الفصل الخامس
الروح ينهض شعب الله
حز 37: 1- 14
إنّ حز 37: 1- 14 يشكّل تتمة لما ورد في 36: 16- 38. بعد أن تحدّث النبي عن تجديد الشعب والأرض في الكلام النبوي السابق، ها هو يؤكّد مجدّدًا إرادة الربّ في تجذير وعده من خلال رؤية. إنّه سينعش رجاء شعبه في منفاه (37: 1- 14). وهذا ما سيتمّ بإعادة بناء بيت اسرائيل على أرضه بواسطة روح الربّ.
1- بنية النص
إنّ كلام الربّ الوارد في آ 1 "بروح الربّ" وفي آ 14 "روحي" يشكّل حدودًا للنص ويبكِّل 31: 1- 14، ويُظهر التضمين واضحًا.
يقسم النص ستة أقسام صغيرة مقسّمة بطريقة متماسكة آ 1- 3؛ 4- 8؛ 9- 10؛ 11؛ 12- 13؛ 14
تشكّل آ 1- 3 مقدّمة تبيّن المكان الذي نقل روح الله النبي إليه، وتصف هذا المكان، وهو واد مليء بالعظام اليابسة. بعد هذا العرض، يطلب الرب من حزقيال أن يتنبأ مرتين، مرّة على العظام (آ 4- 8)، ومرّة أخرى على الروح (آ 9- 10). والنبوءتان مبنيتان بالطريقة ذاتها. يأمر الربّ في آ 4- 6، 9 حزقيال. وفي آ 7- 8، 10 ينفّذ النبي الأمر. أما آ 11 فتعبّر عن كلام الشعب الذي يشكو من وضعه المأساوي. واستجابة لصراخ الشعب، يطلب الرب مجددًا من النبي أن يعلن أنّ إسرائيل سيصعد من القبور (آ 12- 13)، وأنّ الروح سيعيده ليعيش على أرضه (آ 14).
استنادًا للملاحظات السابقة يظهر لنا النص على الشكل التالي:
أ- (آ 1- 3)- روح الربّ يعمل في النبي
- يهوه يطرح سؤالاً على حزقيال: أتحيا هذه العظام؟
ب- (آ 4- 8) نبوءة على العظام اليابسة
ج- (آ 9- 10) الروح ينفخ على الأموات
ب ب- (آ 11) العظام هي كل الشعب الاسرائيلي
ج ج- (آ 12- 13) وأصعدكم من القبور (من بين الأموات)
أ أ- (آ 14) الجواب على السؤال الوارد في آ 3 هو التالي: "وأجعل روحي فيكم فتحيون"
2- لاهوت النص ومعناه
أ- يوحي روح الربّ لابن آدم بالحياة الجديدة (آ 1- 3)
إنّ ورود الاسم الرباعي ليهوه ثلاث مرّات في بداية الفقرة وفي نهايتها (آ 1، 3)، يجعل يهوه سيد الموقف، "يد الربّ (يهوه)"، "روح الربّ"، "سيدي الربّ". ينقلنا التعبير الأول إلى رؤية جديدة في سفر حزقيال (آ 1)؛ وهو متصل أحيانًا بروح يهوه الفاعل في النبي ليجعله ينتقل من مكان إلى آخر من خلال الرؤية (آ 2). "كانت يد الربّ عليه" تعني أنّ الله وضع الكلام في فم النبي، وأنّ روح الله ينتزعه من الرؤية العادية للأشياء ويدخل في طويّته الروحيّة. وبالتالي فإنّ انتقال النبي فكري أكثر مما هو جسدي. وتعبير "العظام" بصيغة الجمع، يتكرّر ثلاث مرّات لإبراز هدف يهوه، وهو إعادة إحياء هذه العظام (آ 3). والعظام موجودة في مكان معيّن، إنّها في "وسط البقعة" (آ 3). وهي "كثيرة جدًا ويابسة جدًا". هذا الوصف يقرّبنا من واقع يُظهر عدمًا خاليًا من كل رجاء؛ والمرور من حولها في كل الاتجاهات، ليس سوى تأكيد على غياب الحياة فيها. ويأخذ يهوه المبادرة في آ 3، ويطرح على حزقيال السؤال: "يا ابن آدم، أتحيا هذه العظام"؟. إنّ عبارة "يا ابن آدم" تذكّر النبي بوضعه البشري وتخلق مسافة بينه وبين الله المتسامي (آ 4). إنّ هدف يهوه يتوضّح من خلال السؤال الذي طرحه، وهو إعادة إحياء العظام.
