الفصل الخامس
تحريض إلى المؤمنين
17- 25
في آ 4- 16، اهتمّ الكاتب فقط بخطيئة الكافرين وبالعقاب الذي ينتظرهم. فكأني به نسي قرّاء رسالته. في الواقع، كان هذا الاستطراد الظاهر تحذيراً للمؤمنين من خطر لم يحسبوا له حساباً: إنهم يعرفون الآن أن إيمانهم التقليديّ مهدّد في هذه الناحية أو تلك. وبعد أن أنهى يهوذا تنبيهه، عاد إلى الأسلوب الذي بدأ به رسالته، فتوجّه بشكل مباشر إلى قرّائه الذين قابلهم مع الكافرين (آ 17: أما أنتم. في آ 8، 10، 12، 16، نجد: أولئك، هؤلاء، هؤلاء الناس). بدأ يهوذا فأفهمهم أن حضور الكفّار لا يجب أن يبلبلهم، لأن ذاك أمر نطق به رسل ربنا. ثم دلّهم على السلوك الواجب اتّباعه في حياتهم الشخصيّة وفي علاقاتهم داخل الجماعة.
قبل دراسة النصّ نتوقّف عند التقليد المخطوطيّ، ولا سيّما في آ 22- 23. هناك خطان اثنان، ولكل خطّ اختلافاته. في الخطّ الأول نجد السينائيّ والاسكندرانيّ واللاتينيّة العتيقة، والشعبيّة والقبطيّة البحيرية والأرمنية وافرام. نحن أمام نصّ طويل في ثلاث عبارات. (1) أولئك المترددون اقنعوهم (الياتي. وفي الاسكندراني: النخاتي). (2) خلّصوا من النار من (أمكنكم) انتزاعهم. (3) أما الآخرون فارحموهم في خوف. في الخط الثاني نجد الفاتيكانيّ في عبارتين.
ترد هذه المقطوعة في ثلاثة أقسام: وجود الكافرين أمر عادي (آ 17- 19). السلوك أمام ما يتعرّض له الايمان (آ 20- 23). المجدلة الأخيرة (آ 24- 25).
1- وجود الكافرين (آ 17- 19)
يجب أن لا ندهش من وجود الكافرين، فهذا ما أنبأ به الربّ بواسطة الرسل. أيها الأحباء (اغابيتوي). رج آ 3. هنا نفهم أن الكاتب ترك حقل الهجوم مع "هؤلاء الناس" (هوتوي، آ 16) ليعود إلى حقل التحريض المباشر (هيمايس دي، أما أنتم) للمؤمنين. تذكّروا (منستاتي). إن صيغة الأمر هذه هي صدى للمصدر "هيبومنيساي" (تذكّر) في آ 5. وهكذا يبدأ هذان المقطعان من الرسالة بأهميّة التذكّر. نستطيع القول إن يهو تكمن في تذكيرنا بما عليه يتأسّس إيماننا المسيحي. وهذا التذكّر يأخذ وجهي تعليم التقليد البيبلّي حول العقاب الذي ينتظر المعلّمين الكذبة (آ 5- 16) وإعلان الرسل للصعوبات التي تنتظر الكنيسة. إذن، التذكّر هو فهم معنى ما يحدث في الزمن الحاضر: إن المحن الحالية لا تدهشنا، بل هي تثبت ما أنبأ به الرسل.
فالرسل (لا يحسب يهوذا نفسه بينهم) قد أعلنوا، شأنهم شأن الأنبياء، ما سيحدث في نهاية الأزمنة. والرسل هم الاثنا عشر، هم "رسل ربنا يسوع المسيح". وإحدى ميزات اقتراب الآخرة هو وجود المعلّمين الكذبة في الكنيسة (مر 13: 21 ي وز؛ 2 تس 2: 9- 10؛ 2 بط 3: 2؛ 1 يو 2: 18). إذن، أشار الكاتب إلى الرسل لسببين: هم يعطون بكلامهم معنى الانقسام الحاصل. وهذا الانقسام ليس كارثة تهدّد حتّى وجود الجماعة، بل علامة إيجابيّة لأنه يعلن اقتراب النهاية ويدعو إلى السهر (أع 20: 29- 30). غير أن الرسل هم أيضاً أولئك الذين نعود إلى كلامهم على أنه السلطة التي تقدر أن تحفظ الكنيسة أمينة في قلب المحنة والانقسام. فتذكّرُ كلام الرسل يُبقينا مؤسَّسين على الإيمان الذي نُقل إلينا في البدء وظللنا متعلّقين به (آ 3، 20). يجعلنا نرفض اتباع المعلّمين الكذبة.
قد يكون تعليم الرسل جاء بشكل شفهي فتذكّره المؤمنون. أما كلام هؤلاء الرسل فأشار إلى "الزمن الأخير"، وهو زمن سيأتي وهو يتحقّق منذ الآن بحضور الكافرين. هذا ما قالته آ 17. ونقرأ آ 18: "كانوا يقولون لكم: سيهون في آخر الزمان أناس مستهزئون يسلكون بحسب شهواتهم الكفريّة".
إذن، صوّر الرسل ما سيحدث "في نهاية الزمن" (اسخاتو تو خرونو). هي عبارة نادرة في العهد الجديد، الذي يورد عادة صيغة الجمع: "في الأزمنة الأخيرة" (يو 6: 39 ي؛ 12: 48؛ أع 2: 17؛ 2 تم 3: 1؛ 2 بط 3: 3). عبارة هامّة لأنها تأخذ بعين الاعتبار تأخّر المجيء: هي لا تتكلّم عن نهاية الأزمنة بشكل هجوم مفاجىء لا نتوقّعه (مر 13: 35- 36)، بل بشكل فترة طويلة ستصبح زمن محنة ومواجهة مع المعلّمين الكذبة. وهكذا انتقلنا من فكرة نهاية الأزمنة إلى فكرة زمن النهاية. رج 1 تم 4: 1- 3؛ 2 تم 3: 1- 5؛ 4: 3 ي: نجد ذات الفكرة حول فترة أخيرة تتميّز بصراع ضدّ التعليم الكاذب.
