الفصل السابع
ظهور الله في سيناء
خر 20: 18- 21
حين نقرأ خر 19- 20، نحسّ كأن الشعب يستعد للقاء بالرب. سنرى البروق ونسمع الرعود، ونتعرّف إلى وصايا الله العشر وفيها بداية إعلان الرب لشعبه: "أنا هو الرب الهك، لا يكن لك آلهة سواي" (خر 20: 2- 3). وفي هذه المتتالية الواسعة نتوقّف عند خبر الظهور الذي نجد هدفه في كلام موسى للشعب في خر 20: 20: "لا تخافوا. جاء الله ليمتحنكم ولتكون مخافته نصب عيونكم لئلا تخطأوا". فالتحريض الذي بدأ بعبارة "لا تخافوا" يودّ أن يكون كلمة تشجيع للشعب وتفسيرًا للحدث الذي عاشه العبرانيون حين تسلّموا "الوصايا".
1- مخافة الله
يقول النص: "إضطربوا (ارتجفوا) ووقفوا على بعد" (آ 19ب). "وقال لهم موسى: "لا تخافوا... جاء الله... لتكون مخافته نصب عيونكم" (آ 20)
إن خطبة موسى الصغيرة هذه مبنيّة، في إيجازها، بناء محكمًا. هي تتألف من عنصرين: تحريض يقول: "لا تخافوا". وتبرير لهذه الدعوة إلى الهدوء والصفاء. وإن هذا التبرير يأخذ بعين الاعتبار الحدث المركزيّ: "جاء الله". ونجد حول هذا الحدث جملتين تدلاّن على الغاية: لكي، لكي. "لا تخافوا. جاء الله لكي يمتحنكم (ليؤثّر فيكم، ليطبعكم بحضوره). ولكي تكون مخافته نصب عيونكم (عليكم، على وجوهكم) لئلاّ تخطأوا" (آ 20).
إعتاد الشرّاح أن يترجموا الفعل العبري (نسه): امتحن، تحقّق... (رج خر 15: 25؛ 17: 1- 7). فالأفضل أن نقول: جعله يختبر. في هذا المعنى نقول: جاء الله ليختبر اسرائيل من هو في الحقيقة. ليعي اسرائيل حضوره. ثم إن الغاية تشير إلى الطريقة التي بها يظهر الله: هذا الحضور يؤثّر في الشعب فيحتفظ اسرائيل بذكراه، ويحرّك هذا الظهور عنده ردة فعل خلاصيّة ودائمة. ولكن ما هي طبيعة هذا التأثير؟
هذا ما يحدّده موسى في الجملة الغائيّة الثانية. نجد في تعبيرها بعض المفارقة. "لا تخافوا... لأن الله جاء لتكون مخافته عليكم". في الواقع، تعبّر هذه المفارقة عن لاهوت عميق. فأمام هذا الظهور المدهش والساحق لهذا البهاء الالهيّ الذي يفرض نفسه، "خاف الشعب وارتجف" (آ 28 ب). بل منذ خر 19: 16 كان الشعب يرتعد. تترجم هذه الافعال الثلاثة (خاف، ارتجف، ارتعد) الرعدة أمام ظهور لا متوقّع ورهيب لقدسيّ يجتاح حياتنا اليومية. قال موسى: لا تخافوا. أي: لا يتغلب عليكم الخوف والوهل. لا يتغلّب عليكم الذعر المفاجئ. فهذه الرعدة "المقدسة" (كأننا أمام السحر) ستزول إلى الأبد.
فالتيوفانيا تجعلنا نشهد علاقة باللاهوت كلها جديدة. نشهد تحوّلاً جذريًا من رعدة مقدسة إلى مخافة لاهوتية وأدبية. وهذا الشكل الجديد من الرهبة يستبعد كل ذعر، ويشير إلى علاقة من الثقة مع الله. وفي الوقت عينه، فالخبرة التي يمنحها الله لاسرائيل تُدخل شعبَه في موقف شخصي يكون فيه الانسان وجهًا إلى وجه مع الله.