وفي آ 3ب، يتضمّن جواب النبي فعل إيمان، "أيها السيد الربّ"، وفي الوقت ذاته ثقة بإمكانات الله غير المحدودة التي لا يقدر عليها عجز الانسان. لم يعد لدى "ابن آدم" ما يقوله أمام موقف كهذا: "يا سيدي الربّ، أنت تعلم".
ب- يجعل الروح من كلمة ابن آدم قوّة تحيي (آ 4- 8)
بعد التجوّل في الوادي، بكل الاتجاهات (آ 1- 3)، تلقّى حزقيال الأمر بأن يتنبّأ على العظام اليابسة (آ 4). يُعلمه يهوه في البداية، بما عليه أن يقول (آ 4، 6)، قبل أن يترك الكلام له (آ 7- 8). إنّ كلمة "الله" تمرّ بإنسان ليعلنها. وفي آ 4، يتمّ تشخيص العظام اليابسة، لأنّ كلام يهوه سيكون موجهًا إليها، "اسمعي كلمة الربّ". وتؤكّد آ 5 من جديد على أنّ النبوءة تأتي من الربّ. وبالإضافة إلى ذلك، لن تحيا هذه العظام بدون روح يعطيها يهوه (آ 5، 6ب). وضمير المتكلّم "أنا" الذي تكرّر خمس مرّات في آ 5- 6، بشكل بارز ومستتر، يجعل يهوه العامل الفاعل الوحيد في الرؤية: فهو من يعطي الروح ويجعلها تدخل في تلك العظام. إنّ "الروح" المشار إليها في آ 5ب، 6ب، 8ب ليست روح يهوه (آ 1). إنّها تأتي من الله وليست الله ذاته، بل هي علامة وجود الحياة في الإنسان. وتعبّر آ 6أ عن إحياء العظام ابتداءً من أعمقها في جسم الانسان، ابتداءً بالعصب، ثم اللحم، ثم الجلد. والانسان مكوّن من جسم وروح، واكتمال هذين العاملين فيه متعلّق بيهوه: "وتعملون أنّي أنا الربّ". إنّ عمل يهوه لصالح العظام اليابسة هو إنجاز خلاّق ذو وجهين: الله يعيد خلق جماعة (من البشر)، لترى وتعرف أنّه يهوه، مصدر الخلق والايمان. بعد أمر يهوه، يأتي التنفيذ حيث يأخذ النبي الكلام. وصيغة المتكلّم التي استعملها النبي في آ 7، تدل أنّه الفاعل الذي يقوم بأعمال ثلاثة: تلقّي "الكلمة" (آ 7)، "والتنبؤ" (آ 7)، "والنظر" (آ 8). يتلقّى النبي كلمة ليست منه. وفاعلية هذه الكلمة في الناس. والصوت والارتعاش (آ 7) يدلاّن على الحركة، فالعظام تتقارب بعضُها من بعضها، ويطرأ عنصر خارجي في اللحظة التي يتنبَّأ فيها حزقيال. تُحدث كلمتُه المفاعيل التي أعلن عنها سابقًا، وتعود الأعصاب واللحم والجلد إلى مواضعها. ولكن الأجسام تبقى بدون روح (آ 1). ونرى أنّ "هناك ميلاً عند حزقيال للتوسّع في المسار القصصي، وخاصة لعرض انتروبولوجيا (آ 3) تقليدية، هي التي تخبر عن خلق الانسان على مرحلتين: (تك 2: 7)، فنتوقّف هنا على مرحلة أولى، بانتظار أمر جديد من الله".
ج- يتجاوب الروح مع كلمة ابن آدم فيقيم البشر من بين الأموات (آ 9- 10)
إنّ آ 9- 10 متوازيتان. بالواقع، يعطي الله الأمر للنبي (آ 9أ) الذي ينفّذه (آ 10أ)، وهذه هي الحال في الفقرة السابقة. وكلام يهوه في آ 9ب يقوم على دعوة الروح ليهبّ على القتلى، وفي آ 10ب، يتحقّق كلام الله لأنّ الموتى عادوا إلى الحياة. إنّ حزقيال في استعماله لكلمة "روح"، ينتقل من معنى إلى آخر بطريقة لا شعورية. ويعني الروح في آ 4- 8، نفخة الحياة البشرية، وفي آ 9- 10، نجد كلمة "روح" مسبوقة "بأل التعريف" فتصبح مشخّصة. فهذا الروح يجب أن يأتي من "الجهات الأربع"، "من الرياح الأربع"؛ فهو في كل مكان، وغير محدّد في الوقت ذاته. وتتحدّث آ 1، 14 عن روح يهوه الذي يمر من خلال النبي فيؤثّر عليه، ويجعل الموتى يحيون (آ 1).
