الفصل الثاني والاربعون
أحبب قريبك كنفسك
سأل أحد معلّمي الشريعة يسوع: "ما هي أعظم وصيّة في الشريعة"؟ أجابه يسوع: "أحبّ الرب إلهك بكل قلبك، وبكل نفسك، وبكل عقلك. هذه هي الوصيّة الأولى والعظمى. والوصيّة الثانية مثلها: أحبّ قريبك مثلما تحب نفسك. على هاتين الوصيّتين تقوم الشريعة كلها وتعاليم الأنبياء" (مت 22: 35- 40). وسيقول بولس في رسالته إلى رومة: "لا يكن عليكم لأحد دين سوى محبّة بعضكم لبعض. فمن أحبّ غيره أتمّ العمل بالشريعة. فالوصايا التي تقول: لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور... تتلخّص في هذه الوصيّة: أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك" (13: 8- 9).
أجل، محبّة الله تجد امتدادها وكمالها في محبّة القريب. وكل الكتاب المقدّس نلخّصه في وصيّة المحبّة. فمنذ العهد القديم، قال الرب لأبناء شعبه: "تحبّ قريبك كنفسك" (لا 19: 18). لا شكّ في أن القريب كان ابن العائلة، ابن القبيلة، إبن الطائفة. ولم يكن يوماً كلَّ شخص التقي به في الطريق حتى ولو كان عدويّ. ولكن لماذا لا نبدأ ونحبّ القريب، لماذا لا نُلغي القول الشيطانيّ الذي يردّده البعض: الأقارب عقارب. أي لا نستطيع أن نأمن شرّهم.
من كان لامبالياً لقريبه أغاظ الله، من عادى أخاه عادى الله أيضاً. هكذا تصرّف قايين: قال: لست حارساً لأخي. بل هو عادى أخاه وقتله. وتتكرّر الفرائض في أسفار الشريعة تطلب من المؤمن أن يهتمّ بالفقير وصغار القوم، بالقريب واليتيم والأرملة. قال الرب: "لا تظلم الغريب ولا تضيّق عليه، فإنّكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خر 22: 21). هذا يعني أنكم تألّمتم وتعرفون معنى الألم. فلماذا لا تراعون ذاك الذي يقيم بينكم؟ ثم إنكم صرختم إليّ فسمعت لكم. لهذا إن صرخ إليّ الغريب لأنكم تسيئون معاملته سمعت له.
وقال الربّ أيضاً بلسان موسى: "لا تسئ إلى أرملة ولا يتيم". ليس لهما من يدافع عنهما. فالرب يتولّى أمرهما. لهذا يتابع النصّ: "إن أسأت إليهما وصرخا إليّ، فإني أسمع صراخهما فيشتدّ غضبي" وأعاقب (خر 22: 22- 24). ويتابع النصّ: "إذا أقرضت مالاً لفقير من شعبي، فلا تكن له كالمرابي... وإذا رهنت ثوب قريبك، عند مغيب الشمس تردّه إليه، لأنه هو ستره الوحيد وكساء جلده. ففيه ينام (هذا كل ماله). فإن هو صرخ إليّ استجبت له لأني حنون" (خر 22: 25- 27).
وتذهب المحبّة إلى الأعداء ولا تبقى لدى الاصدقاء. في هذا تقول الشريعة: "إذا لقيت ثور عدوّك أو حماره ضالاً فاردده إليه. وإذا رأيت حمار مبغضك ساقطًا على الأرض، فلا تمرّ بقربه دون أن تساعده" (خر 23: 4- 5). وسوف يقول سفر الامثال في هذا المعنى: إذا جاع عدوّك فاطعمه، وإذا عطش فاسقه (25: 21). وهكذا صرنا في خطّ قريب من الانجيل الذي يطلب منا أن نحبّ أعداءنا، ونحسن إلى مبغضينا ونبارك من يلعننا ونصلّي لأجل من يسيء إلينا. هكذا نكون مثل الآب السماوي (لو 6: 27- 28).
ويتابع يسوع كلامه: "من طلب منك شيئًا فأعطه، ومن أخذ ما هو لك فلا تطالبه به" (لو 6: 30). هكذا نكون رحماء كما أن الله أبانا رحيم. "لا تدينوا، لا تحكموا على أحد، اغفروا، أعطوا كيلاً ملآنًا مكبوسًا مهزوزًا فائضًا" (لو 6: 36- 38). كل هذه الطريق كان الأنبياء قد فتحوها أمام العهد الجديد. فشدّد عاموس على العدالة الاجتماعيّة في معاملاتنا وندّد بالاغنياء الذين يستغلّون الفقراء، ولاسيّما على مستوى البيع والشراء.
وكان إرميا قاسياً على التعامل بين الاخوة في إطار من الكذب والمكر: هم جماعة الغادرين. لسانهم كقوس مشدودة من أجل الكذب. ويقول النصّ اليونانيّ: الكذب لا الحقّ تجده في الأرض. كل واحد يحذر أخاه ولا يستطيع أن يثق به (9: 2- 5). وأعطانا حزقيال صورة عن الرجل الصدّيق، الصادق مع الله: "يمارس الحقّ والعدل. لا يسيء إلى امرأة قريبه. لا يستغلّ العامل الذي عنده. لا يسرق أخاه. بل هو يعطي خبزه للجائع ويكسو العريان ثوباً، وإن أقرض مالاً لا يأخذ ربى. يُبعد يده عن كل ظلم، ويجعل الصلح والسلام بين الاخوة" (18: 5- 9).
