الفصل العشرون
الروح يقدّسنا: في تعليم الآباء اليونان
إن سرّ الثالوث، حياة الله الحميمة، هو جوهريّ من أجل تقديس المسيحيّ. لهذا عاد إليه الآباء منذ أصول المسيحيّة ليعبّروا عن دعوة الكنيسة وتقديسها. هذا مع العلم أن اللاهوتيّين بدأوا حوالي سنة 360 يفكّرون بشكل واضح في شخصيّة الروح القدس الالهيّة. كان هذا امتدادًا للأزمة الاريوسيّة.
كانت العبارات السابقة مرتجلة، طوعيّة، فما استطاعت أن تحيط بكل وجهات السرّ. ولهذا، يكون من الصعب علينا أن نجد فيها منذ البدء كل الفطنة التي سيجدها التعليم المستقيم في النهاية. ولكن الحريّة التي تحملها ثمينة جدًا. فهي تبرز تارة هذا العنصر وطورًا ذاك، وكل هذا سيجمعه التقليد اللاحق.
في هذه الصفحات، نتوقّف عند ثلاثة أباء: ابريناوس، أسقف ليون في فرنسا (130- 202) وصاحب "الردّ على الهرطقات". وأوريجانس (185- 252) ابن الاسكندريّة وقيصرية فلسطين الذي سيموت في صور. وباسيليوس (329- 379) ابن قيصريّة الكبادوك في تركيا، وصاحب المقال عن الروح القدس.
1- ايريناوس
شدّد الآباء على الرباط الحميم بين الروح ونفسنا. وهذا الرباط هو العنصر السامي في شخصيّة المسيحي. فأبرز بعضهم مثل أغناطيوس الانطاكي ويوستينوس ابن نابلس في فلسطين، في خطّ بولس الرسول، تعليمًا يعلن أن الانسان مكوّن من ثلاثة: الجسد، النفس، الروح. وسيظلّ افراهاط الحكيم الفارسي في القرن الرابع متعلّقًا بهذا التعليم. لهذا، ما عاد يعرف هؤلاء الآباء حين يقرأون نصّ رسائل بولس، هل هم أمام الروح الذي يقابل الجسد أم الروح القدس الذي هو الاقنوم الثالث في الثالوث الأقدس.
فكّر ايريناوس عميقًا في هذا الموضوع فماهى بين روح المسيح وروح الله. فقد ظنّ بعض الشرّاح أن بولس الرسول لجأ إلى اللفظة البيبليّة، لفظة "الروح" ليدلّ على قمّة النفس التي رأى فيها الافلاطونيون والرواقيون القطب المعارض لميول الجسد، فسمّوها العقل الموجّه. ولكن جديد القديس بولس لم يتوقّف عند الألفاظ. بل دلّ على خبرة مسيحيّة لخلاص انبثق من سرّ الله الحميم، بحيث إن اختيار لفظة "بنفما" (الروح) لم يكن صدفة واتفاقًا. في هذا الخطّ نتعرّف إلى ايريناوس، الذي شدّد على الروح الذي يتقبّله الجسد أو بالأحرى اللحم والدم بما فيهما من ضعف.
أ- الروح الذي يتقبّله الانسان
حارب ايريناوس الغنوصيّين الذين ظنّوا أنهم يُبرزون أكثر من غيرهم الوجهة العلوية (الفائقة الطبيعة) والبنفماتيّة للخلاص الذي جاء من أعلى الأعلى، من أبعد من الله الخالق. فقد اعتبروا أن تعظيم الروح هو شجب الجسد. دلّ ايريناوس على روح متفائلة وحبّ للمادة فعارض جميع الذين احتقروا المادة في العالم القديم. فأبرز جمال وقداسة "المجبول" الذي خلقه الله من الطين الذي عالجه بيديه. إن إيريناوس يرى أن الروح يقدّم نفسه لنا في الخليقة المادية. قال:
"الله يتمجّد في "مجبوله" الذي كيّفه على شكل ابنه ولياقاته. فبيدَي الآب أي بالابن والروح، جبل الانسان على صورة الله: الانسان كله. لا جزء من الانسان. فالنفس والروح قد يكونان جزءًا من انسان، ولكنهما لا يكونان انسانًا كاملاً. فهذا الانسان الكامل هو مزج واتحاد تامّ لنفس يأخذها روح الآب، مع جسد كُوّن على صورة الله...
