الفصل العاشر
أنا الرب إلهك
لا تصنع لك صورة
نحن نفهم منع الصور في الوصايا العشر على أساس الوصيَّة الأولى: "أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي" (أو: سواي) (خر 20: 2- 3). وهذا المنع يشكّل تفسيرًا لهذه الوصيَّة ونتيجة. وهذه العلاقة ترتبط بنص الدكالوغ (أو: الوصايا العشر) في تدوينه (خر 20: 1 ي؛ تث 5: 6 ي). فالأمر الذي يتبع منع الصور (لا تسجد أمامها ولا تعبدها، بحسب عبارة اشتراعية مميّزة) لا يتعلّق بالصور، بل بالآلهة الأخرى التي تمنع الوصيّةُ المؤمن من التعبّد لها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن التذكير بغيرة الرب التي به يختتم النص منع الصور (فأنا الرب إلهك إله غيور) يكرّر تقديم الله لنفسه كما في بداية الوصيّة الاولى: "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من دار العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي". إذا تذكّرنا أن موضوع غيرة الرب هو عبادة يؤدّيها شعبُه لآلهة أخرى (تث 6: 14- 15؛ خر 34: 14)، نستنتج ما يلي: يرتبط منع الصور بمنع العبادة للآلهة الغريبة. ويشكّل هذان المنعان وصيَّة واحدة. وبعبارة أخرى، إن منع الصور هو في المعنى الحصري منع للأصنام.
1- تقليدان عن الوصايا
ولكن يبدو أن هذه الخلاصة لا تسري بصورة دقيقة إلاّ على نصّ الدكالوغ كما نقرأه في سفر التثنية. فإذا كان التعبير عن منع الصور هو هو في التقليدين المدوَّنين، فنحن نقرأ في تث 5: 8 "كل تمونه" (رج مان في المحربية الذي يرتبط بالغش والخداع) على أنها بدل من "فسل" (صورة في العربية، ترتبط الكلمة بالتزييف): "لا تصنع لك صنمًا (أو: تمثالاً) أي: صورة ممّا في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء، من تحت الأرض. أما في خر 20: 4، فالكلمتان ترتبطان بحرف العطف لم "لا تصنع لك صنمًا ولا صورة شيء ممّا في السماء من فوق...".
إن هذا الاختلاف في التعبير يدلّ على اختلاف في فهم الوصيّة المتعلّقة بتحريم الصور: فحرف العطف يُبرز ناحية جديدة في الوصيّة ويبدّل دلالتها ومغزاها. لم نعد أمام وصيّة تمنعنا من صنع صنم (فسل) مهما كان الشكل الذي به نصوّره (تمونه)، بل تمنعنا من جعل الله يماثل أيّة صورة من الصور.
حينئذ وحينئذ فقط، نقدر أن نتحدّث بلغة حصريّة عن منع الصور. ففي التقليد الذي دوّنه سفر الخروج، يبدو منع الصور وكأنه وصيّة ثانية. وهذا ما يؤكّده وضع نهاية الدكالوغ: فقد حذف التقليد أداة العطف، وجمع في وصيّة واحدة المنعين المتعلّقين بالشهوة: "لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك..." (خر 20: 17).
كيف نفسّر هذين التقليدين اللذين دوّنا الوصايا العشر (الدكالوغ)؟ نحدّد موقعهما في تاريخ إيمان الشعب. وهنا نستطيع أن نورد نصوص خر 20: 4، 23؛ 34: 17؛ لا 19: 4؛ 26: 1؛ تث 4: 15- 18؛ 5: 8؛ 27: 15. في هذا المنظار، لا تبدو الوصيّة مبدأ لازمنيًا، بل أمرًا يجعلنا نطرح سؤالاً حول تصرّفاتنا، ويدلّ بالتفكير الذي يحرّكه أنه يخلق التاريخ. وهذا يعني أنه يجب أن نعيد تفسير الأمر لنسمعه بآذان جديدة ولنفهم مغزاه الحقيقي في التاريخ الذي يخلقه.
