الفصل الرابع
الاله الوطني في زمن الملوك
بتَّ الله عهدًا مع موسى على الجبل أمام الشعب (خر 34: 10). ووعد بمساعدة عجائبية تطرد الاموريين والكنعانيين وسائر الشعوب. وحمل موسى إلى الشعب الواقف عند أسفل الجبل الكلمات الالهية التي دوِّنت على اللويحات (خر 24: 3 رج 34: 27- 28). فتعهَّد الشعب بأن ينفِّذ بنود هذا العهد. إن إله ابراهيم هو إله شخص وعائلة وقبيلة، بل هو إله وطني يعطي أوامره لشعبه بواسطة موسى. وحين يكون بنو اسرائيل مملكة كسائر الممالك سيكون يهوه الاله الملكي، الاله المرتبط بالملك.
1- الاله المنتصر
الاله الوطني هو اله الانتصار والخلاص. يسمّيه مز 18: 51 ذلك الذي يقدّم الخلاص لملكه والمحبة لمسيحه. ومز 74: 12، صانع الخلاص في قلب البلاد. لقد أنشد خر 15: 2 المخلّص القدير الذي أغرق جيش فرعون. هذا ما يقوله نشيد موسى. وستؤلَّف قصائد أخرى لتحتفل بانتصارات الله. ولقد بقيت لنا مقطوعة وردت في "كتاب حروب يهوه": "واهب في سوفه ووادي أرنون، ومصب الوادي الذي يميل إلى موقع عار ويستند إلى حدود موآب" (عد 21: 14). وهناك أيضًا "كتاب يشر" (أو المستقيم) حيث نقرأ نشيد يشوع: "يا شمس، قفي على جبعون، ويا قمر، أثبت على وادي أيالون" (يش 10: 12). نحن هنا أمام معركة سينتصر فيها البطل الافرائيمي بقدرة الله. وتذكر النسخة السبعينية اليونانية "كتاب شعر" أخذ منه هذا البيت عن مسكن الرب: "قرَّر الرب أن يسكن في الغمام المظلم. لهذا بنيت لك مسكنًا، مسكنًا تقيم فيه إلى الابد" (1 مل 8: 13).
تفتخر حوليّات ملوك أشورية وبابلونية ومصر بأعمال التقتيل وبالانتصارات، وتقدّم أناشيد ترفع آيات الشكر إلى آلهة الوطن. ولقد وجدنا مثل هذا الفنّ الادبي في بلاط شاول وداود. وإن شمعي البنياميني سيوبّخ داود بقساوة لأنه كان "رجل دماء" (2 صم 16: 7). وسيقرُّ داود إلى ابنه سليمان في كتاب الاخبار الذي كُتب فيما بعد: "قال لي الرب: "سفكت دماء كثيرة وباشرت حروبًا عظيمة. فلا تبني أنت بيتًا لاسمي، لأنك سفكت دمًا كثيرًا على الأرض أمامي" (1 أخ 22: 8). ولهذا، لن يعطى لداود أن يبني الهيكل الذي يقيم فيه ربُّ السلام.
أنكون أمام عبور جرى بشكل هرب من أرض مصر أو عبور بشكل طرد؟ فالتقاليد ليست واضحة فيما يخص الصراع بين أرض اسرائيل وأرض مصر. لاشكّ في أنه كانت بعض المعارك، لأن الجيوش المصرية احتلت السهول والوديان حتى حوالي 1150 ق م. أما أول حرب سيبدو فيها يهوه إلهًا وطنيًا يحارب من أجل شعبه، فهي الحرب مع بني عماليق (خر 17: 8- 17) الذين هم "باكورة الأمم" (عد 24: 20: عماليق هو باكورة الأمم، أما نسله فإلى الهلاك).
وها نحن نقدّم الحرب مع عماليق كما يرويها سفر الخروج حسب التقليد اليهوهي الذي أخذها عن إحدى قبائل الجنوب: "ثم جاء بنو عماليق وهاجموا بني اسرائيل في رفيديم. فقال موسى ليشوع: إختر لك رجالاً واخرج غدًا لمحاربتهم. وأنا أقف على رأس التلة وعصا الله في يدي. فصنع يشوع كما قال له موسى، وخرج ليحارب بني عماليق. وصعد موسى وهارون وحور إلى رأس التلّة. إذا رفع موسى يديه للصلاة استظهر بنو اسرائيل. وإذا حطَّمهما تغلَّب العماليقيّون. ولما كلَّت يدا موسى، أخذا حجرا وجعلاه تحته. فجلس موسى عليه وأسند هارون وحور يديه، أحدهما من هنا والآخر من هناك. وهكذا ظلَّت يدا موسى ثابتتين إلى مغرب الشمس. فهزم يشوع عماليق وجيشه، وقتلهم بحدِّ السيف" (خر 17: 8- 13).
في الواقع، أقام العماليقيّون إلى الشمال، في النقب أو على جبل سعير (تك 14: 7؛ عد 13: 29؛ قض 1: 16؛ أع 4: 42- 43). قال تك 36: 12- 16 إن عماليق هو من نسل عيسو، إلاّ أنه في الواقع شعب قديم جدًا (عد 24: 20). وفي عهد القضاة انضم إلى المديانيين وسيحاربه داود فينتصر عليه ولن يذكر فيما بعد، أي في 1 أخ 4: 43 وفي مز 83: 8.
