الفصل العاشر
عطيّة الروح في إنجيل يوحنا
أعلن يوحنا باحتفال في كتاب الآيات (ف 2- 12)، عطيّة الروح بواسطة المسيح المائت والقائم من الموت. ثم ذكر "البارقليط" الذي ميّز خطب الوداع. تبقى ف 18- 20 التي تذكر آلام المسيح وموته وقيامته. ننطلق منها فنفسّر المقطعين الذين فيهما يظهر الروح، كما نتوقّف عند علاقة هذين القولين بالبارقليط.
1- على الجلجلة (19: 30- 34)
دوّن يوحنا باهتمام كبير كل المشاهد التي تؤلّف خبر الصلب، فجعلنا نرى من خلال الخبر البُعد اللاهوتيّ والروحيّ للحدث. فإذا أخذنا بعين الاعتبار الايرادات والتلميحات الكتابيّة، وما يقابل مقاطع أخرى في الانجيل الرابع، نستطيع أن ندرك البعد الأول للنصّ ونترك المعنى مفتوحًا. ولكننا لسنا في مجال الاستعاريّة السهلة التي لا ترتبط أي ارتباط بالنصّ. فشرعيّة التطبيقات الثانويّة تشرف عليها علاقتُها بالمعنى الاساسيّ.
إن كلمة يسوع الأخيرة (قد تمّ) تشكّل تضمينًا واحتواء مع بداية كتاب الساعة (13: 1، أحبّهم حتى الغاية، حتى التمام). إنها تتمة العمل الذي طلب منه الآب أن يكمّله (4: 34؛ 5: 36؛ 17: 4) من أجل خلاص العالم. والساعة التي قيل عنها مرارًا أنها ما جاءت بعد (3: 4؛ 7: 30؛ 8: 20)، قد جاءت الآن. هي ساعة عبوره من هذا العالم إلى الآب (13: 1) وتمجيده (17: 1). في هذا السياق، برزت بشكل خاصّ كلمات عبّرت عن موت يسوع: "أسلم الروح".
اختلفت هذه العبارة عمّا يقابلها في مر 15: 37 ومت 27: 5، فلم تجد ما يقابلها في العالم اليونانيّ. لا نستطيع أن نوازيها مع عبارة مز 30: 6 الذي ردّده يسوع كما في لو 23: 46 (استودع روحي). فهي ترتبط بهدف خاص لدى الانجيليّ. فالروح المذكور هنا يدلّ أولاً على نسمة الحياة (11: 33؛ 13: 21). ولكن نسمة يسوع هذه ترتبط بالروح القدس الذي ناله في المعموديّة (1: 32). وفعل "أسلم" يعني هنا نقل الروح إلى مجموعة المؤمنين التي تمثّلها النسوة (بمن فيهنّ مريم) والتلميذ الحبيب.
هناك من عارض هذا التفسير بما نقرأ في 20: 22 حين نفخ يسوع الروح القدس. في الواقع، لسنا أمام تكرار، بل أمام طريقتين مختلفتين في تقديم عطيّة الروح القدس بيد القائم من الموت في إطار الفصح. فبحسب النصّ الأول، رأى الانجيليّ الآلام (أو: الحاش) والتمجيد ونقل الروح في نظرة واحدة، داخل الساعة. وكان التشديد على ضرورة الموت لكي يتمّ نقل روح الحياة. في الخبر الثاني، تُفصَّل الأحداث التي تشكّل الخلاص: الموت، ظهورات المسيح، العودة إلى الآب (20: 17). في هذا الإطار، تبدو عطيّة الروح باكورة "يوم الأحد" الذي تدشّنَ بالقيامة.
ويتبع خبرَ موت يسوع، شهادةٌ احتفاليّة لدى الانجيليّ حول طعن المسيح بحربة، كتتمّمة لنبوءتين اثنتين: النبوءة المتعلّقة بالحمل الفصحيّ (19: 36؛ رج خر 12: 46؛ مز 33: 21 وحماية البار). ونبوءة زكريا (12: 10) حول مشاهدة المطعون وارتباطها بينبوع التنقية (زك 13: 1).
