الفصل التاسع والعشرون
الشيطان وقوى الشر
تختلف التوراة عمّا تركته لنا آثار الشرق القديم الأُخرى باعتدالها فيما يخصّ القوى الشرّيرة التي تهاجم الانسان. فإنسان التوراة الذي يواجه الشرّ والألم والشدائد، يعطي شخصيّة لقوى يُفترض إنّها سببُ شقائه. هذا ما نقوله مثلاً، عن الكائنات المشعَّرة وسائر الخلائق الكريهة التي يحدّثنا عنها أشعيا (13: 21؛ 34: 14) والتي هي تجسيدٌ للشيطان. فعزرائيل الذي كان في البدء إله القطعان لدى الساميّين، أُحدر إلى مستوى روح شرّير (لا 16: 18). ويلمِّح سفر أشعيا (34: 14) أيضاً إلى شيطان لَيلّي يُسمّى ليليت (المرتبط بالليل) القريب من "العلقة" (أم 30: 15). ويذكر تث 32: 17 ومز 106: 37 "شدِيْم" (راجع في العربيّة: السدّ أو الحاجز) أي الأبالسة. ثمّ نجد ثلاثة نصوص دُوِّنت بعد المنفى، وهي تلمّح إلى الشيطان أو تضعه أمامنا (زك 3: 1؛ أي 1- 2؛ 1 أخ 21: 1). ولكن الشيطان يبدو هنا، كخادم يأتمر بأمر الله، لا كخصم لله. وأخيراً هناك الحيّة السرّيّة التي حملت التجربة إلى جنّة عدن.
أمّا العهد الجديد فيبدو صراعاً بين المسيح والشيطان الذي هو خصمه الشخصيّ. فتجسُّد المسيح (يرافق هذا التجسّد حضور ملائكة، لو 1: 26؛ 2: 9) يرافقه حضور آخر هو حضور شرّير. فعمل يسوع الرسولي يبدأ بتجربته في البرّيّة على يد الشيطان. ثمّ إنّ يسوع يطرد الشياطين فيدلّ على سيادته على كلّ الخلائق وعلى يقينه بأن يوصل مخطّط خلاص الله إلى الهدف. هاجم يسوع خصمه في عقر داره. ويوم سلّمه الموت ظاهريّاً إلى قبضة الشيطان، دلّت القيامة على انتصاره الباهر.
1- الشيطان في العهد القديم
أ- القوى السماويّة
لا شكّ في أنّ شخصيّة الشيطان حاضرة في التوراة، وهو يلعب لا دوراً واحداً، بل أدواراً عديدة. والخبر الشعبيّ الذجمما نجده في مقدّمة سفر أيُّوب (1: 6- 12؛ 2: 1- 7) هو أقدم نصّ تدلّ فيه مفردة الشيطان (مع أل التعريف) على كائن علويّ له وجه خاصّ به.
ولكنّ التوراة لم تهتمّ بأصل هذا الكائن، ولم تميّزه عن مجموعات الكائنات السماويّة التي تكوّن بلاط يهوه (أو الربّ). عرف الكتاب المقدّس كائنات سماويّة يسمّيها "أبناء الله" (أي كائنات تنتمي إلى العالم الروحي، أي 1: 6؛ 2: 1؛ 38: 7) أو "أبناء العليّ" (مز 82: 6). وهو يصفها بالقويّة (مز 78: 25) والرفيعة (أي 21: 22) والمقتدرة (مز 103: 20؛ يو 4: 11). أمّا المفردة التي تدلّ على هذه الكائنات فهي: ملاك (راجع في العربية: الملاك أو الرسول. الأكه: أبلغه)، والملاك هو الرسول. غير أنّ الكاتب الملهَم لا يقدّم أيّة نظريّة عن طبيعة الملائكة، فيهتمّ فقط بوظيفتهم. واسمهم (المرسال أو الرسول) يدلّ على أنّهم تابعون للربّ وأدنى منه مرتبة. ولن نجد نصّاً كتابياً واحداً يعلّمنا كيف خُلقوا ومتى خُلقوا.
