الفصل الثامن
من راعي الأغنياء تجاوز الناموس
2: 6- 13
تشكّل يع 2 وحدة مبنيّة بناء خاصاً، وهي مؤلّفة من متتاليتين تستخدمان ذات الأساليب لتقدّما البراهين: تقديم الأشخاص، كلام يوجّه إلى القرّاء، استناد إلى الكتاب المقدّس، خاتمة بشكل توصية تُعطى في صيغة الأمر. بدأت المتتالية الأولى في آ 1 وامتدت حتى آ 13. درسنا القسم الأول منها (آ 1- 5) وها نحن ندرس القسم الثاني (آ 6- 13). أما المتتالية الثانية (2: 14- 26) فيكون عنوانها: الإيمان والأعمال. أو: الإيمان بدون أعمال هو ميت. أو: فاعليّة الإيمان.
منذ الايات الأولى، وإذ يسمّي الكاتب قراءه: الاخوة، الاخوة الأحباء، فهو يهاجمهم بعنف، بأساليب كتابيّة تدينهم. اعتاد المسيحون أن يسمّوا بعضهم "اخوة". وتورد يع اللفظة 19 مرة. ويجعل الكاتب اللفظة في بداية المقطع ليدلّ على أنه أمام موضوع جديد. في آ 1: "لا تمزجوا يا اخوتي". وفي آ 5: "اسمعوا، يا إخوتي الأحبّاء". وهكذا يصبح الاتصال بين الكاتب والقارىء أقوى، والارتباط أشدّ.
هاجم الكاتب المؤمنين في آ 4 بشكل استفهام: "أفلا تكونون قد ميّزتم"؟ "أما صرتم قضاة بأفكار شّريرة"؟ وفي آ 6- 9، ينتقل الكاتب إلى الصيغة التأكيديّة: "حرمتم المسكين من كرامته". "تصنعون خطيئة". وهكذا يُصدر الكاتب حكماً قاطعاً على مجمل القرّاء دون أن يميّز بينهم. وهذا الحكم المطلق يضمّ الماضي والحاضر إلى المستقبل بحيث نظنّ أن الأيام الآتية في خطر. وهذا الحكم على القرّاء يتيح ليعقوب أن يعطي أوامر لا يمكن أن تجادل: "لا تمزجوا إيمان ربّنا" (آ 1). "تكلّموا واعملوا كأنكم مزمعون أن تُدانوا بناموس الحريّة" (آ 12).
1- أهنتم المسكين (2: 6- 7)
بعد أن جعل الكاتب قرّاءه يوافقون على أن جماعتهم الجديدة مؤلّفة بأكثريّتها من الفقراء، وأن دعوتهم تدلّ على أن الله اختار اناساً له من هذه الفئة، ها هو يشدّد الآن في عبارة واحدة على التعارض الشرير الذي يتضمّنه موقفهم حين يأخذون بموقف المحاباة الجائر الذي أشار إليه في ما سبق. قال: "قد أهنتم المسكين". "حرمتم المسكين كرامته". الله بنفسه منح المسكين كرامة، والمسيحيّون يسلبونه هذه الكرامة (اتيمازو، الألف تعني سلب. تيمي: الكرامة). جعلوه يحسّ من خلال استقبالهم أنهم يفضّلون الغنيّ. غبر أن الكتاب المقدس يعتبر أن احتقار الفقير خطيئة. بل هو عار على الجماعة. يقول أم 14: 21: "من استهان بقريبه يخطأ، والذي يرحم البائسين طوبى له". وسي 10: 22: "الغنيّ والمجيد والفقير فخرهم مخافة الربّ. ليس من الحقّ أن يُهان الفقير العاقل، ولا من اللائق أن يُكرم الرجل الخاطىء". وسوف يوبّخ بولس جماعة كورنتوس لأنهم يزدرون كنيسة الله ويحتقرون الذين لا شيء لهم (1 كور 11: 22).
