الفصل الحادي والعشرون
العنصرة أو ولادة شعب جديد في التقليد السرياني
إذا كان كل شيء قد تمّ في المسيح، وإذا كان التاريخ البشري قد استعيد فيه، إلاّ أن العمل ما زال هنا في مدى زمني لبشريّة يجب أن تتحرّر لكي تصبح قيامةُ المسيح قيامتَها. لقد قدّم لنا المسيح ملء حياة الله، ولكنّه لم يفرضها علينا. فيبقى إذن أن يأخذ كل إنسان هذه الحياة التي تتفجّر من القبر، بقرار حرّ. هنا يتحدّد موقع العنصرة التي ينظر إليها التقليد السرياني نظرة خاصة جدًا، وإن ربطها رباطًا حميمًا بسر الفصح. وهذا الارتباط لا يقلّل من قيمة العنصرة ولا من دورها. بل عكس ذلك. فنحن هنا في منعطف جديد وحازم يطبع بطابعه العميق تاريخ الكون وخلاصه. إنه نقطة انطلاق في حقبة يدخل فيها البشر دخولاً حرًا، بواسطة نشاط الروح الذي يفاض عليهم، في المسيح القائم من الموت، ليكوّنوا معه جسدًا واحدًا.
1- العنصرة اليهودية والعنصرة المسيحية
إن هذه الطريقة في النظر إلى العنصرة لم تكن في البدء واضحة في تفكير المسيحية الأولى وتعابيرها. ونشير على المستوى التاريخيّ وإن بشكل عاجل، إلى أن لفظة عنصرة التي نجدها في العهد الجديد (أع 2: 10؛ 20: 16؛ 1 كور 16: 8) ليست خاصّة بالمسيحية. فقد دلّت على عيد يهوديّ يُحتفل به خمسين يومًا بعد الفصح. أما موضوع هذا العبد فقط تطوّر مع الزمن. كان في البدء احتفالاً زراعيًا. كان عيد الحصاد الذي فيه يسيطر مناخ الفرح والشكر. وكان الشعب يقدّم للربّ بواكير الغلال (خر 23: 16؛ عد 28: 26؛ لا 23: 16 ي). وقد سُمّي أيضًا عيد الأسابيع (خر 34: 22)، لأنه يقع بعد الفصح بسبعة أسابيع. بعد ذلك، صار وقتًا يتذكّرون فيه واقعًا تاريخيًا هو العهد الذي عُقد بعد الخروج من مصر (ساعة عيّدوا الفصح) بخمسين يومًا (خر 19: 1- 16). لاشكّ في أن العنصرة صارت تذكّرًا للعهد في القرن الثاني ق م، تذكّرًا للوقت الذي فيه أعطيت الشريعة. وسوف تعمّم في بداية المسيحيّة كما تقول الشهادات الرابينيّة ونصوص قمران.
على المستوى المسيحيّ، يجب أن ننتظر نهاية القرن الثاني وبداية الثالث لنجد شهادات متعلّقة بالعنصرة كعيد مسيحيّ. هي في ذلك الوقت، شأنها شأن العيد اليهودي، عيد فرح وبهجة. ولكن ما كانت تدوم يومًا أو يومين كما في عيد الحصاد لدى اليهود، بل تمتدّ على حقبة سبعة أسابيع تتبع الفصح. أما مضمونها فهو كل السرّ الفصحيّ الذي يتلخّص بشكل خاصّ في انتصار المسيح على الشر وصعوده وتمجيده. نحن هنا في خط بواكير الحصاد، أمام بواكير بشريّة افتداها الكلمة. وصورة البواكير هذه يطبّقها ايريناوس على الجماعة الفتيّة التي كوّنها الروح يوم العنصرة وقدّمها باكورة للآب. وطبّقها أيضًا أوريجانس (185- 254) على الروح الذي ناله الرسل. وبعد ذلك الوقت بقليل، سيطبّقها أوسابيوس القيصري (265- 340) على الجماعة المسيحية الأولى التي وُلدت بحلول الروح، فأدخلها المسيح إلى الله كتقدمة خاصة.