"نعرف في الكنيسة عددًا من الاخوة الذين نعموا بمواهب نبويّة. فبالروح هم يتكلّمون في جميع اللغات، ويكشفون خفايا القلوب من أجل البناء، وينشدون أسرار الله. هؤلاء هم الرجال الذين يسمّيهم الرسول روحيّين. إنهم كذلك بمشاركتهم في الروح، ولكن دون أن يكونوا روحًا محضًا بعد أن يُلغوا الجسد. فإذا تركنا جانبًا المجبول الالهي، وإذا أردنا أن نفهم الروح بطريقة مجرّدة ومنعزلة، لا ينبغي أن نتكلّم عن انسان روحي، بل عن روح الانسان أو روح الله. ولكن حين يُفاض الروح في النفس ويتّحد بالمجبول، عند ذاك نكون أمام انسان روحي وكامل بالنظر إلى فيض الروح. هذا هو "الانسان المخلوق على صورة الله ومثاله". بدون ذلك، يبقى الانسان حيوانا، يبقى ناقصًا، يبقى لحمًا ودمًا. لا شكّ في أنه "على صورة الله" لأنه مجبوله، ولكنه لم يحصل بعد على الشبه الذي هو عمل الروح. اذن، هو ناقص. ثم إن أزلنا صورة الأرض احتقارًا للمجبول، لم نعد أمام انسان، بل أمام جزء من انسان.
"وهكذا فالانسان الكامل ليس جسدًا جبله الله، ولا نفسًا. من جهة مجبول ومن جهة أخرى النفس. إنهما جزءا الانسان. والروح أيضًا ليس الانسان. وقد سمّي "روح" لا "انسان". فمزج ووحدة هذه العناصر الثلاثة يكوّنان الانسان الكامل".
ويتابع ايريناوس: "ثلاثة أمور تكوّن الانسان الكامل: الجسد، النفس، الروح، كما قلنا. الواحد يخلّص ويكوّن. هو الروح. وآخر يتّحد وينال الشكل هو الجسد".
قد نستطيع أن نورد مقاطع أخرى، فنجد تكرارات، تنبع من يقين الكاتب الذي يريد أن يُدخل هذه الفكرة في قلوب المؤمنين. ومع ذلك، فالفكر ينمو ويتطوّر. هكذا نعي وحدة الحياة وسرّ الانسان الذي لا يكمل إلاّ بمشاركة شخصيّة مع الخالق، ولا يتحقّق إلاّ حين يتجاوز نفسه: نفسه لا تكفيه من أجل سعادته. فيد الآب التي جبلتنا في آدم، تحلّ علينا بواسطة النعمة في تواصل مع عمله التاريخيّ في الأنبياء والرسل والأسرار.
وحين يتحدّث ايريناوس عن الروح يكثر من العبارات المرادفة: فيض الروح. اتحاد بالروح. مشاركة مع الروح. الروح يقيم في الجسد حيث جعل هيكله. ترتبط هذه العبارات بالتقليد المسيحيّ السابق، ولكنها تدلّ على نموّ ملحوظ وتقدّم لافت في ما يتعلّق بدور الروح في تقديس المؤمنين. وهذا النموّ يعود إلى تأمّل معمّق في فكر بولس الرسول.
ب- الروح الذي مقبّله الكنيسة
شدّد ايريناوس أيضًا في ردّه على الغنوصيين، على لفظة أخرى غير علاقة روح الله بالانسان. فإن اعتبر أن الروح القدس يرتبط ارتباطا حميمًا بكل مسيحي، فربطه ربطًا شخصيًا بخالقه ومخلّصه، فهو يدلّ أيضًا على أننا نكون في الوهم إن اعتبرنا أننا نستطيع أن نتبع دفع الروح دون الأخذ في الاعتبار الكنيسة، الكتب المقدّسة، الرسل. قال:
"نحتفظ بالايمان كما تسلّمناه من الكنيسة. وهو يتجدّد باستمرار بفعل روح الله، مثل شراب ثمين حُفظ في إناء ثمين، يجدّد الإناء الذي يحويه. فالكنيسة قد تسلّمت عطيّة الله، كما سلّم الله النسمة إلى المجبول.
