله يشبه تنفّس امرأة ستضع ولدًا، وهذا التنفّس يسبّب انقلابًا كونيًا مخيفًا تصوِّره آ 15: "أخرّب الجبال والتلال، وأيبّس كل عشبها".
ب- النص الثاني، أش 45: 10
"ويل لمن يقول لأب: ماذا ولدت؟ ولامرأة: ماذا وضعت"؟ تنتمي هذه الآية إلى قولة يتكلّم فيها الله بصيغة المتكلّم، فيعلن أنه اختار كورش (أش 45: 1- 13). وفي آ 9- 10، يوبّخ الله كل الذين لا يفهمون هذا الاختيار ويجادلون في عمل الله. وتجعل آ 10 أمامنا الأب من جهة والمرأة (أو: الأم) من جهة أخرى. لم يسمّ النص المرأة "أمًا". ولكنه يشبّه الله بصورة واقعية، وإن غير مباشرة، بالآب والأم في عمل الخلق وعمل الخلاص تجاه شعبه.
ج- النص الثالث، أش 49: 15
"أتنسى المرأة الولد الذي ترفعه؟ ألا ترحم إبن بطنها؟ ولو أنها هي نسيت، فأنا لا أنساك". يتحدّث النص عن المرأة، بل عن الأم في علاقتها بابن حشاها، بالرضيع الذي يتغذّى من ثدييها. صورة الامومة واضحة. وموقف الله تجاه شعبه يشبه موقف أم تجاه ابنها. وبما أن الرب هو أم شعبه، فهو لا يستطيع أن ينسى هذا الشعب الذي هو ابنه. عواطف الله كعواطف الأم، بل هي أقوى منها، وهو الذي يتكلّم إرميا باسمه ويلبس عواطفه فيقول: "أمعائي، أمعائي؟ أنا أتلوَّى من الألم! جدران قلبي توجعني" (إر 4: 19).
قال الرب في أش 49: 15 هذا الكلام ليردّ على انتقاد صهيون له في آ 14. قالت: "تركني الرب. نسيني ربي" (أو: سيدي، إلهي). إن صهيون تشخيص لامرأة تتوجّه إلى عريسها الالهي وتعاتبه. ما نلاحظه هو أن جواب الله لا يستعيد صورة العريس والزوج، بل صورة الأم وحبّها لابنها.
ويستبق الرب كل اعتراض قد نستخرجه من خبرتنا البشريّة. هناك أمهات تركن أولادهن! فجاء جواب الرب: وإن نسيَت أم ابنها، فأنا لا أنساك يا شعبي. أجل، الرب هو أم، ولكن بصورة لا يتصوّرها العقل ولا تصل إليها أيّة خبرة بشريّة.
د- النص الرابع، أش 44: 2، 24؛ 46: 3
نحن هنا أمام صورتين تعودان إلى هذا النبيّ الذي عاش في زمن المنفى. أولاً، في أش 44 نجد صورة الله الذي يجبل (يصوّر) الانسان منذ إقامته في بطن أمه. في آ 2 نقرأ: "هكذا قال الرب الذي صنعك، الذي صوَّرك منذ بطن أمك، الذي أعانك". وفي آ 24: "هكذا قال الرب فاديك الذي صوّرك منذ بطن أمك: أنا الرب صانع كل شيء. أنا وحدي نشرت السماوات، وبقدرتي (في السريانية: منّي ولي) بسطت الأرض". الفعل "يصر" (صوَّر، جبل) هو أحد الافعال التي يستعملها النبي ليتحدّث عن الخلق: خلق الارض (أش 45: 18)، خلق اسرائيل (أش 43: 1) خلق بني اسرائيل في المنفى (أش 43: 7: خلقت، وصوّرت، أو جبلت، وصنعت). ولكن الفعل الذي يدلّ بصورة عادية على نشاط الفخاري يرتبط بأحشاء الأم ليعبّر عن حنان الله حين يخلق شعبه. وهكذا نكون أمام طريقة أخرى بها نتكلّم بصورة جريئة عن الله أم شعبه.
ونجد مع أفعال أخرى صور بطن الام في أش 3:46: "إسمعوا لي، يا آل يعقوب، يا بقيّة آل اسرائيل. منذ البطن اهتممت بكم ومنذ الرحم حملتكم". استُعمل هذان الفعلان في الحديث عن آلهة بابل الذين يُحملون (أش 46: 1) لأنهم لا يستطيعون أن يتحرّكوا. أما الله فهو يفعل. هو يهتمّ بشعبه كالام بابنها، ويحمله كما تحمل الام رضيعها. أجل، كان الله حاضرًا منذ ولادة شعبه، وما زال ملتزمًا به التزامَ الأم تجاه أولادها.