وهكذا ننتقل من خوف أمام الله (كما يخاف العبيد) إلى مخافة الله (كما يخاف الأبناء). نحن أمام مخافة من هذه الاله الذي نعرفه، مخافة لاهوتية، لأنها تلد من خبرة علاقة مع شخص نخاطبه ونقول له: أنت (خر 19: 19). هي مخافة أدبية لأنه ستساعد اسرائيل على "ألاّ يخطأ".
ونُجمل كلامنا: إن هذا اللقاء يفتح مرحلة جديدة من العلاقات بين الله والبشر. وهذه المرحلة تتأسَّس على مخافة هي أبعد ما تكون عن الرعدة. مخافة تتألّف من اكرام واهابة، من ثقة، من احساس بالسرّ، من التزام أبديّ بأن نعيش أمانة لا غبار فيها تحت سلطة ذلك الذي سيكون إله شعبه الخاص. هماك انتقال من إدراك لقدسيّ لاشخصيّ نحسب به وكأنه قوّة اعتباطية متقلّبة الاطوار، إلى اكتشاف شخصي متعال ولاشك، ولكنه يفتح حوارًا (إنه إله يتكلّم) ويفرض حياة من القداسة ("لئلا تخطأوا").
بما أن الله قدّم ذاته بشكل من الأشكال، بما أنه سلّم نفسه لكي نختبره، وُلد في قلب اسرائيل خوف حقيقي تجاه الله. وهكذا روى لنا النص خبرة الله كما عاشها اسرائيل.
2- الظهور هو أساس مخافة الله
"جاء الله". هذا التأكيد المركزي (من الوجهة الادبية والوجهة اللاهوتية) لتفسير موسى، سيتوسّع فيه الخبر نفسه. إتخذ الله مبادرة اللقاء بشكل جعل علاقة الانسان بالله تتحوّل تحوّلاً عميقًا.
أ- جبل الله
نجد في التقليد الالوهيمي (خر 19: 2 ب، 13 ب، 16- 17) لفظة "الجبل" فقط دون تحديد آخر للموضع. ولن نجد لفظة "حوريب" في ف 19- 20. أمّا لفظة "سيناء" فترتبط بالتقليد الاشتراعي (خر 19: 11 ب- 18) أو الكهنوتي (خر 19: 20- 23). غير أن التعبير في خر 19: 2 ب، 3 أ يدفعنا إلى تفسير "الجبل" على أنه "جبل الله". هذا إذا قرأنا آ 2- 3 على الشكل التالي: "خيّم اسرائيل تجاه الجبل حين صعد موسى إلى الله".
هذا التعبير يجعل اسرائيل (الذي هو في السهل) أمام الله الذي هو على الجبل. وهذا يجعلنا نقول إن الله يقيم في الجبل. واستعمال أل التعريف في 19: 2 ب (الجبل) يدلّ على أننا أمام جبل محدّد، أمام جبل معروف. فإذا عدنا إلى الخبر الذي سبق هذا النص، نجد أن الجبل المذكور يسمّى "جبل الله" (خر 18: 5؛ رج 3: 1 ب). في هذا النص الاخير تمتدُّ الجملة امتدادًا: "ساق موسى قطيعه إلى ما وراء البريّة إلى جبل الله، إلى حوريب". ويرى بعضهم في هذه المواقع الثلاثة أثرًا لتقاليد ثلاثة. يعود الموقع الاول (ما وراء البريّة) إلى التقليد اليهوهي. والثاني (جبل الله) إلى التقليد الالوهيمي. والثالث (حوريب) إلى التقليد الاشتراعي.
ونقرأ في 19: 17 أن موسى "أخرج إلى لقاء الله" الشعبَ الواقف عند أسفل الجبل. وكنا قد قرأنا في خر 3: 11- 12 (تقليد الوهيمي) أن الله أعلن لموسى: حين يخرج الشعب من مصر، يعبد اسرائيل الله على هذا الجبل. وها إن النبوءة قد تحقّقت في خر 19: 17: فالذي "أخرج الشعب من مصر" هو الذي "أخرج الشعب لملاقاة الله". فلقاء الرب والشعب على الجبل يبدو كنهاية للخروج الذي بدأ في خر 3. فالجبل الذي هو موضع اللقاء، هو في الوقت عينه موضع الخدمة الليتورجية والتعبّد لله. كل هذا يدلّ على أن الجبل هو موضع سكنى الله.
