الفصل السادس
الشياطين وطرد الارواح في العالم القديم
حين ندرس "امتلاك" الشيطان للناس وطرده في الأخبار الانجيليّة، نتذكّر المحيط الذي حصلت فيه هذه الأمور، أو الذي فيه دوِّنت: هناك مراجع أدبيّة وتقاليد شعبيّة. إلى أي حدّ كانوا يميّزون بين المرض وامتلاك الشيطان لانسان والاقامة فيه؟ وكيف يتمّ الفصل بين شفاء طبيعيّ وتعزيم يخرج الشيطان على أكثر من انسان من الناس؟
1- في العصور القديمة
إن الاعتقاد بالشياطين وامتلاك الشياطين للبشر، واقع حضاريّ شارك فيه معاصرو يسوع، سواء من العالم اليهوديّ أم من العالم اليونانيّ. ومن بحثَ في الجذور القديمة لهذا المعتقد، اكتشف "وجود نفس" أو "وجود روح" في الكون. هذا الروح يعمل في الطبيعة، يحسّ به الانسان وبقدرته، وينسب إليه نوايا صالحة أو شرّيرة. هذا ما نجده حتى اليوم في الحضارات التقليديّة في أفريقيا وفي قبائل بدائيّة ما زالت تعيش في أوستراليا أو غيرها من البلدان.
في العالم الوثنيّ القديم، امتزج "عالم الروح" هذا بميتولوجيّات منظّمة، فدلّت على أن القوى الإلهيّة تُشرف على الكون وعلى الانسان. وهذه القوى التي تقيم في الأعالي العلويّة، تستعمل وسطاء لتنفّذ على الأرض مقاصدها: هي الارواح والشياطين من كل نوع. تسبح في الجوّ أو تمتزج مع البشر في حياتهم اليوميّة.
وتنتظم هذه "الأرواح الخيّرة والشرّيرة" في صراع ينعكس صراعات على الأرض، بين الشرّ والخير، بين النور والظلمة، بين النظام والفوضى أو الشواش. هذا ما نجده في بلاد الرافدين: بعد أن انتصر مردوك على تيامات، تنين البحر والفوضى، أعاد تنظيم الأرض. والفصل الأول من سفر التكوين يرينا الله الذي يفصل المياه العليا عن المياه السفلى، ثم اليابسة عن المياه، والنور عن الظلمة. وبعد ذلك يزّين الفلكَ بالشمس والقمر والكواكب، ويملأ الأرض بالنبات والحيوان والإنسان. غير أننا لا نجد كلمة واحدة عن خلق هذه الأرواح التي ستسمّى ملائكة، أو أرواحًا خيّرة، وشياطين أو أرواحًا شرّيرة. وسيحاول المعلّمون وآباء الكنيسة أن يجدوا في مسيرة الخلق، "اليومَ" الذي فيه خلق الله الملائكة والشياطين: في اليوم الأول من الخلق.
وهكذا انقسم هؤلاء "الأرواح" حسب أعمالهم التي تحمل الخير أو تحمل الشرّ، بل تقاسموا العالم، فصاروا الجنّ والغيلان والعفاريت والملائكة وأعطوا أسماء، كما ذُكرت الشياطين وعملهم المضرّ. هنا نذكر سفر طوبيا والشيطان اسموداوس الذي قتل أزواج سارة السبعة. وفي النهاية، تغلّب عليه طوبيا حين أحرق كبد الحوت، فأجبره على الهرب إلى برية مصر.
ما كان موقف العهد القديم من هذه المعتقدات؟ هناك الاله الواحد. وهذا الايمان يستبعد وجود الآلهة وعملهم. في الطوفان بحسب غلغامش، الآلهة تعمل. في الطوفان كما تحدّث عنه سفر التكوين (ف 6- 9)، الله الواحد هو في حوار مع نوح لكي يخلّصه. وهو أساس عقاب البشرّية الخاطئة التي ارتدت العنف لباسًا.
وبجانب هذا الاله هناك قوى خاضعة له. قد تساعده في تنفيذ مقاصده من أجل البشر. هي الملائكة. مثل رفائيل في سفر طوبيا. وميخائيل في سفر دانيال. هذا عدا ما نجده في الأسفار المنحولة ولا سيّما سفر أخنوخ. هذه الملائكة تطيع الله في عمله. أما الذين يعارضونه فهم الشياطين الذين يحاولون بكل الوسائل أن يحملوا الضرر إلى البشر.