"قد رُتّبت في الكنيسة شركة المسيح أي الروح القدس الذي هو عربون لافسادنا، ومثّبت إيماننا، والسلّم التي ترفعنا إلى الله. ففي الكنيسة، كما يقول القديس بولس، أقام الله الرسل والأنبياء والمعلّمين والآخرين على التوالي. ولا يشارك في عمل الروح هذا، أولئك الذين لا يرتبطون بالكنيسة. فحيث الكنيسة هناك روح الله. وحيث روح الله هناك الكنيسة وكل نعمة".
وتوسّع ايريناوس في هذه الفكرة فلجأ إلى موضوع أخذه من الرواقيين هو موضوع روح الحياة الذي يجمع في الوحدة كل أجزاء الكون. قال:
"نزل الروح على التلاميذ في العنصرة، فأعطاهم سلطانًا أن يُدخلوا كل الأمم إلى الحياة وأن يدشّنوا العهد الجديد. لهذا أنشدوا مديحًا لله يوافق جميع الألسنة. وهكذا أعاد الروح إلى الوحدة أعراقًا تشتّتت، وقدّم للآب باكورة جميع الأمم. كان الرب قد وعد بأن يرسل البارقليط الذي يجعلنا نتّحد بالله، بل أقول "نلتصق" بالله. فكما أن الحنطة الناشفة لا تستطيع أن تصير عجينة واحدة، خبزة واحدة، دون أن يرشّ عليها الماء هكذا هو الأمر بالنسبة إلينا: لا تقدر كثرتنا أن تصير وحدة في المسيح يسوع دون الماء الذي يأتي من السماء... فقد نالت أجسادنا بماء المعموديّة، الوحدة التي تجعلها لافاسدة، ونالت نفوسنا هذه المياه بالروح القدس".
هذه المواضيع الرواقيّة التي استعادها بولس الرسول، قد وجدت نهاية مسيرتها في تلميح إلى الأسرار. نحن هنا في منطق فكر يشدّد من جهة على ارتباط الروح بجسد أرضيّ ومقدّس، ومن جهة ثانية على ارتباط بالكنيسة. لاشكّ في أن الهرطقة الغنوصيّة لا تهدّد في ماديتها عالم اليوم، لأن المفارقة المسيحيّة تظلّ من جيل إلى آخر مناسبة دهشة وشكّ. ومع ذلك فايريناوس يلفت نظرنا حين يجمع الألفاظ المتناقضة، الحريّة المواهبيّة والأمانة لتنظيم الكنيسة وتقليدها. روحانيّة صوفيّة وثقة بالمادّة التي خلقها الله الصالح. الطحين والماء.
2- أوريجانس وتلميذاه
نبدأ بأوريجانس ثم نكمّل مع غريغوريوس العجائبي وكيرلس الاورشليمي.
أ- الدور الخاص للروح في أوريجانس
اختلف ابن الاسكندريّة عن أسقف ليون الفرنسي، فكان ابن أهمّ مركز فكريّ في الكنيسة خلال القرن الثالث، فولج قدر المستطاع في سرّ الله.
كانت نظرة أوريجانس متجرّئة، ففهمتها فئة وصلت إلى الأريوسيّة. ولكن الآباء الكبادوكيين، ومنهم باسيليوس، سوف يكتشفون فيها العمق الايماني والروحانيّة. نكتفي هنا بصفحة رئيسيّة نأخذها من "مقال المبادئ" الذي يحاول أن يدلّ على العلاقة بين الروح والقداسة. استند أوريجانس إلى معلّم عبراني، فرأى في الابن الوحيد والروح اثنين من السرافيم ينشدان قداسة الآب. قال:
"فكل معرفة للآب يوحيها الابنُ في الروح القدس بحيث إن هذين الحيّين اللذين يتحدّث عنهما النبيّ هما سبب العلم الذي لنا عن الله. قال الرسول: "الله أوحاه بروحه"... "والروح يفحص أعمال الله". وقال يوحنا: "يعلّمكم ويذكّركم بكل ما قلته لكم".