وسيتحدّث أوسابيوس في "حياة قسطنطين" (4: 64). ومثله "تعليم الرسل" الذي هو منحول وُلد في الرها في القرن الثالث أو الرابع، عن تيّار جديد وُلد في ذلك الوقت فاعتبر الصعود والعنصرة كفيض للروح يُحتفل بهما في وقت واحد، في اليوم الخمسين. هذا الواقع الذي يُعتبر خروجًا على مطلع سفر الأعمال الذي يحدّد موقع الصعود أربعين يومًا بعد القيامة، قد يكون رجع إلى أف 4: 7- 12 الذي يقدّم عطيّة الروح التي تحقّق الوحدة الكنسيّة في تنوّع الدعوات والمواهب والخدم التي يثيرها في الجماعة الفتيّة، كثمرة مباشرة لارتفاع المخلّص عن يمين الله.
في هذا الإطار، يبدو أن بداية هذه الظاهرة الجديدة قد وُلدت متأثّرة بمواسم الحجّ في فلسطين وأورشليم، حيث أراد المؤمنون أن يتذكّروا أحداث حياة المسيح التاريخيّة في الزمان والمكان اللذين فيهما حصلت. هذا ما تتحدّث عنه أتيرية في "يوميّات سفرها". وهكذا ارتبط يوم الفصح بالقيامة. واليوم الاربعون بالصعود، وإن عُيّد في اليوم الخمسين. غير أن يوم الخمسين سوف يرتبط بشكل نهائي بحدث العنصرة وحلول الروح في العالم ودخوله في صيرورة البشر "ليجدّد الانسان على الأرض من أجل الله" كما قال ايريناوس في "البرهان الرسولي" (رقم 6). وهنا أيضًا يرتبط فيض الروح في تقليد الآباء، بالعهد وعطيّة الشريعة في سيناء. وكل هذا بتأثير من العالم الرابيني الذي جعل من عيد الأسابيع عيد عطيّة الشريعة والوحي. وإن التقليد السريانيّ سوف يشدّد بشكل خاص على التوازي بين العيد اليهوديّ والعيد المسيحيّ.
وهكذا بدت العنصرة في المسيحيّة الأولى، حقبة من سبعة أسابيع تتبع عيد الفصح وتوافق عيد الحصاد كما في التوراة. أما مضمونها فالسرّ الفصحيّ كله. وبعد القرن الرابع، صارت تدلّ بشكل خاص على اليوم الخمسين. وصار مضمونها حلول الروح كمقابل لعطيّة الشريعة في سيناء.
2- نظرة الآباء إلى العنصرة
بعد أن صار عيد العنصرة، عيد حلول الروح، احتفالاً كبيرًا في المسيحيّة، بدأ الآباء يتأمّلون في العيد بشكل خاص، ويتعرّفون إلى شخص البارقليط، كما إلى تدخّله وعمله في العالم وفي تاريخ البشر بشكل حاسم جدًا. ولكن من الواضح أن هذا التفكير والشرح اللاهوتيّ، هما إظهار على مستوى الكلمة والطقس لواقع أول عاشته جماعة المسيح الجديدة واختبرته. وواقع العنصرة الحيّ هذا الذي هو في أصل الواقع الكنسيّ، يسبق فكر الكنيسة وتعابيرها. فهي التي تشرف على رؤية لوقا، إبن أنطاكية، حين صوّر في سفر الأعمال بداية المسيحيّة وامتدادها في الزمان وفي المكان. لهذا، سنحاول أن نكتشف قدر المستطاع ما حدث يوم العنصرة. أن نكتشف العنصر الجديد في هذا الحدث الذي كان له تأثير حاسم في حياة الكون.