المعلّمون الكذبة هم "مستهزئون" (امبايكتاي). في 2 بط 3: 3، شدّد ارتيابهم الهازىء على نقطة محدّدة في الإيمان الرسولي، مجيء الربّ. أما هنا، فاللفظة المستعملة ظلّت عامّة ولم تحدّد. فالمستهزئون هم (كما في العهد القديم) متكبّرون وجاهلون. اعتبروا نفوسهم فوق الشرائع، فهزئوا بالخطيئة، وضحكوا من وساوس المؤمنين (أش 3: 4 كما في السبعينية؛ مز 22: 8؛ 44: 14؛ 52: 8؛ أم 14: 9؛ 19: 24، 29؛ 2 مك 7: 27، 29). في العهد الجديد، نجد فعل "امبايزاين" الذي يصوّر هزء الجنود بيسوع في آلامه (مت 20: 19 وز؛ 27: 29، 31، 41 وز).
إن هؤلاء المعلّمين الكذبة الذي أنبأ بهم الرسل في كرازتهم "يسلكون بحسب شهواتهم الخاصة". هي عبارة قرأناها في آ 16. يتوخّى هذا التكرار أن يفهمنا أن الذين أنبأ الرسل بمجيئهم، هم أولئك الذين حذّر يهوذا الجماعة منهم. وهم يصوّرون بذات الكلمات.
ونقرأ عبارة "شهواتهم الخاصة الكفريّة". قد نقول: رغباتهم الكافرة. أو: رغباتهم بأن يمارسوا الكفر. أو: شهواتهم الخاصة، لهم الكفرة. أجل، إن هؤلاء الناس يسلكون بحسب شهواتهم التي تدفعهم إلى اقتراف الكفر. هذا ما يبرزه شرّ المعلّمين الكذبة.
وكما استعاد الكاتب في آ 16 ما قاله أخنوخ (آ 14- 15)، وكما أورد نبوءة الأنبياء، ها هو يثبت ما قاله عن الكافرين للمرة الأخيرة: "هؤلاء هم أولئك المشاقون (يحدثون الشقاق)، الحيوانيّون، الذين ليس لهم الروح" (آ 19).
"هوتوي ايسين". هم حقاً هم. وهكذا يكون الرباط واضحاً بين أولئك الذين تكلّم عنهم الرسل، وأولئك الذين يندّد بهم يهوذا (آ 16). وزاد الكاتب هنا ثلاث عبارات لاحقة: هؤلاء الناس هم "مشاقون". إن الفعل "ابوديوريزاين" هو نادر في مجمل الأدب اليونانيّ، فلا نجده إلاّ هنا وعند أرسطو. في السبعينية نجد فعل "ديوريزاين" الذي يعني "فصل، شقّ" (لا 20: 24؛ أي 35: 11). في العهد الجديد نجد فعل "افوريزاين" الذي يعني: فصل، فرز (مت 13: 49؛ 25: 32؛ لو 6: 22؛ أع 13: 2؛ روم 1: 1؛ 2 كور 6: 17= أش 52: 11؛ غل 1: 15؛ :12).
فما هو مدلول "ابوديوريزاين" هنا؟ هناك تفسيران لا يتقاربان. الأول: هؤلاء الرجال هو "شاقون" (من شقّ، قسم) أي يخلقون داخل الجماعات الانقسامات والشقاقات والتحزّبات. يخلقون مجموعات من مسيحيّين "حقيقيّين" انفصلوا عن الآخرين. غير أن هؤلاء الخصوم ما زالوا ينتمون إلى الجماعة (آ 12)، ولم يكوّنوا كنيسة جديدة. فموقفهم وتعليمهم جعلا الجماعة تتفتّت. غير أن الحرب ظلّت داخليّة أقله في الوقت الحاضر. نحن هنا في وضع يشبه ذاك الذي صوّره بولس في 1 كور 1: 10 ي. الثاني: إذا عدنا إلى نصّ ارسطو نجد أن الفعل يعني ميّز، رتّب. فنظن أن يهوذا أراد أن يكشف لدى المعلّمين الكذبة سبب الشقاقات التي يدخلونها في الجماعة، أن يكشف طريقتهم في جعل المؤمنين طبقات مختلفة. فهم يرون في الأعلى "الروحانيين" أي المسيحيّين الحقيقيّين الذين ينعشهم الروح، فتحرّروا من كل ما يتعرّض له الانسان على المستوى الخلقيّ واللاهوتيّ. (لهذا تراهم يحتقرون ديانة إسرائيل العتيقة ومتطلّبات الشريعة). وفي الأسفل نجد "الحيوانيّين"، أي أولئك الذين لم ينالوا الروح، الذين ما زالوا يعيشون كأناس عاديّين. نشير هنا إلى أن بعض التيارات الغنوصيّة تحدّثت عن طبقة ثالثة في أدنى السلّم، هي طبقة الهيوليّين الذين يعيشون فقط بحسب المادة.
نحن نختار التفسير الثاني الذى يتحدّث عن فصل بين "الروحانيّين" وبين "الحيوانيّين". هم يقسمون الناس فئات. فليعرفوا أنهم حيوانيون. أي أناس لا يمتلكون الروح. واستعمل يهوذا بدوره مقولات خصومه، فوجّهها ضدّهم: فطريقة حياتهم وتعليمهم تدلّ على أنهم لا يمتلكون روح الله. وحريّتهم بالنظر إلى الشرائع واحتقارهم للإيمان المشترك، يدلاّن على أنهم ما زالوا يعيشون كـ "حيوانيّين"، كالحيوانات التي تسيطر عليها غرائزها (آ 10). إذن، يهوذا هو في خط بولس الذي استعمل ذات المفاهيم (1 كور 2: 11- 16). سيميّز بين المؤمنين (الروحيّين) واللامؤمنين (الحيوانيّين). أما المعلّمون الكذبة فقد استعملوا هذه المفردات ليميّزوا داخل الجماعة المسيحيّة بين مسيحيّين من درجة أولى ومسيحيّين من درجة ثانية. إذن، "الذين ليس لهم الروح" ليسوا مسيحيّين من الدرجة الدنيا، لم يتدرّجوا بعد في الأمور الروحيّة السامية المحفوظة للنخبة. إنهم بكل بساطة أشخاص غير مسيحيّين في نظر يهوذا. وأكبر برهان على أن ليس لنا الروح، هو أن نعتبر نفوسنا أعظم من الآخرين على المستوى الروحي.