قد تكون هناك حرب على مستوى بسيط بين قبيلتين، ولكن النص يكتفي يذكر عمل الله بواسطة عصا موسى وصلاته. هكذا ستصوَّر الحرب على أريحا: إنها عمل ليتورجي. يصلّي الشعب والرب يفعل.
وصلت الينا ذكرى هذه الحرب عن طريقين: واحدة مرت عبر يشوع وبني افرائيم، والثانية عبر هارون وحور. أما موقع المعركة فهو يختلف بين تقليد وآخر. فهذه القبيلة (العماليقيون) القريبة من بني أدوم (تك 36: 13، 16) واجهت بني اسرائيل في الجنوب (1 صم 15؛ 30) وفي الشمال (قض 5: 14؛ 6: 33). وكان مذبح سمّي "الرب رائي" (خر 13: 15)، فشهد لعمل هذا الاله الوطني الذي حمى شعبه المنهك الذي يهاجم في مؤخَّرته (تث 25: 18).
لا تتحدّث التوراة عن انتصارات في شرقي الاردن. فلم تكن معارك مع أدوم ولا مع موآب. فانتصار ياهص ضد سيان الاموري، ملك حشبون، لا يُنسب إلى تدخّل الهي. ولهذا نستنتج أننا أمام هجمة سريعة قامت بها قبيلة من القبائل، ثم جُعلت في الملحمة الوطنية. وتقودنا حادثة حرمة إلى غربي الاردن. إنها انتصار على الكنعانيين في عراد، في جنوب يهوذا. يقال لنا هذه المرّة إنّ يهوه "سمع صوت بني اسرائيل ودفع إليهم الكنعانيين" (عد 21: 1- 3). وحسب قض 1: 17 كانت المدينة تسمَّى: صفاة، فصارت: حرمة. وإن نص العدد والقضاة يتّفقان ليربطا هذا النصر بلاهوت الحرم والتحريم أو الابسال.
إن سفر يشوع يتوسّع مطوَّلاً في لاهوت الابسال الذي يقوم بقتل كل حيّ وبالابقاء على الذهب والفضة وتقدمته لوويم كان ليشوع، البطل الافرائيمي، مدفنه في تمنت حارس في الجبل، وهو الذي أصعد بني اسرائيل من سهول ووديان سيطر عليها المصريون (تؤكّد التنقيبات حضور المصريين على الساحل. في أريحا وفي العربة حتى السلالة 20 أي القرن 12 ق م) إلى غربي الاردن. وينسب إليه التقليد اليهوهي النصر على عماليق (خر 17: 11) في منطقة التلال. ويُنسب إلى يشوع بصورة خاصة نصرُ أيالون الذي أنشده كتاب "المستقيم". ولكن المدوِّن الاشتراعي جعل منه بطلاً وطنيًا لا بطلاً افرائيميًا وحسب. فبعد عبور الاردن، جاء "رئيس جيش يهوه" (يش 5: 14) إلى لقاء البطل في مكان مقدَّس. هذا المكان هو الجلجال حيث خيَّم يشوع. وهناك تجمَّعت القبائل (يش 10: 7) قبل أن تستجيب لنداء الحرب المقدسة. وهذه الحرب هي مقدسة، لأنها حرب يهوه الاله الوطني الذي يطلق صوته (قول) فيتكوّن الشعبُ جماعةً (قهل) رهيبة (عد 22: 4). وفي الجلجال سيعيد شاول تجميع جيشه في حربه ضد الفلسطيين (1 صم 13: 8). وسيظلّ الجلجال معبدًا ملكيًا لمملكة اسرائيل في الشمال، في أيام النبيين عاموس (5: 5: لا تطلبوا بيت إيل، ولا تأتوا الجلجال، ولا تعبروا إلى بئر سبع) وهوشع (9: 5: ظهرت جميع مساوئهم في الجلجال؛ 12: 12: يذبحون الثيران في الجلجال). وكنت تسمع في ذلك المعبد هتافًا شبيهًا بذلك الذي أعطى النصر لجدعون "القاضي": "للرب ولجدعون" (قض 7: 18، 20). فسيف جدعون هو هنا كسيف رئيس جيش يهوه أمام يشوع.
2- من القبائل إلى الأمة الواحدة
لم تكن القبائل تلتئم دومًا كجماعة (قهل) أمام الرب في الجلجال، ذاك المكان المقدس. فإن قض 2: 26- 27 يقوله إن أهود نفخ في البوق في سعيرة، في جبل افرائيم، ليجمع بني اسرائيل على موآب. وسينفخ جدعون المنسّاوي البوق في عرفة ليدعو عشيرة أبيعازر قبل أن ينادي قبائل أخرى (قض 6: 34- 35) ضدّ هجمة مديانيّة في وادي يزرعيل. وتمَّت تجمّعات في بيت إيل قرب بوكيم (قض 2: 1- 5؛ 20: 16: أو الباكين) لفضّ نزاعات مؤلمة بين القبائل. انطلقت دبورة النبيّة من بيت إيل إلى قادش في نفتالي لكي تدعو زبولون ونفتالي لينضمّا إلى باراق (قض 4: 10). وإن نشيد النصر الذي أطلقته باسم يهوه هو "نشيد سيناء" (قض 5: 4- 5)، وهو يدلّ على أنّ نداءها وصل إلى ما وراء الاردن.
