الفصل الحادي والاربعون
أحبّ الربّ إلهك
قالوا ليسوع: ما هي الوصيّة العظمى والأولى؟ أجاب: أن تحبّ الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك. فالله محبّة. وهو لا يريد أن نتعامل معه إلاّ على مستوى المحبّة. فهل نستطيع أن نرتفع إلى هذا المستوى ونحن مجبولون بالأنانيّة وحبّ الذات؟ يبقى علينا أن نطهّر كل نظرة بشريّة فينا لكي نتقبّل سرّ حبّ الله لنا مع العلم أن هذا الحبّ يمرّ في الصليب، أن هذا الحبّ لا حدود له، على ما قال لنا يسوع في بداية مسيرته إلى ساعة الألم والموت والمجد: "لما علم يسوع أن ساعته قد أتت لينطلق من هذا العالم إلى الآب، أحبّ خاصته، أحبّهم حتى الغاية" (يو 13: 1).
يجب أن نحبّ الله لأنه هو أحبّنا أولاً وأرسل ابنه كفّارة عنا. منذ البداية بدأت هذه المحبّة. منذ أول لفظة في عمل الخلق. فإن كان الله قد خلقنا فلأنه أحبّنا. وقد قال مثلاً لإرميا: قبل أن تصور في الحشا عرفتك وأحببتك. هذا ما يستطيع أن يقوله لكل واحد منا. إذا كان الكتاب تحدّث عن حبّ ابراهيم لابنه بهذه التعابير المليئة بالعاطفة "ابنك، وحيدك، اسحاق الذي تحبّه"، فكم يكون حبّ الله الذي يقول لنا الكتاب فيه: إن أحشاءه أحشاء أمّ.
ونحن نكتشف حبّ الله في أشخاص دعاهم فلبّوا الدعوة. دعا ابراهيم فسمّي خليل الله. صديقه وحبيبه (أش 41: 8). دعا موسى، فعاش موسى في حياة حميمة معه. كان يكلّمه وجهاً لوجه كما يكلّم الانسان صاحبه. وهناك عبارة في بداية سفر التكوين تتحدّث عن الله الذي يتمشّى في الجنّة (جنّة قصره وفردوسه) عند برودة المساء (3: 8). أتراه كان يمشي وحده؟ ربّما. ولكن أظنّ أنه كان يمشي مع آدم، ويخطّط معه من أجل عالم من الجمال والسعادة. هكذا سيفعل يسوع مع تلميذي عماوس اللذين يئسا من كل شيء وسارا في ذاك الليل لا يعرفان أين تنتهي بهما الطريق. في الواقع انتهت في عماوس. بل من هناك ابتدأت في عودة إلى أورشليم، إلى الاخوة. تلك هي سيرة الرب مع كل واحد منا.
وعرف الأنبياء محبّة الله، فاعتبر عاموس أنه نجيّ الله (3: 7) وقد أحبّه حباً شخصياً جعله يختاره ويرسله من الجنوب إلى الشمال (7: 15). حبّ يمزّق قلب إرميا، ولكنه يملأه في الوقت عينه بفرح عميق أين منه أفراح هذه الدنيا (20: 7- 13). شهد هوشع وإرميا وحزقيال مأساة حبّ الله الذي ينقلب "غضباً" ورفضاً لما يحدث بينه وبين شعبه، بل بين كل واحد من أفراد هذا الشعب. هو العريس الذي يرى عروسه تخونه. حبّه حبّ الغيرة وهو لا يريد أن يشاركه أحد في هذا الحبّ. ومع ذلك، فلا يجد إلاّ الخيانة ونكران الجميل. هل يعاقب؟
ولكن الحبّ في الله أقوى من كل خطيئة (هو 11: 8). ولهذا فهو يغفر، ويخلق في شعبه قلباً جديداً يعرف كيف يحبّ. لم تكن "عروسه" مرحومة، لم تكن محبوبة. أما اليوم فقد صارت "حبيبتي"، يقول الربّ في هوشع (2: 21- 22). وقال في إرميا (31: 4) "أحببتك حبّاً أبدياً، لهذا اجتذبتك بالحبّ وأنا سأبنيك فتبنين" (يا أورشليم). ويتحدّث الرب عن شعبه كابن عزيز له، كولد يسرّه. وحين يتذكّره تتحرّك له أحشاؤه (إر 31: 20). ويحدّث الرب شعبه كما يحدّث الزوج زوجته: "أنا أذكر عهدي معك في أيام صبائك... وأقيم عهدي معك فتعلمين أني أنا الرب وتتذكّرين فتستحين من نفسك ولا تعودين تفتحين فمك بعد أن غفرت لك كل ما فعلت" (حز 16: 60- 63).
ولكن الشعب ما زال يتعلّق بالاصنام. يستطيع أن يراها، أن يلمسها. هي بين يديه. وكأن الله الذي يمثّلها هو بين يديه، فلا يعود يخاف. اعتبر الشعب أن بعل هو الذي يعطيه المطر والخصب، فترك معبد الربّ وذهب إلى معابد البعل. وهكذا نقول عن سائر الآلهة. أجل، أضاع الشعب إلهه بين الآلهة المتعدّدة واعتبر أن مصالحه تنمو مع الدول المجاورة وآلهتها. فكان يعرج بين الجنبين كما قال له إيليا: تارة يعبد الله، وطوراً البعل.
