الفصل السادس عشر
كبرياء الانسان، من آدم إلى برج بابل
حين نقرأ سفر الجامعة وتتكرّر أمامنا عبارة "باطل الأباطيل، وكل شيء باطل"، نضع نظرتنا في نظرة هذا الباحث عمّا وراء الموت، عمّا يحدث غداً وبعد غد. نتأمّل في الانسان الذي لا يريد أن يضع لرغبته حدوداً. هو في الواقع يطلب أن يصير الله على مثال آدم، على مثال بُناة برج بابل. لقد اعتبر الكاتب الملهم أن الملوك الاغنياء والاقوياء، مثل ملك صور، ملك أشور، ملك بابل وغيرهم، قد أخذوا بروح العظمة فألّهوا نفوسهم واعتبروا أنهم خالدون. ولكن الانبياء سيُفهمونهم أنهم بشر. وسيُفهم سفر الجامعة المؤمن كيف يكون واقعياً. كيف لا يتعدّى حدوده. كيف يعيش في مخافة الله. عند ذاك يصل إلى سعادة في يومه الحاضر بانتظار سعادة أخرى أكثر عمقًا وديمومة.
نعالج في هذا الفصل لوحة تاريخيّة في درفتين. الأولى تنطلق من آدم وتصل إلى نوح. والثانية تنطلق من نوح فتصل إلى ابراهيم. ونتوقّف عند بناة مدينة بابل وبرجها الذي هو تلك "الزقورة" أي البرج المرتفع الذي يحاول أن يصل إلى الله ويتحدّاه على ما فعل نمرود (الذي هو تشويه لاسم الاله مردوك) الذي ظنّ أنه يستطيع أن ينتصر على يهوه، حين شدّ قوسه ووجّه سهمه إلى الله. لقد أراد الانسان أن يقتل الله بانتظار أن يقتل أخاه.
1- لوحة تاريخيّة
أ- التاريخ البشري يواصل مسيرته
حدّثتنا الفصول الثلاثة الاولى من سفر التكوين عن بداية البشرية المتمثّلة بعيلة، وستحدّثنا الفصول الثمانية التالية عن البشرية منذ البداية إلى الطوفان، ومن الطوفان إلى ابراهيم بسلسلة من الانساب تُعدّد الآباء وتعطي بعضاً منهم عمراً يقارب الالف سنة.
كان الناس في بلاد الرافدين يقسمون تاريخ العالم القديم قسمين. قسم أول سابق للطوفان، وقسم ثان بعد الطوفان. أما القسم الأول فتنغرز جذوره في عالم الميتولوجيا والاساطير. إلاّ أن اللوائح السومرية تورد أسماء خمس مدن بملوكها في بلاد الرافدين الواطئة. فمدينة باد تيبيرا (دور قرقرى في الاكاديّة) بجدارها الحديدي (وهذا هو معنى اسمها) تعيدنا إلى زمن عصر النحاس، وملكها "دوموزي" الراعي المؤلّه سيقاتل الفلاّح انكيدو بسبب "انانه" الاهة الحب. وتروي النصوص بناء الهياكل المكرّسة لآلهة البلاد، وجّعل أعمار ملوك (كانوا سبعة أو ثمانية أو عشرة) ما قبل الطوفان تتراوح بين 241200 سنة وبين 456000 سنة، وتذكر أسماء سبعة حكماء لقّنوا الناس الصناعات والفنون.
هذه العناصر الآتية من بلاد الرافدين ستكون نموذجاً يأخذ به الكاتب الملهم ليحدّثنا عن التاريخ البشري السابق للطوفان.
وبعد الطوفان ينطلق التاريخ بحسب التقاليد السومرية حول مدن تشكّل ممالك على مصب الفرات ودجلة، وكان لكل مدينة الله محلي ينتدب ملكاً من قبله ويعطيه سلطته. وفي الالف 3 نتعرف إلى الاكاديين وهم شعب سامي لغته قريبة من لغة العبرانيين. وبما أن الآباء كانوا يعتبرون أن آباءهم جاؤوا من بلاد الرافدين، فلا عجب إن هم جعلوا البشرية تنمو في بلاد الرافدين ومن هناك تنتشر لتصل إلى أقاصي الأرض.
