لفصل العشرون
من العبودية إلى الحرية
سفر الخروج هو السفر الثاني من أسفار موسى الخمسة. يبدأ في العبرية بإيراد "أسماء بني اسرائيل الذين دخلوا مصر مع يعقوب" (1: 1). أما الترجمة اليونانية فتشدّد على موضوعه الاساسي: خروج الشعب العبراني من مصر، من أرض العبودية. هو عبور البحر الاحمر إلى البرّية، عبور من عالم العبودية في أرض فرعون، إلى عالم الحرّية وموضع اللقاء بالرب. هو انطلاق ومسيرة نحو أرض الموعد.
سفر الخروج هو نشيد شكر يعلن عظمة الله وقدرته. ينطلق من أحداث مأخوذة من تاريخ الشعب ويجعلها في إطار تاريخ الخلاص، بل يجعلها في أساس تاريخ الخلاص هذا. كان الشعب يردّدون رواية هذه الاحداث خلال اعيادهم فيتذكرون ما فعله الله لأجل آبائهم وما يستعد لأن يفعله من أجلهم. وهكذا لا يكون الخروج حدثًا من الماضي وحسب، بل يصبح واقعاً حياً لنا اليوم.
سفر الخروج كتاب بدأ وما انتهى. يروي تدخّل الله في تاريخ البشر. وفي هذا الاطار قرأه الشعب العبراني. ونحن المسيحيين سنقرأه فنكتشف من خلاله أحداث الخلاص النهائي الذي تمّ في يسوع المسيح.
1- كيف يبدو سفر الخروج
يبدو سفر الخروج بمجمله بشكل رواية تتوالى أحداثها وتنتظم حول حدثين رئيسيين: خروج العبرانيين من أرض مصر حيث أقاموا، والعهد الذي عقده الله معهم حين كشف لهم عن ذاته على جبل سيناء.
مصر هي إطار الاحداث الواردة في القسم الاول (ف 1- 15). يصوّر لنا الكاتب حالة الضيق التي يعيشها بنو يعقوب ويعرّفنا ببداية ذلك الذي سيملأ الكتاب بشخصه وعمله، عنيت به موسى: ولادته، هربه إلى البرية، لقاؤه بالرب الذي سيرسله ليخلّص شعبه من عبودية مصر. سيجاهد موسى عبر ما يسمى "ضربات مصر" فيتوصل بقدرة الله إلى أن يخرج مع شعبه من أرض مصر ويعبر بحر القصب، فيصل إلى البرية، إلى أرض الحرية.
وننتقل في القسم الثاني (ف 16- 40) إلى شبه جزيرة سيناء. يتوجّه العبرانيون نحو الجنوب بمحاذاة البحر الاحمر فيصلون بعون الله إلى جبل سيناء حيث سيظهر الله لهم بطريقة ساطعة ويبدأ معهم عهداً تتوضّح بنوده في الوصايا العشر (ف 20) ودستور العهد (ف 21- 23)، ويُختتم بذبيحة تربط بين المتعاقدين.
ويصوّر لنا الكاتب بالتفصيل المعبد الذي سيكون موضع حضور الله وسط شعبه. ولكن العهد سيُنقض يوم يعبد الشعب العجل الذهبي، فيتشفّع موسى من أجل شعبه الذي سينال المصالحة والغفران من الله.
2- مواضيع سفر الخروج
الموضوع الاساسي لسفر الخروج، هو ولادة وتكوين شعب الله. لا شك في أن البداية كانت مع الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب. ولكن وُلد الشعبُ العبراني حقًا يوم خرج من مصر ويوم عقد عهداً مع الله. وهكذا لن يكون يهوه فقط "اله ابراهيم واسحاق ويعقوب" بل ذلك الذي أخرج شعبه من أرض العبودية. وسيعود شعب اسرائيل إلى أحداث الخروج وسيناء عندما يفكّر في هويته الخاصة التي تميزه عن سائر الشعوب، عندما يتوجّه إلى الله بالصلاة خلال احتفالاته وأعياده. مسيرته في التاريخ ومصيره، أساس نظمه والتزاماته، شريعة حياته العميقة، كل هذا يرتبط بتلك الاحداث. نحن إذًا في ينبوع التاريخ المقدّس، بل في قلب التوراة كلها. لهذا يبدو سفر الخروج مهمًا جدًا، لأنه يساعدنا على فهم سائر الاسفار المقدّسة.