2- أقدم تعبير
يرى بعض الشرّاح أن أقدم تعبير لمنع الصور نقرأه في خر 20: 23: "لا تجعل معي (أو: بجانبي) آلهة من فضة (لا تعاملني كآلهة من فضة). لا تصنع لك آلهة من ذهب". نحن لسنا هنا أمام منع الصور بحصر المعنى، بل منع الأصنام. فالموضوع المطروح في صنع آلهة الذهب أو الفضة ليس في أن نمثّل يهوه بشكل صورة، بل بأن نصنع أصنامًا، وبالتالي نخلط (ونشوِّه) عبادة يهوه مع عبادة الآلهة الغريبة.
ويتابع النص فيحدّثنا عن أمر يتعلّق بتشييد مذبح من تراب أو من حجارة غير منحوتة، من أجل تقديم الذبائح. لماذا يمنع وجود الحجارة المنحوتة؟ لأنها تعني إدخال الأصنام في شعائر العبادة. وهذا الادخال يشكّل انقطاعًا عن الاشكال التقليدية في عبادة الرب، كما ورثها الشعب منذ حياة البداوة. لقد دخل الشعب في حضارة جديدة، منذ ترك حياة البدو وأخذ بحياة الحضر، فواجه وضعًا مستحدثًا. لهذا جاء هذا الأمر كردّة فعل محافظة نبتت في هذا الشعب بوجه خطر الانحلال الذي يشكّله هذا الوضع.
إنتقل الشعب العبراني إلى حياة جديدة، وعاش بجوار الشعوب الكنعانيّة وشعائر عبادتها. لهذا بدا إدخال الأصنام في عبادة يهوه تشويهًا لهذه العبادة، بل خيانة للرب تقود المؤمنين إلى فقدان هويّتهم.
هذا ما نكتشفه في أزمة أشارت إليها كرازة النبي إيليا (معنى اسمه: إلهي هو يهوه، الرب). فتجاه الخلط المسيطر في مملكة الشمال (عاصمتها السامرة) بين عبادة يهوه وعبادة بعل، إنتصب إيليا وأعلن: لا مساومة ممكنة بين يهوه وبعل. "إلى متى أنتم تعرجون بين الجانبين (تميلون تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال)؟ إن كان الرب (يهوه) هو الاله، فاتبعوه. وإن كان البعل هو الاله فاتبعوه" (1 مل 18: 21). فإذا كان يهوه هو الله، فلا مجال لشعب اسرائيل أن يقول إنه من المفيد له أن يلجأ إلى معونة بعل لا إلى معونة الرب. وبكلام آخر، ليست الصورة بحدّ ذاتها في قلب الازمة، بل العبادة المؤدّاة لآلهة أخرى. وفي كرازة إيليا التي هي كلها في خدمة مطالبة يهوه لشعبه بأن تحصر في العبادة فيه، لا يعبّر النمو عن هذه المطالبة عبر تأكيد يقول إن عبادة يهوه هي عبادة من دون صور، بل عبر تحريض يقول بأن يعبد الشعبُ الرب وحده. وهذه المطالبة بحصر العبادة في الله، التي آلت بصورة مباشرة إلى تحريم الاصنام، تقود إلى التعبير عن منع الصور.
3- النبي هوشع
وتنفتح نظرة جديدة في القرن الثامن، في كرازة النبي هوشع. فللمرة الأولى تقود المطالبة بحصر العبادة بيهوه، إلى انتقاد الصور والتنديد بها. فقد هاجم هوشع، شأنه شأن إيليا، خيانة اسرائيل. ولكنه شدّد على طبيعة هذه الخيانة التي تظهر بصورة خاصّة في العبادة المقدّمة للأصنام. قال: "افرائيم محالف للأصنام" (4: 17). وقال: "ذبحوا للبعل وقدّموا البخور للأصنام" (11: 2). وسيقول افرائيم (ممثّل اسرائيل): "ما لي وللأوثان" أي يجب أن أبتعد عن الأوثان.