ب- من آدم إلى نوح أو آباء ما قبل الطوفان
نقرأ هذه السلسلة الاولى فنجد فيها عشرة أسماء (عدد الكمال، عدد أصابع اليد). يورد النص لكل أب: اسمه، عمره حين ولد بكره، سنوات حياته، موته. وننتقل هكذا من اسم إلى اسم حتى نصل إلى نوح.
أعمار هؤلاء الآباء طويلة وهي لا تعطينا أيّة معلومات عن أعمار الناس في ذلك الزمان، بل تحاول أن تملأ الفترة التي تفصل البدايات عن الازمنة التاريخية. كان البابليون يجعلون ملوكهم يملكون آلاف السنين. أما الكتاب المقدّس فجعل أعمار آباء ما قبل الطوفان تراوح بين ألف وستماية سنة، وآباء ما بعد الطوفان بين ستماية ومائتي سنة. (11: 10- 26)، والآباء منذ ابراهيم إلى يشوع بن مائتي سنة ومئة سنة. ومع داود في القرن 11 تصبح أعمار الناس كما هي معروفة الآن.
في لائحة ما قبل الطوفان هذه، نلاحظ أولاً أن الاسماء التي فهـ د هنا تشبه إلى حدّ بعيد ما قرأناه في 4: 17 ي ولكننا نتحاشى أن نمزج بين تقليدين مختلفين. فأخنوخ الرجل البار الذي سار حسب وصايا الله في اللائحة التي كتبها الكهنة في القرن 6 ق. م. (5: 21- 22)، هو غير أخنوخ ابن قايين الخاطئ الذي أورد اسمه الكاتب اليهوهي في القرن 10 ق. م. (4: 17- 18).
ونلاحظ ثانياً أن الانسان ينقل إلى أبنائه صورة الله. وصُنع هو على مثال الله، وسيكون أولاده على صورته. أجل، عطايا الله لا ندامة فيها (روم 11: 29) رغم وجود الخطيئة وابتعاد الانسان عن الله.
ونلاحظ ثالثاً أن عمر الآباء لم يصل مرة إلى ألف، وألف علامة الكمال والخلود. جعلت النصوص الشرقية بعض الملوك والابطال في مصاف الآلهة الخالدين (غلغامش مثلاً). أما الكتاب المقدّس فيعلن: الانسان كالعشب أيامه وكزهر الحقل يزهر (مز 103: 15)، وما يعتّم أن ييبس، أما الله فهو منذ الازل إلى الأبد. ويحدّد المزمور عمر الانسان بسبعين سنة، واذا كان قوياً بثمانين سنة (مز 90: 10).
الاسم الاخير في اللائحة السومرية هو بطل الطوفان وسيكون له الخلود في نهاية المطاف. أما الكتاب المقدّس فيجعل نوحا بطل الطوفان يموت ولن يمنحه الخلود. ثم يتوقف على شخص أخنوخ الذي هو السابع بين العشرة، والسبعة عدد الكمال، والذي تطول حياته دورة شمسية كاملة، أي 365 يوماً، فيرمز إلى عبّاد الله في كل وقت وزمان. سار أخنوخ مع الله، أي سار بحسب وصاياه (5: 24)، وكذا سيفعل نوح (6: 9). هذه الامانة لله كانت نتيجتُها خلاصاً من الموت المحتّم بالنسبة إلى نوح، وانتقالاً إلى حضن الله بالنسبة إلى أخنوخ. أخذه الله كما سيأخذ إيليا فيما بعد (2 مل 2: 11) فاختفى وما رأى أحد جثته. فالله يبالغ في اكرام أحبّائه فيقوم بنفسه بمراسم دفنتهم وكأنّي به لا يريد أن يتخلّى عنهم في الحياة ولا في الممات. عن أخنوخ سيقول يشوع بن سيراخ (44: 16) إنه أرضى الربّ فنقله إليه. وقالت الرسالة إلى العبرانيين (1: 4) إن الربّ رفعه إليه من غير أن يرى الموت.
