الفصل الخامس
الكتاب المقدّس في عالم اليوم
قراءة الكتاب المقدّس هي حوار بين كلمة كُتبت منذ زمن بعيد وقارئ يحاول أن يلج إلى هذه الكلمة في الإطار الذي يعيش فيه، في ظروف الحياة، في صعوباتها وأفراحها وأحزانها. كيف يتمّ هذا الحوار؟ بعد قراءة النص، نحاول أن نستخرج المعنى الروحي ونطبّقه في حياتنا وعالمنا. لأنه إن كان الكتاب لا يحمل إلينا تعليماً اليوم فهو يبقى حرفًا ميتًا لا روحًا محييًا.
1- قراءة النص
قراءة النصّ أمر مهمّ جداً لأنه السلّم الأول في طريقنا إلى الحياة مع الله. فالرب هو الذي يكلّمنا أيضاً في هذه الكلمة المكتوبة ونحن نقرأها كما وصلت إلينا. قد تكون في خبر قريب من الأسطورة، أو السطرة التي هي فكرة في صورة. هذا ما نقول عن خلق الرجل والمرأة. الانسان قد جبله الرب من تراب الأرض ونفخ فيه نسمة حياة. أراد الكاتب أن يبيّن لنا أن الله هو الذي خلق الانسان وأنه جعله يرتبط بالأرض بالنسبة إلى الحياة الماديّة، ويرتبط بالسماء، بالنسبة إلى الحياة الروحيّة. فهو يستطيع أن يكون كالحيوان، كالفرس والبغل، كما يقول مز 32: 9. أو أن يكون على صورة الله في عقله الحكيم وإرادته الخيّرة.
وقد تكون هذه الكلمة قد وصلت في نبوءة، في كلمة حملها نبيّ هو رجل الله، وهو يقرأ إرادة الله في الأحداث والأشخاص. هذا ما فعله أشعيا حين أخبرنا عن لقائه بالله في الهيكل بشكل ملك يملأ الهيكلَ بحضوره، لأنه يملأ الكون الوسيع الذي هو هيكل كبير بقبته الزرقاء والشمس والقمر اللذين يشبهان السراجَين الموضوعين في هيكل اورشليم. وقد تكون هذه الكلمة في مثَل قصير يربطنا بعالم الحكمة، أو بمثَل كبير مثل سفر أيوب الذي يخبرنا عن تعامل الانسان مع الله في ساعات الألم والضيق. وبالتالي يخبرنا عن وضع الشعب العبراني العائش في النفي والتهجير عن بلاده.
كل هذه النصوص نقرأها في إطارها الأول كما كُتبت فيه. ويا ليتنا نستطيع أن نقرأها في لغتها الأصلية. نفهمها، نفهم المعنى الأدبي الذي كتبت فيه، فلا نتحدّث مثلاً عن "التفاحة" التي لا وجود لها في النص الكتابي (تك 3). ولا نتحدّث عن الحيّة كأنها حيّة. إنها بالأحرى تدلّ على الشيطان الذي ينتزع منا الحياة، على ما فعلت الحيّة مع غلغامش حين أخذت منه شجرة الحياة. أما الشجرة فليست بشجرة بقدر ما هي صورة حسيّة تحمل معنى روحيًا: حين يريد الانسان أن يصير "إلهاً" بقدرته، يصبح ضعيفاً "عرياناً". حين يريد أن يكون سيّد الخير والشر، فيعمل إرادته لا ارادة الله ويتجاوز وصايا الله، يخسر الحياة. يموت موتاً. موت الجسد. وهذا نصيب كلّ إنسان. وموت النفس، وهذا هو نصيب الخاطئ الذي يتهدّده الهلاكُ الأبدي.
2- الكتاب في حياتنا
هذا التعليم الذي نجده في الكتاب المقدّس، ينطبق اليوم على حياتنا وفي عصرنا. فنحن نفهم مساواة الرجل والمرأة، نفهم كيف تكون العلاقة داخل العائلة. وإذا كان الله هو الذي يبارك الزوجين قائلاً: يترك الرجل أباه وأمه ويتّحد بامرأته فيصير الاثنان جسداً واحداً، فهذا يعني أن بركته تدوم. وهي تمنع الطلاق. لأن الطلاق هو قتل للعائلة وللأولاد، كما أن السيف يقطع الرأس عن الجسم، ويجعل القلب يدمى وينزف. وإذا كان الرجل والمرأة يكوّنان جسداً واحداً، فلا يمكن أن يكون هناك ثلاثة أو أربعة أشخاص. رجل ونساء عديدات. بل رجل واحد وامرأة واحدة. وفي هذا المجال نسمع كلام الله في النبي ملاخي: "أنا أكره الطلاق". وإذ يخبرنا سفر التكوين عن امرأتين أختين ليعقوب، يبيّن لنا أن الحسد يدخل حتى في قلب الاختين حين تكونان زوجتين لرجل واحد. كان صراع الكتاب المقدس طويلاً ضدّ هذه العادات التي تبيح الطلاق لطبخة أحرقتها امرأة، والتي تسمح بتعدّد الزوجات، لأنها تحسب المرأة ملبيّة شهوات الرجل وخادمة أولاده، لا شريكة حياته.