أما المواضيع التي نكتشفها في سفر الخروج، فاليك أهمها: اسم يهوه، هذا الاسم المخصّص لعلاقة الله بشعبه والذي يُدخل هذا الشعبَ في سرّ الخلاص. التحرّر الذي هو بداية واعلان مسبق لنداء الله. الفصح الذي هو خلاص لشعب الله واحتفال سري بهذا الخلاص. العبور العجائبي للبحر الذي يمنح الشعب نعمة شبيهة بنعمة العماد ويدخل المؤمن في حياة جديدة. المن الذي هو زاد المسافرين في طريقهم إلى الربّ البريّة التي هي أرض الامتحان والامانة والمجابهة مع الربّ. هل يصدّقون (4: 1)؟ هل يسمعون (6: 9)؟ هل يخافون الرب ويؤمنون به (14: 31)؟ ويتساءلون: هل الرب بيننا أم لا (17: 7)؟ ما هو اسمه (3: 13) وهل نستطيع أن نراه (33: 20)؟
السحاب هو علامة حضور الله الفاعل، وهو رفيق شعبه في الصحراء. خطيئة الشرك تعيد الامور إلى نقطة الصفر، وكأنه لم يكن عهد والتزام. عبادة الله القدوس هي جوهر الخدمة التي يقوم بها شعب مقدّس. بالشريعة والفرائض والوصايا العشر يتوجّه الله إلى شعبه ويقدّم لهم برنامج حياة مطبوعًا بروح العهد. والعهد نفسه الذي هو قلب سفر الخروج هو نعمة حبّ الله لشعبه، وإشراك حياة الشعب في حياة الله عبر أمانة تصنع ثمراً. وموسى هو رجل الله والنبيّ وقائد الشعب في طرق الحرّية والخدمة الحقّة.
هذه المواضيع لا تنحصر في سفر الخروج، بل تتوسّع في سائر الاسفار الخمسة. هي تنتقل من كتاب إلى كتاب فتحيا من جديد إلى أن تجد كمالها في ملء المسيح والكنيسة، وهي تصل إلينا نحن الذين نختبر ما هو التحرّر، ما هو العهد، وماذا يعني الفصح بالنسبة إلى حياتنا اليومية وتطلعاتنا السياسية وانطلاقتنا الروحية.
3- تقاليد سفر الخروج
في أساس سفر الخروج هناك الوقائع: جماعة من أصل آرامي أقامت في دلتا مصر طويلاً. ولما أحسّت بالمضايقات، تركت البلاد في ظروف خارقة اعتُبرت عجائبية. هذه الجماعة المبعثرة أقامت في شبه جزيرة سيناء، فارتبطت بيهوه الاله الواحد، وتجمّعت حول موسى الذي لعب الدور الاساسي في قصة الخلاص هذه.
هذه الوقائع دوّنت في أرض اسرائيل أو هي تجسّدت بطريقة شفهيّة في مراكز ثلاثة قبل أن تصل إلينا بصيغتها النهائية كما نقرأها في الكتاب اليوم.