"يبقى أن نبحث عن السبب الذي لأجله يحتاج الانسانُ المولود من الله لأجل الخلاص، إلى الآب والابن والروح القدس. هو لا يستطيع أن يدرك الخلاص إذا لم يكن الثالوث كله حاضرًا، فيستحيل عليه أن يشارك الآب أو الابن بدون الروح القدس. إذا أردنا أن نناقش هذه النقطة، يجب بلا شكّ أن نتوصّل إلى وصف عمل الروح القدس الخاص كعمل خاص بالآب والابن.
"فالله الآب الذي يُسند الكون، يصل إلى جميع الخلائق حين ينقل إليها الوجود الذي يملكه وحده لأنه ذاك الذي هو. والابن يدرك الكائنات العاقلة، المرتبطة باللوغوس. فهو الثاني بالنسبة إلى الآب. والروح القدس يصل إلى القدّيسين. وهكذا تكون قدرة الله كبيرة وقدرة الابن واسعة وقدرة الروح مقدّسة".
وإذ أراد أوريجانس أن يبرهن عمل الروح القدس هذا، جاء بعدّة أمثلة من الكتب المقدّسة. هنا يقف على أرض ثابتة ويدلّ على سعة عمله في مجال التفسير. ولن نبحث عمّن هو "الأعظم" في الثالوث، لأن عمل التقديس يوازي عمل الخلق والاستنارة العقليّة. وهكذا توسّع أوريجانس في عمل الروح المقدّس كما يعلنه الكتاب المقدس، فاجتذب إلى تعاليمه الأجيال اللاحقة. ونذكر بشكل خاص غريغوريوس العجائبيّ وكيرلس الاورشليمي.
ب- الروح صورة الله عند غريغوريوس
كان غريغوريوس تلميذ أوريجانس فمثّل اليمين في حركة أطلقها، أي الجناح الرسولي والرعائي. توسّع "مقال المبادئ" مطوّلاً في الأسئلة المختلف عليها. أما غريغوريوس فترك لنا "قانون إيمان" يستند إلى إيمان الكنيسة، لا إلى الكتاب المقدّس بدرجة أولى. وها هو البند الثالث الذي سيكون له تأثير كبير على تعليم الكبادوكيين:
"أؤمن بروح قدس واحد، أخذ من الله جوهره وتجلّى بالابن. صورة الله. الصورة الكاملة لله الكامل. حياة وعلّة حياة للأحياء. ينبوع مقدّس، قداسة قائمة في ذاتها، منسّق التقديس. فيه يظهر الله الآب الذي هو فوق الكل وفوق كل شيء. والله الابن الذي به كل شيء. ثالوث كامل بدون انقسام ولا تحوّل. كامل في المجد، في الأزليّة، في الملك. في هذا الثالوث، لا شيء مخلوقًا ولا شيء عبدًا ولا شيء مضافًا. ليس منه ما لم يوجد في البدء فأدخل بعد ذلك. فالابن كان دومًا مع الآب، والروح مع الابن. ثالوث دائم وكامل وغير متبدّل".
وطُرح سؤال: هل عبارة "ينبوع مقدَّس" التي لا نجدها في بعض المخطوطات، تعود حقًا إلى القرن الثالث. ولكن التحليل الداخليّ يجعلنا نقول بصحّتها. وهناك رسالة كتبت إلى فيلاغريس (أو: إوغريس) نسبها التقليد السرياني إلى غريغوريوس، تسند موقفنا. ولا ننسى أن هذه العبارة تُقرأ مرارًا عند أوريجانس. وهي تتوافق مع القداسة القائمة في ذاتها ومنسّق التقديس. كما تفسّر في معنى روحي (كما سيفعل باسيليوس) عبارةَ "حياة وعلّة كل حياة". فالعبارة كلها تشدّد بقوّة على طابع الروح المقدَّس الذي أوصل إلى الخلائق حياةَ الثالوث الحميمة.
أكدّ أوريجانس على الشخصيّة الالهيّة في الروح القدّس. وورث غريغوريوس هذا التعليم مشدّدًا على انتماء الروح إلى الثالوث الأزليّ، مقدّمًا إياه على أنه "صورة كاملة لله الكامل".