لذلك، فإنّ الروح في آ 9- 10 لا يأتي من الله بل من قوّة حياة تعبر العالم وتغمر الجثث كالريح. ومع ذلك، فإنّ مجيء هذا الروح متعلّق بإرادة يهوه. وبالإضافة إلى ذلك، ففي زمن حزقيال، كما في زمن أيوب (رج 14: 14)، لم يكن الناس يعرفون شيئًا عن قيامة شاملة للموتى في اليوم الأخير، ولم يكونوا يريدون أن ينكروا على يهوه إمكانية إحياء الموتى بقدرته كخالق. إنّ قدرة يهوه هذه، سبق أن أيّدها سفر الملوك (1 مل 17: 17 ي؛ 2 مل 4: 31 ي؛ رج 2 مل 13: 20 ي. والإشارة إلى يهوه كـ "إله أرواح جميع البشر"، عد 16: 22).
د- يعاكس الروح يأس شعب الله وتحاليله المحدودة (آ 11)
إنّ المقطوعة 1- 10 قد تفسّر رؤية بعيدة عن الواقع إن لم نربطها بهدفها. وتلعب آ 11 دور جسر يصل الخيالي بالواقعي. وعبارة "ابن آدم" تدلّ على رسالة جديدة موجّهة إلى النبي، وهي تفسير الرؤية. هذه العظام، هي كل بيت اسرائيل. يشتكي الشعب في آ 11ب، من وضعه المأساوي، ويستعيد، في كلامه، التعابير المستعملة في الرؤية: "عظام يابسة". إنّ الشعب مقتنع بدماره وضياعه الميت: "هلك رجاؤنا". لأنّ اسرائيل حافظ على رجائه حتى سقوط أورشليم والهيكل في يد البابليين. يتدخّل الله ويُبلغ مخطّطه الخلاصي إلى النبي منذ بداية فقدان الرجاء في حياة المنفيين. والنبي بدوره يشرح كلمة يهوه مستندًا إلى تعبير يصف خيبة شعب اسرائيل الحالية: "يبست عظامنا، وهلك رجاؤنا، قد انقطعنا" (آ 11ب).
هـ- يحيي الروح الأمل ويُصعد الشعب من حالته المأساوية (آ 12- 13)
بهذه الآيات يردّ النبي على "هلاك الرجاء" الذي يتمّ التعبير عنه في آ 11. فقد سبق أن تنبأ حزقيال للروح فعاد الموتى إلى الحياة (آ 10). فهؤلاء لم يعد مكانهم في القبور (آ 12- 13). وتفتح آ 12أ النبوءة مثل آ 5- 9. هذا الكلام موجّه إلى شعب يائس (رج آ 11) يدعوه الله إلى فعل إيمان (آ 13أ). وتتوازى آ 12ب مع 13 ب: ينبع الاعتراف الايماني من فعل يهوه الذي سيفتح القبور. وهكذا يتدخّل الله بذاته في فعل تحرير شعبه. وآ 12ج موازية للآية 13ج ج: يدعو يهوه بيت اسرائيل "شعبي" ويؤكّد أنّه لم ينسَ عهده معه. يؤدي إخراج شعبه من القبور إلى "إعادته" إلى أرضه. وتشير القبور إلى حالة المنفى الذي وقع فيه الشعب اليهودي في أرض بابل. يجب أن نشير هنا إلى فعل "صعد"، الذي يُعيدنا إلى تقليد الخروج، عندما "أصعد" الله شعبه.
و- يحلّ الروح على شعب يسكن في أرض يعلم فيها كلام الربّ وصنائعه (آ 14)
إنّ العودة إلى أرض اسرائيل يجب أن تمر بالروح. وتصف آ 14أ وآ 14أ أ عملين قام بهما يهوه لمصلحة اسرائيل؛ جعل روحه فيهم، وجعلهم في أرضهم. والروح في آ 14ب يعطيهم الحياة. أما في آ 14ب ب فسيصبح اسرائيل نشيطًا فاعلاً ويعرف يهوه مجددًا. وهذا سيتحقّق بعد معاينة فعالية كلمة يهوه، والشهادة لها؛ "تكلّمتُ وأفعل" (14 ب ب). وبالاضافة إلى ذلك، فإنّ آ 14 هي جواب على السؤال الذي وجّهه يهوه إلى النبي في آ 3: "أتحيا هذه العظام؟. إنّ روح الله في آ 1، هو ذاته في آ 14أ. لذلك، فالبداية والنهاية متعلّقتان به، من مبادرته إلى نهاية مخطّطه الخلاصي لشعبه. ويدلّ توجيه حزقيال بروح يهوه (آ 1)، على حضور إله العهد عاملاً بكلمة نبيّه.