2- السلوك الايماني (آ 20- 23)
هنا يبدأ يهوذا فيحرّض المؤمنين بشكل مباشر على السلوك الواجب اتخاذه تجاه الخطر الذي يهدّد إيمانهم. فبعد أن حذّر قرّاء الرسالة من الكافرين (آ 4- 16)، ففهموا أن مخطّط الله ليس في خطر (آ 17- 19)، ها هو يدلّهم على الطريق الذي يتبعونه في حياتهم الشخصيّة (آ 20- 21) وفي حياتهم الجماعيّة (آ 22- 23). فيقدّم لهم برنامجاً موجزاً جداً وغنياً جداً على المستوى التعليميّ. يجب أن يكون سلوك المسيحيين مغايراً كل المغايرة لسلوك لكافرين. وهذا ما تشدّد عليه البداية (رج آ 17) التي نجدها في آ 20 (أما أنتم) تجاه "هؤلاء" التي قرأناها في آ 19. عليهم أن يحفظوا نفوسهم في الايمان والصلاة (آ 20)، في محبّة الله وانتظار رحمته (آ 21). توصيات تأتي في صيغة الفاعل (في اليونانيّة)، ولكنها تبدو كتوصيات يقدّمها الكاتب بطريقة شخصيّة.
أ- في الحياة الشخصية (آ 20- 21)
الموقف الأول الذي يوحي به الكاتب يذكّرنا بما في آ 3: لماذا ينبغي على المسيحيّين أن يحاربوا. "أما أنتم أيها الأحبّاء، فابنوا نفوسكم على إيمانكم الأقدس" (آ 20). يشبّه المسيحيّون ببناء يُبنى على الدوام، والمسيحيّون هم في هذا البناء العناصر والبناؤون. فعليهم أن يبنوا أنفسهم.
تشكّل آ 20- 21 وحدة. ونحن ندرسهما معاً. بُني تحريض يعقوب بواسطة جملة رئيسية (احفظوا أنفسكم في محبّة الله) تحيط بها ثلاثة أسماء فاعل: بانين أنفسكم... مصلّين... منتظرين الرحمة. ليس هذا البناء وليد الصدفة. فيهوذا يريد أن يبرز حركة الحياة المسيحيّة. فهناك أولاً شروط يجب أن نستوفيها (اسما الفاعلان الأولان) لنحصل على جوهر الحياة المسيحيّة ونحافظ عليه (الجملة الرئيسية). غير أن هذا الحاضر ممتلىء منذ الآن بالوعد الآتي لأن كليهما انطبعا بطابع رحمة المسيح (اسم الفاعل الثالث).
نقرأ فعل "تيراين" (رج آ 1، 6- 13) الذي يحمل معنيين: معنى حاضر: حرس، حفظ. ومعنى مقبل، اسكاتولوجي: حفظ من أجل الدينونة. هذان المعنيان نجدهما هنا: يُحفظ المؤمنون في حماية محبّة الله بقدر ما يظلّون مبنيّين معاً على أساس الإيمان، ويصلّون في الروح. غير أنهم يُحفظون أيضاً بالنظر إلى الدينونة لكي يختبروا هناك رحمة المسيح. وهكذا جاءت عبارة "احفظوا أنفسكم في محبّة الله" (آ 21) المركز المشّع لكل هذا التحريض، بل لكل نظرة يهوذا إلى الحياة المسيحيّة: المسيحيّ هو من يحفظ نفسه في حبّ الله.
وإذا أردنا أن نبقى في هذا الحبّ، فهناك شرطان اثنان.
الشرط الأول: "ابنوا أنفسكم على (أو: بـ) إيمانكم الأقدس". في العهد الجديد، تتواتر صورة البيت الذي يُبنى أو الهيكل، لتدلّ على جماعة المؤمنين. رج 1 بط 2: 4- 6؛ أف 2: 20- 22؛ 1 كور 3: 9- 17؛ رج أيضاً مر 12: 10- 11؛ 14: 58؛ يو 2: 19؛ مت 16: 18. بانت أصالة يهوذا حين جعل المؤمنين في الوقت عينه البنّائين ومواد البناء. أما العهد الجديد فيقول عادة إن الله أو الرسول يبني الببت بمواد تمثّل المؤمنين. حين استعمل يهوذا الاستعارة، أراد أن يبرز لا أهميّة الاساس وحسب، بل الوحدة في مشروع البناء هذا. فإذا أردنا أن يكون هناك بناء، يبنغي بلا شك أن تكون الحجارة كثيرة، ولكن ينبغي أيضاً أن يكون المشروع واحداً. إذن، يجب أن يكون المؤمنون متّفقين ليبنوا معاً بناء واحداً. هكذا يبتعدون عن المعلّمين الكذبة الذين يقسمون الجماعة إلى طبقات مختلفة فيمنعونها من التطلّع إلى هدف مشترك وبناء جماعيّ.
ويكفل وحدة المشروع وحدة الأساس: "إيمان أقدس". ما معنى هذه العبارة؟ قد نفهم الايمان في معنى ذاتي. حينئذ نفهم فعل "أبويكودوماين" كمرادف لفعل "أويكودوماين" بنى. في هذه الحالة، يقال إن الجماعة قد بناها إيمان المؤمنين، وهو إيمان مقدّس جداً، لأنه يقدّس كل حياة الذين يعترفون بهذا الايمان.