هذه الاوثان هي صنع أيدي البشر. هذا ما نقرأه في 8: 6 عن عجل السامرة: "صنعه صانع. إذن، ليس بإله". وفي 13: 2: "والآن يزدادون خطأ: يصنعون لهم مسبوكات من فضتهم، يصنعون أصنامًا بفنّهم. كل هذا عمل صنّاع". ويقول أهل السامرة: "لا نقول بعد لصنعة أيدينا: أنت الهنا" (14: 4). ويهاجم هوشع بصورة خاصّة صنمًا يجسّم أكثر من غيره خطيئة اسرائيل: هو ثور بيت إيل.
فهذا الثور الذي يسمّيه هوشع هازئًا "عجل السامرة" (8: 5)، قد جاء به يربعام الأوّل في نهاية القرن العاشر. جاء به إلى مملكة الشمال ليزاحم العبادة في أورشليم (1 مل 12: 26- 29). وما يلفت انتباهنا هو أن هذا الثور لم يكن موضوع تنديد قبل هوشع. فإيليا وعاموس اللذان عرفا معبد بيت إيل، لم يتّخذا موقفًا من هذا الثور. وهذا ما جعل عددًا من الشرّاح يستنتجون أن ثور بيت إيل لم يكن له في عبادة اسرائيل الوظيفة التي لعبتها الاصنام الكنعانية. بل هو شيّد ليقابل تابوت العهد (أي عرش الله) والكروبيم الموجودين في هيكل أورشليم. فلا التابوت ولا الكروبيم كانوا صورًا عن يهوه، بل موطئ قدم له وعرشًا. كانوا يدلّون على حضور الله، ولكنهم لم يجعلوا هذا الحضور ملموسًا. فالصنم يجعل الاله يقع تحت الحواس فتراه العين وتلمسه اليد. أما الكروبيم فما كانت العبادة تتوجّه إليهم. وكان التابوت يدلّ على حضور الله مذكّرًا بأعمال الله العظيمة في قيادة شعبه إلى أرض الميعاد. وكذلك اعتبر اسرائيل أنه شيّد الثور للاله الذي أخرج اسرائيل من أرض مصر (1 مل 12: 29).
ولكن الثور (أو: العجل) اختلف عن التابوت (تابوت العهد الذي كان فيه الوصايا)، فكان صورة تمثّل حيوانًا، وحيوانًا يدلّ بصورة خاصّة على القدرة الالهية التي يلتمس المؤمن تدخّلها حين يتعبّد للبعل. حينئذ نفهم أنه ساعةَ وجّهت الرغبةُ في الغنى شعب اسرائيل نحو إله الخصب، لينال منه الخبز والماء، والصوف والكتان، والزيت والخمر (هو 2: 7). في تلك الساعة بدا من الضروري أن نخلّص عبادة يهوه من كل ما يبدو تلميحًا إلى هذا الاله. إن كان دخل ثورُ بيت إيل بشكل موطئ قدم، فيبقى أن هذا الثور الذي هو صورة وصنم يلمّح إلى عبادة بعل.
وحين نربط هذه الصورة بعبادة يهوه، نجعل من موقفنا عبادة مقدّمة لإله غير الاله الحي.
وعى النبي التباس هذه الصورة في ظرف حرج في تاريخ اسرائيل، فطرح السؤال حول هذه الصورة بحدّ ذاتها. فالصورة ليست حيادية. وبقدر ما تحمل شكل عنصر من عناصر العالم، فهي تتنجّس بهذا العنصر حين نستعملها. والصورة في حدّ ذاتها لا تستطيع شيئًا ضدّ هذا الالتباس الذي يرافقها. ولهذا، وحين لم يكن صنعُها وليد الشرك وعبادة الاوثان، فهي توقع الانسان في وقت أو آخر في عبادة الاوثان.