ج- من نوح إلى ابراهيم أو آباء ما بعد الطوفان (10: 1- 22)
نكتشف هنا أصل الامم المنتشرة على سطح الأرض بعد البركة التي منحها الله لنوح وأبنائه: أنموا وأكثروا (9: 1). كل شعوب الأرض تتفّرع من يافت (10: 2- 5) وحام (10: 6- 20) وسام (10: 21- 31) أبناء نوح. وهكذا يشدّد الكاتب الملهم على وحدة كل الشعوب التي قسمها إلى مجموعات ثلاث بحسب علاقتها التاريخية والجغرافية. ذكرَ الشعوبَ المعروفة في الشرق القديم بين القرنين 8 و6 وأغفل ذكر كل من العرق الأسود والاصفر والاحمر. ولكي يدلّ على التقارب بين الشعوب والقبائل والمدن، جعل الاسماء في علاقة تشبه علاقة الأب بابنه. فكوش يبدو أخاً لمصرائيم، لأن أرض كوش تدلّ على الحبشة القريبة من مصر على صعيد الجغرافيا. وصيدون هو ابن كنعان، بمعنى أن شعب صيدون يرتبط بأهل كنعان بحكم الجوار.
أبناء يافث هم الشعوب المقيمون في الشمال والشمال الشرقي، وإلى الغرب من أرض الساميين التي يعتبرها الكاتب محور الأرض. وأبناء حام يقيمون إلى الجنوب من أرض الساميين. أما أبناء سام الذين ذكرهم الكاتب في الأخير، فهم موضوع اهتمامه. فمنهم عابر جد العبرانيين، ومن عابر سيولد ابراهيم ابن تارح ابن ناحور.
د- المعنى اللاهوتي للائحة الشعوب
عندما نقرأ لائحة الشعوب والقبائل، نتعرّف إلى الصورة المقدّسة التي يكوّنها الكهنةُ عن العالم في القرن 6 ق. م. ويتناقلونها أبًا عن جدّ. كما نكتشف مرجعاً يجمع في طيّاته العلاقات بين الشعوب والشعب المختار من أجل رسالة محدّدة وهي استقبال يسوع المسيح.
ما نقرأه في هذه اللائحة تنمّ عن إلمام بالجغرافيا المعروفة في ذلك الزمان، ولكن الكاتب أغفل ذكر المدن والبلدان العظيمة، لأنه لا ينظر إلى الأمور من خلال سياسة البلاطات الملكية. ما يكتبه هو تاريخ مقدّس، والمعلومات التي استقاها من الشعوب المجاورة، ولاسيّما من الفينيقيّين، يضعها في إطار لاهوتي يتوافق ونظرته إلى مخطّط الله في الكون.
عدّد الكاتب القبائل والشعوب، فبيّن أن وعد الله بالبركة قد تحقّق. عدّد الكاتب هذه الأمم، فأظهر إعجابه بالله الخلاّق الذي وهب الحياة للبشر. وهذا ما عبَّر عنه القديس بولس في خطبته في ساحة أثينة (أع 17: 26) عندما قال: خلق البشر كلهم من أصل واحد، وأسكنهم على وجه الأرض كلها، ووقّت لهم الازمنة وصوّر لسكناهم الاماكن. اذا كان الفصل الاول من سفر التكوين قد روى لنا كيف خلق الله عالم الطبيعة، فالفصل العاشر يروي لنا كيف خلق الله عالم التاريخ البشري.