نستغرب في هذا النص الالوهيمي أن يكون موسى اتخذ المبادرة "وصعد إلى الجبل لملاقاة الله" (19: 3 أ). لا نجد ما يشير إلى أن الله دعاه للقائه. ولا يقول النص أيضًا لماذا صعد موسى وصعد وحده إلى الله. هل نحن أمام موضع حجّ عُرف كمكان مقدّس وكمسكن الله؟ ربما. ولكن إذا عدنا إلى 19: 17 نفسّر "الخروج لملاقاة الله" كجواب على ظهور الله الذي أشارت إليه العاصفة. ومهما يكن من أمر فإن 20: 20 تزيل الحاجز: "جاء الله" بمبادرة خاصّة منه. ومهما تكن الاسباب التي دفعت موسى ليصعد الجبل، فالله هو الذي يتكلّم أولاً (19: 10- 11 أ).
هل هناك من تعارض بين "جاء الله" وفرضيّة إقامة الله على الجبل؟ كلا. فالخبر الالوهيمي لا يذكر نزول الله على الجبل. وهكذا نفهم أن الله ظهر عبر تيوفانيا (العاصفة بما فيها من رعود وبروق وسحاب)، وكشف عن حضوره الذي ظل خفيًا إلى تلك الساعة، وقدّم نفسه في لقاء ليختبر شعبُ اسرائيل حضورَه. في هذا المعنى نقول إنه "جاء". وفي النهاية تبقى في يده مبادرة اللقاء ومبادرة الظهور.
ب- الاستعدادات (19: 11- 15)
لكن مجيء الرب هذا يتطلّب من الشعب تهيئة واستعدادًا. وتُجمل آ 10 هذا الاستعداد حين تتحدّث عن "التقديس". ما معنى "قدس" (قدش في العبرية)؟ جعله يتقدّس. فولْي النص يبيِّن أن الشعب لم يكن جامدًا وعاطلاً عن العمل. قالت الرب: "ليغسلوا ثيابهم". إذن، يتحقَّق تقديس (تكريس) الجماعة عبر هذا التطهير (الغسل). وموسى الذي "يكرّس"، أو "يقدّس" الشعب، يتسلّم مهمّة تقوم بأن يسهر على تنفيذ أمر الله. يبدو التكريس أمرًا إيجابيًا وهو لا يشير أبدًا إلى انقطاع وانفصال. نحن أمام تكريس من أجل... تكريس لله، تكريس من أجل اللقاء بالله. وعلى موسى أن يهيِّىء الشعب ليقترب من الله.
حينئذ تتّخذ التعليمات حول الطهارة كل معناها. فالتقليد الالوهيمي يهتم بها، لأنه يكرّرها في إطار أمر يرسله الله (19: 10- 11 أ) فينفّذه الشعب (19: 14- 15). تتوخّى هذه الأوامر بأن تقتلع اسرائيل من الدائرة الدنيويّة لتدخله في العالم الالهي وتجعله جديرًا بالاتصال بالله. فالنجاسة الخارجية ليست شرًا في حدّ ذاتها. هي لا تمنعنا من الحياة بقدر ما الشخص المنجّس لا يتصل بقداسة الله: وحده الاتصال المنجِّس يثير غضب الله. فالنجاسة في العهد القديم، هي ما يحرمنا رؤية الله (أش 6: 5).