لا تذكر دبورة في هذا النشيد إلاّ عشر قبائل، وهذه القبائل تبدو مستقلّة الواحدة عن الاخرى. وهي تتعاهد مع رفيقاتها أمام الرب حسب الاخطار التي تتعرّض لها. وقد يكون عهد شكيم في أرض منسّى، التي فيها عبر يشوع الافرائيمي، تعبيرًا عن حالة التفتّت هذه (يش 24: 1 ي؛ رج 8: 30- 55). أما جدعون المسمّى يربعل، فلم يكن معه إلاّ منسّى وزبولون ونفتالي وأشير (قض 6: 35؛ 7: 23)، مع العلم أن افرائيم كانت ضده. وهذا ما نقوله أيضًا عن يفتاح الذي عارضته قبيلة افرائيم وساندته القبائل الشرق أردنية في جلعاد. شمشون هو من قبيلة دان، وسيخونه رجال يهوذا (قض 15: 10). شاول هو من قبيلة بنيامين، وستجابهه صعوبات داخلية مع "بني بليعال" (أي أناس أشرار، 1 صم 10: 27) وهم من بني افرائيم الذين حسدوه. وقد كان على شاول أن يحارب لا الفلسطيين والعماليقيين وحسب، بل الموآبيين والعمونين والادوميين وأهل صوبة (1 صم 14: 47) المقيمين في الشرف وفي الشمال الشرقي. وسيدعو الشعب مرة إلى طلائيم الواقعة في الجنوب (1 صم 15: 4). ولكن بعد موته، لن يستطيع أبنير القائد أن يجمع حول ابنه ووارثه، اشبعل إلاّ جلعاد وأشير ويزرعيل وافرائيم وبنيامين (2 صم 2: 9). مع أن النص يتحدّث عن "كل اسرائيل".
"كل اسرائيل" عبارة تدلّ على وحدة وطنية تتهيّأ تدريجيًا عبر هذه التجمّعات الحربيّة. وإن تابوت العهد الموضوع في شيلو يشهد لحضور الله الوطني في المعارك. هكذا كانوا ينشدون له حين ينطلقون: "قم يا رب، وليتبدّد أعداؤك وليهرب مبغضوك من أمامك" (عد 1: 35؛ رج مز 68: 2؛ أش 33: 3). وحين كان التابوت يعود إلى خيمته من جديد، كانوا يهتفون: "عد يا رب إلى عشائر اسرائيل العديدة" (عد 10: 36). وهذا المعبد المتنقّل الذي يحمله المؤمنون، قد عرفته القبائل العربية ووجدناه مرسومًا في النقوش المصرية، وسُمّي "يهوه الجالس على الكروبيم" (1 صم 4: 4؛ 2 صم 6: 6؛ مز 80: 2، 99: 1). حين وصل "التابوت" إلى ساحة المعركة، تبلبل الفلسطيون الذين كانوا قد انتصروا في ابن هاعازر (حجر الصخرة) وقالوا: "إن إلله قد جاء إلى المخيَّم" (1 صم 11: 11)، وأعطى النصر لبني اسرائيل. ولما وضع سليمان التابوت في هيكل أورشليم، لم تعد تهتمّ له مملكة الشمال فاستحقّت توبيخ إرميا (3: 16). ولكن سيحترق تابوت العهد مع الهيكل، ولن يتحدّث الكتاب بعدُ عن غطاء التكفير الذي يحجبه.
كانت هناك هجمات وأعمال عنف باسم الاله الوطني، ولكن أقلّ بكثير ممّا يقول لنا المؤرّخ الاشتراعي الذي يحدّثنا عن "ملحمة" الاحتلال. فقد أظهرت الاركيولوجيا أن سقوط العيّ وأريحا لا يرتبط بالاحتلال، بل يفسّر على أنه طقس قديم يدورون فيه حوله مدينة (أريحا) أو حول قبر مشهور (يش 9)، وكانت مكائد كتلك التي أخذت فيها بيت إيل (قض 1: 22- 26). وسيتكلّم التقليد الاشتراعي عن الابسال. وسيقول ميشع، ملك موآب، إنه أبسل اسرائيل ونجح. ومنذ القرن 9 إلى القرن 7 سيحتفل الاشوريون بتدمير المدن ويعتبرون عملهم اكرامًا لاشورية ولآلهتها. ولقد زاد أليشاع (2 مل 13: 14- 19) على مثال الاشتراعي، بعض التشديد في ممارسة هذه الشريعة. ولكن قد نكون أمام تكريس وتدشين لا أمام دمار: فبعد سقوط صفاة على يد شمعون، لم تدمَّر المدينة بل ضمَّت إلى يهوذا وسمِّيت "حرمة" (قض 1: 17؛ رج عد 21: 1- 3). ونلاحظ أخيرًا أن لوحة قض 1: 19- 36 تتحدّث بصورة خاصة عن المدن التي لم تحتلّها القبائل. أجل، الحديث عن التحريم والابسال هو رسمة اشتراعية لم تتحقّق إلاّ في حالات نادرة جدًا.