كل هذه الشعوب لا تعرف سر الخلاص، ولكنها ستشارك شعب اسرائيل في الخلاص. هذا ما نكتشفه لدى قراءة نبوءة ميخا (4: 1- 3): في آخر الايام تجري الشعوب إلى جبل بيت الربّ، وتنطلق أمم كثيرة ويقولون: هلّموا نصعد إلى جبل الربّ (رج أش 2: 2- 4). ونتأكّد من هذا الخلاص لدى قراءتنا الفصل الثاني من سفر أعمال الرسل الذي يحدّثنا عن الشعوب الذين تأثّروا بفعل الروح القدس ونعمته يوم العنصرة. قال لهم القديس بطرس: أيّها اليهود... الوعد هو لكم ولبنيكم، وللبعيدين جميعاً، أي الوثنيين الذين سيدعوهم الله (أع 2: 39).
2- برج بابل وتشتت البشر (11: 1- 9)
أ- وحدة شعوب الأرض
في البدء خلق الله الانسان رجلاً وامرأة، وكلاهما يمثّلان صورته ومثاله. في البدء خلق الله الرجل والمرأة واحداً. يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً. هذه هي وحدة العائلة منذ بداية الخليقة التي ظلّت على حالها رغم الخطيئة. عرف آدم امرأته فولدت قايين ثم أخاه هابيل. وتسلسلت الشعوب والقبائل في وحدة مرجعها آدم.
ثم بعد الطوفان انطلقت البشرية في وحدة سياسيّة واجتماعيّة: كل البشر يعودون إلى نوح عبر أولاده الثلاثة سام وحام ويافت ولكن الواقع قد تبدّل اليوم. أين وحدة البشريّة، ولِمَ تميّزت لغات البشر فما عاد شعب يفهم شعبًا آخر. الجواب نجده في حدث برج بابل كما رواه التقليد اليهوهي.
الخبر خبران. خبر يروي أولاً أن الناس أرادوا أن يتخلّوا عن حياة البداوة فبدأوا ببناء المدن. ولكن الكاتب المتشرّب بروح الصحراء، يعتبر أن بناء المدن يعارض عمل الله الذي كوّن الطبيعة وخلق الاشجار والحيوانات. الطبيعة عمل الله، والمدينة عمل الانسان، لهذا عندما يبني الانسان المدينة فهو يتحدّى الله، كما أن المدينة تصبح رمزاً إلى الشرّ وموضع كل العبادات الوثنية. وهكذا سيعتبر الكاتب "بابل" المدينة صورة عن ارتباط الانسان بالانسان بمعزل عن الله، ورمزاً عن تضامن بشرية أرادت أن تبني الكون دون الرجوع إلى الله.
والخبر الثاني يروي كيف أن الناس أرادوا أن يبنوا برجاً يصل إلى السماء فيتحدّون به الله وينجون من غضبته في طوفان يحلّ بهم مرة أخرى. أرادوا أن يرتفعوا فوق كوى السماء (7: 11) فلا تغمرهم المياه. ويروي أيضاً أن الناس أرادوا أن يقيموا لهم اسماً أي أن يخلدوا على مثال الله. وحسبوا أن أعمالهم ستخلّدهم. ولكن دمار المدن سيفهمهم أن الله وحده دائم أزلي وما عداه عابر زائل. أرادوا أن يبنوا بابل أي باب إيل، باب الله، فصارت المدينة لا مدخلاً إلى الالوهة التي توحّد بين البشر بل بداية بلبلة شتّتت البشر في كل مكان. أرادوا أن يبنوا برجاً على مثال الابراج المعروفة في بلاد الرافدين العليا في أرض شنعار، ليقيموا شعائر عبادتهم لالهتهم، ولكن البرج هُدم والهياكل الوثنية قوِّضت، ولن يبقى الا هيكل اورشليم الذي اليه ستأتي جميع عشائر الأرض.