2- في العالم اليهوديّ
دراسة "حضور" الشياطين في العالم اليهوديّ دراسة متشعّبة. لقد أخذ العبرانيون الكثير من كنعان ومصر وبلاد الرافدين وإيران، كما استقوا ممّا وجدوه في العالم اليونانيّ الذي ارتبط من قريب أو بعيد بالعالم الهنديّ.
على المستوى العقائديّ يختلف إطار عالم الشياطين عمّا نجده في النصوص الوثنيّة. بما أن قدرة الاله الواحد تتغلّب على كل قدرة أخرى، فالقوى الخفيّة التي تتحرّك خارجًا عنه أو ضدّه، لا يمكنها إلاّ أن تكون خلائق تأتمر بأمره. وقد أعطاها سلطة محدودة لكي تمتحن الانسان الذي يبقى رغم كل شيء مغمورًا بعناية الله. هذا ما نجده عند أيوب. "سمح" الله له بأن يضرّ ذاك البار في أمواله وممتلكاته. وفي مرحلة ثانية، سمح له فقط بأن يرسل المرضى إلى أيوب. من هذا القبيل، تبقى هذه "الأرواح النجسة" خاضعة لله، وعملها لا يزيل قصد الله الخيّر تجاه البشر.
أما على مستوى التصوّرات، فالعالم اليهوديّ سيلجأ إلى صور وعبارات يأخذها من العالم المحيط به. بما أن الانسان جسد يرتبط بالمادّة، فهو بحاجة إلى المادّة لكي يعبّر عن فكره وعقله، عن خبرته التي تتجاوز عالم المادّة. وهكذا أخذت التوراة شخص "اسمو داوس" الذي هو شرّ الشياطين" (طو 3: 8) من إيران، ووسمته بسمات الملاك "المدمّر" الذي ضرب الشعب بالوباء بعد خطيئة داود (1 صم 24: 16)، والذي ذكره سفر الحكمة (18: 25) فقال: "حين رأى المهلك هذا، خاف وتراجع".
وشيطان سفر أيوب الذي هو المتهّم الأول (أي 1: 6)، صار ملهم الشرّ والمجرّب (1 أخ 21: 1). فإن كانت الديانة اليهوديّة قد أزالت من فلسطين الآلهة الوثنيّة القديمة، إلاّ أن تلك الآلهة التي أنزلت عن عروشها، صارت ترمز إلى الشرّ وسميّت "بعل زبول" أي "بعل الأمير"، و"رئيس الشياطين" (مت 12: 24). فإن قلنا إن الله ليس سبب الشرّ على المستوى الماديّ كما على المستوى الأدبيّ، فالشيطان هو حاضر هنا وهو يسعى لكي يُسيء إلينا أو يجتذبنا إلى الشرّ: في الحالتين هو يحرك قوى "خفيّة"، يحرّك "الملائكة الساقطين"، لأنه هو ملاك ساقط، كما يقول التقليد اليهوديّ المتأخر في تفسير تك 6: 1- 2 على ضوء سطرة كنعانيّة قديمة. قال العليّ لرفائيل: "قيّد عزائيل برجليه ويديه، واطرحه في الظلمة. إفتح البرّية التي في داودئيل وألقه في داخلها... وفي يوم الدينونة العظمى، سيُقاد إلى النار" (أخنوخ الحبشي 10: 4- 6).
في التوراة، كان الله يُعتبر سبب كل شيء، سبب الشرّ وسبب الخير، سبب الصحّة وسبب الشقاء، سبب الحياة وسبب الموت. ولكن مع الوقت، صار الشيطان محرّك الانسان إلى الشرّ. في 2 صم 24: 1 نقرأ أن الربّ دفع داود لكي يحصي الشعب. وبما أن هذا الاحصاء خطيئة، بدا وكأن الله دفع الملك إلى الخطيئة دفعًا. ولكن 1 أخ 21: 1 تحدّث عن الشيطان الذي "دفع داود لكي يحصي اسرائيل". وستتوسّع هذه الفكرة مع الأدب اللابيبليّ. مثلاً، في تك 22: 1 امتحن الله ابراهيم وطلب منه أن يذبح له ابنه. أما "كتاب اليوبيلات" (دوّن في بداية القرن 2 ب. م.) فدلّ على أن الأمير مستيما (= الشيطان) ألهم ابراهيم بأن يذبح ابنه لكي يرضي الله (17: 16)، فالتجربة لا يمكن أن تأتي إلاّ من الشيطان. وفي تك 12: 17، ضرب الرب فرعون (مع بيته) لأنه خطف سارة. أما "منحول التكوين" الذي وُجد في قمران، فقال إن روح شرّ أرسله الله، ضرب المصريّين فما عادوا يستطيعون أن يقيموا علاقات جنسيّة. وتمّ شفاؤهم حين تشفّع ابراهيم من أجلهم. أبعد الروحُ النجس فتوقّفت الضربة.