إن الجديد الجذريّ في حدث العنصرة هو نزول أقنوم الروح القدس إلى عالمنا. في العهد القديم وفي زمن التجسّد (ما عدا في ما يخصّ المسيح وأمه) كانت تصل مواهب الروح وأعماله إلى العالم، وما كان يُعطى هو بذاته. إن موسى بركيفا (813- 903) الذي هو أحد علماء السريان العظام في اللاهوت والليتورجيا، يشدّد على الطابع الشخصيّ لنزول الروح في العنصرة. طُرح عليه سؤال: "هل نال الرسل الروح القدس شخصيًا، أم نالوا فاعليته"؟ فأجاب:
"لقد نال الرسل شخص الروح. وبما أن الروح هو أعظم من عطاياه، فما ناله الرسل أعظم ممّا ناله الأنبياء. وأن يكون الرسل قد نالوا شخص الروح نعرفه بما يلي: كما أعطي المسيح في أقنومه للعالم، كذلك أعطي الروح للرسل. ومن كلمات ربنا الذي قال: "إن كنت لا أنطلق لا يأتيكم البارقليط. ولكن إن انطلقت أرسله لكم" (يو 16: 17). وهذه الكلمة أيضًا: "أرسل لكم بارقليطًا آخر يبقى معكم إلى الأبد" (يو 14: 16)، أي شخصًا آخر. فلفظة "آخر" تدلّ على "الشخص" لا على العمل. ثم: "روح الحقّ الذي ينبثق من الآب" (يو 14: 17؛ 26:15). أي ينبثق في ما يخصّ الطبيعة، ويعطيه الابن شخصيًا. وبعد ذلك: "هو الذي لا يستطيع العالم أن يقبله" (يو 14: 17). لقد نال العالم بعض المرات وبشكل مجتزئ عمله. ناله الأنبياء والكهنة والملوك والذين مُسحوا. وأخيرًا: "ذاك الذي لم يعرفه العالم" (14: 17). أي ذاك الذي ما عُرف عملُه فقط. إذن، شخص الروح القدس بالذات قد أعطي للرسل. قبل الصليب نال الرسل من المسيح نعمة الروح وعطيّته، شأنهم شأن الأنبياء. ولكن بعد الصليب نالوا شخص الروح عينه حين غفروا الذنوب والخطايا، حين ربطوا وحلّوا في السماء والأرض، وهذا ما لم يقدر الأنبياء أن يفعلوه. قبل الصليب كان الرسل يشفون أمراض الجسد. وبعد الصليب شفوا أمراض النفس".
ينتج ممّا سبق أن العنصر الجديد في العنصرة هو تدخّل الروح ونزوله الشخصيّ إلى العالم على مثال نزول الابن. لاشكّ في أن بركيفا كاتب متأخّر. ولكنه في الواقع صدى لتقليد قديم. فقد كان إيريناوس يشدّد على تدخّل البارقليط فقال في البرهان الرسولي (رقم 6) إن تعليم الايمان المسيحيّ الذي هو قاعدة البناء وأساس الخلاص يتضمّن "كبند ثالث: الروح القدس الذي به تنبَّأ الأنبياء... والذي في نهاية الأزمنة أفيض بشكل جديد على بشريّتنا لكي يجدّد الانسان على الأرض من أجل الله".
أما أوريجانس الذي يعارض في عظته حول سفر اللاويين بين "ظلّ" العهد القديم وواقع الانجيل وحقيقته، فيصف مجيء الروح في الكنيسة يوم العنصرة على أنه تجديد لم يُرَ مثله من قبل. فالروح هو هنا. و"حضوره ينقّي من كل نجاسة ويمنح غفران الخطايا". هنا نقارب عبارة أوريجانس هذه مع البرهان الأخير الذي يقدّمه موسى بركيفا ليؤكّد أن الرسل نالوا بعد الصليب شخص الروح، لا فاعليّته فقط. فسلطان غفران الخطايا أو ربطها لا يتمّ إلاّ بفضل الروح الذي يفعل شخصيًا في الرسل. وهذا الحضور الشخصي ينقّي الآثام ويمحوها.
ويتوسّع يوحنا الذهبيّ الفم في عظاته، في مجيء الروح يوم العنصرة مجيئًا جذريًا وأصيلاً. وهذا المجيء يختلف كل الاختلاف عن عطيّة الروح للأنبياء وأبرار الشريعة القديمة. غير أن الذهبيّ الفم لم يميّز بين شخص الروح وفعله. أما كيرلس الاسكندراني الذي يحتلّ مكانة هامة في الكنيسة السريانيّة، فيستشّف هذه المسألة ويشدّد على الوجهة الشخصيّة لحضور الروح في المؤمنين. وهذا ما لم يتمّ في الملهمين السابقين. إليك ما يقول في عرض شرحه يو 7: 30 الذي يتحدّث عن الروح الذي ما أعطي بعد لأن المسيح لم يكن بعد قد مُجّد:
"كان في الأنبياء القديسين استنارةٌ غنيّة جدًا من الروح القدس، تجعلهم جديرين بأن يروا المستقبل ويعرفوا الأشياء. ولكن في مؤمني المسيح، لم تكن هناك فقط استنارة الروح القدس، بل الروح القدس نفسه الذي يقيم ويسكن فينا. فنحن لا لنخاف من أن نؤكّد هذا الأمر".