حين ذكر يوحنا الدم والماء اللذين خرجا من جنب يسوع (لفظة "جنب" "كما في 20: 25، 27)، دلّ أولاً على واقع موت يسوع وفاعليّته الخلاصيّة ضد الظاهريّين الذي يقولون إن يسوع ما مات، بل تظاهر أنه مات، كما سبق له وتظاهر أنه أخذ جسدًا مع أنه لم يأخذ جسدًا. فحملُ الله (19: 36) قد وهب حياته طوعًا (19: 30؛ رج 10: 17- 18)، وسلّم الروح إلى الكنيسة (19: 30) فاقتلع خطيئة العالم (1: 29) حين عمّد المؤمنين في الروح القدس (1: 33- 34). تقابلَ هذا الجسدُ المطعون بصخرة الهيكل (رج 2: 21: هيكل جسده) فصار ينبوع ماء حيّ منه يجري "روح النعمة والتوسّل" (زك 12: 10) الذي يفتح طريق التوبة للذين نظروا إليه بعواطف التوبة.
وفى خلفيّة هذا النصّ، نرى تلميحًا إلى المعموديّة (الماء) والافخارستيا (الدم)، كسرّين من أسرار التنشئة المسيحيّة: فالروح الآتي من المسيح الذي "رُفع" يعطي الأسرار فاعليّتها.
2- في العليّة (20: 22)
في خبر الظهور الأوّل في العليّة (20: 19- 23) نجد عناصر ظهور فيه يتعرّف التلاميذ إلى يسوع، ويتقبّلون رسالة. والنصّ الموازي نجده في لو 24: 36- 53 الذي يكتفي بأن يعلن مجيء قوّة من العلاء (24: 47- 49)، لأن أع 2 سيتحدّث عن عطيّة الروح في اليوم الأول من الاسبوع.
استعاد يوحنا عناصر تقليديّة مختلفة فقدّمها في نظرة شاملة. هناك اليوم الأول من الاسبوع، وهكذا نرتبط بالخلق الحديد. هناك العليّة المغلقة تجاه حريّة يسوع وحضوره المفاجئ وإرسال التلاميذ. والسلام الذي منحه المسيح يذكّرنا بما قرأنا في خطب الوداع (14: 27: سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم؛ 16: 33: يكون لكم بي سلام). والفرح يرتبط بهذا الحضور (14: 28؛ 15: 11؛ 17: 13). غير أن هذا الظهور القصير للمسيح لا يستطيع أن يُتمّ ملء التمام المواعيد حول عودته. والتشديد اللافت على جراح المسيح (آ 20، 24، 29) قد توخّى الدلالة على أن القائم من الموت هو المصلوب. كما أراد أن يبيّن أن ينبوع الروح قد فُتح حين طُعن الجنب بالحربة (19: 34- 37).
في هذا السياق الاجمالي نقرأ الأقوال الثلاثة التي نجدها هنا: إرسال في مهمّة، عطيّة الروح، سلطان غفران الخطايا. إن عبارة الارسال نقابلها مع 17: 18 (أنا أرسلهم إلى العالم كما أرسلتني أيها الآب)، فتستنير بالصلاة الكهنوتيّة حيث يكشف المسيح وحدة شخصه مع الآب واستمرار عمله بواسطة التلاميذ الذين اختارهم وأبعدهم عن شرّ العالم. حين ربط يسوع هذا الارسال الذي ناله من الآب مع إرساله تلاميذه (كما)، أشركهم في الحياة التي نالها من الآب (6: 57)، وفي المعرفة التي توحّده بالآب وفي حد الآب له وفي الرسالة التي تسلّمها من الآب.