دوّنت أولاً في مملكة يهوذا وفي عاصمة أورشليم، في القرن العاشر، على يد حكماء داود وسليمان، فسمِّي تدوينهم التقليد اليهوهي لأنه يسمي الله يهوه أي الكائن الذي هو. لا يذكر هذا التقليد شيئاً عن طفولة موسى وعن اقامة بني اسرائيل في أرض مصر والضيق الذي حلّ بهذا، ولكنه يشدّد على دور موسى الواقف بوجه فرعون من أجل شعبه. ويورد بطريقة ملحمية سبع ضربات حلّت بمصر، ويصوّرها وكأنه شخص عاش في مصر. بالنسبة إلى التقليد اليهوهي، خرج العبرانيون من مصر وتوجّهوا نحو الشرق إلى منطقة قادش التي ستكون مركز النشاط الديني لموسى وسط شعبه.
إن كتاب الطقوس الذي ينقله التقليد اليهوهي يصوّر لنا حالة معاصيه: فالعهد مع يهوه يفترض موقفاً متصلّباً من العبادات الوثنية ورفضاً قاطعاً لاقامة علاقات مع شعوب ظلّت ممارستها الدينية خطراً للمؤمنين بيهوه. عيد الفصح هو أعظم عيد وهو يعطي معنى تاريخياً لعادة قبليّة. وهناك أعياد أخرى وتقدمة الابكار والبواكير وتنظيم الحج إلى المعبد. كل هذا ينظّم ديانة في طبيعة ريفية لا تفترق كثيراً عمّا نجده في العادات الكنعانية.
ودوّنت هذه الوقائع ثانياً في شمالي البلاد (القرن 9- 8) فتأثّرت بالانبياء مثل عاموس وهوشع. كانت افرائيم أعظم قبيلة في الشمال فعادت إلى أصلها وهي التي عاشت في مصر بشخص يوسف (تك 41: 5- 52؛ 48: 8- 22)، رافقت موسى في الطريق إلى سيناء، وهذه النعمة لم تحصل عليها كل قبائل اسرائيل، فقبلت الوحي على الجبل. يسمَّى ما دونته قبائلُ الشمال التقليد الالوهيمي لأنه يسمى الله الوهيم أي الاله العظيم.
يحدّثنا هذا التقليد عن طفولة موسى ودعوته، وعن خمس ضربات حلّت بمصر، وعن الاقامة في البريّة. ما احتفظ لنا به التقليد الالوهيمي هو وصايا الله ودستور العهد وهي تشدّد على المتطلّبات الاخلاقيّة التي يفرضها الله على شعبه. يروي لنا كتَّاب الشمال الذبيحة التي توَّجت العهد الذي عُقد بين الله وشعبه، ويتوسَّعون في حادثة العجل الذهبي وهي صورة مسبقة عما سيفعله يربعام حين يعمل عجلين من الذهب ليمنع شعبه من التوجّه إلى أورشليم (1 مل 12: 26- 30).
ودوّن الكهنة وقائع سفر الخروج في التقليد المسمّى الكهنوتي في نهاية القرن السادس ق. م، أي بعد الجلاء، فشدّدوا على قداسة الله وسط شعبه. ولهذا أطالوا الحديث عن المعبد وعن الكهنوت (ف 25- 31، 35- 40) واعتبروا عهد سيناء كمجيء الله في المسكن. هذا المسكن الذي أمر الله بصنعه والذي يخدمه هارون وأبناؤه، هو المركز الذي تدور حوله كل حياة جماعة بني اسرائيل.
يورد التقليد الكهنوتي الكثير من الاشارات الزمنية والاحصاءات وسلاسل النسب ويقدّم لنا خبراً خاصاً عن دعوة موسى ويذكر من الضربات خمساً.
يوم دوّن التقليد الكهنوتي ما دوّنه، كان الهيكل الذي صنعه زربابل حقيراً بالنسبة إلى ما رآه المنفيون في بابل من عظمة. ولهذا تصوّر مسكنَ الله في البريّة جميلاً جدًا، فكان تصوّرُه مصدر أمل وعربوناً لمصير ربما سيعرفه هيكل أورشليم فيما بعد.
