القِسمُ الأوّل
المُحَاضَرَة الأولى
افتتح سيادة المطران كيرلّس سليم بسترس الأيام البيبليّة الأولى بمحاضرة قدّم فيها النظرة اللاهوتيّة للمعجزات. وكانت بعنوان:
المعجزات في تاريخ الخلاص
الفصل الأول
المعجزات في تاريخ الخلاص
إنَّ موضوع المعجزات هو للمسيحيّ العائش في ذهنية متشرّبة بالعقلانيّة العلميّة الموضوعيّة من أصعب المواضيع اللاهوتيّة والأشدّها تعقيدًا. ولكن، مهما كان هذا الموضوع صعبًا ومعقّدًا، لا يجوز لنا أن نتجاهله. فالمعجزات تمثّلُ إحدى ركائز الإيمان؛ والكتابُ المقدّس، في كلا العهدين القديم والجديد، يحتوي على روايات كثيرة للمعجزات، بحيث يشكّلُ إهمالُها إهمالَ جزء أساسيٍّ من الكتاب والمقدَّس. وهذا المؤتمرُ المخصَّصُ لدرس المعجزات سيبيّن ما للمعجزات من أهميّة كبرى في الكتاب المقدَّس.
ولكن، قبل الشروع في درس هذا الموضوع بالتفصيل، يجدر بنا أن نُلقيَ نظرةً لاهوتيّةً عامّة على المعجزات، بعنوان "المعجزات في تاريخ الخلاص". سأقسم حديثي إلى خمس نقاط: المعجزات في الخلق، المعجزات في العهد التهديم، المعجزات في حياة يسوع المسيح، المعجزات في حياة الكنيسة، المعجزات في نهاية الزمن. فتاريخ الخلاص يشمل علاقة الله بالإنسان منذ الخلق حتى نهاية الزمن. وهذه العلاقة تتّسم بطابع المعجزة من بدء الزمن إلى نهايته.
1- المعجزات في الخلق
عندما نتكلّم على المعجزات، كثيرًا ما نتصوّرُها أعمالاً خارقةً يكسر بها الله نظام الطبيعة. فأن تُشرقَ الشمسُ كلَّ يومٍ، لا نرى في ذلك معجزة. أمّا أن تُظلمَ الشمسُ ولا تعود تعطي ضوءَها، فنعدُّ ذلك معجزة. أن يُشفى مريضٌ بالعلاج الطبّي، لا نرى في ذلك معجزة، أمّا أن يشفى بكلمة من السيّد المسيح أو من أحد أنبياء الله أو قدّيسيه، فنعدُّ ذلك معجزة.
هذه النظرةُ ليست على جانب كاف من الدقّة. فالكتاب المقدَّس يرى في المعجزة علامَة تدخِّل الله، سواء كان ذلك في المجرى الطبيعيّ للأمور أم في كسر هذا المجرى والقيام بأعمال خارقة لنظام الطبيعة.
لذلك الخلقُ هو المعجزة الأولى التي صنعها الله. فالإيمان بالله الخالق هو الإيمان بأنَّ الطبيعةَ لم تكوّنْ نفسَها بنفسها، بل إنَّ ثِّمةً إلهاً تدخَّل بقدرته الفائقة الطبيعة ليخلقها. حتى وإن أخذنا بنظريّة التطوّر، نؤكّد كمؤمنين أنَّ الله هو الذين تدخَّلَ ليعطي الطبيعةَ القدرةَ على التطوّر.
وهذا ما يقولُه الله لأيوب:
"إني سائلُكَ فأخبرني: أين كنتَ حين أسَّست الأرض؟...
هل وصلتَ إلى ينابيع البحر، أم جلتَ في أعماق الغمر؟...
أين الطريق إلى مقرّ النور؟ والظلمةُ أين موضعُها؟...
هل وصلتَ إلى مخازن الثلج، أم عاينتَ مخازنَ البَرَد؟..." (أي 38: 3- 4، 16، 19).
وبعد تعداد كلّ ما خلقه الله، يجيب أيوب:
"قد علمتُ أنَّكَ قادرٌ على كلّ شيء، فلا يستحيلُ عليك مُراد... إنّي قد أخبرتُ من غير أن أُدركَ بعجائبَ تفوقُني ولا أعلم" (أي 42: 2- 3).