ويتحدّث الكاتب في آ 6 ب عن خطيئة الكفر. فمحاباة الغنيّ لأنه فقط غنيّ، يدلّ على نقص في الحكم والتمييز. وإذ أراد يعقوب أن يفهم قرّاءه هذه الحقيقة، ذكّرهم بواقع مأخوذ من الحياة اليوميّة: سلوك الأغنياء تجاههم وما في هذا السلوك من قبح وشناعة. قال: "أوليس الأغنياء هم الذين يرهقونكم ويضيّقون عليكم؟ أليسو هم الذين يجرّونكم إلى أمام المحاكم؟ أوليسوا هم الذين يجدّفون على الاسم الجميل الذي به دعيتم" (آ 6- 7)؟
إن الصيغة الاستفهاميّة للجمل توازي الصيغة التأكيديّة التي قرأناها في آ 5، وتجعل السامع أمام حقيقة لا يمكنه أن يجادل فيها. أما الأخطاء التي ينسبها إلى الأغنياء فهي ثلاثة أنواع، والكاتب يقدّمها في خطورتها المتصاعدة.
الأول: يخطىء الأغنياء حين يتسلّطون على الفقراء، فيتجاوزون سلطتهم ويضايقونهم. نقرأ "كاتادينستاوو": استعمل سلطته ضد الآخرين. هذا الفعل يرد أيضاً مرّة واحدة في كل العهد الجديد بمناسبة الحديث عن المرضى الذين "سقطوا في سلطة" الشيطان فشفاهم يسوع (أع 10: 38، خطبة بطرس لكورنيليوس). غير أننا نجده مراراً في السبعينية وفي معرض الحديث عن الفقراء الضعفاء الذين يستغلّهم الأغنياء. نقرأ في عا 4: 1 عن الذين "يظلمون الفقراء ويضغطون المساكين". وفي 8: 4 يهتف النبيّ: "اسمعوا هذا يا من تضغطون على المسكين لتفنوا بائسي الأرض". رج إر 7: 6؛ زك 7: 10. وكيف يضغطونهم؟ يسلبونهم حقولهم وبيوتهم ويستعبدونهم (مي 7: 6). وسوف تشير رسالة يعقوب بعد ذلك إلى بعض الحالات الخاصّة من المضايقة: تسخيرهم للعمل في الحقول. حرمانهم من أجرهم العادل (5: 4- 5).
الخطأ الثاني: يتميّز عن الأول بعبارة: "وهم أيضاً" (كاي اوتوي). بماذا يقوم هذا الخطأ؟ يجرّ الأغنياءُ المساكينَ أمام المحاكم. إن فعل "الكو" يزيد على فعل ضايق وأرهق. إنه يتضمّن الاكراه والعنف كما في أع 16: 19 (جرّوا بولس ورفيقه بالقوّة): 21: 30 (جرّوا بولس إلى خارج الهيكل). وهكذا يساق الفقير إلى المحكمة (كريتاريون، رج هذا المعنى في 1 كور 6: 2- 4). حين تحكم المحكمة اليهوديّة على مثل هذا الفقير فباستطاعتها أن تجلده، تضربه بالعصي، تسجنه، تجعله يدفع غرامة، تحكم عليه بالأعدام. في هذا الحال، يصيب الحكمُ العائلة كلها. مثلاً في مت 18: 25- 34، ما استطاع الرجل أن يدفع الدين "فأمر سيّده بأن يباع هو وامرأته وأولاده" (آ 25؛ رج مت 5: 25- 26؛ 2 كور 11: 24).
الخطأ الثالث: بدأ بصيغة الاستفهام (أوليسوا) والضمير "هم". وهكذا تميّز عن الخطأين الأولين، ووصل بالأخطاء إلى الذروة. هؤلاء الأغنياء "يجدّفون على الاسم الجميل (الاسم المسيحيّ) الذي به دُعيتم". يستعمل فعل جدّف عادة في الكتاب المقدس ليدلّ على كل إهانة مباشرة ضد الله، سواء بالقول أم بالفعل. أو ضدّ الوحي الإلهيّ. وقد يدلّ بعض المرات (لا سيّما في صيغة المجهول) على سلوك عباد الله من يهود ومسيحيّين حين يصبح سلوكهم سبباً فيجدّف الآخرون على الله وعلى وحيه، حين يشاهدون هذا السلوك فيتشكّكون. رج أش 52: 5: "أخذ شعبي إلى السبي والمتسلّطون يصيحون، يقول الربّ، واسمي لا يزال يجدّف عليه كل يوم"؛ روم 2: 24: "إن اسم الله يجدّف عليه في الأمم بسببكم كما كُتب"؛ 1 تم 6: 1: "ليحسبوا سادتهم اهلاً لكل كرامة لئلاّ يجدّف على اسم الله وتعليمه". رج تي 2: 5؛ 2 بط 2: 2.