ج- عطايا الروح عند كيرلس الاورشليمي
ترك لنا كيرلس الاورشليمي (314- 387) العظات التي ألقاها على طالبي العماد وعلى المعمّدين الجدد في بدء حياته الرعويّة سنة 348. كان كيرلس تلميذًا لاوريجانس، وقد سبق الجدالات حول الروح القدس. ما كان ينتمي إلى الحزب النيقاويّ المتطرّف، بل إلى المعتدلين والأمناء للعبارات التقليديّة المتعبّدة للروح القدس. توجّه إلى طالبي العماد فنشّأهم على الايمان، واكتفى طوعًا بتعليم أولي وعام طبعه بطابع الراعي الورع الذي يطلب خير رعيّته.
قال في العظة السادسة عشرة: "ولماذا دعا النعمة الروحيّة ماء؟ لأنه من الماء تأخذ جميعُ الأشياء كيانَها. الماء يُنبت النبات والحيوان، لأنه من السماء يَهطل ماء المطر ويَنزل بشكل واحد، ولكنه يُنتج أشكالاً كثيرة متنوّعة. عين واحدة تروي الفردوس كله، ومطر واحد يسقي العالم بأسره، فيصير أبيض في الزنبقة، وأحمر في الوردة... ويتنوّع بتنوّع الأشكال. وهو في النخلة يختلف عنه في الكرمة وفي كل الأشياء، على أن طبيعته واحدة في حدّ ذاتها... هكذا الروح القدس. فهو واحد بسيط لا يتجزّأ، يوزّع النعمة على كل واحد كما يشاء. وكما أن الخشب الجاف إذا ارتوى بالماء، أزهر، كذلك النفس الخاطئة، بنعمة التوبة التي يمنحها الروح القدس، تنبت فروع برّ. ومع أنه بسيط، إلاّ أنه يأتي بأشياء كثيرة حسنة، بإرادة الله وباسم المسيح. فيستخدم لسان انسان للحكمة، وينير نفس الآخر في النبوءة. يمنح هذا سلطانًا لطرد الشياطين، ويعطي ذاك هبة تفسير الكتب الالهيّة".
ويتابع كيرلس في العظة نفسها المكرّسة كلها للروح القدس كما نتحدّث عنه في قانون الايمان (الروح القدس، المعزّي، الناطق في الأنبياء): "وإذا طرأت على خاطرك فكرةٌ عن الطهارة أو البتوليّة، وأنت جالس، فهي من وحي الروح. ألا يحدث غالبًا أن تهرب عذراء، وهي على عتبة الزواج، بوحي منه عن جمال البتوليّة".
كان كيرلس شبيهًا بايريناوس، فاحتفظ بفكرة حضور الله في كل واحد منا، وبتكيّفه مع كل نفس. غير أنه شدّد أكثر منه على وحدة لا تنقسم في هذا الروح الوحيد. كما تأمّل بإعجاب في رباط هذه المواهب الفرديّة بجماعة الكنيسة، فقال:
"الروح القدس عظيم وكليّ القدرة، وعجيب في هباته. تصوّروا كم عددنا الآن هنا، وكم عدد أنفسنا. إنه يعمل في كل واحد منا بحسب ما يلائمه. وبما أنه في وسطنا، فهو يرى تصرّف كل واحد وأفكاره ووجدانه، وما نقوله وما نفكّر فيه... أنظر إلى عدد المسيحيّين الذين يؤلّفون هذه الجماعة، وعددهم في أبرشيّة فلسطين بأسرها. وانتقل بذهنك من هذه الأبرشيّة إلى الامبراطوريّة الرومانيّة كلها، واعتبر من هناك العالم بأسره: أمّة الفرس وشعوب الهند، الغوط والسرماط... اعتبر الأساقفة والكهنة والشماسة والرهبان والعذارى والعلمانيين من كل شعب، وانظر إلى رائدهم وموزّع الهبات عليهم، كيف أنه في العالم أجمع يهب للواحد الحشمة وللآخر البتوليّة المؤبّدة، لهذا الرحمة ولذاك حبّ الفقير، ولسواه إخراج الشياطين. وكما أن النور بفيض من أشعّته ينير كل شيء، كذلك الروح القدس ينير من لهم أعين. وإذا كان أحدٌ أعمى لا يستحقّ النعمة، فلا يَلُم الروح القدس بل عدم إيمانه".