وقد نفهم الايمان في معنى موضوعي كما فهمه يهوذا في آ 3: الايمان هو واقع أساسي لا يمسّ قد انتقل إلينا وما من عودة. هو مضمون ما نقل إلينا الرسل حول شخص المسيح وعمله. إذن، ليس الإيمان وسيلة بها تُبنى الكنيسة، بل الأساس الذي عليه تُبنى. الايمان هو أساس الكنيسة كفعل يكشف عن الله في يسوع المسيح. لهذا يسمّى "أقدس" أو "مقدّس جداً"، لأنه يأتي من الله نفسه كوحي يبقى العالم غريباً عنه كل الغربة. وهكذا لا يختار المؤمن أساسه (عكس المعلّمين الكذبة)، بل إن هذا الايمان يعطيه الله ونحن نوافق عليه بعرفان الجميل (1 كور 3: 11). هذا التفسير الثاني هو وحده الممكن، على ما يبدو.
لا يستطيع أحد أن يحفظ نفسه في حبّ الله إن لم يحفظ نفسه مع سائر المؤمنين على أساس الإيمان الموحى. هذا ما تدلّ عليه صيغة المخاطب الجمع: إيمانكم أنتم. أي الايمان المشترك بينكم.
الشرط الثاني: إذا أردنا أن نبقى في حبّ الله، يجب "أن نصلّي في الروح القدس". نجد العبارة عينها في أف 6: 18 (رج يو 4: 24). ترتبط الصلاة مراراًَ عند بولس الرسول، بعمل الروح في المؤمن (روم 8: 15، 26؛ 1 كور 12: 3؛ غل 4: 6). حين نصلّي نترك الروح القدس الذي يقيم في قلب المؤمنين، يتكلّم فينا (4: 6). هذا هو معنى عبارة "في الروح". وإذ شدّد يهوذا على أن لا صلاة حقيقيّة إلاّ في خضوع مطلق للروح (هو يأتي إلينا كوعد، ولكننا لا نمئلكه وكأنه يخصّنا)، هاجم الاعتدادات الروحيّة عند خصومه. الروح هو الروح القدس. ليس قوّة روحيّة نجدها عند البعض، بل علامة حضور الله الذي هو الآخر الآخر. فالمصلّي يقرّ بهذا الواقع الجذري: الله هو الآخر.
وجد التحريضان الأولان ذروتهما في ما يكوّن مركز نداء الرمالة: "إحفظوا أنفسكم في محبّة الله" (آ 21 أ). نفهم عبارة محبّة الله في معنيين: حبّ المؤمنين لله. حب الله للمؤمنين. ما الذي يُسند المعنى الأول؟ بما أن مجمل المقطع هو ارشاديّ، فنحن نجد في هذه العبارة نداء إلى المؤمنين لكي يواصلوا باجتهاد حبّهم لله (حب الله أي حب لله. رج لو 11: 42؛ 2 تس 3: 5؛ يو 5: 42؛ 1 يو 2: 5- 15). ولكن اثنين يمنعان هذا التفسير. الأول، الموازاة مع الجملة التالية حيث لا تُفهم رحمة المسيح إلاّ معنى موضوعيّ (هو يرحمنا ونحن لا نرحمه). الثاني، إن هذه العبارة تذكّرنا بما في آ 1 حيث يصوّر المؤمنون كـ "محبوبين في الله الآب (يحبّهم الله الآب) ومحفوظين ليسوع المسيح".
وهكذا نفهم "محبّة الله" في معنى موضوعيّ، فنعرف أن الذروة في هذا المقطع هو نداء لكي نحفظ حبّ الله. وما سبق هو صورة لما يجب أن نفعل لكي يكون حبّ الله حقيقياً وفاعلاً الكنيسة، وهذا ما يُعلن أن الإيمان (وحي الله) والروح (حضور الله) لا يخصّان المؤمنين الذين ينالوما كعطيّة من عند الله. وهذا ما نقوله أيضاً عن محبّة الله: هذا الواقع الجوهري لا يمكن أن يكون صفة للمؤمن، بل عطيّة الله السامية.
ولكن لماذا ندعو المسيحيين ليحفظوا شيئاً لا يخصّهم؟ نلاحظ أولاً أننا أمام ذات المفارقة التي رأيناها في بداية التحريض: كيف ندعو المؤمنين لكي يبنوا أنفسهم على أساس (هو الإيمان) لا يتعلّق بهم بل يوحى لهم؟ كيف ندعوهم لكي يصلّوا في روح (أو بواسطة روح) لا يمكن أن يكون صفة شخصيّة في المؤمنين؟ ما يجب أن ندركه هو أن على الحياة المسيحيّة أن تُعاش كخروج دائم من الذات، حيث المهمّ (والحاسم) يُفلت من الانسان، ولا يمكن أن يكون مناسبة تكبّر وتعالٍ على الآخرين مليء بالاحتقار لهم. ولكن مسؤوليّة الكنيسة تكمن في القبول بهذا الخروج من الذات، في هذه المواجهة مع حبّ يأتيها كعطيّة، في رفض بأن تجعل نفسها أساس نفسها أو أن تستعمل الله لكي تبرز استحقاقاتها. هذه هي الطريقة الفضلى لكي نمكث في محبّة الله.
ونتيجة هذا الموقف هي نظرة جديدة إلى المستقبل: "منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية" (آ 21 ب). وهكذا نكون في التوصية الرابعة. كان هناك موقف أول قرأناه في آ 20 (إبنوا). وموقف ثان (صلّوا والروح القدس). أما التوصية الثالثة فكانت دعوة إلى أن نحفظ نفوسنا في محبّة الله. وهكذا نصل إلى التوصية الرابعة فتنتهي معها سلسلة الفرائض المتوجّبة على المؤمن.
إن فعل "بروداخستاي" (كما في مر 15: 43؛ لو 2: 25؛ 12: 36؛ تي 2: 13)، يعني انتظر. فبسبب يسوع المسيح، لا نخاف من يوم الدينونة، اليوم الذي يفتح أمامنا باب الحياة الأبديّة. هذا اليوم لن يكون نحيفاً، بل مناسبة فيها نختبر رحمة الله. نجد عبارة مشابهة لهذه العبارة في سفر أخنوخ: "فالذين نالوا رحمة يباركون ربّ المجد هناك كل الأيام".