ومع بروز الأدب الجليانيّ انطلاقًا من القرن 2 ق. م.، تكاثرت الشياطين والارواح النجسة، كما تكاثر الملائكة الذي صاروا وسطاء بين الله والإنسان. لهذا مارس اليهود التقسيم من أجل طرد الشياطين كما نقرأ في مت 12: 27. وكانت ممارسة ملتبسة تبحث عن عبارات ناجعة وأسماء قديرة تستدعيها لكي ينال الانسان ما يطلب (أع 19: 13- 16). وعرف العالم الوثنيّ ممارسات مماثلة مع إبراز عقليّة سحرّية ترتبط بالتقاليد القديمة.
3- علاقة هذه المعتقدات بالمرض والشفاء
هنا نطرح السؤال على نفوسنا: هل كان لهذه المعتقدات تأثير في المرض والشفاء من المرض؟ لا نستطيع أن نعطي جوابًا قاطعًا في هذا المجال. ففي العالم الشرقيّ القديم، كان الناس يمضون إلى الكهّان لينالوا الشفاء، وإلى المعزّمين لكي يتخلّصوا من "شياطينهم". وُجدت أدوية "شعبيّة". ولكن اللجوء إلى عبارات "توسّلية"، والى دعوة "الأسماء"، نجح أكثر من جميع الأدوية. لا شكّ في أن هذا المزيج بين السحر والطبّ، ترك شيئًا فشيئًا المجال للطبّ دون أن يتخلّص من السحر. وفي العالم اليهوديّ، كانت الصلوات والتقسيمات والدعاءات بجانب الأدوية. كان الملائكة يُرسَلون من أجل الخير. وكان الشياطين أيضًا يمارسون شرّهم.
هنا نقرأ ما قاله يشوع بن سيراخ: "كرّم الطبيب لأن الله خلقه. لأن الطبّ آتٍ من عند العليّ... الرب خلق الأدوية من الأرض، والرجل الفطن لا يكرهها..." (38: 1- 15). أجل، في القرنين 4- 3 ق. م، صار الطبّ موضوع احترام، واعتُبر عطيّة الله للبشر. وسوف نرى الأطبّاء العديدين في المدن والقرى في اليهوديّة والجليل، كما تقول المشناة والتلمود. ويتحدّث مر 5: 26 عن الأطبّاء العديدين الذين عالجوا المرأة النازفة.
ولكن مع العودة إلى الطبيب والأدوية، نرى دومًا النظرة الشعبيّة إلى المرض. سببه الشيطان. هي امرأة منحنية الظهر لا تستطيع أن تنتصب. لماذا؟ لأن "فيها روح شرّير أمرضها" (لو 13: 11). ومجنون الجراسيّين الذي تتحدّث عنه الأناجيل الإزائيّة الثلاثة، فيه أكثر من شيطان، فيه جيش من الشياطين، فيه لجيون (أي: فيلق). وهكذا انتشر تأثير الشياطين والأرواح النجسة في العالم اليهوديّ كما في العالم الوثنيّ. من أجل هذا، ذكرت الأناجيل "معجزات" عديدة تتحدّث عن طرد الشياطين وما يتبع هذا الطرد (أو يرافقه) من شفاء.
خاتمة
ذاك هو الإطار الذي عمل فيه يسوع. حماة بطرس مريضة بالحمّى، فزجر يسوع الحمّى وكأنها "شخص"، فتركت المرأة (لو 4: 39). والبحر والريح يعملان. أسكتهما يسوع (مر 4: 39). ونقرأ في مت 4: 24: "قدّموا إلى يسوع جميع المرضى المصابين بمختلف العلل، والمتشيطنين والمصروعين، فشفاهم". وفي مر 1: 34: "شفى كثيرًا من المصابين بمختلف الأمراض، وطرد كثيرًا من الشياطين".
الخوري
بولس الفغالي