ب- ما يقوله الكتاب عن بابل
يقول إن الناس جاؤوا من المشرق إلى الأرض الواقعة بين دجلة والفرات. والتاريخ يذكر أن الاكاديين والسومريين جاؤوا من شرقي بلاد الرافدين في الالف 5 ق. م. وأقاموا في تلك الأرض الغنية بالمياه. والنصوص المسمارية تعلمنا أنهم جاؤوا من الجبل الواقع إلى الشرق وإلى الشمال الشرقي لما نسميه العراق اليوم.
ويقول الكتاب إن الناس أقاموا في أرض شنعار، حيث سبقهم أبناء حام ونمرود ذلك الصياد الماهر (10: 10). أما شنعار فهي الاسم القديم للقسم الشمالي من بلاد الرافدين (14: 1؛ دا 1: 2؛ زك 5: 11). وصنعوا اللبن واستعملوا التراب الاحمر... هكذا وُلدت المدنيّة البابلية. لا حجارة ولا أخشاب في هذا السهل الواسع. لهذا عمد السومريون والاكاديون إلى التراب يطبخونه فيكوّنون منه حجارة ذات أربع زوايا، يجفّفونها في الشمس قبل أن يبنوا بها بيوتهم ومدنهم. ولقد أبانت الحفريات الاثرية أن الحجر كان مربعاً وضلعه يتراوح بين 31 و34 سنتم، وسماكته بين 8 و10 سنتم. وتعوّد العمال أن يحفروا على الحجر اسم الملك الذي أمرهم بصنعه ولهذا يسمى الالف 4 والالف 3 ق. م. عصر "اللبن" والحجر المصنوع من اللبن.
نبني مدينة وبرجا. نتوقّف هنا على البرج الذي تميّزت به المدن البابلية والذي سُمّي "زقورة" أي "برج بمراقٍ" لأنه كان مؤلّفاً من طبقات يرتقي بها المؤمنون ويصعدون إلى أعلاها الذي كان فارغًا والذي كان مخصّصاً لسكن الاله مردوك. اسم الهيكل "إيساجيل" أو "إيساجيلا" (يعني في السومريّة البيت الرفيع الرأس) واسم البرج "إي تيمين أن كي" أي هيكل أساس السماء والأرض.
هذه الابراج أو الزقورات كانت بناء ضخماً مربعاً ضلعه 90 متراً وكان يرتفع إلى 90 متراً. أما طبقاته السبع فكانت مكرسّة لكواكب الابراج السبعة، وكان لونُ كل طبقة يسحر الحجاجّ الآتين إلى الصلاة.
أما لماذا بنى الاكاديون والسومريون هذه الابراج؟ جاؤوا من الجبال وعلى رؤوسها كانوا يعبدون آلهتهم. ولما أقاموا في أرض شنعار (لا جبال فيها) بنوا أبراجاً تشرف على السهل (وكأنه جبل)، وعليها كانوا يقيمون شعائر العبادة لآلهتهم. ولكن في عيون اليهود الاتقياء الذين عاشوا ذلّ الاسر في بابل، فهذه الابراج هي رمز إلى الوثنية وتعبير عن عبادة آلهة غير الاله الواحد. فهل يعقل أن يترك الرب الاله مثل هذه الابراج التي هي رمز إلى الوثنية وتعبير عن عبادة آلهة غير الاله الواحد؟ فهل يترك الرب الاله مثل هذه الزقورات ولا يهدمها؟ بل هو يهدم المدن التي تأويها.
ج- لغة واحدة ولسان واحد
وهنا نزيد ملاحظة على ما سماه الكتاب "بلبلة الالسنة واللغات".
كان الأقدمون يعتبرون أن الناس تحدثوا في لغة واحدة حتى حدث بابل، فجاءت هذه البلبلة نتيجة عقاب الله لهم. مثل هذا القول خاطئ. لأن تنوّع اللغات هو نتيجة تطوّر بطيء ومعقّد جرّ وراءه اختلافات ستزداد يوماً بعد يوم. وهنا نقول إنه لا يجب أن نبحث عن نظريات في الفقه ولا في علم الفيزياء أو البيولوجيا عندما نقرأ نصوص الكتاب المقدّس، بل عن تعليم ديني يحمله الينا الكاتب الملهم الذي يريد أن يدخلنا أولاً وأخيراً في مخطط الخلاص.
