الشهادة هي التأكيد على واقع رأيناه بعيوننا، سمعناه بآذاننا. نحن شاهدنا ولهذا نشهد. ندلي بشهادتنا في المحكمة. بمناسبة خلاف أو تشاجر بين اثنين. فالمحكمة لا تحكم بدون شاهدين، ولا يفضّ القاضي مشكلة إلا على أساس شهادة. فيا ليت الشهادة التي نحملها إلى المحكمة تحمل الصدق، فلا تبرّئ الخاطئ وتؤثّم البريء. فيصبح الحقّ بجانب ذاك الذي ظلم قريبه. هذا على مستوى الحياة في المجتمع. أما على مستوى الضمير، فالله هو الشاهد الوحيد. هو الشاهد بين الرجل والمرأة (ملا 2: 14). فلماذا الكذب والتراجع؟ وهو الكفيل لالتزام وقَّعنا عليه (تك 31: 53- 54)، فلا نستطيع أن نتهرّب. هذا إذا كان ضميرنا حياً. وإلاّ نعود إلى محكمة البشر ونحتاج إلى شهادة البشر.
ولكن شهادات البشر تحمل الخطأ. تحمل الكذب. لهذا نسمع صاحب المزامير يتشكّى إلى الرب من شهود الزور فيقول: "تقدّم عليّ الاشرار ليأكلوا لحمي" (27: 2)، ليمزّقوني كما يمزّق الوحش فريسته بواسطة الافتراء والنميمة. ونقرأ في مز 35: 11: "قام شهود زور وسألوني عمّا لا أعلم. ردّوا لي الشرّ بدل الخير، فأحسست بنفسي مخذولاً لا معين لي". وجاءت الوصيّة قاطعة: "لا تشهد على صاحبك شهادة زور" (خر 20: 16). وقال سفر التثنية الكلام عينه (5: 20). كما شدّدت الشريعة على مسؤوليّة الشاهد. فإن كان من عقاب، ولا سيما الرجم، فالشاهد هو الذي يرمي المتّهم بأول حجر. قال تث 17: 6- 7: "بقول شاهدين أو ثلاثة شهود يُقتل من يجب أن يقتل... وتكون أيدي الشهود هي الأولى في قتله. وبعد ذلك أيدي سائر الشعب". هذا ما حدث لاسطفانس حين رجمه اليهود: "خلع الشهود ثيابهم... وأخذوا يرجمونه" (أع 7: 58- 59).
تحدّثنا عن شهود الزور الذين "قتلوا" اسطفانس. وهناك حالات أخرى عديدة. نذكر منها نابوت اليزرعيليّ الذي اشتهى أخابُ كرمه المحاذي لساحة القصر. فأقامت الملكة شاهدَي زور. يسميّهما الكاتب "بني بليعال"، رجلين سافلين يتعاملان مع الموت والجحيم. دفعت لهما المال، أمرتهما، فقالا: جدّف نابوتُ على الله والملك. "فأخرجوه خارج المدينة، ورجموه بالحجارة فمات" (1 مل 21: 13). ولكن عقاب الله كان قاسياً بشكل خاصّ ضد الملكة: "ستأكل الكلاب ايزابيل (الملكة) في أرض يزرعيل" (آ 23). أجل، كان حكم الله على شهادة الزور قاسياً. فالشرّ الذي نواه الشاهد يصيبه هو. "إن قام على أحد شاهدُ زور، فشهد عليه أنه جحد إيمانه... ليستقصِ القضاة جيّداً. فإن كان الشاهدُ شاهدَ زور، وقد شهد كذباً على أخيه، فاصنعوا به كما نوى أن يصنع بأخيه" (تث 19: 16- 19). هذا ما نجده في خبر سوسنّة (دا 13: 58- 62). هي شريعة المثل تطبّق على شاهد الزور: عين بعين، سنّ بسنّ. وهكذا يعرف الشاهد الكاذب ما ينتظره من عقاب. وإن أفلت من عقاب البشر، فكيف يُفلت من عقاب الله؟
في هذا الاطار جاء كلام الحكماء يندّد بالشهادة بالزور. هي أمر يكرهه الله، يمجّه، يعتبره رجساً. "ستة يبغضها الرب والسابع رجس عنده: العينان المترفّعتان، واللسان الكاذب، واليدان السافكتان الدمّ الزكي، والقلب الذي ينوي نوايا السوء، والرجلان المسرعتان إلى عمل الشرّ، وشاهد الزور الذي ينفث الاكاذيب، وملقي الشقاق بين الإخوة" (أم 5: 16- 19). نحن أمام الرقم سبعة الذي يدلّ على الملء والتمام. لم يعد هناك بعد من خطايا بعد هذه الخطايا التي تهدم البيوت وتدمّر المجتمعات. ولولا الشقاق بين الاخوة، لكان كلام الزور هو قمّة هذه الخطايا بسبب الشرّ الذي يتركه وراءه. وفي أي حال يرافقه اللسان الكاذب ونافث الاكاذيب. نحن في "عائلة" واحدة من الشرّ متعدّدة الوجوه.