كلُّ ما صنعه الله في الخلق هو عجائب، لأنّه يُظهرُ أنَّ "الله قادرٌ على كل شيء، ولا يستحيلُ عليه مُراد". هذا ما نستخلصُه من الخلق في تحديد المعجزات. فالمعجزة هي علامةُ وجود الله، وعلامةُ قدرته.
2- المعجزات في العهد القديم
هذا التحديد للمعجزة يتبيّن هو نفسه من خلال معجزات العهد القديم. فخروج بني إسرائيل من مصر على يد موسى وعبورهم البحر الأحمر، ثمّ إغراق جيش فرعون فيه (خر 14)، هما المعجزة الكبرى في تاريخ شعب العهد القديم، وهذه المعجزة هي دليلٌ على وجود الله مع شعبه، وعلى "قدرته التي لا يستحيل عليها مُراد". والله نفسُه هو الذي قاد الشعب عبر الصحراء إلى أرض الميعاد، بمعجزات كثيرة: فحلّى مياه مارَّةَ المرَّة (خر 15: 23- 25)، وأنزل لهم المنَّ من السماء ليأكلوا (خر 16)، وأنبع لهم الماء من الصخرة ليشربوا (خر 17)، وخلَّصهم من لذعات الحيّات المميتة (خر 21)، وحارب إلى جانبهم ونصرهم على جميع الملوك وفتح في وجههم أرض الميعاد.
هذه المعجزات الكثيرة يذكُرها المزمور 136 الذي كان اليهود يرتلونه بنوعٍ خاصّ في احتفالهم السنويّ بعيد الفصح، والذي يجمع بين معجزات الخلق ومعجزات مرافقة الله لشعبه:
"اعترفوا للربّ، فإنّه صالح، فإنَّ إلى الأبد رحمَته. هلّلويا.
الصانع العجائبَ العظيمةَ وحده، فإنَّ إلى الأبد...
الذي صنع السماوات بفطنة، فإنَّ إلى الأبد...
الذي أسّس الأرض على المياه، فإنَّ إلى الأبد...
الذي صنع النيّرات العظام، فإنَّ إلى الأبد...
الذي ضرب مصر في أبكارها، فإنَّ إلى الأبد...
الذي أخرج إسرائيلَ من بينهم، فإنَّ إلى الأبد...
الذي قسم بحر القصب إلى قسمين، فإنَّ إلى الأبد...
الذي سيّرَ شعبه في البرية، فإنَّ إلى الأبد...
الذي ضرب ملوكاً عظماء، فإنَّ إلى الأبد...
الذي أعطى أرضَهم ميراثًا، فإنَّ إلى الأبد...
الذي يرزقُ كلَّ ذي بشرٍ خبزَه، فإنَّ إلى الأبد...
ولمّا استسلم ملوك إسرائيل لعبادة بعل، أرسل الله إلى شعبه من جديد نبيًّا عظيمًا، هو النبيّ إيليّا ومنحه موهبة صنع المعجزات، ليُظهر استمرارَ وجوده إلى جانب شعبه. فكانت معجزة الدقيق والزيت (1 مل 17: 7- 16)، ومعجزة إحياء ابن الأرملة (1 مل 17: 17- 24)، ومعجزة إنزال نار من السماء على المحرقة، "ليعلم هذا الشعبُ أنّكَ، أيّها الربُّ، أنت الإله" (1 مل 18: 38)، ومعجزة إنزال المطر من السماء (1 مل 18: 41- 46)، ومعجزة ارتفاع إيليّا إلى السماء (2 مل 2: 1- 13)؛ ثمّ عاد النبيّ أليشع، تلميذ النبي إيليّا، وصنع هو أيضًا المعجزات. ففلق برداء إيليّا مياه الأردن (2 مل 2: 14)، وحلّى ماء النبع (2 مل 2: 19- 22)، وأخرج دبّتين من الغاب لقتل إثنين وأربعين صبيًا كانوا يهزأون به (2 مل 2: 23- 24).