كان اسم بابل باب الله، فجعله الكاتب الملهم "بلبلة وفوضى" راجعاً لا إلى الاصل السومري بل العبري خاصة والسامي عامة. ولكن وحدة الالسنة لم تعنِ في النصوص القديمة "لغة واحدة" كما نقول إن المصريين يتكلمون لغة واحدة أو الفرنسيون. فالملك المنتصر كان يحتفل بانتصاره فيرسل أمراً ملكياً يفرض فيه أن تعمل دواوين الملكة كلّها في لغة الحاكم. وهكذا يوم انتصر الاشوريون على مناطق الشرق، لم يجبروا الشعوب الخاضعة لهم على التخلّي عن لغاتها ولهجاتها (واللهجة هي لغة الانسان التي جُبل عليها واعتادها) الاصليّة ليأخذوا بلغة الحاكم، ولكنهم جمعوا هذه الشعوب في وحدة سياسية واقتصادية ودينيّة دون المساس بلغة الأمّ لكل من هذه الشعوب.
وهكذا عندما يقول الكتاب: كانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاماً واحداً (11: 1)، فهو يعني وحدة سياسية واقتصادية خضعت لها الشعوب المغلوبة على أمرها. وعندما يقول إن الله بلبل لغة هؤلاء الشعوب وشتّتهم (11: 9)، فهو يعني أن هذه الوحدة تفكّكت كالسبحة التي انقطع خيطها. اجتمعت هذه الشعوب بطريقة سطحية، ولكنهم ما عتموا أن طلبوا استقلالاً بعضهم عن بعض، فعاش كل شعب منعزلاً عن الآخر وتكلّم لغة لا يفهمها الآخر.
فإذا كان الشعوب لم يعودوا يتفاهمون في تاريخهم، فلأنهم رفضوا أن يتفاهموا. ربما كانت لغة الشعب الواحد مماثلة للغة الشعب الآخر. واعن حديثهم كان يشبه ما يسمّى "حوار الطرشان". فالاختلاف بينهم والتحاسد والتباغض، كلّ هذا كان السبب العميق الذي فصل الشعوب بعضها عن بعض وشتّتها في أربعة أصقاع الأرض.
د- المعنى الديني لبرج بابل
لماذا دوّن الكاتب الملهم حدث برج بابل؟ هناك هدفان اثنان بحسب الشرح.
الهدف الاول: أراد أن يربط بين أزمنة ما قبل التاريخ والازمنة التاريخية التي تُبرزها لنا الحفريات بما فيها من نصوص مكتوبة أو أقوال شفهيّة تتناقلها الاجيال. نحن لا نجد في النصوص الشرقية ما يقابل خبر بابل، ولكن نجد في هذا الخبر نموذجاً عن بناء المدن والمعابد.
الهدف الثاني: أراد الكاتب أن يربط بين الازمنة القديمة وزمن ابراهيم، أن يترك بلاد الله الواسعة ويضيّق آفاقه فلا تتعدّى بلاد الرافدين موطن أجداد ابراهيم (11: 31 ي). أراد أن يترك قصة البشرية ككل، ويحصر حديثه في عائلة واحدة هي عائلة ابراهيم، وفي شعب واحد هو شعب اسرائيل.
ولكن هناك الهدف الديني وهو الهدف الاساسي للكاتب الملهم: التشديد على تنوّع الالسن واختلاف اللغات. يعود كل هذا إلى عجز الجماعات الاتنية عن تكوين عائلة واحدة لا عيب فيها ولا خلل. لو تفاهم الناس وتحابّوا! ولكنهم يتقاتلون ويتحاربون ويتباغضون حتى الموت. أجل، قصة الخطيئة لم تنته فصولها بعد ولن تنتهي قبل نهاية العالم.