وينقل هذا النبي، المتّحد بالروح، الكلمة إلى شعبه إذ يخاطبه (آ 14). إنّ الكلمة مجتمعة مع الروح تصير فاعلاً خلاصيًا وحاملاً الرجاء. ليس النبي مخلّصًا، بل مساهمًا تمرّ كلمة يهوه من خلاله.
3- الخلاصة
إنّ هذا النص هو من أشهر نصوص حزقيال. ونجد فيه، بشكل قوي، تعزية الشعب الذي فقد الرجاء. إنّ النبي، بهذه الرؤية التي رآها، يردّ على وضع مأساوي تلا انهيار أوهام بيت اسرائيل. والروح الموعود في هذا الإطار، يتدخّل ليعطي الحياة لبني اسرائيل لكي يخلقهم من جديد. وهذا الخلق الجديد يتّخذ شكل خروج من المنفى وعودة إلى البلاد. فبعد تدخّل روح يهوه، سيرجعون شعبًا يرى في إلهه، ذلك الفاعل بقّوّة أكيدة.
يبقى 37: 1- 14 وعدًا غير مقيّد بشروط، ودون دعوة إلى الارتداد أو إلى الطاعة. كل شيء متعلّق بمبادرة الله في مجانيتها. إنّ إرادة الله ترفض موت شعبه وتلاشيَه. فالله يريد خلاص هذا الشعب، لذلك يُرسل النبي، كعلامة محسوسة وواضحة للعلاقة بينه وبين شعبه. إنّه مع حزقيال ليُحيي رجاء المنفيين، ويعيد لوجودهم معناه.
بعد سقوط أورشليم أعلن حزقيال رسالة رجاء: سيتدخّل الله لصالح شعبه، ويقيمه، إذ يجعل فيه روحًا من روحه (36: 23- 27؛ 37: 1- 14؛ 39: 29). يعطي الله روحه ليجعل العلاقة مع بيت اسرائيل ممكنة، بالمستوى الذي يريده الله. تصل درجة التزام الربّ بإحياء شعبه إلى حدّ تقاسم "روحه" معه.
أ- الروح وروى الإنسان
إنّ المعنى المعطى لكلمة "روح" في آيات عديدة هو "روح الانسان". ففي 3: 14 حمل الروح النبي الذي كان يشعر بحرارة روحه في داخله، ويد الربّ شديدة عليه. لقد مُسّ المركز الحيوي في داخله. وكذلك الأمر في 21: 12، حيث الروح المغلوب يدلّ على حيوية وشجاعة الكائن البشري (يش 2: 11؛ 5: 11). وفي 20: 32 نقرأ "والذي يخطر ببالكم" (بروحكم في الأصل). إنّ الروح تعني هنا القوة التي في داخل الانسان وهي تجعله ينصرف إلى عبادة الأصنام.
وكذلك فإنّ روح النبي تبدو كمركز إدراك غير قادر بمفرده على اكتشاف إرادة الله (13: 3؛ هو 9: 7)، ولا يكتمل الإدراك إلاّ بروح يهوه. نضيف إلى ذلك الدعوة إلى الارتداد: "واعملوا لأنفسكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدة" (18: 31). هذا التحريض يبدو متناقضًا مع مجرّد الوعد بالخلاص (11: 9؛ 36: 26)، الذي بموجبه سيزرع يهوه بذاته هذه الروح الجديدة في الانسان.
ب- الخاتمة
سيعيد الله شعبه إلى أرضه، ويحدث تغييرًا واقعيًا في روح الكائن البشري، أي المركز المحرّك للكائن البشري، الذي يعطي صورة مخلوق ينفخ الله فيه نسمة الحياة من جديد. فكما ينفخ الله في الانسان نسمة "حيّة" (تك 2: 7)، كذلك فإنّ الروح الذي أعطاه الله للإنسان سيبقى نعمة خاصة. وعطيّة الروح الجديد تحدث تغييرًا جذريًا في داخل الانسان، ألا وهو "معرفة الله".