لم يعرف هذا الشعب أن حبّه الله له حبّ مجانيّ. هو ما كان يستحق كل ما فعله لأجله. ومع ذلك فقد فعل له ما فعل. يبقى على الشعب أن يحبّ الرب بكل قلبه (تث 6: 5) ويعبّر عن هذا الحبّ بأفعال العبادة والطاعة التي تفرض اختيارًا جذريًا التي تطلب تمزّق القلب المتعلّق بأمور وأمور. قال له موسى على جبل موآب: "احذر أن تنسى الامور التي رأتها عيناك" (تث 4: 9). لا تصنع لك تمثالاً أو صورة انسان ذكر أو أنثى، ولا صورة حيوان... لا ترفع طرفك إلى السماء فتعبد الشمس والقمر والكواكب وتنتظر منها أن تقرّر مصيرك (تث 4: 10- 26). ولكن كل هذا يبقى صعباً إن لم يحوّل الرب قلب شعبه. فيقول المرتل: "قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدّد في أحشائي" (مز 51: 12). أجل، يجب أن ينزع الله من صدرنا قلب الحجر ويجعل مكانه قلباً من لحم، عند ذاك نعرف رسوم الله وشرائعه.
وهذه المحبّة التي ربطت بين الله والبشر في العهد القديم عبر عدد من الوقائع، سيفهمها أبناء العهد الجديد: أحبّ الله تقيّه، فردّ التقيّ معلناً حبّه لربّه. "من لي في السماء سواك؟ وعلى الأرض لا أبغي أحداً غيرك" (مز 73: 25). هذه المحبّة قد ظهرت في مجيء الابن على الأرض. هكذا أحبّ الله العالم حتى إنه أرسل ابنه الوحيد بحيث لا يهلك من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابديّة (يو 3: 16). وحث يسوع هذا للآب قاده إلى حبّ اخوته، قاده إلى الصلب والموت. وهو مثال لنا يعلّمنا كيف نقابل الحبّ بالحبّ. "من يحبّني يحفظ وصاياي وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً". وما هي وصيّته؟ "أحبّوا بعضكم بعضاً مثلما أنا أحبكم (يو 15: 12). ونحن نقتدي بيسوع ونكون تلاميذه حين نحبّ بعضنا بعضاً.
أجل، الله لم يره أحد قط. ولكن إذا عشنا المحبّة كان الله حاضراً فينا. كان معنا. فحيث يجتمع اثنان أو ثلاثة، يكون الرب معهم. ومحبّتنا لاخوتنا هي المعيار الحقيقيّ لمحبتنا لله. فلا نغشّ أنفسنا. قال يوحنا في رسالته الأولى: "من قال أنا أحبّ الله وهو لا يحبّ أخاه فهو كاذب. فكيف يستطيع أن يحبّ الله الذي لا يراه ولا يحبّ أخاه الذي يراه" (4: 20)، واستخلص الرسول النتيجة: "وصية المسيح لنا هي: من أحبّ الله أحبّ أخاه أيضاً" (آ 21).
اعتاد الناس مراراً أن "يعوّضوا" بطريقة من الطرق في أعمال العبادة والصلاة، لكي ينسوا ما به ظلموا إخوتهم، لكي لا تحنّ أحشاؤهم على الذين حولهم. لهذا نسمع الرب بلسان الانبياء يرفض الذبائح والعشور من أيد مملوءة بالدماء، فيقول مثلاً بلسان أشعيا: حين تبسطون أيديكم للصلاة أحجب عيني عنكم لئلاّ أراكم. وحين تكثرون من الصلاة أصمّ أذنيّ لئلاّ أستمع لكم. لماذا؟ لأن أيديكم مملوءة بالدماء. فما العمل؟ اغتسلوا، تطّهروا. وكيف ذلك؟ بشكل سلبيّ، أزيلوا أعمالكم الشريرة من أمام عينيّ ولا تعودوا تسيئون إلى اخوتكم. وبشكل إيجابي: تعلّموا الاحسان والصدقة للمحتاج. كونوا عادلين في معاملتكم للغير. أغيثوا المظلوم، أنصفوا اليتيم، حاموا عن الأرملة. عند ذاك، لو كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج. ولو كانت حمراء كصبغ الدود تصير بيضاء كالصوف (أش 1: 15- 18).
هكذا نحبّ الرب من كل قلبنا ومن كل نفسنا ومن كل قدرتنا. هكذا نعيش معه عيش الصديق مع صديقه والحبيب مع حبيبه. تكون محبّتنا علاقة حميمة نعيشها في الصلاة والتأمّل والشكر والمديح. ونعيشها في محبّة للقريب. فإذا كانت الوصيّة الأولى تدعونا إلى أن نحبّ الله، فالوصيّة الثانية تشبهها وتكمّلها وهي تدعونا إلى أن نحبّ القريب. هكذا تكون محبتنا كاملة، هكذا تكون صادقة لا غشّ فيها ولا رياء، وإلاّ قال لنا الرب: لا أعرفكم من أين أنتم.