وهنا نشير إلى إقامة القبائل الاسرائيلية. لقد ظهرت موقتة ومحفوفة بالخطر في نهاية الالف الثاني. ابتعد المصريون فحلّ محلهم الفلسطيون. وكانت جيوشهم تنطلق من الساحل ومن السهول إلى الداخل وبالأخص إلى منطقة بنيامين في شمال أورشليم. استطاعت قبيلة بنيامين أن تتحرّر مع أهود من التسلّط الموآبي عند ضفاف الاردن، وبالقرب من الجلجال. ولكنها دُحرت مرارًا في الجبل وانفصلت عن افرائيم. وعقدت معاهدات مع شفيم وحفيم (1 أخ 7: 12)، مع منسّى في الشرق (ماكير، 1 أخ 7: 15) ومع مدينة يابيش جلعاد (قض 21: 8- 14) التي هدّدها العمونيون. إذًا كانت الرباطات التي تجمع جماعة يهوه الوطنية سريعة العطب. ولهذا بدا تنظيمُ القبائل أمرًا ضروريًا.
وُجدت ملكيّات في أدوم وموآب. أما الاخبار المتعلّقة بتنظيم الملكيّة في أرض اسرائيل، فهي متشعّبة. بعضها يتحدّث عن معارضة القبائل، والبعض الآخر يعكس مقاومة الاوساط النبويّة. ومهما يكن من أمر، فإن شاول البنيامينيّ الذي من جبع، دعا الشعب إلى بازق (هي خان إبزيق في منسّى). غير أن النص لم يذكر عدد القبائل. ولما عاد شاول منتصرًا، أعلن ملكًا في الجلجال بمعاونة صموئيل الافرائيمي. وإن "رجل الله" هذا الذي نجده تارة في شيلو (افرائيم) وطورًا في المصفاة أو الجلجال أو الرامة (بنيامين)، قد ارتبط مع عشيرة افراته التي من بيت لحم يهوذا، كما ارتبط مع شمعون في بئر سبع (1 صم 8: 2). ولولا سلطته لما أقرَّ "أهل بليعال" بالملكية. وحين يختلف داود مع شاول، فهو لن يتنكّر للنظام الملكي. وبواسطته سيُعلَن يهوه، لا الاله الوطني فقط، بل إله سلالة ملكية. وسيعطي شاول بكره اسمًا يهويًا: يوناتان (عطيّة يهوه، مع العلم أن اسم الرابع كان: اشبعل). وهو باسم قدرة يهوه، اله اسرائيل، سينتصر على العمونيين، وسيثبت ملكه على ضفتي الاردن في الشمال، ويقوم بأعمال حربية ضد الفلسطيين والعماليقيين في الجنوب. له نخبة من الجنود، والشعب يتبعه كما يتبع المصريون فرعون، ممثّل إله أمون، والاشوريون ملكهم الذي يتكلّم باسم الاله أشور. ولكن يبدو أن صموئيل استشفّ المشاكل التي طرحها إدخال نموذج ملكيّ غريب. أمّا النزاعات بين صموئيل وشاول فتجد مناخها السياسي في افرائيم الذي حسد سائر القبائل. في الواقع، كانت تكشف اختلافًا عميقًا بين تقاليد إله ابراهيم والايديولوجيا السياسيّة والدينية لشعائر العبادة في ذلك الزمان.
3- النظام الملكي في الشرق
كرَّس صموئيل شاول فاعترف به بنو اسرائيل ملكًا. ماذا يعني هذا بالنسبة إلى الشعب؟ إن الدول في الشرق القديم هي دول ملكيّة، يرتبط فيها مصير الشعب بمصير ملكه. كما كان ابراهيم أب عائلته، هكذا كان الملك أب شعبه. وإله الملك هو إله عائلته وبالتالي إله سلالته. ولكنه في الوقت عينه إله مجموعة العائلات والقبائل التي تشكّل الامّة التي يقودها. كان الاله الوطني في اسرائيل يدعو الشعب إلى الحرب بصوت البوق. وفي العالم الملكي، يختار الالهُ الوطني عضوًا من هذا الشعب يكون "خادمه" لكي يقضي ويخلّص ويسوس الشعب. كانت السلطة القضائية عابرة، ولم تكن تنتقل عادة من الأب إلى الابن. أما الملكيّة فهي محصورة في السلالة. إنها نظام له حسناته وسيِّئاته، شأنه شأن كل نظام.
أولاً: المُلك سلالة
وُلد النظام الملكي في الشرق في نهاية الالف الرابع، وقد ساعد على ذلك نشاط تجاري وزراعي كبير. كانت لا تزال تستعمَل أدوات من حجارة، ولكن عالم الحضر اكتشف منذ زمن بعيد زراعة الحبوب وتدجين البهائم وصناعة الفخار. وحلّت الأواني الفخاريّة محل الاواني الخشبيّة. وسيبدأ قريبًا زمن المعادن، وبالتالي صنع السلاح وبناء الاسوار. والحاجة إلى الامان ولدت "الحاضرة" التي هي كفيلة الحضارة. لم تعد المسألة تقوم في كيف ندافع عن ذاتنا ونبحث عن حماية، بل كيف نخلق أماكن تتنظّم فيها المصالح دون إرادة دماء. ولهذا احتاجت الحاضرة إلى إدارة لتقوم بهذه الخدمات. ومع ولادة البيروقراطية، فالحجارة الصغيرة التي كانت تستخدم لاحصاء المواشي، صارت كتابة. ودوِّنت الاحصاءات والعقود والشهادات وأوراق استلام البضائع وتنظيم الارشيف. لقد تأسّست الحاضرة القديمة على النشاط البشري، على الحقّ والعدل، ولكنها لم تتخلَّ عن الرباطات العائلية.