أما في النصّ الحاضر، فالاسم الجميل، الاسم المسيحيّ، يجدّف عليه. وحسب الكتاب المقدس، من دعا اسم الله أو تلفّظ به على أشياء طبيعيّة أو معنويّة، كان وكأنه يعلن أن هذه الأشياء تخصّ له. أنها مكرّسة له، أنها موضوعة تحت حمايته (تث 28: 10؛ عا 9: 12؛ أش 43: 7؛ 63: 19؛ ار 7: 10؛ دا 9: 18- 19؛ 2 مك 8: 15). فاسم الله هو الله نفسه.
في العهد الجديد، يدعو البشر باسم يسوع، الربّ الممجّد (1: 1؛ 2: 1؛ 1 كور 1: 2؛ أع 2: 21؛ 9: 14، 21؛ روم 10: 12؛ 2 تم 2: 22). أو يُدعى اسمه عليهم بمناسبة تعليم يُعطى أو أشفية تتمّ أو أسرار ينالها المؤمن (أع 2: 28؛ 3: 6؛ 4: 7- 10؛ 5: 28، 40؛ 9: 27- 28؛ 10: 48؛ 19: 5، 13؛ يع 5: 14؛ فل 2: 10؛ 1 كور 6: 11). ومع أن تطبيق العبارة ينتقل من الله إلى يسوع، فالمعنى الأساسي يبقى هو هو (أع 2: 21): فالدعاء باسم يسوع وبشخصه، يدلّ على أنه السيّد، أننا نخصّه، أننا ننتظر كل شيء منه، أننا نجعل نفوسنا في خدمته.
لا شيء يدلّ على أن الكاتب يفكّر بشكل خاص في الطقس العماديّ (رج أع 2: 38). ولكن ذلك ليس بمستحيل (1: 18، 21). ويوصف اسم يسوع بـ "الجميل" (كالوس) أي الخلاصيّ الذي يحقّ له كل إكرام (أع 2: 21؛ 4: 12). ومع ذلك، فالأغنياء يجدّفون على هذا الاسم، يهينونه. لا شكّ في أننا هنا أمام اسم يسوع. ليس هناك ما يؤكّد ذلك، ولكن لا ننسى أننا أمام مقال مسيحيّ. فلو كنّا أمام كتاب يهوديّ، لكان الحديث عن اسم الله، اسم يهوه، لا عن اسم يسوع. لو كنا امام كاتب يهودي لما استطعنا أن نتحدّث عن الاسم المسيحيّ. فهذا الاسم الذي أطلقه مسيحيو أنطاكية (أع 11: 26) لم يصبح مألوفاً إلا في وقت متأخّر.
من هم هؤلاء الأغنياء الذين يتّهمهم يعقوب هذه الاتهامات الخطيرة؟ هل هم يهود ظلّوا لا يؤمنون؟ هل هم مسيحيّون أم وثنيّون؟ هنا تختلف الآراء.