من هذا القبيل يُلقي هذا النص الاشعيائي ضوءًا على ما نقول: فتجاه القداسة الساطعة لدى إله يتقدّم إلى الانسان، يدرك النبي حالاً أنه نجس (غير طاهر): "ويل لي لأني رجل دنس الشفتين". استعمل كلمة "شفتين" فدلّ على أن هذه "العاهة" تمنعه من الكلام مع الله والاتصال به. فحضور اللاهوت يصبح تهديدًا لمن طُبع بهذه النجاسة. وإذا أردنا أن تُمحى هذه النجاسة، وجب علينا القيام بعمل خاص يعود إلى عالم النقاوة والقداسة: "جاء إليّ أحد السرافيم (المحرقين)، وأمسك بيده جمرة أخذها بملقط عن المذبح. لمس فمي وقال: إن هذه قد مسّت شفتيك فأزيل اثمك وكفّرت خطيئتك" (أش 6: 7). عندئذ قُبل النبي في مجلس الله، واستطاع أن يبدأ الحوار معه. إن التطهير جعل الاتصال ممكنًا. وفي خر 19: 10 طلب الله فوجب على موسى أن "يقدّس" الشعب تقديسًا يبدو بشكل تطهير: "غسلوا ثيابهم" (19: 14). فموسى رجل الحياة الحميمة مع الله (19: 3 أ) عمل مع الشعب باسم الله (19: 10- 11 أ) ما عمله السرافيم مع أشعيا.
لاشكّ في أن أش 6 يتطلّع إلى أكثر من نجاسة طقسية (تمنع الانسان من ممارسة طقس من الطقوس. مثلاً، لمس ميت). هو يشير إلى نجاسة (عميقة) الخليقة أمام الخالق. وإحدى سمات هذه الرؤية هي مزج بين العبارات الليتورجية والعاطفة الداخلية. فالنجاسة والخطيئة يتطابقان هنا. غير أن الخطيئة لا تنحدر إلى مستوى نجاسة مادية، بل إن النجاسة الطقسية تصبح أمرًا باطنيًا. في البداية ومع 19: 10- 15، لم نصل بعد إلى هذا المستوى. غير أن خبرة الله على الجبل ستجعل هذا الشعب الذي لم يزل فجًا في عاطفته الدينية، ستجعله يدرك أن خلف النجاسة الطقسية نجاسة أخطر، هي نجاسة الخطيئة التي تبعد الانسان عن الله. فعلى الطهارة الطقسية أن ترافقها قداسة أخلاقية. قال موسى: "لئلا تخطأوا". ومقابل هذا، تبدو قداسة الله على أنها قداسة على مستوى الحياة والأخلاق.
وهذه القداسة التي تقرّب الشعب من الله، تمتد على أيام كثيرة: اليوم، غدًا، "في اليوم الثالث". نحن هنا أمام رسمة مأخوذة من التقليد الليتورجي. ومن هذا التقليد أخذت أيضًا عبارات مثل: "ليستعدوا" (19: 11، 15؛ رج عا 4: 12)، أو "لملاقاة الله" (19: 17؛ رج عا 4: 12). تهدف هذه المهلة إلى أن تجعل الجماعة تعي أهميّة العمل الذي سيقوم به الله، وأن تشدّد على المسافة الشاسعة بين العالم الدنيويّ وعالم القداسة. نحن نحتاج إلى فترة من الزمن وإلى استعدادات طويلة لنقترب من الله ونشارك في القدسيّات، نشارك في سماع كلمة الله.
ولكن النص لا يشدّد على الانفصال بين الله والشعب كما يفعل التقليد الكهنوتي. قد يُسمح للجماعة أن تدوس الأرض المقدسة بعد أن تقوم بالتطهيرات الضروريّة والمناسبة. أما التقليد الكهنوتي فيشدّد باحتفال ويكرّر تشديده بأنه لا يحق للشعب أن يمسّ المكان المقدس (19: 12- 13 أ، 20- 25): "إياكم أن تصعدوا الجبل أو تمسوا طرفه. فكل من مسَّ الجبل يُقتل قتلاً". في التقليد الالوهيمي، لا يُمنع اسرائيل من الصعود إلى الجبل. غير أن اسرائيل هو الذي يخاف أمام الظهور الالهي المرعب، فيتوقّف عند أسفل الجبل. الشعب هو الذي يتباعد ولا يتجرّأ على الاقتراب (خر 19: 17؛ رج 20: 18 ب). بل إن موسى يعلن أن هذا الخوف يجب أن يزول (20: 20). من الواضح أن الاله يتقدّم إلى اللقاء في موقف من العطف والرحمة كما تقول العبارة "لئلا تخطأوا". نحن هنا أمام لاهوت متوازن يعبّر ببعض كلمات عن قطبَيْ سر الله: التعالي والقرب.