والقول حول عطيّة الروح القدس، تسبقه حركة ذات معنى عميق جدًا: "نفخ في وجوههم". نجد هنا الفعل في تك 2: 7 حيث ينفخ الله الحياة في آدم. وفي 1 مل 17: 21 (حسب السبعينيّة) حيث يعيد إيليا الروح (أو نسمة الحياة) إلى الميت. وفي حز 37: 9 حيث ينادي حزقيال الروح من الرياح الأربع ليعيد الحياة إلى العظام اليابسة. وفي حك 15: 11 مع العودة إلي خلق آدم. ففي إطار اليوم الاول من الاسبوع (يو 20: 19)، نحن أمام فعل الخلق الذي يدلّ على قوّة الولادة الجديدة المرتبطة بالروح (31: 5). وفي خطّ الفقاهة (أي: التعليم المسيحيّ) العماديّة كما في ف 3، نشهد تقدّمًا على مستوى الوحي: فالمسيح الفصحي يمنح روحه لتلاميذه ليجعل منهم أناسًا جددًا يستطيعون أن يقوموا بالمهمّة التي أوكلت إليهم الآن. وعبارة الشرح موجزة جدًا: "خذوا الروح القدس": نحن هنا أمام فيض الروح كما أعلنه الانبياء. وهكذا نكون في خط العماد بالروح القدس كما في 1: 32- 33.
والقول حول مغفرة الخطايا يتقابل مع مت 18: 18. نلاحظ استعمال صيغة الجمع، ساعة اعتاد أن يستعمل يوحنا صيغة المفرد (الخطيئة) ليدلّ على الخطيئة الكبرى، أي اللاإيمان (16: 8- 9). أما في رسالة يوحنا الأولى، فالنصّ يتحدّث عن الخطايا، أي تلك الأعمال التي تعارض مشيئة الله (1 يو 1: 9؛ 2: 2، 12؛ 3: 5؛ 4: 10). إن يو 20: 23 يعني أساسًا مهمّة الغفران التي تمارسها الكنيسة بواسطة المعموديّة كما بواسطة سائر ممارسات التوبة. هنا نتذكّر أول مرّة تحدَّث فيها المعمدان عن يسوع: "هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (1: 29). أرسل يسوع إلى العالم لكي يخلّصه (12: 47)، فأعدّ تلاميذه الآن لكي يتابعوا مهمّته في العالم. والذي يتيح لهم أن يقوموا بهذه الولادة الجديدة هو روح الحياة، روح القداسة.
خاتمة
ننهي كلامنا عن الروح في انجيل يوحنا في نظرة حول حضور هذا الروح في الرسالة الأولى التي حاولت أن توضح ما أسيء فهمه من الانجيل في الجماعات المسيحيّة. تكشف هذه الرسالة دور الروح في أقسامها الثلاثة. بدأ القسم الأول بالاعلان أن الله نور (1: 5) وانتهى بتوسّع يتعلّق بمسحة الروح: نلتم مسحة من القدوس (2: 20). وبدأ القسم الثاني بالاعلان أن الله حقّ (2: 29) وانتهى بتنبيه حول تمييز الأرواح (4: 1- 6): "بذلك نعرف روح الحقّ من روح الضلال". وتميّز القسم الثالث بإعلان يقول إن الله محبّة (4: 8، 16) وانتهى بتوسّع حول شهادة الروح (5: 6- 12). وفي قلب الرسالة، سمعنا مرّتين إعلانًا يقول: الله أعطانا روحه. مرّة أولى في 3: 24: "نعرف أن الله ثابت فينا من الروح الذي وهبه لنا". ومرّة ثانية في 4: 13: "ونحن نعرف أننا نثبت في الله وأن الله يثبت فينا بأنه وهب لنا من روحه". وهكذا نفهم أننا صرنا مشاركين في هذا الروح منذ المعموديّة. فلا يبقى علينا إلاّ أن نترك هذا الروح يرافقنا فنكتشف عمله في حياتنا وفي حياة الكنيسة من أجل رسالة تكون امتدادًا لرسالة التلاميذ حين أرسلهم الرب يوم العنصرة.