فالذين يرون في هؤلاء الأغنياء فئة من المسيحيّين، يسندون فرضيّتهم إلى البراهين التالية. تتوجّه الرسالة إلى مسيحيّين (1: 1). وقد عرفت المسيحيّة الأولى في صفوفها عدداً من الأغنياء، مثل هذا الذي دخل إلى الجماعة فاستُقبل بحفاوة (2: 3). وهناك تنبيهات في الرسالة تتوجّه بشكل مباشر إلى هؤلاء الأغنياء (1: 10- 11؛ 5: 1- 6). بحسب هذه الفرضيّة، لا يكون تجديف الأغنياء على الاسم الجميل كلاماً مباشراً على الله، بل سلوكهم الرديء الذي هو شهادة معاكسة، يجعل النالس يجدّفون على يسوع الذي إليه ينتمي هؤلاء الأغنياء. وسلوكهم يبدو مشككاً بشكل خاص حين يستغلّون اخوتهم في الإيمان ويجرّونهم إلى المحاكم (آ 6؛ رج 5: 1- 5؛ 1 كور 6: 1- 7).
ويظن عدد كبير من الشرّاح أن الأغنياء الذين يضايقون المؤمنين ويلاحقونهم في المحاكم ويجدّفون على اسم يسوع، هم يهود لم يأتوا إلى الإيمان، أو هم وثنيّون. لاحظ صاحب الرسالة أن طبقة الأغنياء ما زالت تستغلّ الصغار والضعفاء والفقراء (مت 20: 25 وز). لهذا وبّخهم يعقوب على مثال الأنبياء (65: 1- 5؛ رج أش 5: 8- 13؛ لو 6: 24- 26). وهو لا يستطيع أن يجهل أن الصادوقيّين هاجموا المسيحيّين بشكل خاص، وسعوا إلى إهانة اسم يسوع (مت 10: 22؛ لو 6: 22- 23؛ 1 تس 2: 14- 16). وقد يكون يعقوب عرف مضايقات التجّار والملاّكين الوثنيين لتلاميذ يسوع (أع 16: 19؛ 19: 24؛ 1 بط 2: 20؛ 3: 15- 16! 4: 14- 16).
وقف يعقوب في خطّ الكرازة النبويّة والتقليد الإنجيليّ، فندّد بميول طبقة اجتماعيّة، لا بأشخاص معيّنين في هذه الطبقة. وقساوته التي تجاوزت قساوة لوقا وبولس، تجعلنا نفهم كم كان مهدّداً وضعُ المسيحيّين في أيامه.
2- الناموس الملكيّ (2: 8- 9)
بدت المحاباة الظالمة معارضة لموقف الله (آ 5- 6 أ)، معارضة للعقل السليم (آ 6 ب- 7). وهي تعارض أيضاً الناموس أو شريعة الله (آ 8- 11). يبدأ الكاتب فيوافق على القول أولاً بأنه كان بإمكاننا أن نمتدح المسيحيّين لو كان استقبالهم الحار يستلهم المحبّة فقط (آ 8). ولكنهم يخطأون ويتجاوزون الناموس، لأن حفاوتهم هي في الواقع تفضيل للأغنياء لا يستند إلى حقّ، ومحاباة للوجوه (آ 9). وينهي قائلاً بأن المسيحيّين يدلّون بهذا التجاوز وحده، على أنهم يتعدّون على الشريعة كلها (آ 10- 11).
نقرأ وآ 8: "إن كنتم تتمّون الناموس الملكيّ، على حسب الكلمة القائلة: أحبب قريبك كنفسك، فنعمّا تعملون". إن الأداة "منتوي" قد تعني "ولكن". وتعني أيضاً "في الحقيقة". لهذا يجب أن نقول: "في الحقيقة، إن كنتم". إن الكاتب يقدّم تنازلاً (آ 8) قبل أن يقول إن المحاباة تعارض الشريعة (آ 9). نحن هنا في عمليّة وضع الأمور في نصابها، لا أمام جواب على اعتراض لم يعلن عنه. قال: لا شكّ في أن القرّاء يسيرون سيرة حسنة، وهم يفعلون ذلك لكي يتمّوا (تالايو) الناموس الملكيّ الذي يأمرنا بمحبّة القرية وبالتالي يدعونا إلى استقبال الأغنياء بحفاوة.