وهكذا نكون أمام واقع جديد وخارق هو مجيء البارقليط بيننا. وقد وعت الكنيسة هذا المجيء منذ ولادتها. لهذا، ما توقّفت عن اعلانه ولم تتوقّف ولن تتوقّف على ما تقول الليتورجيا السريانيّة في صباح العنصرة: "الروح الحيّ والقدوس، الذي هو مساو في القدرة للآب والابن، نزل اليوم في العليّة وعلّم الرسل". وقال النصّ في صباح اليوم عينه: "واحد من الأقانيم الالهية، الروح القدس، نزل في العليّة وحلّ على الرسل. رأوه بشكل ألسنة من نار. علّمهم وأدّب غلاظتهم".
وبما أن لهذا الحدث طابعه الأصيل ودوره في التدبير المسيحي، ما اكتفت الكنيسة بأن تحتفل به في صلاة الفرض التي تتلوها في عيد العنصرة. بل كرّست له باكرًا خدمة ليتورجيّة خاصة تسمّى "السجدة"، وهي تتمّ في الساعة الثالثة التي تقدّس نزول الروح هذا. إن تزمين حدث العنصرة نجده عند غريغوريوس النيصي، وهو في خطّ ليتورجيّة أورشليم. فبحسب إتيرية، كانوا يحتفلون في صباح العنصرة بمجيء الروح، باجتماع في كنيسة صهيون، حيث أكلوا العشاء السري، وحلّ الروح، وذلك في الساعة الثالثة. كانوا يقرأون مقطعًا من سفر الأعمال حول نزول الروح. إذن، هذه الخدمة الليتورجيّة هي تذكّر حدث العنصرة. ونحن لا نكتفي بالعودة إلى حدث من الماضي، بل بتأوين هو في الساعة الحاضرة الوقت السامي والمميّز الذي فيه تجدّد الكنيسة اتحادها بالبارقليط الذي يعطي ذاته لها. ويقينها بفيض الروح فيها هو كبير بحيث تحني ركبتها ويلامس وجهها الأرض معارضة العادة الليتورجية التي تتمّ فيها الصلاة وقوفًا. فبحسب هذا النشيد الذي يلي ويفسّر الفعلة الرمزية، لا تستطيع أن تحتمل مجيء البارقليط الذي يحلّ عليها:
"لهذا وحتى يوم العنصرة، لا نسجد إلى الأرض في صلواتنا، وتجاه أعدائنا ننشد ونقول مع المرتّل الالهي داود: هم عثروا وسقطوا ونحن قمنا وانتصبنا. ولكن حين كشف الروح القدس عن نفسه، بحسب رضى الله، وظهر لنا في ألسنة من نار، نجثو على ركبتنا، لأننا لا نستطيع أن نتحمّل منظره".
فهذا المقطع الذي نقرأه عند ساويروس الانطاكي، والذي نجد صداه عند موسى بركيفا يربط السجود رباطًا وثيقًا بمجيء الروح إلى العالم، ويقدّمه على أنه فعلة طوعيّة بها تدرك الجماعة المسيحيّة إدراكًا عميقًا الحضورَ الشخصي والشبهَ المحسوس للروح في وسطها.
وهذا الادراك الكنسي يجد أساسه وسنده واندفاعه في تبديل جذريّ وفي مختلف المعجزات التي أجراها الروح ساعة جاء وسط البشر. وهذه المعجزات العديدة تعلن بداية جديدة تستعيد بدايات العهد القديم ومراحله المميّزة وتتجاوزها فتدلّ على أنها تختلف اختلافًا جذريًا عمّا في العهد القديم. ثم إن هذه المعجزات على اختلافها وتنوّعها، تلتقي بشكل عجيب لتكوّن الواقع العظيم، واقع العنصرة: العهد الجديد، الشعب المسيحاوي الجديد، الكنيسة التي هي امتداد سرّ المسيح القائم من الموت وتأوينه وظهوره تجاه الآب. وكل هذا يتمّ بفعل الروح.