إن هذا الوصف الرائع لغنى النعمة يتواصل إلى دور الرئيس والمنير الذي يمارسه الروح في عالم الملائكة. وهكذا توخّى كيرلس أن يعرّفنا بعظمة الروح، ويقود المؤمنين العتيدين إلى سرّ طبعه الإلهيّ.
3- باسيليوس أسقف قيصريّة
أ- نظرة عامة
مع القديس باسيليوس (329- 379) وصل مجهود فهم الكنيسة اليونانيّة للروح القدس إلى غايته. وهو حين تدخّل، كانت الاريوسيّة قد أوضحت مبدأها فيما يتعلّق بألوهيّة الروح القدس. فبقي على الكنيسة أن تتعرّف إلى الروح القدس منطلقة من تقليدها. توصّل باسيليوس إلى أن يربح ثقة الكنيسة إجمالاً، وأن يعزل تبّاع أريوس والرافضين لألوهيّة الروح القدس، على أنهم الأقليّة. ما اكتفى باسيلوس بالألفاظ، بل بالإيمان بالروح المقدِّس الذي يدخلنا حقًا إلى حياة الله. أما على مستوى العبارات فيكفيه بأن لا يقال أن الروح القدس هو خليقة. واقتنع أن من عاش وفكّر داخل الكنيسة، فسرُّ الخلاص سيفرض نفسه عليه في النهاية.
أما أسلوب باسيليوس فتميّز بوجهتين متكاملتين: من جهة، لا حجّة إلاّ الكتاب المقدّس. ومن جهة ثانية، نجد عنده ثقافة أدبيّة وفلسفيّة خارقة. وإذ كان تلميذَ أوريجانس، وضع كل هذا في خدمة فهم العقيدة. وفي حواره مع أصدقائه الرافضين للاهوت الروح القدس، وعى أن "حرف" الكتاب المقدّس لا يكفي للتغلّب على الشكّ والارتياب. فحياة الكنيسة كلها هي تفسير غير مكتوب لكلام الله. وهكذا وعى باسيليوس أهميّة التقليد، ولاسيّما التقليد الليتورجيّ.
ونحن نتوقّف معه عند ثلاث محطّات: الروح ينبوع المعرفة. الروح ينبوع الحياة الأبديّة. الروح ينبوع القداسة.
ب- الروح ينبوع المعرفة
نورد قانون إيمان بيبليًا كله، وقد كثّف فيه باسيليوس إيمانه الشخصي. قال: "نؤمن بروح قدس واحد، البارقليط، روح الحقّ، الذي فيه ننال الختم ليوم الفداء. روح البنوّة الذي فيه نهتف أبّا، أيها الآب. فهو الذي بعمله يوزّع المواهب الالهيّة لكل واحد، كما يشاء، من أجل البناء. الذي يعلّم ويحرّك القلب على كل ما يسمع من قبل الابن. الروح الصالح الذي يقود إلى الحقيقة كلها، الذي يشجّع جميع المؤمنين ليقودهم إلى معرفة أكيدة، إلى اعتراف صحيح، إلى سجون في الروح والحقّ لله الآب ولابنه الوحيد، ربنا وإلهنا يسوع المسيح".
ما يلفت النظر في هذا العرض، هو التشديد على معرفة الحقّ. لاشكّ في أن المعرفة (غنوسيس) تبدو هنا كعنصر تقديس. ولكنها ليست باطنيّة في شيء على مثال ما عند الغنوصيّين. بل نحن بالأحرى أمام وحي الله الآب في خطّ الاعتراف العماديّ والخدمة المواهبيّة في الكنيسة. غير أنه يجب أن نقرّ بأن وجهة الاستنارة قد برزت أكثر من وجهة العفّة أو المحبّة.
ج- الروح ينبوع الحياة الأبديّة
ونتوقّف الآن عند وثيقة استلهمت الافلاطونيّة الجديدة التي جعلت الوحدة فوق كل شيء: عن الروح القدس. عاد هذا المقال إلى أفلوطين، فاكتشف عنده فلسفة دينيّة تساعد على التعبير عن صوفيّة مسيحيّة، وتعطي معنى دقيقًا للعمل المؤلِّه الذي يقوم به الروح القدس.