إذن، لا يندّد الكاتب بلا تمييز بكل حفاوة تتوجّه إلى الأغنياء. فالحفاوة التي تستلهم المحبّة هي جديرة بكل مديح. أخذت العبارة "أحبب قريبك كنفسك" من لا 19: 18. وهذا الإيراد الواضح الذي نجده مع ثلاثة أخرى (2: 23؛ 4: 6؛ 5: 20) يوافق نيّة النصّ، لا سيّما وأن سفر اللاويّين يطلب محبّة القريب بعد أن يمنع كل محاباة للوجوه جائرة (لا 19: 15: لا تجوروا في الحكم، ولا تحابوا فقيراً، ولا تجلّوا عظيماً، بل بالعدل تحكم لقريبك).
وعبارة "الناموس (نوموس) الملكيّ" (باسيليكوس) تجد تفاسير متعدّدة لدى الشّراح.
بعضهم يعود إلى الاستعمال العادي للفظة ناموس في التوراة، وإلى السياق المباشر في يع 2: 9- 11، فيظنّون أننا أمام مجمل الشريعة الموسويّة. ويظنّون أن الصفة الملوكيّة لهذه الشريعة تعود إلى أنها تنبثق من سلطة الله السامية. وهذا ما يجعلها عالية، رفيعة. وهي لا تتوجّه إلى العبيد، بل إلى وارثي ملكوت الله (آ 5).
ويرى معظم الشّراح أننا بالأحرى أمام شريعة خاصة. فهي بحسب الكتاب أي العهد القديم أو مجمل الشريعة الموسويّة (2: 23؛ 4: 6)، تأمرنا بأن نحبّ القريب مثل نفسنا. هذه الشريعة التي يجب أن نسمّيها عادة "فريضة"، تُوصف بأنها ملوكيّة (في المعنى الذي قلناه أعلاه)، لأنها الشريعة الكاملة المطلقة والتي تتضمّن سائر الشرائع وتُجملها وتتجاوزها (1 كور 13؛ روم 13: 8- 10؛ كو 3: 14؛ غل 5: 14؛ يو 13: 34). إن السياق المباشر (2: 9- 11) يسير في خطّ هذا التفسير، فتقابل آ 10 الشريعةَ كلها مع الفريضة الخاصة التي تتحدّث عنها آ 8- 9.
وحين أعطى يعقوب وصيّة محبّة القريب كما أعلنها لا 19: 18، أهميّة ملوكيّة فائقة، دلّ على أنه مرتبط بالتقليد الانجيليّ. فيسوع كان أول من أعلن هذه الوصية التي تشبه وصيّة محبّة الله (مت 22: 39 وز). ووسّع تطبيقها على كل إنسان (لو 10: 29- 37). وجمع فيها كل شريعته (يو 13: 34). قبل ذلك، كانت تلك الوصيّة على مستوى سائر الوصايا والفرائض (رج مت 23: 36 وسؤال الكاتب حول أعظم الوصايا) مثل الختان والسبت والطهارة الطقسيّة والعشور والأصوام.
ونصل إلى آ 9. فإذا كان المسيحيون يتصرّفون حسناً حين يجعلون موقفهم تجاه الأغنياء بحسب الناموس الملوكي، ناموس المحبّة، فليس الأمر كذلك حين يتبعون محاباة للوجوه وما فيها من جور وظلم: حينئذٍ يُصبحون خطأة لأنهم تعدّوا هذه الوصيّة. قالت الرسالة: "ولكن حين تحابون الوجوه، ترتكبون خطيئة، والناموس يحجّكم كمتعدّين".
أن تحتفي بالغني وحده وتفضّله على الآخرين لأنه غنيّ، فأنت تقترف خطيئة. هنا لا تشخّص (تعتبر شخصاً حياً) الخطيئة كما في 1: 15 (الخطيئة تنتج الموت). بل هي تشبّه بتجاوز الناموس أي مشيئة الله (4: 17؛ 5: 15، 16، 20). ونهاية آ 9 تلعب دور بدل يفسّر ما قبله: حين يمارس المسيحيون كل هذا التميّز، فالناموس يُفهمهم أنهم تعدّوه. فالناموس أي وصيّة المحبّة الإلهيّة، يلعب في الوقت عينه دور وصيّة نتجاوزها ودور المتهم الذي يدلّنا على خطيئتنا. لهذا لا عذر لمن يميّز في استقباله الغنيّ دون الفقير.