ويذكر أيضًا سفر دانيال معجزة إنقاذ دانيال من فم الأسود (دا 6: 17- 25). وسؤالُ الملك داريوس لدانيال يوضح معنى المعجزة: "هل استطاع إلهُك الذي تواظبُ على عبادته أن يُنقذكَ من الأسود؟" (دا 6: 21). فالمعجزة هي دليلٌ على وجود الله إلى جانب الذين يؤمنون به".
وتوجز معنى المعجزات في العهد القديم الآية التالية: "أيُّ إله عظيمٍ مثلُ إلهنا؟ أنت الإله الصانعُ العجائبَ وحدك" (مز 77: 14- 25). فالمعجزة هي دليل عمله الدائم في تاريخ الخلاص.
3- معجزات يسوع المسيح
إنَّ المعجزات التي أجراها الله في الخلق وفي العهد القديم قد بلغت اكتمالها في شخص يسوع المسيح وفي أعماله وفي قيامته.
فتكوين طبيعة يسوع البشرية كانت معجزةً على مثال تكوين الإنسان الأوّل. فلدى الخلق الأوّل، يقول لنا سفر التكوين إنَّ "روح الله كان يرفرفُ على وجه المياه" (تك 1: 2). وفي الخلق الجديد، يقول الملاك لمريم العذراء الذي تسأله: "كيف يكون لي ولدٌ وأنا لا أعرف رجلاً؟" هو الروح القدس يحلُّ عليك، وقدرةُ العليّ تُظلّلك؛ لذلك فالمولودُ منك قدّوسٌ وابنَ العليِّ يُدعى" (لو 1: 35).
ثمّ إنَّ المعجزات الكثيرة التي صنعها يسوع في حياته كانت هي أيضًا الدليل على رسالته، وعلى حضور الله نفسه في شخصه. فلمّا أراد يوحنا المعمدان أن يتيقَّن من أنَّ يسوع هو حقاً المسيح، أوفد إليه تلاميذه يقولون له: "أأنت الآتي، أم ننتظرُ آخر"؟ فأجاب يسوع وقال لهم: "إذهبوا وبلّغوا يوحنّا ما تسمعون وما ترون: إنَّ العمي يُبصرون، والعرجَ يمشون باستواء، والبرصَ يطهرون، والصمَّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكينَ يُبَشَّرون. وطوبى لمن لا يشكُّ فيَ" (متى 11: 2- 6). وفي هذه المعجزات يتحقّق ما وعد به الأنبياء: فأن يبصرَ العميُ ويطهرَ البرصُ، ويسمعَ الصمُّ، وينهضَ الموتى ويُبشَّر المساكينُ، تلك دلائل تنبَّأ بها أشعيا النبيّ عن مجيء المسيح، الذي يحلُّ عليه روح الله، فيستطيع أن يقومَ بأعمال الله (رج: أش 35: 5- 6؛ راجع أيضًا خطاب يسوع في مجمع الناصرة لو 4: 16- 22). وبعد أن روى يوحنا معجزة قانا الجليل، قال: "تلك كانت أولى آيات يسوع، صنعها في قانا الجليل وأظهر مجدَه، فآمن به تلاميذُه" (يو 2: 11).