تبدو الملائكة كائناتٍ تاقف في الوسط. إنّهم يؤمِّنون الاتّصال بين تسامي الله اللامحدود وعمله الملازم للبشر. فكلّ أحداث تاريخ بني إسرائيل ترافقها أو توجّهها يد ملاكٍ أرسله الله: في عبور البحر الأحمر (خر 14: 19)، وخلال التجوال في البرّية (خر 23: 20؛ عد 20: 16)، وفي محاربة الأعداء (2 مل 19: 35). الملاك يحرس خادم ابراهيم (تك 24: 7)، ويرافق يعقوب (تك 43: 16)، ويُوقف بلعام (عدد 22: 22)، وينقل، مرّات عديدة، رسالة من قبل الله (تك 16: 7- 11؛ 22: 11؛ قض 2: 1- 4؛ 2 مل 1: 3- 15). الملاك يمثّل الربّ الذي يكشف عن نفسه ويتدخّل من أجل شعبه أو عبيده الأمناء.
ب- القوى الشرّيرة
ولكنّ شعب الله عرف أيضاً الضربات والموت والبغض. فمن يحمل إليهم هذه الضربات؟ ملاك أرسله الله الخالق أم قوّة شرّيرة معادية؟ هناك تعابير عديدة تبرز قلق الانسان أمام المصائب المتدافعة: "بابل فخر الممالك... لن تسكن ولن يُقيم فيها إنسان... وحوش القفر تربض فيها، واليوم يملأ البيوت، وبنات النعام تأوي هناك، والأشاعر (كائنات ذات شعر كالمعز) يرقصون. الضباع تتنادى في قصورها، وبنات آوى في هياكلها الفخمة" (أش 13: 19- 23؛ 23: 13؛ صف 2: 14). كلّ هذا يشير إلى الحزن والنجاسة والخطيئة والموت. أمّا مز 91 فيحثّ المؤمن الذي يحميه الله أن لا يرتعد "من هول الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من وباء يسري في الدجى، ولا من طاعون يسيطر في الظهيرة" (آ 5- 6).
في القرن الثالث قبل الميلاد، يوم نقل اليهود كتبهم المقدّسة إلى اليونانيّة، سمّوا الأصنام والآلهة الوثنيّة والمصائب والحيوانات المخيفة، سمّوا كلّ هذا "شيطاناً". ويوم أخد الكتّاب يؤكّدون على تسامي الله وكماله، قالوا بوجود كائنات تتوسّط الله القدّوس والعالم الأرضي، قالوا بوجود كائنات شرّيرة هي سبب كلّ شرّ مادّي وأدبي والكون، فتأثّروا بثنائيّة الفرس (إله الشرّ وإله الخير). ولكنّهم ظلّوا يقولون إنّ الشيّاطين تخضع لله في وجودها وفي عملها.
أمّا البسطاء الذين "أَحسّوا" بسلطة الشيّاطين، فاستسلموا إلى السحر والعرافة ومناجاة الأرواح واستحضار الموتى. هذا ما فعله شاول الملك مع امرأة تُقيم في عين دور (1 صم 28: 7). وقد احتفظت طقوس يوم كيبور (أو يوم التكفير) باسم شيطان (عزرائيل) حاكم البريّة ومرتبط بالخطيئة (لا 16: 9). وإنّ طوبيا طرد الشيطان اسموداوس حين أحرق قلب السمكة وكبدها، كما كان يفعل الآشوريّون والبابليّون. ولكنّ الشريعة ستمنع مثل هذه الممارسات (لا 19: 31؛ 20: 27؛ تث 18: 10- 11). وسيتّخذ الملوك إجراءات صارمة ضدّ هذه الممارسات (1 صم 28: 9؛ 2 مل 23: 24)، كما أنّ الأنبياء سيحتجّون على هذه الأعمال (أش 8: 19) باسم الله الواحد والقدير.