3- العمل بالناموس كله (2: 10- 13)
هنا يعود يعقوب إلى مبدأ يقول إن من تجاوز الناموس في فريضة، صار متجاوزاً للناموس كله. نقرأ في آ 10: "من حفظ الناموس كله وزلّ في وصيّة واحدة، فقد صار متعدياً في الكل". نحن هنا أمام تفسير للآية السابقة، مع تشديد على الحكم المعلن. عارض الكاتب مجمل الشريعة الموسويّة مع نقطة واحدة من هذه الشريعة أي وصيّة المحبّة.
نجد فعل "بتايو". في المعنى العاديّ: اصطدم. وفي المعنى الخلقيّ: زلّ. خطىء. لا نجد المعنى الخلقيّ، إلا هنا في العهد الجديد (روم 11: 11، بتايو= عثر: 2 بط: 10). من اصطدم على هذا الشكل بنقطة واحدة من الناموس (تحاشى يعقوب تكرار الكلمة) تشرف على المحبّة، أي من مارس المحاباة، صار خاطئاً دائماً تجاه الناموس ككلّ لا في كل نقطة من نقاطه. وهذا الخطأ الاجمالّي هو واضح رغم الأمانة لسائر الفرائض التي تشكّل وحدة مع الفريضة التي تجاوزناها.
إنه المبدأ العام في آ 10 يلتقي والفكرة اليهوديّة آنذاك، التي تعئبر أن الناموس وحدة تامة، لأن فرائضه تنبثق دفعة واحدة من ذات المشترع الإلهي (آ 11: الذي قالت... قال أيضاً). فمن تهرّب من إحدى هذه الفرائض، احتقر الكلّ الذي هو تعبير عن إرادة الله. كانت هذه النظرة ردّة فعل ضدّ التمييز بين وصايا صغيرة ووصايا كبيرة (كما 5: 19).
إن التعليم الرواقيّ الذي عرفه العالم اليهوديّ الهليني، والذي يقول إن الرجل الفاضل لا يستطيع أن يزلّ في خطيئة واحدة والعكس بالعكس، ليس موضوع حديث يعقوب هنا. وهو الذي يرفض هذا القول في 3: 2: "إنّا جميعاً نزلّ كثيراً، ومن لا يزلّ في الكلام فهو رجل كامل". نحن بالأحرى مع عودة إلى التقليد الانجيليّ الذي يربط الشريعة كلها بوصيّة المحبّة، فيرى بالتالي أن الشريعة تُصاب في الصميم حين نتعدّى وصيّة المحبّة (مت 22: 39 وز).
وإذ أراد الكاتب أن يوضح ما في آ 10، بيّن بالأمثلة أن مختلف الوصايا تكوّن وحدة تامة وغير منفصلة لأنها تنبثق من ذات المشيئة الإلهيّة. "لأن الذي قال: لا تزن، قال أيضاً: لا تقتل. وإذن، فإن لم تزن، ولكن قتلت، فقد صرت متعدياً للناموس..." (آ 11). ويورد الكاتب في جمل متوازية وصيّتين مأخوذتين من الوصايا العشر (خر 20: 13- 14؛ تث 5: 17- 18). ولكنه اتّبع ترتيب السبعينيّة لا ترتيب النصّ الماسوري (مت 5: 21، 27؛ مر 10: 19).
أخذ الكاتب بطريقة اليهود في التكلّم عن الله، فما ذكر اسمه، بل دلّ عليه: لأن الذي قال. وإذ استبعد الفكرة القائلة بأن التعدّي على وصيّة محدّدة يتضمّن عملياً التعدّي على سائر الوصايا، أفهمنا أن جميع الوصايا بدون استثناء تأتي من ذات الإله. فمن تعدّى على وصيّة واحدة صار متعدياً (هناك استمراريّة) على الشريعة كلها كتعبير عن إرادة الله.
