الفصل الخامس عشر
طرد الشياطين
عنوان بحثنا "طرد الشياطين" لا يخوّف، بل سيعطينا فهمًا جديدًا وعميقًا لسّر المسيح وسيقوّي إيماننا بشخص يسوع الذي أتى ليبشّر بملكوت الله وبزوال مملكة الشيطان.
تنحصر دراستنا في الأناجيل الإزائية التي تعطينا فكرة واضحة وشاملة عن نشاط يسوع في طرد الشياطين.
ينقسم بحثنا إلى أربعة أقسام:
1- بعد المقدّمة الموجزة سنتكلم عن تاريخية نشاط يسوع في طرد الشياطين
2- بنية الرواية في طرد الشياطين (ما هي أهم العناصر التي تؤلّف الرواية)
3- النصوص التي تتكلّم عن حادثة طرد الشياطين
4- دراسة بعض النصوص التي تتكلّم مباشرة عن طرد الشياطين.
مقدمة
كل شرّاح الكتاب المقدّس يسلّمون أن يسوع مارس هذا النشاط: طرد الشياطين (exorciste)، لا بل كان في صميم رسالته الخلاصية.
هناك مرجعان مهمّان من أقوال يسوع يؤكّدان هذا النشاط:
1- المرجع الأوّل يتعلّق بالاصطدام مع بعل زبول (متى 12/ 24- 29؛ مرقس 3/ 22- 27؛ لوقا 11/ 15- 22). هذا المرجع يعطينا فكرة واضحة عن نشاط يسوع في طرد الشياطين، لكن الفريسيون وأعداء يسوع ترجموا هذا النشاط بمفهومهم الأعوج حينما قالوا: "إن هذا لا يطرد الشياطين إلاّ ببعل زبول، سيّد الشياطين". (متى 12/ 24).
2- المرجع الثاني والمهم أيضًا في نظرنا يتعلّق بالرسالة التي أوكلها يسوع لتلاميذه: "اشفوا المرضى، وأقيموا الموتى، وأبرئوا البرص وأطردوا الشياطين" (متى 10/ 8؛ مرقس 6/ 7؛ لوقا 9/ 1- 2).
1- تاريخية نشاط يسوع في طرد الشياطين
يقول يسوع: "أما اذا كنت أنا بروح الله أطرد الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله" (متّى 12/ 28؛ لو 11/ 20).
هذا الإعلان هو نقطة ارتكاز قوية، بالنسبة لنا، تؤكّد تاريخية عمل يسوع في طرد الشياطين. في النص، يتهم الفرّيسيّون يسوع أنه يطرد الشياطين ببعل زبول فيجيبهم قائلاً: "إذا كان الشيطان يطرد الشيطان فقد انقسم على نفسه" وبالتالي فهو يعمل على دمار مملكته (متى 11/ 26).
هنا يربط يسوع طرد الشياطين مع مجيء ملكوت الله. وبالفعل فإنَّ المسيح، حسب الانتظار اليهودي، سيبيد مملكة الشيطان منتصرًا في الوقت نفسه على المرض والموت اللذين يجسدان سيطرة الشيطان وتملّكه على الإنسان. فالمعجزات (أشعيا 35/ 5- 6) وطرد الشياطين (إرميا 31/ 34؛ حزقيال 36/ 25) هما العلامة الأكيدة لاقتراب ملكوت الله. وفي كتابات اليهود الرؤيوية كان هناك اعتقاد سائد أنه مع مجيء ملكوت المسيح ستُكبَّل كل الشياطين وتلقى في الهاوية.
إن يسوع، في رسالته الخلاصية، أعلن أن مملكة الشيطان قد تلاشت، وطردُ الشياطين إثبات لذلك. إن شخص يسوع هو الأقوى، إنه يمثّل حضور ملكوت الله. فحيثما يوجد يسوع هناك يعمل، روح الله"، "إصبع الله"، "قوة الله".
2- البنية التقليدية لرواية طرد الشياطين
خمس نقاط أساسية تؤلّف الرواية:
1- اللقاء: لقاء يسوع مع الممسوس.
2- مقاومة الشيطان: يحاول أن يقاوم عمل يسوع أي طرده من المموس.
3- الأمر بالخروج: يسوع يأمر الشيطان بالخروج من الرجل الممسوس "أخرج منه".
4- خروج الشيطان يتم اجمالاً مع صرخة شديدة وهذه هي علامة خروجه.
5- ردّة فعل الجموع: تعجب، خوف، اندهاش...
من خلال هذه العناصر، نستنتج أن الموضوع الأساسي للرواية هو كرستولوجي أي المحور هو يسوع المسيح. الشيطان وجد آخر أقوى منه.
3- النصوص التي تتكلّم عن حادثة طرد الشياطين
هناك خمس روايات في الأناجيل الإزائية:
إثنتان في التقليد الثلاثي أي موجودة في متى ومرقس ولوقا:
أ- شفاء ممسوس في ناحية الجراسيين (متى 8/ 28- 34؛ مرقس 5/ 1- 20؛ لوقا 8/ 26- 39).
ب- طرد الشياطين من صبي مصاب بالصرع (متى 17/ 14- 21؛ مرقس 9/ 14- 29؛ لوقا 9/ 37- 43)
هناك رواية واحدة مشتركة بين مرض ومتى: شفاء إبنة الكنعانية (متى 15/ 21- 28؛ مرقس 7/ 24- 30).
رواية واحدة أيضًا مشتركة بين مرقس ولوقا شفاء ممسوس في كفرناحوم (مرقس 1/ 23- 28؛ لوقا 4/ 33- 37)
وأخيرًا رواية واحدة في إنجيل متى ولوقا: شفاء أخرس ممسوس (متى 9/ 32- 34؛ لوقا 12/ 14- 15).