لم يكن مقال باسيليوس "عن الروح القدس" نسخة حرفيّة عن مبادئ أفلوطين. فالكاتب عرف كيف يختار ويصحّح ويَحلّ محلَّ "طبيعة مشتركة" نعمةً تُمنح للإيمان بشكل سرّي وشخصيّ. وحيث وعى الفيلسوف بأنه يشارك في الحياة الكونيّة، استلهم اللاهوتيّ أوريجانس وغريغوريوس العجائبي، فتحدّث عن حياة الله، وعن القداسة التي تُعطى لنا.
الروح القدس هو الأول في نظام التقديس، وينبوع الحياة الأبديّة. فهو إذن يسمو سموًا لا محدودًا على الذين ينالون من ملئه. يسيطر على المؤمن الهدوء والسلام فيشاهد الروح ويراه مالئًا الكون، حاضرًا في كل شيء بفيض نوره العقليّ. كما أن أشعّة الشمس التي تسقط على السحاب تجعله منيرًا لماعًا كالذهب، كذلك يفعل الروح حين يمتلك الانسان، ويمنحه الحياة والخلود والتقديس والقيامة. كل كائن يحرّكه الروح القدس بحركة أزليّة، يصبح كائنًا مقدّسًا، كائنًا حيًا دخل في الدائرة الالهيّة. هو الذي كان ترابًا نال بعد أن سكنه الروح، كرامة الانبياء والرسل والملائكة، نال كرامة الله.
كل الكائنات، ما عداه وحده، مقدّسون بالمشاركة سواء فكّرنا في الأبرار على هذه الأرض، أو بالقوى السماويّة. كل واحد يتسلّم موهبته التي هي بالضرورة محدودة. هو يحتوي كل ما هو مقدّس. لا يرى نفسه مقسومًا، بل يُحيي بقدرته كلها. فعلى مثال الله الذي يرسله، يجد نفسه حاضرًا في كل مكان. فإذا كان كل قدّيس قد صار "إلهًا" حسب قول الكتاب، فكم بالأحرى الروح الذي هو علّة التأليه. فهو يمتلك الكمال ولا يتطلّع إلى أي تقدّم أو نموّ. كل ما فيه كامل: المحبّة، الفرح، السلام، المعرفة. فلا خير من هذه الخيور يُوجد فيه بشكل عرض مضاف. فهو يملكها كلها بشكل أزليّ، هو روح الله المنبثق من الله نفسه. خرج من الله كما من ينبوع، فصار أقنومًا حين خرج منه. هكذا ينكشف الروح القدس الذي أفاضه الله بوفرة علينا بواسطة يسوع المسيح.
د- الروح ينبوع القداسة
إذا كان المقال عن الروح القدس للقديس باسيليوس كما نظن، فليس في أي حال كلمته الأخيرة. ففي ملء نضوجه، في تموز 372، وخلال حوار أخويّ مع أخيه اوستاتيوس السبسطي، جاء به من أجل التوقيع على الالتزام الذي أخذ به أصحاب الايمان المستقيم. ونحن نجد قسمًا هامًا من هذا الحوار في ف 10- 27 حول الروح القدس. وفيها شدّد باسيليوس على عمل التقديس الالهيّ الذي يفعله الروح.
"عندما بواسطة قوّة وضاءة، نحدق النظر في جمال صورة الله الذي لا يُرى، وبها نبلغ إلى مشاهدة المثال الأعلى الباهرة، فإن روح المعرفة يكون حاضرًا هناك حضورًا متواصلاً يمنح في ذاته لمحبّي مشاهدة الحقيقة، القوّة لرؤية الصورة، فلا يجعلها واضحة لهم من الخارج، بل يقودهم إلى رؤيتها في ذاتها. فكما أنه لا يرى أحد الآب إلاّ الابن، كذلك لا يقدر أحد أن يقول "يسوع ربّ" إلاّ في الروح القدس. فلا يقول "بالروح" بل "في الروح" و"إن الله روح. فيجب على العباد أن يعبدوه في الروح والحقّ"، كما هو مكتوب: "في نورك نعاين النور"، أي في إضاءة الروح...".