ما هي هذه المراجع التي بها ترتبط حياة الحاضرة؟ إنها لا تعود إلى نموذج واحد، ففرعون مصر ليس "شارو" بابل، ولا "إنسي" سومر. ولا "ملكو" العالم السامي الغربي. ولكن كل نظام ملكي خرج من توسع سلالي في عائلة ابوانية. إذا أراد "أبو الآباء" أن يقوم بوظائفه تجاه عيلة صارت شعبًا، تحوّل إلى ملك فارتبط مصيره بمصير شعبه، وأقام في قصر مع الموظفين المدنيّين والعسكريّين. أما الموظّفون الكبار فهم مرارًا من أفراد عائلته. فإن ملك مصر هو عضو في سلالة قبل أن يكون فرعون أي بيت إداري كبير. و"إنسي" سومر هو وكيل إله الحاضرة التي تحكمها سلالة من السلالات. و"شارو" الاكاديّ هو رجل عظيم (لوغال) يستطيع أن يتقل مملكته إلى خلفائه. "ملكو" إبله هو "نام إن"، لا لوغال (= ملك) في الاصل. إنه يحمل وظيفة ستصبح سلاليّة حوالي سنة 2300 في م. وستعتبر كتب القراءة "ملكو" السامي الغربي موازيًا لـ "شارو" السامي الشرقي. و"ملكو" (ملك في العبرية والعربية) الذي سيصير شاول، كان في البداية قائدًا حربيًا استطاع أن يردَّ الهجمات الغريبة. ولكن خلفاءه سينظّمون إدارة على مثال النموذج المصرى كما وصل إلى امراء كنعان (مثلاً: ملك أورشليم في القرن 15).
ثانيًا: الملك شخص مكرَّس
إذا كان للملك قدرة على ردّ الجيوش الغريبة، فلأنه لبس الالهَ الوطني والسلاليّ، إله قوّة رفيعة. فالنظام الملكي الشرقي ليس فقط سلاليًا، إنه مكرَّس. هناك كتاب طقوس يدلّ على ذلك، ونحن نعرف تفصيل كتب الطقوس عبر نصوص وصلت إلينا من مصر وأشورية. ولكننا لم نحصل إلاّ على إشارات سريعة بالنسبة إلى بابلونية وآسية الصغرى وسورية. تتنوّع الطقوس وتتنوّع الرموز. وهناك عناصر هامّة: وضع التاج، الجلوس على العرش، هتاف الشعب الذي يبدو كفعل خضوع وولاء من قبل الموظّفين الكبار. وقد عُرف الدهن بالزيت الذي يمنح الملك القدرة من أجل خلاص شعبه. لا شكّ في أن الدهن لعب دورًا ثانويًا في الطقوس الملوكية، ولكنه دلّ على ارتباط الملك بقدرة سامية.
أما في أرض اسرائيل، فقد كانت طقوس التتويج والاجلاس على العرش طقوسًا عامة تدلّ على الاختيار الالهي في نظر الشعب. هذا ما صنع لسليمان عند عين جيحون (1 مل 1: 39)، ساعة كان المتشيّعون لأدونيا يهتفون له قرب عين القصار في وادي قدرون نفسه. أما في النصوص المتأثّرة بعالم الانبياء، فنجد الدهن السري بالزيت: مُسح كل من شاول وداود وياهو مسحة سرية على يد الأنبياء، على يد صموئيل، أليشاع أو رسوله. وإذ تتحدّث أسفار صموئيل والمزامير عن "مشيح" (أي المسيح، الملك الممسوح)، فإن الانبياء لا يستعملون هذه الكلمة إلاّ من أجل كورش، الملك الغريب (أش 45: 1).
وهكذا نرى تحفّظات أوساط المؤمنين تجاه النظام الملكي. جاء من الخارج، فحمل معه أفكارًا دينية لم يقبل بها إله اسرائيل الوطني. لم تكن هناك مشكلة في بداية الملكيّة بالنسبة إلى البلاط والشعب. فنجاح شاول الذي جمع قبائل الشمال وشرقي الاردن، وحارب الفلسطيين والعماليقيين في الجنوب، هو البرهان على أن الرب هو معه ليقضي لاسرائيل "ويحارب حروبه" (1 صم 8: 20). وبعد هزيمة الجلبوع وموت شاول وابنه يوناتان، حمل داود المشعل وسار من نصر إلى نصر وأقام مملكة تعدّت حدود اسرائيل (2 صم 8: 10- 11). حين مات شاول، تنازع أولاده على العرش، ولكن أحدًا لم يعارض النظام الملكي إلاّ في بعض الاوساط النبويّة والكهنوتيّة.
نحن نسمع في عدّة نصوص بيبلية صوت الشعب الذي يرى في الملك حضور إله اسرائيل وعمله. لسنا أمام ممالقة نجدها مثلاً في كلام امرأة تقوع. "سيّدي الملك هو كملاك الله في فهم الخير والشر... لسيدي حكمة كحكمة ملاك الله في فهم جميع ما في الأرض" (2 صم 14: 17، 20). وحين حكم سليمان في قضية المرأتين اللتين تتنازعان ولدًا، رأى فيه كل اسرائيل "حكمة الله" (1 مل 3: 28). لم تكن ألقاب داود غنية مثل ألقاب فرعون، ولكنها ترتبط رباطًا عميقًا بالاله الوطني: "إبن يسّى البطل الذي أقامه العلي، مسيح اله يعقوب، حبيب المحارب عن اسرائيل". إن رغبة من رغبات الملك تدفع الناس إلى أعمال تضحية لا تصدَّق (2 صم 23: 15- 16).