نجد هنا النظرة التي وجدناها في سائر أقسام التحريض: الخلاص الأخير ليس نتيجة برّ الانسان، بل رحمة الله وغفرانه، نتيجة حبّه المجاني ونعمته. فإذا كان للإنسان أن يستحقّ خلاصه، فالدينونة تبعث فيه الخوف والرعدة. أما إذا خرج الانسان من ذاته وجعل انتظاره وآخر، في رحمة الربّ يسوع المسيح، فنحن أمام أمر آخر،
وهكذا قدّمت لنا آ 20- 21 قلب الرسلة وتصويراً رائعاً عن الحياة المسيحيّة رسمتا أمامنا ديناميّة حياة الايمان وسمّت عناصره الجوهريّة: الإيمان، الصلاة، المحبّة، الرحمة. وأعادت كل هذا إلى ذلك الذي (إنه روح الله والرب يسوع المسيح) ما زال يعطي نفسه للإنسان لكي يتعرّف إليه الانسان كالإله المحبّ. وهكذا يعود الانسان عمق هذه المحبّة التي هي في الوقت عينه أساس كل وجود (الايمان الموحى)، وحضور الروح. ومغفرة تخلق الحياة الجديدة، الحياة الأبديّة.
ب- في الحياة الجماعيّة (آ 22- 23)
تجاه الخطر الذي يهدّد الإيمان، على المسيحيّين أن يسلكوا سلوكاً حسناً داخل الجماعة. وهذا السلوك يحدّد في آ 22- 23 بدون انتقالة حقيقيّة. كيف يتصرّفون مع الذين يرفضون الكافرين، ومع الكافرين أنفسهـم؟
أشرنا في البداية إلى المشاكل النصوصيّة التي تجعل قراءة هاتين الآيتين صعبة.
أولاً: النصّ الطويل
* العبارة الأولى: فالذين يتردّدون ارحموهم (الياتي) أإو اقنعوهم (حسب اختلافة: النخاتي). إن الاختلافة "النخاتي" توافق المعنى وتجد لها سنداً في المخطوطات. وقد تكون أصيلة، أو أقلّه تمثل تفسيراً صحيحاً. الاختلافة الثانية: ارحموهم. إن فعل "النخاين" يعني أقنع، أفحم (رج يو 8: 46؛ 16: 8؛ 1 كور 14: 24؛ 1 تم 5: 20). وهكذا يصبح المعنى واضحاً: "إن هؤلاء الذين يتساءلون ويتردّدون، الذين يتزعزعون بأقوال المبدعين، يجب أن تسرعوا فتقنعوهم ليخرجوا من ضلالهم، وتبيّنوا لهم بقوة أنهم يسيرون في الطريق السيّىء".
* العبارة الثانية: "والآخرون خلّصوهم منتزعين إياهم من النار". هناك أعضاء آخرون في الجماعة يتعرّضون أيضاً لخطر كبير. لا يحدّد النصّ هويّتهم، ولكننا نظنّ أنهم متشيّعون للمعلّمين الكذبة، وقد أخذوا بضلالهم عن سابق قصد. إنهم يتعرّضون لخطر الموت. وها هي الساعة الأخيرة لكي نخلّصهم، منتزعين إياهم من نار بدأت تصل إليهم. تدلّ النار هنا على الدينونة، على حضور الله الديّان (رج مت 13: 42، 50؛ 25: 41؛ مر 9: 48) الذي سيحكم عليهم. إن عبارة "انتزع من النار" نجدها في عا 4: 11؛ زك 3: 2، وتدلّ على عمل يطلب الشجاعة والجرأة، فلا مجال لإضاعة الوقت. ماذا يتضمّن مثل هذا العمل؟ لا يوضح النصّ شيئاً في هذا المجال.
* العباوة الثالثة: وآخرون في النهاية ارحموهم ولكن بخوف، مبغضين حتى اللباس الذي دنّسه جسدهم (اللحم والدم فيهم، ساركس). نشير أولاً إلى أن "النخاتي" (أقنعوهم) لا يمكن أن تحلّ هنا محلّ "ارحموهم " (الياتي).
تتضمنّ هذه الفئة الثالثة أولئك الذين ابتعدوا كثيراً عن الحقيقة بحيث يستحيل على المؤمن أن يبقى مرتبطاً بهم. يجب قطع كل ارتباط معهم (مت 18: 17؛ أع 8: 22- 24؛ 1 كور 5: 5؛ 1 تم 1: 20؛ تي 3: 10؛ 2 يو 10- 11)، يجب أن لا نقترب منهم لئلاّ نتنجس بهم حين نلمسهم.
لا نستطيع أن نفهم بسهولة واقع هذه النجاسة. هل نأخذ لفظة "خيتون" (قميص، لباس تحتي) في المعنى الحرفيّ أم في المعنى الرمزيّ؟ في الحالة الثانية، نحن أمام رمزيّة معروفة (أش 61: 10؛ زك 3: 4؛ غل 3: 27 "نلبس المسيح"؛ روم 13: 14). وهذا الرمز يعارض الاستسلام إلى أعمال البدن، أعمال اللحم والدم بما فيها من ضعف وخطيئة. رج أف 4: 22- 25؛ كو 3: 9- 14 (إلبسوا الانسان الجديد). 2 كور 5: 1- 4 (نلبس مسكناً سماوياً)؛ رؤ 3: 4 (ثياب نجسة). إن اللبالس يرمز إلى الشخص وإلى ما يأخذ به من أعمال. والخلاص والقداسة نعبّر عنهما بلباس أبيض (يو 20: 12 والملائكة؛ رؤ 3: 4- 5، 18؛ 4: 4 والابرار). والعار والدينونة يرمز إليهما العري (رؤ 16: 15) أو ثوب موسّخ (أش 64: 5؛ زك 3: 4). فإذا أخذنا نصّ يهو في معنى رمزيّ فهو يعني: أبغضوا ما تمثّله طريقة عيش هؤلاء الناس، ارفضوا الخيارات الخلقيّة والروحية التي أخذوها.