عاش شعب اسرائيل بين شعبين قويين، الشعب المصري والشعب الرافديني، وتحمّل العذاب من هذا وذاك ولكنه تأكّد أن هذين الشعبين سيعاقَبان عاجلاً أم آجلاً. هما لم يوحّدا الجماعات المختلفة، بل زرعا الشقاق على مثال ما تفعله اليوم القوى العظمى. ثم إن كل وحدة لا ترتكز على الله تبقى واهية وهي لا تدوم، وكل وحدة ترتكز على المصلحة تدوم ما دامت المصلحة وتزول ساعة تزول المصلحة.
إن الخطيئة ما زالت تفعل فعلها في البشرية حتى بعد الطوفان. فالشرّ يقسم الناس، والبغض يباعد بينهم. وحيث يرفض الناس أن يتعبّدوا لله، فعلاقاتهم بعضهم ببعض ستفسد. اتّحدوا في رفض وصايا الله. عارضوا الله. وها يأتي وقت سيعارضون فيه بعضهم بعضاً. تجمعوا في وحدة كاذبة ليقفوا بوجه الله ويتحدّوا قدرته، ولكن أنانيّاتهم المختلفة ستفسخ هذه الوحدة، فيخاف كل واحد على مصالحه، ويحاول أن يسيطر على الآخر ويستثمره.
أجل، لا نستطيع أن نبني جماعة تدوم إذا عارضنا الله وأوامره المتعلّقة بحياة البشر. أما إذا اعترفنا بالاله الواحد الحق وعبدناه وحده دون سواه، وضعنا الاساسَ لحريّة حقّة ولازدهار الشعوب. يمكن لبعض الاقوياء أن يستعبدونا موقتاً. بل يطردوننا من بيوتنا وأرضنا. ولكن يد الله القديرة تدافع عن شعبه المؤمن، وتنجّيه من كل شر، وتخزي جميع أعدائه.
مثل هذا الفكر اللاهوتي أعاد الرجاء إلى شعب أحسّ باليأس في أوقات صعبة، والامل بأن تاريخ الخلاص لا تتوقّف مسيرتُه مهما قويت يد البشر. برج بابل هو رمز القوة المعادية لله، وبابل الخاطئة هي صورة عن العالم الخاطئ الذي يتمرّد على الله. في هذا السبيل يقول إرميا (50: 2 ي): "قد أخذت بابل وأخزيت أصنامها. فإن أمة طلعت عليها من الشمال فتجعل أرضها مستوحشة". ويقول أشعيا (13: 19- 20): "فبابل فخر الممالك تصير كسدوم وعمورة. فلا تُسكن أبداً ولا تعمّر إلى جيل فجيل". أما سفر الرؤيا فيهتف: "سقطت، سقطت بابل العظيمة" (رؤ 14: 8) لأنها تمثّل عالماً أنكر وجود الله وصار مسكناً للشياطين ومأوى لجميع الارواح النجسة (رؤ 18: 2). وسيحلّ محل بابل مدينةٌ أخرى هي أورشليم السماوية، رمز الجماعة البشرية التي يوحّد الله بين أفرادها.
لا، ليس الانسان سيّد التاريخ، بل الله هو سيّد التاريخ. ومهما ارتفعت المدن فستُحطّ، ومهما تعاظمت الشعوب فالرب يتسلّط عليهم. أمام عظمته تبوء محاولات البشر بالفشل. أرادوا برجاً يصل إلى السماء، إلى عرش الله، ولكنه مشروع سخيف، والمسافة التي تفصل قدرة الله عن ضعف البشر تبقى بلا حدود. فكيف يستطيع الانسان أن يتجاوزها؟
إن زقورة بابل لا يمكنها أن تكون موضع تجمّع البشر، بل علامة تشتّتهم المبنيّ على الكبرياء. وإن تجمّع الشعوب والأمم والالسن واللغات، لن يتمّ الا حول الله الحي: نبحث عنه فنجده، نذهب إليه فنتعرّف عليه. ننطلق اليه ونصعد إلى جبله المقدّس، وننتظر منه أن يعلّمنا طرقه ويدلنا إلى سبله فنسلك فيها (أش 2: 2- 4).