وهذه المسحة تجعل الملك شخصًا مكرّسًا، يكرمه الناس كما يكرمون الله: إن داود رفض أن يرفع يده على "مسيح الرب"، على شاول الذي يلاحقه، رغم الظروف التي تقدّمت إليه، ورغم إلحاح الاشخاص المحيطين به وضغطهم (1 صم 24: 7؛ 26: 11). أما العماليقي الذي اعتبر نفسه أنه قتل شاول فقد أعدم حالاً بأمر داود (2 صم 1: 14). بالمسحة يستطيع الملك أن يخلّص شعبه من الأعداء. وهذه المسحة تمنحه قوّة رفيعة. لقد عبّرت كل حضارة من حضارات الشرق عن هذا الاعتقاد بصور مناسبة. يقول السومريون: إن الاله جبل الملك في حضن أمه وحدَّد له قامته. على جدرانيّة في قصر ماري نرى الملك بقامة ترتفع فوق الكاهن. ويقول لنا 1 صم 10: 23 إن شاول "يزيد طولاً على الشعب كافة من كتفه فما فوق". والمسحة تعطيه قوة خارقة شبيهة بقوة شمشون. أما الفتى داود فسيقتل جليات الجبار بحجر رماه بمقلاعه (1 صم 17). ولكن هذه القوّة جاءته والمهارة، لأن روح الرب حلّ عليه في المسحة.
4- مسيح الرب
أولاً: مسيح يهوه وروح الرب
هذا الروح سيصير الروح القدس في زمن يسوع الناصري. ولكن قبل أن يعرف الاسرائيليون روح الرب المقدّس، وما تدلّ عليه هذه القداسة، أخذت كلمة روح مدلولات عديدة لم تُنكر التوراة أنها جاءتها من الخارج. في نظر المصريين: لكل انسان "كا" خاص به، هو عنصر غير فاسد يتيح للكائن الفاسد أن يُتمّ عملاً وأن يدوم بعد الموت. كان للملك عدة "كا" عند بني اسرائيل. الروح يدخل في "مسيح يهوه". فالله يعطي بروحه الحياة لكل الخلائق ولاسيّما للانسان (تك 6: 3): "ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض" (مز 104: 30). إذا استعاد الرب الروح الذي أعطاه، تموت الخلائق. بعد أن دهن داود بالزيت نال الروح (1 صم 16: 13). أما الروح فقد ترك شاول الذي تأثّر بروح شرير. ويقول 2 صم 23: 2 إن الروح جعل داود الملك يتلفّظ بكلماته الاخيرة. الروح هو في أصل قوة الحياة التي تملأ العالم: إنه جوّ لا يدرك ولا يُرى بين السماء والأرض، إنه الجوّ الذي يأخذ منه الناس والبهائم (وهي نفوس، نفش حيه) قوّة الحياة. ويتفرّع من هذا المعنى الاول معان أخرى: الفراغ، نقاط الكون الاربع، الهواء النسيم أو العاصف، طبع البشر المرتبط بمشاركتهم في هذا المحيط الحياتي. وأخيرًا: روح الرب (1 مل 18: 12؛ خر 3: 14...). لن ننسى أبدًا المعنى الاول: قوّة حياة ترتبط بالله في الخلق (تك 1: 2؛ 3: 8...). وقوّة الحياة هذه التي تنساب إلى الملك حين يُمسح، تفعل فيه كالزيت في الجسم. فتعطيه القوّة والصحة (كما يقول البابليون). وحين تتحدّث التوراة عن عمل الله في مسيح يهوه فهي تقول مثلاً: كان روح الرب عليه (أش 11: 1).
ثانيًا: مسيح يهوه هو ابن الله
إن المسيح لبس القوّة الالهيّة ليخلّص شعب الرب وهو مع الله راعي شعبه وقاضيه. تعوَّد الشرق القديم على فكرة المشاركة في العرش وفي السلطة. مثلاً: إن الفرعون يملك مع أبيه. بما أن الاله الوطني كان أب ابراهيم وأب نسله، لم تكن هناك صعوبة أن يقال في اسرائيل كما في مصر وبابلونية وفينيقية أن الملك هو ابن الله، وهو يشاركه في وظيفته وفي ميراثه: "أكون له أبًا ويكون لي ابنًا". هذا ما قاله الرب لداود بفم النبي ناتان حين كلّمه عن خلفه (2 صم 7: 14). وكانت المزامير أكثر وضوحًا، فعبّرت عن الايمان الشعبي خلال الاعمال العباديّة. يورد مز 2 القرارَ الالهي بمناسبة تنصيب الملك: "أنت ابني. أنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7). ومز 110 هو صدى له. ويقول مز 29: 27: "يناديني: أنت أبي والهي". إن هذه البنوية هي في نظر التوراة بنوَّة بالتبنّي. فالولادة الازليّة محفوظة للحكمة الالهية (أم 8: 23). ولكن التقوى الشعبية تحدّثت عن عمل مباشر ومميَّز يقوم به الله تجاه أمّ الوارث الشرعي. فأخذت بما تقوله النصوص المصرية عن ولادة الفرعون (يتخذ الاله شكل فرعون ليتّحد بأمّ الملك العتيد). هكذا نفهم مثلاً تك 4: 1 الذي يتكلّم عن حواء التي تلد "مع" الرب. وتك 3: 15 الذي ينسب إلى سلالة حواء (لا إلى سلالة آدم) الغلبة على الحيّة الرمزية. وأش 7: 14 (رج مي 5: 2) عن المرأة التي هي علامة خلاص بمن تلد.