اجتمعت عناصر التقليد اليهوهي بالتقليد الالوهيمي بعد سقوط السامرة سنة 722 ق. م، وتأثرت هذه النسخة الجديدة بالتقليد الكهنوتي، فتمّ تدوينُ سفر الخروج في القرن الخامس على يد جماعة حمّلته غنى قديمًا ونسبته إلى موسى لأن شخصية موسى مسيطرة في هذا السفر.
إلى أحداث سفر الخروج سيعود كاتب سفر التثنية وأنبياء الجلاء. فحياة بني اسرائيل في منفى بابل تشبه حياتهم في عبودية مصر، وستكون نجاتهم عجائبية من بابل كما كانت من مصر. رأى أشعيا العودة من بابل إلى أورشليم بشكل خروج جديد وعجيب (أش 40: 3- 5؛ 43: 16- 21). وبنى حزقيال نبوءته كلها على موضوع الخروج مع انطلاق يهوه في السحاب (حز 10: 18 ي) وعودته إلى مسكنه (حز 43: 1 ي). أحداث سفر الخروج ستكون موضوع صلاة شعب الله (مز 78: 12 ي؛ 105: 23- 45؛ 106: 7- 23)، وتأمّل الحكماء من ابن سيراخ (سي 45: 1- 5) وغيره. وستنتقل إلى العهد الجديد فيرى الرسل والانجيليون أن تاريخ التحرّر والعهد تمَّ كله في يسوع والكنيسة.
خاتمة
قالوا: سفر الخروج هو إنجيل العهد القديم، وهو كإنجيل يقدّم بشرى صالحة عن تدخّل الله في وجود جماعة من البشر. تدخّل ليجرّهم إلى عالم من الحرية ويجمعهم ليكونوا له مملكة كهنة وشعباً مقدّساً (19: 6).
قالوا: سفر الخروج هو سفر معجزات الله وعجائبه. ولكن سنرى أن كثيراً من هذه المعجزات تفسّرها الظواهر الطبيعية. المهم ليس المعجزة، ليس العمل الذي يعجز الانسان عن فعله، المهم هو أن العبرانيين رأوا في كل حدث من حياتهم يد الله تعمل من أجل شعبه. ونحن كأفراد وشعوب سنتعلّم أن نقرأ كلمات الله من خلال أعماله.
سفر الخروج هو العبور من عالم العبودية إلى عالم الحرية. عاشه شعب من الشعوب، ولكن كل شعب مدعو إلى أن يخرج من حالة العبودية السياسيّة والاقتصاديّة التي يعيش فيها، أن يخرج من الضيق الذي يتخبّط فيه. كل عبودية خارجية رمز إلى عبوديّة داخليّة جاء يسوع يحررنا منها. لاشكّ أن أعداء المسيح هم الموت والشر والخطيئة، ومنهم أراد أن يفتدينا الربّ. ولكن إذا أردنا أن نهيّئ الطريق لملكوت الله، للأرض الجديدة والسماء الجديد، لا بدّ من أن نقوم بتحرير الضعيف والمسكين والفقير والمظلوم من هذا الوحش المتعدّد الرؤوس الذي اسمه المال والسياسة والقوة والعنف...
إلى هذا التحرير يدعونا الكتاب، ولكن التحرير لن يتم إلاّ في النهاية وعنه يخبرنا سفر الرؤيا عندما يحدّثنا عن زوال البحر (رؤ 21: 1) مركز الشر: يسكن الله بيننا ونكون له شعبًا. يكفكف الله كل دمعة، لا يبقى للموت وجود، ولا للبكاء ولا للصراخ، ولا للألم، لأن العالم القديم زال (رؤ 21: 3- 4).
ولكن بانتظار هذه النهاية نجابه الضيق ونرفض الظلم ونسير مع الرب وقلبنا عامر بالرجاء. الرب يدعونا إلى الحرية فهل نبقى عبيداً؟ الرب يدعونا إلى خدمته والتعبّد له. فهل نرفض دعوته ونتابع مسيرتنا وراء أصنام البشر؟ بل نحن نقول لله: أنت الله الوحيد ولا الله لنا غيرك.