ج- الظهور التيوفاني (19: 16- 19)
"اليوم الثالث" هو يوم اللقاء بعد فترة زمن الاستعداد: "وحدث في اليوم الثالث عند الصباح أن كانت رعود (أصوات) وبروق وسحاب كثيف على الجبل" (19: 16 أ). ونص يش 3: 5 الذي يُحلّ اليوم الثاني محل اليوم الثالث، يعطي معنى هذا الظهور: "تقدسوا (تطهروا) لأن الرب في غد يعمل العجائب في وسطكم". إن هدف هذا الاستعداد الطقسي الذي فرضه الله ونفّذه الشعب، هو معجزات الله. كان النبي عاموس قد دعا اسرائيل بشكل ساخر وقاس إلى ملاقاة الله. ولكنه لقاء من أجل الدينونة والعقاب: "إستعد، يا اسرائيل، لملاقاة إلهك" (عا 4: 12). أما هنا، فاللقاء هو من نوع آخر.
ونجد أيضًا عبارة "ملاقاة الله" في خر 19: 17: "أخرج موسى الشعب لملاقاة الله خارج المحلّة" (أو: المخيّم). نحن هنا أمام تطواف ليتورجي، تكون ذروته اللقاء "على الجبل". هنا نقرّب بين 19: 17 و3: 12: "حين تُخرج الشعب من مصر، تعبدون الله على هذا الجبل". سيستعيد التقليد الاشتراعي هذا الموضوع بأسلوبه الخاص فيقول: "رأيتم ما فعلت في مصر. كيف حملتكم على أجنحة النسور وجعلتكم تأتون إليّ" (خر 19: 4).
إن تصوير الظهور الالهي أو بالأحرى الاطار الظهوري الذي يرافقه، هو أسلوب معروف. العاصفة مع ثلاثة أمور: أصوات، بروق، سحاب. إن خر 19- 20 يستعمل لغة نجدها في مز 18: 8- 15 (ارتجت الأرض وارتعشت، وتزعزعت أسس الجبال...)؛ 29: 1 ي (صوت الرب عظيم القوّة، صوت الرب يكسّر الأرز). نحن هنا أمام صور مأخوذة من تاريخ الديانات حيث الرعد هو صوت اللاهوت الذي يُرعب فيَكشف عن جلاله وقدرته.
أخذ التقليد الالوهيمي هذا القدسي مع عباراته التقليدية، ولكنه تجاوزها محوّلاً إياها تحويلاً جذريًا. فهو لا يدرك العاصفة على أنها إله يُشخِّص قوة الطبيعة التي لا يستطيع الانسان أن يسيطر عليها، والتي تُرهبه بقدرتها وتوقظ فيه بهاء وسرَّ واقع يتجاوزه. ففي الاخبار البيبلي، تصبح العاصفة محض إطار يرافق ظهور الله الحي. ففي مشهد الجبل، الصوت هو الذي يخرج الله (نوعًا ما) من القدسي اللاشخصي. والاشارة في 19: 19 تعلن أن "صوت البوق كان يرتفع شيئًا فشيئًا"، فتشدّد على أن التيوفانيا أدركت ذروتها في الحوار بين الله وموسى في 19: 19 ب.