هذا التعليم الذي نجده في الكتاب المقدّس، نحن نستخرجه في التأمل والصلاة. نستخرجه في المطالعة والدرس. فالربّ يريدنا أن نسير معه مسيرة الحياة. إنه كالوالد يمشي مشية طفله. لا يسوع أمامه. يقبل بسقطاته وتمهّله لكي يجعله ينمو. هذه العلاقة بين الله والبشر بدت بشكل سيّد يسيطر على عبيده. ولكنها شيئاً فشيئاً ستظهر كعلاقة العريس بعروسه. هي على مستوى المحبّة المتبادلة، على مستوى الاحترام المتبادل. ستظهر كعلاقة الأب مع ابنه. فالأب يؤدّب ابنه لا ليقتله، لا ليستغلّه. بل لينميه. وهذا التأديب يكون صعباً حين نتقبّله. ولكن عندما نرى النتائج نقبّل اليد التي قامت بهذا العمل.
هذا التعليم الذي نجده في الكتاب المقدّس هو وليد هذه الحضارة الشرقيّة التي تجسّد فيها. وهو يطلب اليوم أن يتجسّد روحاً جديداً في هذا العالم العربي الذي نعيش فيه. روحاً من المحبّة للقريب، أكان ابن بلدتي وقبيلتي وعائلتي، أم كان من دين آخر وموقع آخر. فكل شخص التقي به هو أخي وأختي وأمي، كما يقول يسوع. روحاً من التعاون على مستوى المساواة والعدالة. حين لا يأكل القوي الضعيف، والغني الفقير، وابن الأكثرية ابن الأقليّة. حين رأى النبي عاموس مثل هذا الوضع في السامرة، كانت له الكلمات القاسية في نساء الأغنياء، فسمّاهنّ "بقرات باشان". أما أشعيا فهدّد الأغنياء والمستبدّين والمستغلّين الذين يأخذون بيت الفقير ورزقه وطعامه اليومي: "ويل للذين يصلون بيتاً ببيت (أي يجمعون البيوت بعضها إلى بعض)، ويقرنوا حقلاً بحقل (وهكذا تكثر حقولهم كما في بعض المناطق البرازيليّة)، حتى لم يَدعوا (لم يتركوا) مكاناً لأحد. إذن أنتم (أيها الأغنياء)، تسكنون في الأرض وحدكم"، وتهجّرون الناس من بيوتهم وحقولهم.
خاتمة
كم نحن بحاجة اليوم إلى قراءة الكتاب المقدّس، فنسمع فيه تعليماً على مستوى الحياة العائليّة والزوجية، على مستوى علاقتنا مع الله الذي يؤدّبنا كما يؤدّب الأب ابنه، وينمينا في القامة والحكمة كما كان الأمر بالنسبة إلى يسوع. وعلى مستوى الحياة الاجتماعية مع احترام حقوق الانسان، كل انسان، لأن كل إنسان هو مخلوق على صورة الله ومثاله. وأنهي هذا المقال بخبر سمعته في مؤتمر هونغ كونغ: امرأة اعتادت أن تتلقّى الضرب من زوجها كل ليلة. وفي يوم من الأيام فهمت في صميم قلبها أنها "على صورة الله". ولما جاء زوجها، تحدّته قائلة: "الويل لك إن ضربتني". فقال لها: "وممن أخاف"؟ قالت: "من الله. فأنا على صورة الله، والويل لك من الله لأنك تشوّه صورته". تراجع الرجل وكانت كلمة الله مناسبة له ليعود إلى ربّه في حياة مشمولة ببركة الله. فالكلمة التي نعيشها حقا تعطينا حياة جديدة ونظرة جديدة، كما أعطت هذه المرأة. وتبدّل تصرّفاتنا وعقليتنا كما فعلت مع هذا الرجل الذي رأى امرأته اليوم بعينين جديدتين، رأى فيها صورة الله التي تعاقب من يشوّهها.