ولكن أما يبدو أنه يجب أن نفهم العبارة في المعنى الحرفيّ؟ إنه لخطر كبير أن تلمسوا قميص هؤلاء المبدعين. لماذا؟ لأن اللباس يحمل بعفر القوة (الصالحة والشريرة) التي تقيم في ذاك الذي يمتلكها. هذا ما نجده في مر 5: 27- 30 حيث المرأة النازفة تحاول أن تلمس ثوب المسيح، وهي مقتنعة أما ستُشفى بالقوّة التي ستنتقل إليها (آ 30). ونجد شيئاً مماثلاً في "استشهاد بوليكربوس" (13: 2): "حين هُيّيء الحطب، خلع بنفسه كل ثيابه وحلّ حزامه ثم بدأ يخلع نعليه. ما كان يفعل ذلك وما سبق لأن المؤمنين كانوا يتسابقون دوماً لكي يلمسوا جسده".
لهذا، دعا يهوذا قرّاءه لكي يخافوا هؤلاء الرجال الذين يعيشون في الرذيلة: فنجاستهم الخلقيّة هي أيضاً نجاسة فيزيائيّة (على مستوى الجسد، اللحم والدم). نجد هنا "اسبيلومانوس" (نجس، هنا وفي يع 3: 6) من الفعل "سبيلون" نجّس. فهذه النجاسة تنتقل كالمرض المعديّ. إن بعض الرداءة والشّر ينتقل منهم إلى ثيابهم، ومن الثياب إلى أولئك الذين يلمسونهم فيحلّ بهم الشقاء. إن هذه الفكرة، فكرة واقع فيزيائي من النجاسة، معروفة في الديانات القديمة، ونجد بعض آثارها في الثوراة (لا 11- 16). نجد عند اغناطيوس الانطاكي (الرسالة إلى أفسس 7: 1) الفكرة عينها: يشبّه الهراطقة بكلاب يصعب معالجة عضّتهم. وهكذا يقابل تأثير المعلّمين الكذبة بانتقال فيزيائي للشرّ.
إذن، يجب أن نفهم لفظة "ساركس" في المعنى الزريّ: البدن (اللحم والدم) الذي هو خاضع للخطيئة (روم 6: 19؛ 7: 18؛ 8: 3). فاللباس الذي دنّسه البدن هو لباس يحمل نجاسة خلقيّة وفيزيائيّة لدى من يعيش في الخطيئة.
ولكن كيف نفهم "ارحموا" هؤلاء الناس؟ نخاف منهم، نبتعد عنهم، ونسلّمهم بالصلاة إلى رحمة الله. نجد الفكرة عينها عند أغناطيوس الانطاكي (إلى أهل سميرنة 4: 1): "ولكن أريد أن أحذّركم من هؤلاء الوحوش في وجه بشريّ... لا تستقبلوهم بل إن أمكن لا تلتقوا بهم، ولكن صلّوا من أجلهم لكي يرتدّوا إذا أمكن، ولكن هذا يبدو صعباً" (رج ديداكيه 2: 7؛ يوستينوس الدفاع الأول 57: 1).
ثانياً: النص القصير
* العبارة الأولى: "اقنعوا (أو: ارحموا) في ضلالهم أولئك الذين يتردّدون. خلّصوهم منتزعين إياهم من الخطيئة". نفضّل هنا أيضاً "النخاتي" التي تعطي معنى أفضل من "الياتي" (ارحموا). فالمسيحيون الذين يتردّدون، الذين يقعون في تجربة اتّباع المعلمين الكذبة، يجب أن تقنعوهم بسرعة وتبيّنوا لهم ضلالهم: بهذه الطريقة فقط نخلّصهم، ننتزعهم من النار التي تهدّدهم إن هم تبعوا الهراطقة. هذا النصّ الذي يجمع في جملة واحدة عبارتَي النصّ الطويل، يبرز ملحاحيّة العمل الذي يجب أن نقوم به، ويدلّ على مضمونه: نُقنع المتردّدين. ندافع أمامهم عن الحقّ ضدّ الضلال. فإن فشلنا في هذه المهمة، لن يبقى لنا إلاّ الرحمة (العنصر الثاني في الجملة) أي اللجوء إلى رحمة الله.
* العبارة الثانية: تشبه العبارة التي قرأناها في النصّ الطويل. وهكذا يعارض النصّ القصير الرحمة التي تميّز موقف الكنيسة تحاه الذين أنكروا حقيقة الوحي، مع الكرازة الناشطة والملحّة تجاه الذين لم يقطعوا بعد كل رباط مع الجماعة. إذن، تحدّدت فئتان من المحاورين: المتردّدون الذين نستطيع بعدُ أن نحرّضهم ونمسك بهم بعد أن وصلوا إلى حافة الهاوية. والمعلّمون الكذبة أنفسهم الذين يجب أن نقطع كل اتصال بهم، ولكنها قطيعة ترافقها الصلاة من أجلهم.
يبدو أن النصّ القصير يفضّل على النصّ الطويل، لأنه أوضح. فماذا يعني في النصّ الطويل التمييز بين الذين يتردّدون وبين الذين يجب أن ننتزعهم من النار. ولهذا يبدو أننا أمام تطوّر لاحق لعلاقات الكنيسة مع الهراطقة: ميّزت الكنيسة درجات في التعامل مع الضلال، ودعت إلى مواقف مختلفة من قبل المؤمنين، من الحوار الناقد إلى القطيعة، مروراً بالتنبيه الاحتفاليّ.