ويتابع القديس باسيليوس: "والمفهوم الثاني الذي لا يُردّ هو أنه كما يُرى الآب في الابن، كذلك يُرى الابن في الروح. إذن، يعني السجود في الروح أن فعل ذهننا يصير كأنه نور. ونعرف ذلك مما قيل للسامريّة التي لانخداعها بعادة محيطها، كانت تظنّ السجود في مكان (محدّد). فأرشدها ربنا قائلاً: "يجب أن نسجد في الروح الحقّ". وبقوله في الحقّ عنى نفسه بدون شكّ. إذن، إن قلنا السجود في الابن، فعلى أنه صورة الله الآب. كذلك أيضًا السجود في الروح، على أنه في ذاته يُظهر لاهوت الربّ. وفي السجود لا ينفصل الروح القدس عن الآب والابن. فإن كنت خارجًا عنه، فلا يمكنك أن تسجد له مطلقًا. أما إذا كنت فيه، فلا حالة تفصلك عن الله، كما أننا لا نستطيع أن نعزل النور عن الأشياء التي نشاهدها. فلا يمكن أن ترى صورة الله الذي لا يُرى إلاّ في إنارة الروح".
ونورد أخيرًا الفصل التاسع الذي كتب سنة 375 ووجِّه إلى امفيلوك، أسقف ايقونيوم، أكثر أصدقاء باسيل أمانة، خلال شيخوخته. قال: "لا يمكن سامع لفظة روح أن يتصوّر في ذهنه طبيعة محدَّدة، أو خاضعة للتكييفات والتغييرات أو متشابهة في كل شيء مع الخليقة. لكنه إذا ارتقى بأفكاره إلى أعلى العلى يفكّر حتمًا بطبيعة عاقلة، لا حدّ لقوّتها وعظمتها، خارجة عن قياس الأزمان والدهور، لا تفسد حسناتها. نحو الروح يلتفت كل محتاج إلى التقديس. إليه يتوق كل من يعيش في الفضيلة. كأن بنسيمه ينطفئ ظمأهم وينالون الغوث لمتابعة السير نحو الهدف الخاص بطبيعتهم. هو متمّم نواقص الجميع ولا ينقصه شيء البتّة. ليس هو كائنًا حيًا يحتاج إلى أن يستقي قوّته من الخارج، لأنه منّسق الحياة. هو لا يزداد نموًا، بعد أن غُمر بكل عطاء. هو ثابت في ذاته، وكائن في كل مكان. هو مصدر التقديس ونور عقلانيّ، يبعث بذاته نوعًا من الاستشراق في كل قوّة عقليّة لكي ترى الحقيقة".
إن سموّ الروح الذي أبرزته شهادة الأرثوذكسية ضدّ حكمة الاريوسيّة الكاذبة وأوضحه حوار باسيليوس مع أوستاتيوس السبسطي، جاء يرفد المعطى التقليدي غنى كبيرًا. فشخصيّة الروح، وتمييزه عن الاقنومين الالهيّين الآخرين، ومساواته معهما، كل هذا قد توضّح دون أن يُطمس حضورَه في الكنيسة وفي قلوب المؤمنين الذين استناروا بنوره.
خاتمة
لقد تعرّف التقليد اليونانيّ تعرّفًا كبيرًا إلى الدور الشخصيّ الذي يلعبه روح الله في تقديس المسيحيين. ولكن قامت جدالات بين اللاهوتيين. فجاءت النصوص تبرز هذا الدور. لا شكّ في أن عمل التقديس هو عمل يتمّ "خارج" الأقانيم الثلاثة. لهذا، فهم يشاركون فيه معًا. ولكن يبقى أننا نستطيع في خط اللاهوت البولسيّ واليوحناويّ، أن نشدّد على دور الروح الذي يدخلنا في حميميّة الطبيعة الالهيّة كأبناء يتبنّاهم الله. يبقى علينا أن نستسلم لعمله. فيه ندعو الله أبًّا وبه نتعرّف إلى الابن في حياته على الأرض كما في موته وقيامته.