ثالثًا: الملك والعدل
اختار الله الوطني داود وسليمان وسائر الملوك، وأشركهم بقدرته الحياتيّة فأمّنوا لشعب الله الحياة. حكموه بالعدل والصدق (مشفط وصدقه، 2 صم 8: 15)، وهكذا جاء الازدهار الذي يؤمّن للشعب سعادته. إن الرب قبلَ بالنظام الملكيّ رغم التحفّظات (1 صم 8: 22). فالشعب هو الآن بخير، وحاشية الملك تستفيد من الوضع الحاضر (1 صم 8: 11- 18). ولكن ستتبدّل الامور حين يفرض سليمان السخرة لا على الغرباء فقط، بل على أبناء شعبه أنفسهم (1 مل 5: 27).
5- الخيمة والهيكل
أولاً: الخيمة
أبرزت التوراة الاعمال الدينيّة التي بها أظهر داود خضوعه لتعليمات يهوه. إنه يسمع الهه ويسأله بواسطة الكاهن أبياتار (1 صم 23: 1- 6) والنبي جاد (1 صم 22: 6؛ 2 صم 24: 12- 18). وبعد أن احتلّ أورشليم وجعلها عاصمته، أصعد إليها تابوت العهد (2 صم 6). مارس أمام التابوت الرقص الطقسي، فاحتقرته زوجته ميكال، ابنة شاول (2 صم 6: 10). وسلّم حراسة التابوت إلى أبياتار، وإلى الكاهن صادوق الذي يرجع بنسبه إلى الكهنة الملوك في أورشليم اليبوسيّة. أقام التابوت في خيمة في "مدينة داود" (2 صم 7: 2)، وخطّط الملك ليجعل التابوت في "بيت"، في هيكل: فآلهة مصر وأشورية يقيمون في هيكلهم المحاذي للقصر الملكي. وحقَّق سليمان هذا المخطّط فبنى هيكلاً في مكان مكرّس أقام فيه داود نفسه مذبحًا يشهد لحماية الله لشعبه بمناسبة الوباء (2 صم 24).
ثانيًا: الهيكل
يكون هذا الهيكل محاذيًا للقصر الذي بناه سليمان: هكذا بُني قصر أشور في خورزباد وسط القصر. لسنا أمام معبد ملكيّ، بل هو حضور الله يقيم بقرب الملك ابنه بالتبني، ويقف حوله الحرس الملكي وكل الخدم الادارية. بُني هذا الهيكل حسب النموذج الفينيقي (مثلاً: تل تعينات) بمساعدة مهندسين وبنَّائين فينيقيين. ولكنه معدّ ليهوه، الاله الوطني، "الجالس على الكروبيم". إنه يجلس على منصّة في قعر القاعة الكبيرة (دبير): "لقد قرّر يهوه أن يقيم في الغمامة المظلمة". هذا ما قاله سليمان ثم زاد: "بنيت لك مسكنًا ملوكيًا، مسكنًا تقيم فيه إلى الابد" (1 مل 8: 12- 13). إن ثبات الله يكفل ثبات العرش. وحضور الله المستمرّ وسط شعبه المنظَّم الآن في دولة ملكية، لا يرمز إليه صنم كما عند الشعوب المجاورة، بل لوحا الحجر حيث كُتبت الكلمات العشر (ديكالوغ، دباريم). وكما كان الناس لا يقدرون أن يدخلوا إلى المعابد المصرية إن لم يأخذوا بعين الاعتبار بعض المحرَمات، كذلك لا يستطيع المؤمن أن يأتي إلى حضرة يهوه (أمام وجهه) إن لم يحترم الوصايا (مز 15: 1 ي؛ 24: 4- 6).
كما أن ملوك مصر وبلاد الرافدين وفينيقية كانوا كهنة، سيكون الملك في اسرائيل رئيس العبادة كما كان رئيسَ الجيش ورئيس الادارة. وقد يحصل له أن يترأس الاحتفال كما فعل سليمان حين دشَّن الهيكل (1 مل 8: 5). بارك الشعبَ (1 مل 8: 14) وصلّى من أجله (2 مل 8: 20- 40). وصعد الملك أحاز إلى المذبح وقدَّم الذبائح (2 مل 16: 12- 13) ورتَّب العبادة (2 مل 16: 16- 18)، كما نظّم سليمان الكهنوت (1 مل 2: 27). وكما أحلّ فرعون الكهنة محلّه ليقوموا بأعمال العبادة، كان يمثّل ملكَ اسرائيل الكهنةُ أو أبناء الملك أنفسهم (1 صم 8: 18) أو صادوق ونسله (2 صم 20: 25). وسينمو تأثير حُماة المعبد داخل العاصمة الداوديّة في وجدان اسرائيل، ولاسيّما بعد أن شارك يوياداع في إعادة السلالة الداوديّة إلى الحكم حين نصّب يوشيا الصغير (2 مل 11) ملكًا في يهوذا.