3- المجدلة الأخيرة (آ 24- 25)
وتنتهي الرسالة بمجدلة، لا بخاتمة رسائليّة انتظرناها فتضمنت نصائح وتمنيّات وسلامات من الكاتب. نجد في آ 24 (البردية 72) نصاً مختلفاً جداً مع "اسبيلوس" بلا عيب (نجده أيضاً في الافرامي) الذي يذكرنا بما في 2 بط 3: 14. ومع "ستيريزاين" ثبّت، قوّى كما في 2 بط 1: 12؛ رج روم 16: 25. وفي آ 25، قدّمت البردية 72 عبارة ليتورجيّة مبسّطة ومختلفة عن النص العادي: "لله الأوحد مخلّصنا، له المجد والقدرة والكرامة بيسوع المسيح ربنا له المجد والعزّة".
نجد قبل المجدلة بحصر المعنى طلباً ضمنياً من أجل القرّاء كما في روم 16: 25 وأف 3: 20. نحن هنا أمام استعمال تقليديّ. "للقادر أن يقيكم من كل زلّة ويوقفكم أمام مجده بغير عيب وفي الابتهاج" (آ 24). فالمسيحيّون الطيّبون يحتاجون أن يُحفظوا بعد أن انتُزعوا من النار. والله وحده يستطيع.
أجل، هذه المجدية التي تختتم يهو تنتمي إلى فن أدبي نجده في روم 16: 25- 27؛ أف 3: 20؛ فل 4: 20؛ 1 تس 5: 23؛ 1 تم 1: 17؛ 6: 15؛ 1 بط 4: 11؛ مت 6: 14 (في اختلافة)؛ رسالة اكلمنضوس الأولى 65: 7؛ استشهاد بولكيريوس 20: 2. وهذه المجدلة هي أقرب ما يكون إلى روم 16: 27 دون أن يكون هناك ارتباط نصّ بآخر. نحن نجد في هذه العبارات الليتورجيّة المدائحيّة عنصرين يرتبطان ارتباطاً وثيقأ: التعرّف إلى عمل الله من أجل المؤمنين. تعظيم بعض صفات الله. إذن، كل مجدلة هي مديح لما فعله الله من أجلنا، ولما هو في العالم. وفي يهو 24 نجد تصويراً عن عمل الله. وفي آ 25، نجد تعداداً لصفات تخصّ الله.
إن الله يفعل (يستطيع أنيفعل، ديناماي) من أجل أخصّائه في خطّين اثنين. في الأول، يحميهم (فيلكساي) (2 بط 3: 17) من السقوط (ابتايستوس، لا ترد الكلمة إلاّ هنا، وتشتقّ من فعل "بتاياين"، اصطدم). رج يع 2: 10؛ 3: 2؛ 2 بط 1: 10. إن موضوع قدرة الله قد ورد مراراً في الرسالة (آ 5- 14)، كما ورد موضوع قدرته بأن يدين اللامؤمنين. وهو يصوّرها قدرةً تجنّب المؤمنين مواجهة هذه الدينونة وحفظهم من السقوط في براثن المعلّمين الكذبة. في الخطّ الثاني، يقدر الله أن يجعلنا نثبت (ستيساي) بدون عيب (أموموس، ق آ 23 والنجاسة) أمام مجده في الابتهاج.
إن العبارة النادرة "كاتانوبيون اوتو" لا ترد إلاّ ثلاث مرات في العهد الجديد. في أف 1: 4 (بغير عيب أمامه)؛ كو 1: 22 (أمامه قديسين، بغير عيب)؛ وهنا (أمام مجده بغر عيب). وهي ترتبط دوماً باللفظة "أموموس" التي هي صفة العائشين أمام الله. فإذا أردنا أن نقترب من الله (هنا: أمام مجده. يعني أمام عظمته كما أوحي بها لنا فصارت منظورة في نهاية الأزمنة، رج 1 تس 3: 13؛ 1 بط 4: 13)، يجب أن نكون بلا عيب، حملاً بلا عيب كما في 1 بط 1: 19، حملاً سليماً يصلح للذبيحة. مثل هذا الحمل يليق بالخالق فيذكّرنا بصلاح خليقته منذ البداية: ورأى جميع ما خلقه الله فإذا هو حسن جداً.
لهذا، كان من الضروريّ أن نلجأ إلى قدرة الله. فمن يستطيع أن يقف أمامه في يوم اللقاء به (مز 51)؟ غير أن يهوذا زاد إشارة هامة. قد يمكن أن لا نخاف من دينونة الله. كما يمكن أيضاً أن نبتهج بهذا اللقاء، لأن هذا اللقاء يتمّ "الابتهاج" (أغالياسيس). إن "أغالياسيس" تُستعمل فقد في اللغة البيبليّة والكنسيّة للتحدّث عن الفرح أمام الله، الفرح في ممارسة شعائر العبادة، الفرح الاسكاتولوجيّ الذي نذوق طعمه منذ الآن (مز 50: 8، 12؛ 125: 2، 5، 6؛ أش 12: 6؛ 25: 9؛ 1 بط 4: 13؛ رؤ 19: 7). وهكذا تمارس قدرة الله (وسلطانه) في الحاضر حين تحفظ المؤمنين من السقطة، وفي المستقبل حين تهيّىء لمحبّي الله لقاء معه في الفرح والابتهاج.
وتأتي المجدلة بحصر المعنى، فتتوجّه إلى الله الآب: "لله الأوحد، مخلّصنا يسوع المسيح ربنا، المجد والعظمة والعزّ والسلطان، قبل جميع الأزمنة، والآن، وإلى جميع الدهور. آمين " (آ 25). أما في روم 16: 27 فنقرأ: "لله الحكيم وحده، المجد بيسوع المسيح إلى دهر الدهور. آمين". وفي أف 3: 21: "المجد له في الكنيسة وفي المسيح يسوع المسيح، إلى جميع الأجيال وإلى دهر الدهور. آمين". نجد في هذه النصوص الثلاثة اعترافاً بالله الواحد كما في تث 4: 25؛ 32: 39؛ خر 20: 4، بفم كتّاب مسيحيين عرفوا دور يسوع في مخطّط الله الخلاصيّ.