لم تكن معجزاتُ يسوع مجرّد مشاهدَ خارقةٍ تَبهرُ الجموع. وقد رفض يسوع دومًا أن يعملَ "آيات من المساء" (رج مر 8: 11- 13؛ لو 11: 29؛ يو 6: 30). فالمعجزات إنما هدفُها أن تحملَ على التأمّل وتقودَ إلى الإيمان. ومن ناحيةٍ أخرى العيونُ والآذانُ المؤمنةُ وحدَها تستطيعُ أن تفقهَ ما يحدثُ في عمل يسوع (رج متى 11: 4- 6؛ لو 10: 23- 24). هكذا عجائبُه هي اياتٌ توضحُ إرادة الله في الخلاص والفداء، وعلاماتٌ بأنَّ ملكَوت الله قد بدأ. "إذا كنتُ أنا بإصبَع الله أُخرجُ الشياطين، فقد اقتربَ منكم ملكوتُ الله" (لو 11: 20؛ رج متى 12: 28). فإقامةُ الأموات تُظهرُ إلى أعلى درجة قدرةَ الله التي كان أناسُ ذلك الزمان يرون عملَها أيضًا في شفاء المرضى. وتسكينُ العاصفة على بحيرة جنّيصارت (را: مر 4: 35- 41) هو أعجوبةُ خلاص تُظهرُ قدرةَ العون الإلهي الحاضرة في شخص يسوع. وتكثيرُ الخبزات، المزيَّنُ بجملة زخارفَ، هو في الأساس أعجوبةُ عطاء، تضعُ نُصب أعيننا وفرةَ صلاحِ الله، وتوزيعَ خيراته، اللذين تجلّيا في مسيرة إسرائيل في البرّية، ويتجلّيان اليوم أيضًا من خلال مسيحه بمشاركة يسوع الطعام مع التلاميذ والشعب (رج مر 6: 34- 44؛ 8: 1- 10). بذلك يتَّضحُ أنّ الله هو غالبُ المرض والألم والموت والشرّ. كما تتّضح قدرة يسوع الإلهيّة وسيادته التي لم تزن محجوبةً في حياته على الأرض. ويتبيّنُ أنْ قد تجلّى في يسوع "لطفُ الله ومحبّتُه للبشر" (تيطس 3: 4).
وقيامةُ يسوع أيضاً كانت معجزةً. "فقد أقامه الله ساحقًا قيودَ الموت" (أع 2: 24). ويصفُها إنجيلُ متى كما توصفُ المعجزات الكبرى: "وإذا زلزالٌ شديدٌ قد حدث، لأنَّ ملاكَ الربّ قد نزل من السَّماء، وأتى ودحرجَ الحجر وجلس عليه" (متى 28: 2). وعندما يطلب اليهود من يسوع "آيةً من السماء"، يقدّمُ لهم "آية يونان، أي موتَه وقيامته (رج متى 12: 38- 40). وهذه القيامة، على غرار الحبل به، قد تمّت بقدرة الروح القدس. وهي الدليل على وجود الله، وعلى تدخّله تدخُّلاً خلاصيًا في تاريخ البشر.
4- المعجزات في زمن الكنيسة
لقد وعد يسوع تلاميذَه بأنّهم سيصنعون معجزات مثلا، وأعظم من تلك التي صنعها: "الحق الحقَّ أقول لكم إنّ من آمن بي يعملُ هو أيضًا الأعمالَ التي أعملُها، بل يعمل أعظمَ منها لأنّي منطلقٌ إلى الآب، وكلَّ ما تسألونه باسمي أعمله لكي يتمجَّد الآب في الابن" (يو 14: 12- 13). ذلك أنَّ ملكوتَ الله الذي بدأه يسوع يستمرُ على مدى الزمن. ولأنَّ المسيح حيّ في السماء، يبقى اسمه فاعلاً على الأرض: "ها هي ذي الآيات التي تصحَبُ الذين يؤمنون: إن هم شربوا سُمًا قاتلاً فلا يؤذيهم، ويضعون أيديَهم على المرضى فيُبرأون" (مر 16: 17- 18). وهذا ما نقرأه في سفر أعمال الرّسل. فعندما شفى بطرس الرسول مُقعَد الباب الجميل، قال له: "باسم يسوع المسيح الناصريّ، قم، وامش" (أع 3: 6). كما يروي سفرُ أعمال الرسل خبرَ معجزةَ إحياء فتاة من قبل بطرس الرسول في يافا: "طابيثا، قومي!" (أع 9: 40)، على مثال إحياء يسوع ابنة يائير: "طليثا، قومي!" (مر 5: 41).
ومن جهة أخرى، فالروح القدس الذي كان يسوع يصنع المعجزات بقدرته، قد أرسله يسوع إلى التلاميذ، وسيبقى معهم إلى منتهى الدهر، هو الذي سيصنع أيضًا المعجزات بواسطتهم، كما يبيّن ذلك بولس الرسول إذ يذكر من بين مواهب الروح القدس موهبةَ صنع المعجزات، قائلاً: "فلقد وضع الله البعضَ في الكنيسة: أوّلاً رسلاً، وثانياً أنبياء، وثالثًا معلّمين، ثمَّ من أوتوا موهبةَ صنعِ العجائب، فمواهبَ الشفاء، فالإعانة، فالتدبير، فأنواعَ الألسنة. أيكون الجميعُ رسلاً؟ والجميعُ أنبياء؟ والجميع معلّمين؟ والجميع صانعي عجائب؟ أتكون للجميع مواهب الشفاء؟ والجميع ينطقون بألسنة؟ والجميع يُترجمون؟" (1 كو 13: 28- 30).