هنا نلتقي بكلام يسوع الذي لا يديننا على أمور نظرية. لا يديننا حتّى على عبادتنا وصلواتنا. فمن منا لا يصلّي أقلّه في وقت الضيق؟ إن لم يكن إكراماً لله، فأقلّه من أجل حاجة في نفوسنا؟ إنما سيديننا الله على أعمال بسيطة جداً: كنت جائعاً فأطعمتموني. كونوا مباركين. كنت عطشاناً فسقيتموني. تعالوا يا مباركي أبي. ثم يقول: كنت غريباً فما آويتموني، ومحبوساً فما زرتموني... أنا لا أعرفكم. اذهبوا عني يا ملاعين إلى نار الأبد (مت 25: 31- 46). على هذا ستكون دينونتنا. إذا تعرّفنا إلى "الصغار" في هذا العالم، تعرت إلينا الربّ في يوم الدينونة. "كل ما فعلتموه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار فمعي فعلتموه". "وكل ما لم تفعلوه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار فمعي لم تفعلوه". فلماذا نغشى أنفسنا؟
في هذا الاطار يقول يوحنا في رسالته الأولى طالباً منّا أن نضحّي بنفوسنا لأجل إخوتنا. "من كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجاً فأغلق قلبه عنه، فكيف تثبت محبّة الله فيه" (3: 16- 17)؟ ويتابع الرسول كلامه: "يا أبنائي، لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحقّ" (آ 18). كم نبتسم حين نسمع أشخاصاً يقولون: أنا أحبّ البشريّة... وأخوك الذي بقربك... أنا أحبّ الاحسان... هل أحسنت إلى أحد؟ هل عرفت أن تكتشف حاجة عند أخيك؟ إذا كان جوابك نعم فهنيئاً لك. وإلاّ فأنت كاذب مثل الفريسيين الذين يقولون ولا يفعلون.
وهكذا يلتقي المسيحيّ مع كل انسان على الأرض. بل إن كل انسان يصبح للمسيح، يصبح "تلميذ" المسيح إن هو مارس تلك المحبّة الاخويّة البسيطة. في هذا المجال يحذّرنا القديس يعقوب من إيمان بغير أعمال فنكون شجرة بدون ثمرة. هذا يعني أن لا إيمان لنا. وإن كان لنا من إيمان فهو ميت عقيم. وكيف نعرف إن كان عندنا إيمان أم لا؟ عند ذاك يقول لنا يعقوب: "فلو كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ولا قوت لهما، فماذا ينفع قولكم لهما: اذهبا بسلام! استدفئاً واشبعا، إذا كنتما لا تعطونهما شيئًا ممّا يحتاج إليه الجسد" (3: 14- 16).
توقّفنا طويلاً عند المحبّة العملية التي تعلّمنا الاحسان والصدقة، ومساعدة القريب في حاجاته الماديّة. ولكن المحبّة الاخويّة، ومحبتنا بعضنا لبعض واسعة وسع الكون: على المستوى المادي والروحي، على مستوى علاقاتنا مع إخوتنا في الأمور العاديّة اليومية. هنا نتذكّر الارشادات العديدة التي جعلها بولس الرسول بشكل خاص في نهاية رسائله. نقرأ مثلاً في الرسالة إلى أهل أفسس: "امتنعوا عن الكذب، وليتكلّم كل واحد كلام الصدق مع قريبه... إذا غضبتم لا تخطئوا ولا تغرب الشمس على غضبكم... تخلّصوا من كل حقد ونقمة وغضب وصياح وشتيمة وما إلى ذلك من الشرور، وليكن بعظم لبعض ملاطفاً رحيماً غافراً كما غفر الله لكم في المسيح" (4: 25- 32).
فالرحمة والحنان أفضل تعبير عن المحبّة العمليّة. ولما حدّثنا يسوع عن السامري الصالح، قال عنه: تحنّن على الجريح. تحرّكت أحشاؤه (لو 10: 33). فقساوة القلب والقساوة في الكلام، والقساوة في التصرّف، كل هذا يدلّ على ابتعادنا عن الاله الذي يشرق شمسه على الاشرار والأخيار، ويسكب غيثه على الابرار والفخار (مت 5: 45). والمغفرة هي المحبّة العظمى التي تدلّ على أن محبّة الله في قلوبنا. فإن كنا لا نعرف أن نغفر، فهذا يعني أن قلوبنا لا تستطيع أن تتقبّل غفران الله. لهذا قال لنا الرب: "إن كنتم لا تغفرون للناس زلاتهم، فأبوكم السماوي لا يغفر لكن زلاتكم" (مت 6: 15). أما إذا غفرتم فهو يغفر لكم. عند ذاك يحقّ لكم أن تصلّوا قائلين: "أبانا الذي في السماوات... اغفر لنا كما نحن غفرنا" (مت 6: 12).
تلك هي المحبّة الاخويّة التي هي امتداد لمحبّة الله. تبدأ بين الأخ وأخيه والاخت وأختها والكنة وحماتها، بين الأقارب والاهل وأبناء المحلّة والقرية، وتتوسّع فتمتدّ إلى الكون كله. هذه المحبّة لا تعرف قريباً ولا غريباً، كبيراً ولا صغيراً، غنياً ولا فقيراً. ففي وقت من الأوقات كل واحد منا يحتاج إلى محبّة أخيه. فيا ليتنا أولئك الرسل الذين يأخذ الرب قلبهم فيحبّ به الناس. يأخذ يدهم ليعطي بها، يأخذ فمهم ليقول به كلام البنيان. يا ليت الربّ يأخذنا كلنا لنكون عطيّة منه إلى كل جائع وعطشان، إلى كل يائس وحزين. حينئذ يقول لنا: أنا أعرفكم من أين أنتم. تعالوا يا مباركي أبي.