ثالثًا: الاله الوطني والعبادات المحلية
ماذا حدث للمعابد الاخرى التي حجَّ إليها الآباء؟ شكيم، بيت إيل، بئر سبع، الجلجال. وكان الصراع عنيفًا مع كهنة نوب حيث كانت عائلة أبياتار. يمكننا القول بطريقة عامّة إن شاول كان قاسيًا بالنسبة إلى المظاهر الهامشيّة في التقوى الشعبيّة (1 صم 28: 9). أما داود فمارس سياسة دينية منفتحة ليضمّ إليه مناطق احتلّها حديثًا. ترك العبادات المحلية في لائيش دان، حيث أقام نسل موسى، وظلّت المشارف (في جبعون مثلاً، 1 مل 3: 4؛ رج 1 صم 21: 6) المكرَّسة ليهوه أو لآلهة أخرى (2 مل 23: 23) قائمة خلال الفترة الملكيّة حتى الاصلاح الاشتراعي (2 مل 18: 22). كان الكهنة عادة من بيت لاوي، ولكن لم يكن الامر دومًا هكذا (1 مل 12: 31). ولقد لاحظنا غياب المدن اللاوية في افرائيم ومنسى بسبب وجود مذابح مكرسة لبعل (سيدمِّر أحدها إيليا على جبل الكرمل).
في أيام داود وخلفائه، الاله الوطني الذي يعُبد في أورشليم كما في السامرة، هو يهوه (أسماء مركبة مع يه، يو، يهو). إنه الرب يهوه اله اسرائيل (خر 24: 23) القاني (خر 43: 14) أي إيل ملكيصادق (تك 14: 19) والفينيقيّين. ولكن الاختام تدلّ على أسماء آلهة أخرين. وكان الغموض حول مدلول الوهيم. هل نترك عبادة إيل بيت إيل في بيت إيل (تك 31: 13)، إيل عليون في شكيم (تك 14: 21)، إيل عولام في بئر سبع (تك 21: 33)، إيل رؤي في المعبد القريب من البئر الواقعة بين قادش وبارد (تك 16: 14)؟ لم يُرد داود أن يدمّر العبادات المحليّة. ولم يتردَّد سليمان في بناء هياكل لآلهة نسائه الغريبات على جبل الزيتون، تجاه الهيكل، وفي السجود لهم (1 مل 11: 7، 33).
رابعًا: اليهوهي واله اسرائيل
أحسّ اليهوهي بالخطر يهدّد الايمان التقليديّ بيهوه، إله ابراهيم، فحاول تدوين شميلة لاهوتيّة عن تاريخ الخلاص. جمع التقاليد القبليّة والمحليّة، واعتبر أن يهوه هو إله أول انسان على الأرض (تك 2: 4- 5). هذا الاله هو الذي شتَّت الشعوب المتحدّرة من سام وحام ويافت. هو الذي أمر ابراهيم بأن يترك وطنه وأقاربه وبيت أبيه فيكون أب شعب كبير تصل بركته إلى كل عشائر الأرض (تك 12: 2- 3). ليست آلهة العبادات المحلية آلهة، بل رسل هذا الاله وملائكته. يهوه هو الذي يتكلّم بفمهم أكان إيل رؤي (تك 16: 13؛ رج آ 10) أو إيل بيت إيل (تك 31: 11؛ رج آ 12) أو إيل عليون على جبل موريا (تك 22: 11. سيكون الموضع الذي عليه يُبنى الهيكل، كما يقول التقليد، رج 2 أخ 3: 2). قبلَ الكنعانيون أن يكون الاله الادنى رسول (ملاك) الاله الاسمى. وهكذا احترم اليهوهي العبادات المحلية وأكّد تفوق الاله الوطني الاوحد عليهم. خلال الاعياد الموسميّة، كان المؤمنون يأتون ليروا هذا الاله في المعبد (خر 34: 23، يرى لا يحضر) أي يقفون بحضرته، لأن ليس من تمثال أو صورة في العبادة الموسويّة. ليس العيد الاهم هو عيد الخريف الملكي الذي فيه يطلبون عودة المطر وتجديد قوى الارض والملك، بل عيد الربيع حيث يتوافق فصح التحرير من مصر مع فطير الشعير وأول حصاد.
في هذه المرحلة الحاسمة حين دوَّن اليهوهي الشميلة اللاهوتيّة الاولى، بدا إله ابراهيم الشخصيّ وإله العهد الموسويّ وإله اسرائيل الوطنيّ، ذلك الذي نقدر أن نجتمع لديه في الصلاة والايمان. خادمه هو الملك الذي اختاره ومسحه فأعطاه قدرته الالهية. وسيكون هذا الخادمُ (أو العبد) داودَ (2 صم 7: 20) أو سليمان (1 مل 8: 29) أو حتى يربعام الذي يحكم على الشمال بعد الانشقاق (1 مل 11: 37- 38).
كان عمل اليهوهي عملاً خاصًا دوِّن ليُنير إيمان كهنة أورشليم الذين تشكّكوا من مشاكل البلاط الملكي، فقام بتصحيحات عديدة في النظرة إلى الملك الذي هو الوسيط الوحيد بين الله والشعب. والمحن التي ستمرّ فيها مملكة الشمال (722 ق م) ثم مملكة الجنوب (587 ق م)، تبيّن أن نظرته مثَّلت أساسًا الطرق التي اتّخذها الرب، إله ابراهيم، ليقود شعبه. طلب منهم أن يمارسوا الحق والعدل. وابن داود الذي سيحمل الازدهار في العدل (مشفط وصدقه) إلى جميع عشائر الأرض، سيكون سليمانَ نفسه.