في مز 29، عبّر الرعد عن صوت الرب. فكلمة "قول" (صوت) التي تعود سبع مرات تستحوذ على ظهورات العاصفة. ونحن في النهاية أمام صوت ذلك الذي "يجلس على الطوفان"، ويتجلّى "ليهب القوّة لشعبه وليباركه بالسلام". إذن، لم يعد الرعد مشخَّصًا ولا مؤلّهًا. إنه شيء نسبيّ تجاه الله المتعالي، تجاه يهوه. ويستعيد خر 19: 16- 19 هذا التحوّل الحاسم، ولكنه يذهب أكثر من مز 29. فهذا الصوت لا يكتفي بأن "يرعد"، بل هو يدخل في حوار مع صوت آخر، صوت ضعيف جدًا، ولكنه صوت جدير بالاحترام، هو صوت الانسان: "كان موسى يتكلّم والله يجيبه بالصوت". عبارة غريبة وقد ترجمها بعضهم بالرعد. ولكن الاطار يدعونا إلى القول: هو صوت الله يتكلّم في الرعد. كان موسى يتكلّم والله يجيبه عبر صوت وكلمة.
إذن، يفتح الله هنا حوارً شخصيًا. وهذا الاله القدير الذي يظهر في البروق والرعود، ترك المبادرة للانسان. ترك موسى يتكلّم أولاً، وكان هو يجيبه. فمع أن هذا الاله مهيب، فهو لا يسحق محاوره، بل يحترم ذاك الذي يتقدّم إليه. ظهور مهيب، ولكنه ليس بمرعب. فالاله جلس يسمع للانسان. هنا نفهم 20: 20: إن الله يريد أن يقيم معكم علاقات لا تكون مؤسَّسة على الخوف والرعدة. ونفهم أن يكون موسى، ذاك الرجل الذي اختبر حوارًا لم يكن يتوقّعه، هو الذي يحمل كلام التشجيع، والتأكيد بأن العلاقات مع الاله قد تحوّلت تحوّلاً كليًا. لهذا، فعلى الموقف تجاه الله أن يتحوّل تحوّلاً جذريًا. يجب أن ننتقل من الرعدة القدسية إلى المخافة اللاهوتية. إختفى القلق أمام ظهور إله لا نعرف كيف يتصرَّف فهو إله يتكلّم، ويرسم طريق اللقاء، ويطلب الطاعة لصوته.
المخافة باقية. ولكن ما هي طبيعتها وعلى مَ تتأسّس؟ لا على الاطار الظهوري الذي يُرهب ولكنه لا يقول شيئًا عن سر الله الذي يتجلّى. إذن، على ماذا ترتكز؟ هنا يبقى النص مقتضبًا بل غامضًا. ففي التقليد الالوهيمي، تدلّ المخافة على الاحساس بسرّ الله وعلى الرهبة أمام متطلّباته (قال موسى: لئلا تخطأوا). ولكن هذه العبارة تحتاج إلى تحديد لهذه المتطلبات. هنا يُطرح سؤال: هل تضمَّن الخبر الاول في خر 19- 20 الوصايا العشر؟ لا شك في ذلك. فكيف يتوقّف الخبر على القول بأن الله كلّم موسى، دون أن يلمّح أي تلميح إلى ما قاله. ثم إن التقابل بين الخبر الظهوري وتفسيره اللاهوتي في 20: 20 يدعونا إلى القول بوجود تعليمات توضح متطلّبة الله بألاّ يخطأوا، كما فرضها الله على شعبه. وأخيرًا، إن لم يتضمّن النص الالوهيمي الوصايا كلها، فما لاشكّ فيه هو أنه احتوى بشكل أو بآخر الوصية الأولى. هذا ما يفرضه حضور مخافة الله الحقيقيّة، حضور المخافة اللاهوتية (أي بالنسبة إلى الله).
خاتمة
هذا هو الحضور الذي يدعو الله إليه شعبه. خاف الشعب "خوف" العبيد، خوف قوّة سحريّة وغامضة. شجّعه موسى ودعاه إلى مخافة من نوع آخر، إلى رهبة أمام الله العظيم والقدوس. وحين دخل موسى في هذه المهابة، استطاع أن يكلّم الله، وأن يستمع إليه. يبقى على الشعب أن يتشبّه بموسى فيعيش هذه المخافة التي تفتح الطريق أمام الحوار مع إله حي بعيد كل البعد عن الاصنام، مع إله يسمع أبناءه ويراهم ويحبّهم. وهو بالتالي يدعوهم إلى التعلّق به دون سائر الآلهة، لأنه إله غيور.