كان دور آ 10- 11 تبرير آ 9 التي تشجب باسم شريعة المحبّة المحاباة وما فيها من جور. هذا ما يعفي الكاتب من أن يستخلص النتائج بدل القارىء (1: 24) فيقول: إن المحاباة التي تتعدّى على المحبّة (2: 8- 9) تصيب في الوقت عينه الناموس كلّه.
والبرهان الأخير ضد التميّز والمحاباة يرد بشكل تحريض على العيش، ونحن نفكّر بأننا سنؤدي حساباً في يوم الدينونة (آ 12). نجد بذار هذا البرهان في آ 9 ب التي جعلت من الشريعة متّهمة لمن يتعدّاها. وها هو قد صار الآن واضحاً: "تكلّموا واعملوا بتمييز كأنّكم مزمعون أن تدانوا بناموس الحريّة". إن لفظة "هوتوس" التي تتكرّر والتي ترجمناها "بتمييز" تدلّ على الطابع الملحّ للتحريض. فالعبارة "تكلّموا واعملوا" تشمل الكلمات والمواقف التي نتّخذها تجاه الأغنياء والفقراء (2: 2- 3)، كما تشمل أيضاً مجمل الحياة. فالأقوال والأعمال توضع معاً لتدلّ على السلوك البشريّ بشكل عام (أع 1: 1؛ 7: 22؛ 1 يو 3: 19). ونحن نلاحظ الكاتب الذي يلقي نظرة على حياة المسيحيين الاخلاقيّة، يشدّد تارة على الأقوال (1: 9، 26؛ 3: 1- 12) وطوراً على الأعمال (1: 20، 22، 23، 25، 27؛ 2: 8؛ 14- 26). وهكذا نرى تأثير التقليد الأنجيليّ بحسب متى (12: 36؛ 25: 31- 45).
يجب أن نحيا ونحن ناظرون إلى تأدية الحساب، كأناس سوف يدانون، سوف يدينهم الله. يؤكّد الكاتب على قرب الدينونة، لا على فكرة اقترابها. نحن هنا أمام الدينونة الاسكاتولوجيّة، ساعة عودة المسيح (1: 22، 25؛ 5: 7).
وبالنظر إلى الدينونة الآتية، يجب أن نكون رحماء في أقوالنا وفي أعمالنا "لأن الدينونة ستكون بلا رحمة على من لا يصنع الرحمة. بيد أن الرحمة ستغلب الدينونة" (آ 13). نجد هنا جملتين لا ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بما في آ 12. فنحن انتقلنا من صيغة المخاطب الجمع (تكلّموا أنتم) إلى صيغة الغائب المفرد (من لا يصنع هو). وهناك مدلول جديد قد دخل هنا هو الرحمة (ايليوس؛ رج 3: 17؛ 5: 11).
في البيبليا، تعبّر رحمة الله عن حنانه وأمانته، ونحن نترجمها مساعدة للذين هم في حاجة ماديّة أو معنويّة. فهي تنجّي الآخر، تسنده، تدعوه إلى التوبة، تغفر له. مثل هذه الرحمة قد أوصى بها الكاتب الملهم. قال مي 6: 8: "ما يطلب منك الربّ هو أن تجري الحكم وتحبّ الرحمة وتسير بتواضع مع إلهك". وفال هو 6: 6: "أريد رحمة لا ذبيحة" (رج مت 12: 7). وهذه الرحمة هي شرط لغفران الخطايا. رج سي 27: 30؛ 28: 7 حيث نقرأ: "الحقد والغضب كلاهما رجس، والرجل الخاطىء متمسّك بهما. من انتقم يدركه انتقام الربّ الذي يحاسبه بقساوة على خطاياه. اغفر لقريبك ظلمه لك، فإذا تضرّعت تمحى خطاياك. أيحقد إنسان على إنسان، ثم يلتمس من الربّ الشفاء؟ هو لا يرحم إنساناً مثله، فكيف يستغفر عن خطاياه"؟