يذكر تاريخُ الكنيسة قدّيسين كثيرين أُوتوا موهبةَ صنع المعجزات. وهناك قدّيسون كثيرون لم يصنعوا معجزات. فمواهبُ الروح القدس متنوّعة، كما قال بولس الرسول، وبالتالي طرق القداسة أيضًا متنوّعة. فإذا وضعنا جانبًا ما تكدَّس على سير القدّيسين من زخرفات، لا يُمكننا أن نرفضَ وجود موهبة صنع المعجزات في الكنيسة. ولقد وضعت السلطةُ الكنسيّة اليوم قواعد شديدة للتأكّد من المعجزات، وهي وحدَها مؤهّلة لأن تقول بوجود معجزة ما في هذه الحالة أو تلك.
5- المعجزات في نهاية الزمن
كما بدأ الخلق بعملٍ عجيبٍ من قبل قدرة الله، كذلك سينتهي بعمل عجيب من قبل قدرة الله الذي سيخلق أرضًا جديدةً وسماءً جديدة. ويصوّر الكتاب المقدّس نهاية العالم في صور مُرعبة كان لها باستمرار تأثيرٌ بالغٌ في مختلف الأزمنة: فالشمسُ والقمرُ يُظلمان، والكواكبُ تتساقطُ من المساء، وأبنيةُ العالم تنهار، والعناصرُ تنحلّ (رج مر 13: 24- 25 والإزائيّين؛ 2 بط 3: 10). ويوضحُ القدّيس أوغسطينوس، بالإشارة إلى هذا القول: "الهيئة تزول، وليس الطبيعة". ولذلك فالكلمةُ الأخيرةُ في الكتاب المقدَّس ليست للقلق من الفناء، بل للرجاء بخلق جديد للعالم (رج متى 19: 28؛ رؤ 3: 21). فالله أمينٌ تجاه خليقته. إنَّ مجد الله الذي ظهر في الخلق وتاريخ الخلاص سيظهر ظهورًا نهائيًا من خلال الأرض الجديدة والسماء الجديدة التي سيخلُقهما. لذلك ينتهي سفرُ الرؤيا على وصف آخر معجزة يظهر فيها مجدُ الله وقدرتُه الخلاّقة: "ورأيتُ المدينةَ المقدّسة، أورشليم الجديدة، نازلةً من السماء، من عند الله، مهيّأة كعروس مزيَّنةً لعريسها. وسمعتُ صوتًا جهيرًا من العرش، يقول: هوذا مسكنُ الله مع الناس؛ سيسكنُ معهم، ويكونون له شعبًا، وهو الله معهم يكونُ إلَههم؛ ويمسحُ كلَّ دمعة من عيونهم؛ ولا يكون بعدُ موتٌ، ولا نوحٌ ولا نحيبٌ، لأنَّ الأوضاعَ الأولى قد مضت. وقال الجالسُ على العرش: ها إنّي أجعلُ كلَّ شيء جديدًا" (رؤ 21: 2- 5).
خلاصة
"إنّ ما يرويه الكتاب المقدّس في كلا العهدين القديم والجديد، يطرحُ علينا اليوم مشكلات كثيرة. لا بدّ أولاً من القول إنّ المفهومَ السائد لدينا للأعجوبة، والمرسومَ بما نعرفه من علوم الطبيعة، الذي يتساءلُ عن إمكانيّة خرق نواميس الطبيعة، هو غريبٌ عن الكتاب المقدّس. فنظرةُ الكتاب المقدّس هي نظرة إيمان بالله، الذي هو خالقُ العالم وسيّدُ التاريخ، والذي عو "عجيبٌ" في كلّ ما يصنعه، ولكنّه يستطيعُ أن يعلنَ قدرتَه في أعمال خارقة. أمّا كيف تحدثُ تلك الأعمال، وما هي علاقتُها بالعلل والقوى الطبيعيّة، التي يمكن أن يستخدمَها الله، فالكتابُ المقدّس لا يفكّر في هذه الأمور، بحيث يبدو لنا تصوّرُه منافياً للعقل وساذجًا.