وسيعود سفر الامثال مراراً إلى هذه الرذيلة: "الشاهد الأمين لا يكذب، وشاهد الزور ينفث الكذب" (14: 5). "شاهد الحقّ ينقذ النفوس، ورجل المكر ينفث الكذب" (آ 25). إن عمله هو عمل الحيّة بسمّها الذي لا يمكن إلاّ أن يكون قاتلاً. ويتابع الحكيم قائلاً: "شاهد الزور لا يزكّى، ونافث الاكاذيب لا يفلت)، (أم 19: 5). وفي آ 9 يقول إنه يهلك. وأخيراً نقرأ في 21: 28: "شاهد الزور يهلك، والانسان المستقيم يتكلّم كلام المنتصر" (رج 24: 28؛ 25: 18).
في هذا الإطار، ردّد العهد الجديد ما قاله العهد القديم. في إطار التذكير بالوصايا أمام الشاب الغني، جاءت الوصيّة عن شهادة الزور مع القتل والسرقة والزنى (مت 19: 18 مر 10: 19؛ لو 18: 20). وكذلك حين أراد بولس أن يُجمل الوصايا في وصيّة المحبّة، قال: "لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور..." (روم 13: 9).
قاسى يسوع شهادة الزور ساعة محاكمته (مت 26: 60). ومثله اسطفان الذي رجم. ولم يسلم بولس وغيره من شهود الزور. هم ساروا على خطى معلّمهم على ما قال أشعيا النبيّ: "كشاة سيق إلى الذبح، وكحمل صامت أمام الذين يجزونه لم يفتح فاه" (53: 7).
لا نجد كلاماً عن شهادة الزور في إطار عظة الجبل كما هو الأمر بالنسبة إلى القتل وإلى الزنى، غير أننا نجد امتداداً لهذه الرذيلة في الحديث عن الحلف، وما يرافقه من كذب على الناس واحتيال على الله. فالفريسيون تعلّموا أن يحتالوا على الشريعة إرضاء للناس. ولكن الرب يعلم ما في قلوبهم. لا يحلنك الانسان بالله، بل بالسماء، بعرش الله، بموطئ قدميه، بمدينة أورشليم. بل راحوا أبعد من ذلك فميّزوا بين الهيكل وذهب الهيكل. لهذا سمّاهم يسوع "مرائين"، كاذبين، خادعين. قالوا: "من حلف بالهيكل لا يلتزم بيمينه. ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم بيمينه". وجاء كلام يسوع قاسياً قاطعاً: "أيها الجهّال العميان. أيهما أعظم الذهب أم الهيكل الذي قدّس الذهب؟" وقالوا أيضاً: "من حلف بالمذبح لا يلتزم بيمينه. ولكن من حلف بالقربان الذي على المذبح يلتزم بيمينه". وقال لهم يسوع أيضاً: "أيها الجهّال العميان" (مت 23: 16- 19). لماذا اللفّ والدوران؟
وبعد أن كشف يسوع مثل هذا الخبث الذي يتلاعب بالحقيقة ويغرّر بعقول السذّج، أطلق الوصيّة في صيغة إيجابيّة لا تتحمّل أفي تأويل: "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا، وما زاد على ذلك كان من الشرّير" (مت 5: 37). هذا يعني كجواب أول: يجب أن يكون كلامك صادقاً جداً بحيث لا تحتاج إلى حلف. ويعني أيضاً البعد عن كل كذب. فنحن أبناء النور، فلماذا نحبّ العيش في الظلمة؟ قال يسوع: من كانت أعماله حسنة أقبل إلى النور. أما إن كانت أعماله شريرة فهو يفضّل الظلمة لئلاّ تنفضح أعماله (يو 3: 20). وفي خط متّى نقرأ كلام القديس يعقوب: "وقبل كل شيء يا إخوتي، لا تحلفوا بالسماء ولا بالأرض ولا بشيء آخر. لتكن نعمكم نعماً ولاؤكم لا، لئلاً ينالكم العقاب" (5: 12).
هذا ما حاول بولس أن يعيشه ولا سيّما في حياته الرسوليّة: "إن كلامنا معكم ما كان نعم ولا" (2 كور 1: 19). ومثاله كان يسوعَ المسيح الذي" ما كان نعم ولا بل نعم كله" (آ 20). ولهذا استطاع أن يقول لأهل كولسيّ: "لا يكذب بعضكم على بعض، لأنكم خلعتم الانسان العتيق وكل أعماله ولبستم الانسان الجديد" (3: 9- 10). كما قال لأهل أفسس: "امتنعوا عن الكذب، وليتكلّم كلُّ واحد منكم كلام الصدق مع قريبه لأننا كلنا أعضاء بعضنا لبعض" (4: 25). إذا كان الشيطان هو أبو الكذب، فكيف ندخله في جماعتنا، في كنيستنا، في عيالنا، في مجتمعنا؟ في هذا الإطار نفهم التفسير الروحي الذي أعطاه لوقا لموت حنانيا وسفّيرة في سفر الأعمال (5: 1- 11): كذبا على الروح القدس (آ 3، 9). استسلما للشيطان (آ 3). كيف تقوم كنيسة مبنية على الكذب؟ إذا كانت كذلك راحت إلى الدمار. فاقتلع "بطرس" الشرّ سريعًا، على ما يقول الكتاب مراراً أمام كل خطيئة تشكّل ضرراً لشعب الله (تث 21: 21).
من القتل والسرقة، إلى الزنى وشهادة الزور. خطايا تحرم الذين يقترفونها من ملكوت الله. أما الموقف المطلوب فهو المحبّة التي تلخّص جميع الوصايا، بل تلخّص الشريعة والأنبياء. يبقى علينا أن نحبّ والرب يفعل الباقي فينا وبواسطتنا.