في العهد الجديد، نرى يسوع ذلك الكاهن الرحيم (عب 2: 17) الذي يعبرّ عن رحمة الله في أعماله وأقواله، الذي يدعونا إلى الاقتداء به ويعد الرحماء بالسعادة (مت 5: 7؛ 12: 7؛ 18: 23- 35). وفي رسالة يعقوب، تبدو الرحمة وجهاً من وجوه المحبّة (آ 8). وتشمل استقبال الفقير استقبالاً لا ينمّ عن احتقار له (2: 3- 4؛ 6 أ). كما تتضمّن الاحسان للبائسين (1: 27) والابتعاد عن كل جور وظلم. ويربط يعقوب رحمة الله أي غفرانه وحسناته بالرحمة التي يمارسها الانسان تجاه القريب. كما يربط بين العقاب والخطيئة على ما نجد في العهد القديم حيث نرى أن الانسان يُعاقب بما به يخطأ (أي 22: 9- 10؛ طو 4: 7؛ أم 17: 5؛ 21: 13؛ سي 28: 4- 5). ولكنه يبقى في خطّ التقليد الانجيليّ الذي يقول: لا يغفر الله إن لم نغفر (مت 6: 14- 15؛ 18: 23- 35). الله يكيل لنا بالكيل الذي نكيل به (مت 7: 2). الله يهدّد الذين لا يمارسون الرحمة (مت 22: 23؛ 25: 41). وإذ أراد الكاتب أن يتحدّث عن دينونة بلا رحمة، استعمل لفظة لا ترد إلاّ هنا في كل العهد الجديد: انالايوس: بلا رحمة. لا نستطيع أن نتحدّث إلاّ قياساً عن غياب الرحمة عند الله. كما لا نستطيع أن نتكلّم عن شريعة الِمثل في مجازاة الله للبشر أي على مستوى "سنّ بسن وعين بعين". ولكن إذا كان قلبنا رحيماً أي منفتحاً على الله، فهو يستطيع أن يتقبّل رحمة الله وغفرانه. أما إذا كان قاسياً كالصخر، فلا تخرج منه مياه الرحمة، ولا يستطيع أن يتقبّل رحمة الله التي تنزل عليه كالمطر.
كان القسم الأول من الآية سلبياً: "ستكون بلا رحمة على من لا يصنع الرحمة". فجاء القسم الثاني إيجابياً وبشكل مبتكر: الرحمة تتحدّى، تتغلّب. تبدو الرحمة شخصاً حياً. وهي تمثّل ذاك الذي يصنع الرحمة (نستطيع أن نقول: الرحيم يغلب). نجد هنا موقفاً من الافتخار تجاه الدينونة، لأننا متأكّدون من الرحمة. وهذا الموقف فيه الثقة والدالة كما في الكتاب المقدس (طو 4: 10- 11؛ أم 17: 5؛ سي 3: 20؛ مت 5: 7). وهكذا نرى أن فكرة الدينونة (كريسيس) لا ترتبط دوماً بالعقاب، بل قد تحمل إلينا نداء كما في مت 25: 31- 40: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم".
خاتمة
جاء هذا المقطع امتداداً لما سبقه حول الأغنياء والفقراء في الكنيسة. ولكنه انتقل من مستوى خاص جداً إلى مستوى عام، فوصل بنا أولاً إلى الاسم الجميل، اسم الربّ يسوع الذي نُدعى به في المعموديّة، ويجدّف عليه الأغنياء حين يضطهدون البار الذي يخصّ المسيح. وقدّم يعقوب مقابلة بين الناموس الملوكيّ وناموس الحريّة. فالشريعة تجعل من المؤمنين أبناء أحراراً كما قال اليهود ليسوع في يو 8: 31- 35. ولكن يعقوب يتطلّع إلى تفسير مسيحيّ للشريعة. الشريعة هي كلمة الحقّ. وعملها هو قبل كل شيء محبّة القريب التي تحتلّ المكانة الملوكيّة بين الوصايا. وهكذا نكون في خطّ متى وكمال الشريعة أو يوحنا والوصيّة الجديدة. هذه الشريعة هي كاملة لأنها في النهاية تدلّ على مشيئة الله. وهكذا نصل إلى عمق الصلاة المسيحيّة: لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.