ويُضافُ إلى ذلك مشكلاتٌ تاريخية. فالمعجزات في الكتاب المقدّس تُروى بحسب الطرق الروائيّة المعهودة في ذلك العصر. وهكذا تتكدّسُ فوق هذه التصوّرات الكليُّ طبقات، تجعلُ فهمها عسيرًا علينا: فهناك تفكيرٌ غريبٌ عنّا، له علاقةٌ بالطبيعة مختلفةٌ عن علاقتنا بها نحن اليوم، وهناك مفهومٌ آخر للروايات "التاريخيّة"، وطريقةُ تصوّر أخرى لا تُبرزُ واقعَ الأحداث بقدر ما تُبرزُ نماذجَ عنها.
على الرغم من هذه الصعوبات، لا يجسرُ أي نقد تاريخيّ، وإن متشدّدًا، أن يشكَّ في أنَّ أحداثاً خارقةً يصعبُ تفسيرُها، ولا سيما أشفية، قد جرت على يد يسوع. فغالبًا ما تنطوي روايات الأشفية على معلومات دقيقة عن الأشخاص المعنيّين مع الأسماء والظروف. فسعيُ الإنسان إلى يسوع، وصيتُ يسوع الذي ينتشر، وعجزُ مقاوميه الذين لا يستطيعون أن يُنكروا أعمالَه، وتقليدُ روايات المعجزات الذي قام حالاً بعد الفصح والذي يعود إلى زمن كان الذين عاينوا وسمعوا يسوع لا يزالون فيه على قيد الحياة: كلُّ هذا لا يمكن تفسيرُه تفسيرًا آخر. علمُ الطبيعة الحديث، في نظرته إلى الواقع، يقتصرُ عن قصد منه على ما في داخل العالم، ويتركُ جانبًا مسألَة الله. هذا له ما يبرّره بالنظر إلى الشروط المنهجيّة التي ترتكزُ عليها علومُ الطبيعة. ولكنّ مشاهدةَ العالم من وجهة نظر نواميس الطبيعة هي إحدى الطرق، ولكنها ليست الطريقة الوحيدة لفهم الواقع. أمّا أن تُعتبَرَ هذه النظرةُ مطلَقة، فهذا ما لا يمكن الإيمان أن يرضى به. الإيمانُ الحيّ بالله خالق السماء والأرض يفقدُ مضمونَه، إن لم يُحسَبْ أيُّ حساب لإمكانيّة وحقيقة تدخّل الله على نحو خارق في الزمن والتاريخ. ومثل هذا الإيمان لا جدوى منه" (كتاب التعليم المسيحيّ للبالغين، أساقفة ألمانيا، سنة 1985، ص 154- 155).
من هنا نستنتج ما يلي:
1- الإيمان بالمعجزات في الكتاب المقدَّس لا يمكن فصله عن الإيمان بقدرة الله، وبأنَّ الله قد أجرى المعجزات في الخلق وفي التاريخ بواسطة أنبيائه وبواسطة السيد المسيح، وأنّه لا يزال يعمل اليوم بواسطة السيد المسيح الحيّ والحاضر معنا من خلال روحه القدّوس. فمن يؤمن بالله لا يمكنه إلاّ أن يؤمن بإمكانيّة المعجزات على يد السيّد المسيح، وعلى يد أنبياء الله وقدّيسيه.
2- المعجزة لا يمكن أن يقبلَها إلاّ المؤمن، والمؤمن الحقيقيّ، أي الإنسان المنفتح على الله. لا يمكن القول إنَّ المعجزة هي وحدها السبيل الذي يقود إلى الإيمان. فهناك حركةٌ ديالكتيّة بين الإيمان والمعجزة. فالمعجزة تفترضُ الإيمان إيماناً أوّليًا، أي انفتاحًا على وجود الله وعلى عمله في التاريخ. فالملحد المتحجّر والمنغلق على نفسه لا يمكنه أن يرى في المعجزة أيّ علامة لوجود الله ولعمله في التاريخ. أمّا الملحد المنفتح على المطلق فيمكن أن يرى تلك العلامةَ الإلهيّة، ويصلَ بواسطة المعجزة إلى الإيمان؛ وكذلك المؤمن يمكن أن تقوّي المعجزةُ إيمانَه.