أجل، هذا الإله القدير هو واحد (مونوس). وتُستعمل عبارة "الله الواحد" في العهد الجديد لتعلن أن الله وحده يمتلك هذه الصفة أو تلك. رج يو 5: 44؛ 17: 3 (الله الواحد الحقيقيّ)؛ روم 16: 27 (الحكيم وحده)؛ 1 تم 6: 15- 16 (السامي وحده الذي لا يموت)؛ رؤ 15: 4 (القدوس وحده). وهنا كما في 1 تم 1: 17 وُضعت الصفة لتدلّ على وحدانيّة الله. فالاله الواحد هو موضوع أساسيّ في اعتراف الإيمان البيبليّ، وهو يعود مراراً في التوراة حرباً على الشرك عند الوثنيّين (2 صم 19: 15، 19؛ مز 86: 10؛ أش 37: 16، 20...). ولكنه موضوع نادر في العهد الجديد (1 تس 1: 9- 10)، لأن وحدة الله لم تعد مشكلة بالنسبة إلى المسيحيّين كما كانت بالنسبة إلى اليهود. رج 1 كور 8: 4، 6؛ مر 10: 18 وز؛ أف 4: 6؛ 1 تم 2: 5؛ يع 2: 19.
ونتساءل: لماذا شدّد يهوذا على هذه النقطة؟ هنا نتذكّر أنه في آ 4 قد ندّد بالذين يُنكرون "سيّدنا وربنا الوحيد" أي الله. وليس هذا التشديد من قبيل الصدف: إنه يتوجّه ضدّ الذين يحطّون من قدر الخليقة، وبالتالي من قدر الخالق، ولهذا يبرز وحدانيّة الله. ليس هناك إلاّ إله واحد هو خالق الكون، ومخلّص البشر، والأزليّ المجيد.
من هنا كان هذا الرباط الوثيق بين وحدانيّة الله وصفته كالمخلص (سوتر). في العهد الجديد، المسيح هو الذي يسمّى المخلّص (16 مرة). غير أننا نجد ثمانية نصوص يُدعى فيها الله "المخلّص" (لو 1: 47؛ 1 تم 1: 1؛ 2: 3؛ 4: 10؛ تي 1: 3؛ 2: 10؛ 3: 4 وهنا) نلاحظ أن الرسائل الرعائيّة تتحدّث عن الله المخلّص. فالتهديد الغنوصيّ خطير، لهذا برزت الحاجة إلى إعلان الله الواحد أنه الخالق والمخلّص.
هناك من ربط "بواسطة يسوع المسيح ربّنا" مع "المجد". بل نربط العبارة مع ما سبق: الله أو مبدىء الخلاص، والمسيح هو الذي يتمّمه في التاريخ. الله هو المخلّص لأنه أراد منذ البدء خلاص البشر. ويسوع هو ربنا لأنه حقّق بشكل ملموس هذا الخلاص طاعة للآب من أجلنا.
إن هذا الإله الواحد والمخلّص هو موضوع مديح المؤمنين الذين ينشدون مجده (دوكسا) (والمجد يدلّ على بهاء الله وعظمته؛ روم 11: 36؛ 16: 27؛ غل 1: 5؛ أف 3: 21...) وعظمته (ماغالوسيني) (لا ترد هذه اللفظة مراراً في المجدلات، 1 أخ 29: 11؛ تث 32: 3؛ عب 1: 3؛ 8: 1 للدلالة على الله) وعزّته (كراتوس، السلطة السامية والقدرة، 1 تم 6: 16؛ 1 بط 5: 11)، وسلطانه (اكسوسيا، يدلّ أيضاً على سلطان المسيح وقدرته، مر 1: 22، 27؛ 2: 10...). كل هذا يمتلكه الله من الأزل إلى الأبد.
إذ أراد الكاتب أن يتحدّث عن الأزليّة، استعمل عبارة "قبل جميع الأزمنة" (جميع الدهور، أيون)، يعني قبل أن يكون الزمان. قالت 1 كور 2: 7: "قبل الأزمنة" ويو 17: 24: "قبل أساسات العالم" (رج أف 1: 4؛ 1 بط 1: 20).
أما يهو فقال: "قبل جميع الأزمنة". وقال: "إلى جميع الدهور" (أو: الأزمنة)، فدلّ على المستقبل الأبديّ، وأظهر أصالته كما في العبارة السابقة. فالعهد الجديد يقول عادة "إلى الدهور، دهر الدهور" (غل 1: 5؛ فل 4: 20؛ روم 1: 25؛ 9: 5).
وهكذا، الله هو سيّد الزمن وقد خلقه. قد نكون أمام هجوم على الذين يفصلون الله الخالق الخاضع للزمن، عن الله الأزلّي الذي لا علاقة له بالزمن. غير أن هذه الطريقة في تصوير أزليّة الله وأبديّته قد عرفتها اليهوديّة الهلنستيّة، وقد عاد إليها يهوذا.
آمين. نقرأ مراراً هذا الهتاف الذي يدلّ على الاعجاب والموافقة في المجدلات (مز 40: 14؛ نح 8: 6.... روم 1: 25؛ غل 1: 5؛ أف 3: 21...).
خاتمة
وهكذا جاءت هذه المقطوعة بغناها، فقدّمت تحريضاً إلى المؤمنين انتهى بالموافقة على ما قيل من كلام إلهي: آمين. عرف الكاتب أن وجود الكافرين أمر لا جدال فيه. ولا نستطيع أن نفعل شيئاً ضدهم. إنهم كالزؤان بين القمح، على ما يقول المثل الإنجيليّ (مت 13: 24- 30)، وسيظلّون في العالم وفي الكنيسة حتى عودة المسيح، حتى زمن الحصاد والدينونة الأخيرة. فيبقى على المؤمنين أن يحذروا منهم، ويحاولوا أن يساعدوا من وقع في شباكهم. ويسلّمون الآخرين إلى رحمة الله. وتنتهي رسالة يهوذا بمجدلة طويلة تنشد الله الأوحد ومجده وعظمته إلى جميع الدهور. آمين.