وهناك نصوص أخركما تتحدّث عن مشاعر الامومة عند الله. نكتفي بذكر أش 66: 13: "كمن تعزّيه أمه كذلك أعزّيكم أنا. أجل، في أورشليم ستعزّون". ونذكر صلاة معروفة يتلوها المرتّل: "هدأت رغباتي وسكنت مثل طفل قرب أمه. رغباتي تشبه هذا الطفل".
4- أبعد من النصوص
ما الذي نستخلصه من هذه النصوص المتأخّرة، ولاسيّما تلك التي نقرأها عند أشعيا؟ ظلّت النساء بعيدة عن العبادة الرسمية في المجتمع الاسرائيلي. ثم إن أنبياء مثل إرميا أو حزقيال لجأوا إلى صورة الرجل ليتحدّثوا عن الله، وشبّهوا الشعب بامرأة زانية. أنكون أمام ردة فعل عند أشعيا الثاني ضد لغة (وموقف) تعتبر ما هو من الرجل قيمة إيجابية يقبل الله أن يتشبّه بها، وما هو من المرأة لغة سلبية لا يستطيع الرب أن يتشبه بها؟ الأمر معقول جدًا.
وهناك تفسير آخر لوجود لغة "الامومة" عند أشعيا الثاني، ينطلق من فكرة "صهيون" التي هي أم. والتفسير الثالث ينطلق من تاريخ الديانات. نحن نقرأ في إر 2: 27 توبيخًا قاسيًا للذين يقولون للخشب (مذكر) أنت أبي، وللحجر (مؤنث): أنت ولدتني، أنت أمي. وهكذا يربط الاسرائيلي المشرك حياته بالخشب أو الحجر. لقد اعتاد العالم القديم أن يصوّر الآلهة على صورة البشر: هناك أب وأم وأولاد. مثلاً يتحدّث الملك حمورابي (1792- 1750) عن الالاهة ننتو على أنها "الأم التي ولدتني". وأنشد أشور بانيبال (668- 627) "سيدة نينوى الإلاهة، الأم التي ولدتني". وقد يكون الاله أبًا وأمًا في الوقت عينه كما في هذا النشيد لاوزيريس: "أنت أبو البشر وأمهم. هم يعيشون من نسمتك ويأكلون لحم جسمك". وأنشد الحثيون لإلاهة الشمس أرينا: "أنت أم كل بلد وأبوه".
5- نظرة لاهوتية
تفرض علينا قراءة الكتاب المقدس روح التمييز حوله محدودية هذه النصوص، حول علاقة العهد القديم بالعهد الجديد.
ما نلاحظه أولاً هو أن كتب لاهوت العهد القديم لا تتحدّث مطلقًا عن أمومة الله، عن الله الأم، وهذا أمر له معناه. لا شكّ في أننا نجد فصلاً مكرسًا لاسماء الله وألقابه، ولكن لا يقال شيء عن الامومة الالهية أو عن الصفات الانثوية المنطبقة على الله. فالتطوّر الحاصل في هذا المجال يعود إلى اكتشاف دور المرأة في الكنيسة بعد أن سيطر دور الرجل. فمنذ الابتداء خُلق الرجل والمرأة على صورة الله، لا الرجل وحده.
تعوَّد الشرّاح أن يبرزوا فقط أبوّة الله مع أنها تحتل مكانًا محدودًا في العهد القديم. أما نحن أمام تأثير للاهوت المسيحي على قراءة العهد القديم؟ هذا ما نتساءل بشأنه، لأن لقب "الاب" ليس اسم الله في العهد القديم. ومهما يكن من أمر، مع ما قلناه في فصل سابق، فلا بدّ من إعادة النظر في طرق تعبيرنا حين نتحدّث عن الله ونعطيه صفات البشر.