3- المعجزة تتوجَّه إلى حرّية الإنسان. فالفرّيسيّون وتلاميذُهم رأوا المعجزات التي صنعها يسوع، ولكنّهم لم يؤمنوا، كما آمن تلاميذ يسوع. لماذا؟ لأنّ التمسّك بحرفيّة الناموس كان قد أعمى عيونهم، لذلك لم يستطيعوا أن يروا عملَ الله في يسوع المسيح. لقد صار الناموس لديهم حاجزًا يمنعهم من الاتصال الشخصيّ الحرّ بالله. بقي يسوع يصنع أمامهم المعجزات مدة ثلاث سنوات، ومع ذلك جاؤوا إليه "يطلبون منه آية من السماء". المعجزات التي صنعها كانت أعمالاً تتوجّه إلى حريّتهم، وإلى علاقتهم الشخصيّة مع الله. أمّا هم فطلبوا "آية من السماء"، أي عملاً خارقًا يُزيل الحرّية، ويُرغمُهم على القبول. وإلغاء الحرّية هو بالفعل عينه إلغاء الإيمان، لأنَّ الإيمانَ مبنيٌّ على الحرّية. عندما نرى الشمس مشرقةً، نحن مرغمون على القول: الشمس مشرقة؛ لا حرّية لنا في ذلك. أمّا عندما نرى معجزةً، سواءٌ كانت الكونَ كلَّه، أو عملاً عجيبًا فيه، نستطيع أن نقول: إنّ الكون كوّن نفسه بنفسه، أو أن نقول: هناك كائنٌ مطلَقٌ قد كوّنه، وهو الله، ونحن نؤمن بالله وندخل في علاقة معه. وعن المعجزة يمكن أن نقول، كما قال الفرّيسيّون: إنّه ببعل زبول رئيس الشياطين يُخرج الشياطين؛ أو أن نؤمن بأنّ يسوع يُخرجُ الشياطين بقدرة الله، كما قال هو نفسُه: "إذا كنتُ أنا بإصبع الله أُخرجُ الشياطين، فقد اقترب منكم ملكوتُ الله" (لو 11: 20)، ونؤمن بيسوع وندخل به ومعه هذا الملكوت الإلهيّ. وإذا كنّا نؤمن بأنَّ المسيحَ حيٌّ في مجد الله وحاضرٌ معنا على الأرض بروحه القدّوس، لا بدَّ لنا من أن نؤمن أيضًا بأنّه يستطيعُ أن يصنع اليوم أيضًا المعجزات بواسطة قدّيسيه الذين يمنحهم على الأرض موهبةَ صنع العجائب. فالمعجزةُ تتوجّه إلى حرّية الإنسان، وتدعوه إلى الدخول في علاقة إيمان مع الله.
4- في قراءة روايات المعجزات التي يتضمَّنُها الكتاب المقدَّس، يجب الجمع بين الإيمان بقدرة الله العجيبة القادرة على صنع المعجزات والفكر الناقد الذي يعرف أن يميّز بين مضمون الرواية والأسلوب الذي وردت فيه. وهنا تكمن الصعوبةُ الحقيقيّة التي لا بدّ من الإقرار بها، والتي لا يزال مفسّرو الكتاب المقدَّس يعالجونها، وقد اختلفوا فيها اختلافًا شديدًا. فمنهم من يبقى، في تفسيره، قريبًا من حرف الرواية، ومنهم من يميلُ بشدّة إلى الرمزيّة، فيبتعد عن حرف النصّ إلى حدّ أنّه لا يُبقي شيئا من الحدث التاريخيّ. هل من سبيل للتوفيق بين خذين الموقفين المتطرّقين؟ نرجو أن يساعدنا هذا المؤتمر على استكشاف هذا السبيل بغيةَ التعمّق في فهم الطرق التي تعمل فيها قدرة الله في تاريخ الخلاص.
المطران
كيرلّس سليم بسترس