هذا هو وضع ثور بيت إيل الذي تضمّنت صورته إمكانية الخلط بين يهوه وبعل. وساعة صار هذا الخلط واضحًا، لم يعد بالامكان حماية الشعب من الشرك إلاّ بشجب الصورة على أنها تعبير عن الخطيئة. وفي هذا المعنى نستطيع القول إن خبر العجل الذهبي في خر 32 ينتمي إلى آثار كرازة هوشع.
ويبدو بشكل مماثل أن التعرّف إلى هذا الالتباس في الصورة، قد قاد خلال إصلاح حزقيا، إلى تدمير الحيّة النحاسيّة (2 مل 18: 4). فكتاب الملوك يشدّد على ما يلي: إن هذه الحيّة النحاسيّة التي تُنسب إلى موسى، كانت موضوع إكرام، ولم يكن هناك أي تحفّظ في إكرامها. غير أن وجودها في شعائر عبادة يهوه طرح سؤالاً ساعة أحسّت مملكة يهوذا بضغط الامبراطورية الاشورية: فإذا أراد الشعب مقاومة هذا الضغط، وجب عليه أن يزيل كل ما يشكّل خلطًا بين عبادة يهوه والعبادة الاشوريّة.
مثل هذا الخلط لا يظهر في كل الظروف، بل في وضع تاريخي خاص يفترض جوابًا خاصًا. في هذا المجال، لا يرتبط تدمير الحيّة النحاسية بمبدأ محاربة الايقونات، بل هو يدلّ على إرادة الملك حزقيا بأن يجابه الخطر الاشوري، وذلك بأن يجذّر وجود الشعب في أمانة لعبادة الله وحده.
فلا التنديد بثور بيت إيل بفم هوشع، ولا تدمير الحيّة النحاسية بيد حزقيا، يبدوان تطبيقًا لمنع الصور بشكل عام. فمثل هذا المنع ينتج بالأحرى من الخبرة التاريخية التي عرفها الشعب خلال أزمات هدّدت وجوده كشعب الرب. لذا، نحن أمام تطبيق لوصيّة تمنع المؤمنين من تأدية العبادة للآلهة الغريبة. وساعة عبّرت النصوص للمرّة الأولى عن هذه الوصيّة، بدا منع الصور تحقيقًا لمطالبة الرب بحصر العبادة فيه: بما أن الصورة تفتح الباب أمام الديانات الغريبة، مُنعت منعًا مبدأيًا.
خاتمة
إن التقليد التدويني الذي يشهد له سفر التثنية، وحيث يشكّل منع الصور وصيّة واحدة مع منع العبادة للآلهة الغريبة، إن هذا التقليد يقابل المرحلة الأولى في التعرّف إلى الصورة. فانطلاقًا من الوقت الذي فيه طالب الرب شعبه بالعبادة، عرف الشعب الصورة في التباسها، فرفض استعمالها في شعائر العبادة. ولكن بقدر ما عُبِّر عن منع الصور في منظار الوصيّة التي تمنع التعبّد للآلهة الغريبة، بدا هذا المنع منعًا للأصنام، ولم يحتفظ من الصورة إلاّ المغزى المرتبط بعبادة الأوثان.
هنا نترك السؤال الذي يُطرح مرارًا. هل منع الصور يعني أولاً صور الله أو صور الآلهة الغريبة؟ فبالنسبة إلى شعب لا تقليد إيقونوغرافيا خاصًا له، إلى شعب يواجه أوثان الشعوب الكنعانية، فكل صورة عبادية ستظهر عاجلاً أو آجلاً كأنها ينبوع خلط بين يهوه والآلهة، كأنها ينبوع خيانة لله الواحد.