إذا كنا لا نستطيع أن نتكلّم عن الله إلاّ بلغة بشريّة، فنحن لا نستطيع أن نسجن الله في هذه اللغة. وإذا عدنا إلى ما قلناه في هذا الفصل وسابقه، فالله ليس مذكرًا ولا مؤنثًا، ليس رجلاً ولا امرأة، مع أننا ننسب إليه صفات المذكر والمؤنث. فصورة الله التي فينا مطبوعة بخبرتنا الشخصية سواء كنّا رجلاً أم امرأة. فالله لا تحدّه خبرتنا البشرية الخاصّة ولا لغتنا. والخطر الذي يهدّدنا هو أن نكوّن عن الله صورة خاطئة. غير أن قراءة الكتاب المقدّس قراءة صحيحة، تساعدنا على تصحيح صورة الله التي فصّلناها على قياسنا!
ماذا نقول عن لاهوتنا حين نطبّق على الله في العهد القديم صورة الأب أو صورة الأم؟ إنطلق بعض الشراح من نصوص التوراة فقالوا: تسمية الله كأب نفهمها في المعنى الحقيقي، وتسميته كأم نفهمها في المعنى المجازي. والسبب حسب زعمهم هو أن النص الكتابي يعبّر عن أمومة الله بالتشبيه والاستعارة. ولكن هذا البرهان لا يقنع الدارس المتعمّق. فحين تنسب النصوص التوراتية إلى الله موقف الامومة، فهي لا تكتفي بالتشبيه كما في أش 42: 14 (أصيح كالتي تلد) وأش 66: 13 (كمن تعزّيه أمّه)، بل نجد نصوصًا تبرز فيها صور الابوّة وصور الامومة جنبًا إلى جنب (أش 45: 10: من يقول لأب ماذا تلد ولامرأة ماذا تضعين). وهناك نصوص يسمَّى الله فيها بصورة ضمنية أم شعبه (عد 11: 11- 14، أش 49: 15)، ونصوص تتحدّث عنه على أنه كوّن شعبه في الحشا الامومي (أش 44: 2، 24؛ 46: 3). نحن هنا أمام الاستعارة والمجاز.
ما هي لغتنا حين نتحدّث عن الله كأب؟ هل نحن أمام معنى حقيقي أم أمام معنى مجازي؟ هنا لا بدّ من التمييز. لقب الأب في العهد القديم لقب مجازي. وفي العهد الجديد لقب حقيقي، لأنه يحدّثنا عن ولادة الابن من الآب منذ الأزل.
لا يتحدّث العهد القديم عن هذه الولادة الازلية، ولكننا نكتشفها في كلام يسوع الذي به أوحى عن علاقته بالله الذي يسمّيه أبّا، أيها الآب. فيسوع وحده الذي نتعرّف إليه كإبن، يدخلنا إلى الآب الذي منه ينبثق كل شيء، والذي يسمح لنا أن نقول: "أبانا الذي في السماوات". في هذا الاطار فقط لقب الآب هو اسم الله الحقيقي، وهذا ما لم يستطع العهد القديم أن يكشفه لنا.
ونستنتج استنتاجًا آخر لدى قراءتنا النصوص البيبلية، وهو الحريّة التي يتّخذها الكتاب المقدس في استعمال اللغة البشريّة للتحدّث عن الله. لغة تشبيهية انتروبومورفية، ولكنها لغة تشهد في الوقت عينه على تسامي الله. نكتفي هنا بما قاله هوشع (11: 9): قال الله: "لا أترك حدّة غضبي تسير مسارها، ولا أعود أدمّر افرائيم (مملكة الشمال). فأنا إله لا إنسان، وإن في وسطك القدوس...".
ويؤكّد سفر أشعيا مرارًا أننا لا نستطيع أن نقابل الله بشيء من الاشياء أو بشخص من الأشخاص: "بمن تشبّهون الله؟ بأي صورة تقابلونه" (أش 40: 18؛ رج 46: 5)؟ وحين أورد أوريجانس عد 23: 19 عبّر أفضل تعبير عن تسامي الله، ولكنه لم ينسَ أننا نحتاج إلى لغة البشر لنتكلّم عن الله. "حين تقدّم الاسفار المقدّسة تعليمًا لاهوتيًا عن الله كما هو في ذاته ودون أن تمزج تدبيره بأمور البشر، فهي تقول: ليس الله انسانًا أو كإنسان. وإذ نطالع الكتب المقدّسة نجد أن التدبير الالهي حين يمتزج بأمور البشر، فهو يتّخذ تفكير البشر وطرقهم في الحياة والكلام".
سأل الأب دانيال أنج ولدًا: من هو الله؟ أجاب: هو أب يحبنا بقلب أم. هذا هو وجه الله الذي هو أب وأم معًا.