نتعرّف إلى الربّ في عمليّة حج إلى أورشليم حيث يجمع الرب كلَّ الشعوب فيأتون ليروا مجده (أش 66: 88). أما ما تاقت إليه البشريّة منذ البداية من بحث عن الوحدة فسيتم يوم العنصرة، يوم ولادة الكنيسة (أع 2: 1- 11). وستكون هذه الولادة بداية تهيّئ العالم الآتي فيجتمع حول الحمل المذبوح جمهور كبير لا يحصى من كل أمة وقبيلة وشعب ولسان (رؤ 7: 9- 12).
ستخرب بابل لأنها مدينة الخطيئة ولانها قادت شعب الله إلى المنفى. لذلك سيعاقبها الله بشريعة المثل: خربت الممالك فستُخرب. هذا هو تقليدٌ في الكتاب المقدّس. ولكن هناك تقليداً آخر يرى أن الله يهتمّ ببابل كما يهتمّ بأورشليم فيرسل إليها أنبياء يدعونها إلى التوبة كما أرسل إلى أورشليم والسامرة أنبياء يحدّثون الشعب باسم الله. أجل أرسل الله إلى نينوى الوثنيّة والظالمة يونان، فدعاها إلى التوبة، وكان الجواب لكلام النبي أن المدينة التي هي عظيمة مثل بابل، فيها الكثير من الناس الذين لم يعرفوا شريعة الرب بعد (يون 4: 11) وهم لما عرفوها لبسوا المسوح، وتاب كل واحد عن طريقه الشرير.
على كل حال تبقى اللوحة سوداء وقاتمة في مشهد برج بابل. فبعد خطيئة آدم، وعد الله بمن يسحق رأس الحيّة. وبعد خطيئة قايين حافظ الرب على القاتل ومنع عنه شريعة الانتقام. وبعد الطوفان كانت قوس قزح (وكأنّ الله يرمي سلاحه علامة التسامح والرضى) رمزاً لعهد الله مع شعبه. أما بعد برج بابل فنرى البشرية تتشتّت وتعيش حالة من الضياع واليأس. لو بقيت الحالة هكذا لكان مخطّط الله فشل. ولكن الله سيدعو ابراهيم وفيه ستجد الشعوب البركة وباسمه تتوحّد شعوب الأرض في الايمان بالله الواحد.
خاتمة
بدأت مسيرة الشعوب مع أول عيلة على الأرض، مع الانسان الأول الذي سمّي آدم، وهو الذي صُنع من التراب ويعود إلى التراب. وتوالت البشريّة لا بشكل دقيق، بل عبر محطّات متباعدة. أعمار بعضهم جاءت كبيرة لأنهم عاشوا في نسلهم الذي امتدّ مئات الأجيال. ولكن هذه الأعمار لم تصل إلى الرقم ألف كما في بلاد الرافدين، لأن هذا الرقم هو رقم الخلود. فالله وحده خالد في عالم التوراة. أما الانسان فمائت حتى لو كان نوح نفسه. فهو سيخطأ ويموت عكس بطل الطوفان في غلغامش الذي سيعرف الخلود. أما نهاية مسيرة البشريّة وتكبّرها، فسوف تتجسّد في تلك المحاولة اليائسة التي عاشها بناة برج بابل. وكانت النتيجة أنهم تشتّتوا. فالانسان وحده لا يستطيع أن يحافظ على وحدة الكون والتفاهم بين الشعوب. فهذه الوحدة وهذا التفاهم هما عطيّة من الله إلى البشر وقد وهبها لابرإهيم فتمنّت جميع الشعوب أن ترتبط بنسله وتتبارك بإيمانه.