إضافة إلى هذه النصوص هناك بعض الآيات التي تتكلم بإيجاز عن نشاط يسوع في طرد الشياطين خاصة في إنجيل مرقس (مرقس 1/ 32- 34؛ 1/ 39؛ 3/ 7- 12؛ 6/ 12- 13).
4- دراسة بعض النصوص التي تتكلّم عن حادثة طرد الشياطين
أ- طرد الشياطين من رجل في ناحية الجراسيين (متى 8/ 28- 34؛ مرقس 5/ 1- 20؛ لوقا 8/ 26- 39).
تصنّف هذه الرواية برواية طرد الشياطين لأنها تجمع كلى خصائص عمل يسوع لهذه المهمّة. فالرجل الممسوس ليس فقط مريضًا إنمّا يسيطر عليه حضور شخص آخر يسميه الإنجيل "روحٌ نجسٌ". الخصم الحقيقي ليسوع هو الشيطان وليس الرجل الممسوس. نجد في هذه الرواية العناصر الأساسية لطرد الشيطان:
1- اللقاء: لقاء يسوع مع الممسوس (آية 2).
2- وصف للحالة الخطيرة التي كان يتعرّض لها الرجل. فهو يقيم في القبور أي في مكان نجس. لقد قيّد بالسلاسل لكنه قطّعها وكسر القيود (3- 5).
3- مقاومة الشيطان: إنه يريد مهاجمة يسوع بعبارة دفاع "ما لي ولك" (آية 7) ويبحث في السيطرة على يسوع بمعرفة اسمه وبالكرامة التي لديه. "ابن الله العلي"، ويستحلف الشيطانُ يسوع بألاّ يعذبّه. نجدُ هنا ضمنًا اعترافًا بسلطة يسوع ومقدرته التي لا تُقهر من حيث المبدأ.
4- الأمر بالخروج (8): "أخرج منه". كلمة واحدة "أخرج" تُظهر قدرة يسوع على قهر الشيطان.
والملفت للنظر أيضًا هنا، سؤال يسوع للرجل الممسوس: ما اسمك؟
فيجيب الرجل: اسمي جيش لأننا كثيرون (9).
إن إعلان اسم الممسوس جيش يدلّ هنا في رواية طرد الشياطين أن يسوع أتى ليمحو كافة معسكر الشيطان ويحرّر الإنسان من النجاسة المستحوذة عليه بفعل الشيطان.
5- ردة فعل الجموع: خوف وهلع
أ- حالة الرجل بعد الشفاء. يصفه الإنجيلي جالسًا لابسًا صحيح العقل (آية 15). أكثر من ذلك. إنه يريد أن يتبعه (آ 18). ولكن يسوع يأمره بالذهاب إلى بيته وذويه وبأن يخبرهم بكل ما صنع الربّ إليه بالرحمة (آية 19) وهكذا يهيّىء هذا الرجل الطريق للرسالة المسيحيّة في أرض الوثنيّين.
ب- مرقس 1/ 21- 28: شفاء ممسوس في مجمع كفرناحوم
تنقسم هذه الرواية إلى قسمين:
1- تعليم يسوع في المجمع (21- 22) "إنه يعلّم كمن له سلطان لا مثل الكتبة"
2- طرد الشيطان من رجل.
ونركّز بحثنا على هذا القسم. يبدأ الإنجيلي بسرد هذه الرواية وتأتي في أولى المعجزات التي صنعها يسوع، طرد الروح النجس. هنا أيضًا نجد العناصر الأساسية لرواية طرد الشياطين:
1- لقاء يسوع مع الممسوس (آية 23)
2- مقاومة الشيطان (24)
3- الأمر بالسكوت وبالخروج (آية 25)
4- الخروج (آية 26)
5- ردة فعل الجموع: اندهاش (آية 27).
إن سكن الروح النجس في داخل الإنسان هو فكرة متواجدة عند الوثنيّة واليهوديّة والمسيحيّة. والإنسان الممسوس إجمالاً يكون مريضًا بجسده وبعقله وبروحه، وشفاؤه يكون ممكنًا فقط إذا خرج هذا الروح النجس من الإنسان.
في الآية 24 يصرخ الشيطان بفم الممسوس: أجئت لتهلكنا، وهذا اعتراف واضح أن سلطان يسوع يفوق قدرة الشيطان. وفي الآية 27 نجد ضمنًا اعترافا بخضوع الشيطان وبطاعته لأوامر يسوع: "حتى الأرواح النجسة يأمرها فتطيعه".
خلاصة
إن الآيات والمعجزات التي حقّقها يسوع لها وجهتان:
1- توجيه الانسان نحو الملكوت؛ 2- ودعوته إلى التوبة. ونستنتج من خلال هذه الروايات ثلاثة مميزات:
1- إن الرجل الممسوس هو في حالة فقد فيها قدرته الشخصية على القرار.
2- إن الخصم الحقيقي ليسوع هو الشيطان وليس الممسوس. والرجل الممسوس ليس إلاّ أرضاً تنشب فيها المعركة.
3- عمل يسوع هو طرد الروح النجس وشفاء الإنسان جسديًا وروحيًا.
أخيرًا، إن سلطان يسوع في طرد الشياطين قد أعطي لتلاميذه. والملكوت الذي افتتحه يسوع في حياته يجب أن يكتمل مع التلاميذ بالسلطان الذي أولاهم إياه: التبشير بالملكوت وبطرد الشياطين (متى 10/ 7).
إن طرد الشياطين هو العلامة الحسّية لحضور الله بشخص المسيح ولاقتراب ملكوته: "وإنما ظهر ابن الله ليحبط أعمال إبليس" (1 يو 3/ 8).
الأب بطرس موسى