لم تتساءل التوراة عن أصل الشيّاطين، كما لم تتساءل عن أصل الملائكة. لا تقول لنا لماذا سقطوا وكيف سقطوا. وقد قيل انّه طلب منهم أن يختاروا أن يكونوا مع الله أو ضدّ الله، فاختاروا مقاومة الله. وانّ بولس ينصح تيموتاوس بأن لا يقبل المعمّد الجديد في الاسقفيّة "لئلاّ ينتفخ كبراً فيقع في نفس الحكم الذي وقع فيه ابليس" (1 تم 3: 6). إذن، هو ينسب إلى الكبرياء سقوط إبليس. رضي بذاته ولم يطلب سعادته في الربّ، فأغرقه تعجرفه في الكذب، على حدّ قول يسوع: إنّ الشيطان "لم يثبت في الحقّ" (يو 8: 44). وإذا عدنا إلى رسالة يهوذا (6- 10) نرى ان الغنوصيّين (جماعة تحتقر المادة وترفض سرّ التجسّد) والخطأة (أهل سدوم وعمورة) يعكسون ثورة الملائكة الساقطين الذين غاصوا في أعماق الظلمة ونالوا العقاب النهائي. ثار هؤلاء "الملائكة" ليحافظوا على حقوق الخلائق الروحيّة، ثاروا حين علموا إلى أيّ مجد سيرفع الله الانسان. ويقول القدّيس بولس (أف 3: 9- 10؛ 1 كور 2: 7- 8) إنّ سرّ التجسّد "بقي خفّياً" ولم يكشفَ للكائنات العلوية الاّ "الآن". ومنذ الآن يتجوّل الملائكة العاصون وينشرون جوّاً من العصيان حول البشر (أف 2: 2؛ 6: 12). كان إبليس "قاتلاً منذ البدء" (يو 8: 44). فدخل في تاريخ البشريّة ليجرّ البشر إلى الدمار.
ج- الحيّة في جنّة عدن
وتدخّلت الحيّة في جنّة عدن، فكانت خطيئة آدم وحوّاء. نحن هنا أمام خبر نموذجي يكشف عن ضغط خارجي نسمّيه الشيطان.
ما أراد خبر البدايات (تك 1- 3) أن يبيّنه، هو وضع الانسان أمام الله. طُرح السؤال: "مَنْ هو الانسان" (مز 8: 5)؟ فقدّمت التوراة جوابين متعارضين. من جهة، شدّدت على ضعف الانسان: إنه سريع العطب، إنّه نسمة وظلّ يمضي (أش 2: 22؛ 7: 17). هذا ما قاله التقليد اليهوهي حين تمثَّل الانسان خارجاً من التراب وعائداً إلى التراب (تك 2: 7؛ 3: 19). ومن جهة ثانية، شدّدت على عظمة الانسان (مز 8: 5- 9). نحن هنا قريبون من التقليد الكهنوتي الذي بيّن أنّ الانسان مخلوق على صورة الله ومثاله، وأنّه يتسلّط على سمك البحر وطير السماء، وكلّ ما يدبّ على الأرض (تك 1: 26).
نحن نضع تجربة الانسان بواسطة الحيّة، بين هاتين النظرتين إلى الانسان. أجل، قَلَبَ الانسان بعصيانه الوَضْعَ المميّز الذي كان له في الفردوس. كان متوّجاً بالمجد والعظمة، وكاد أن يكون مساوياً لله (مز 8: 6)، فصار كائناً للموت. صار خاطئاً وخسر سلطانه على العالم. ماذا حدث؟ قالت حوّاء: "الحيّة أغوتني" (تك 3: 13). لقد بدت الحيّة خصماً للانسان. إنّها أحيَل حيوان على الأرض، وهي تدلّ على إبليس المحتال.
د- الخصم
أجل، الشيطان هو الخصم. هو الذي يقف في عرض الطريق (كما يقول الاشتقاق القديم: شطن). الشيطان هو من يُبعد الانسان عن الحقّ، ويشدّه كما بحبل. وهو المفتري والمتّهم. هذا ما نجده أوّلاً في سفر أيّوب وكتاب الأخبار. يبدو الشيطان ذلك الذي يتّهم البشر أمام الله. ليس الشيطان خصم الله، بل هو ينقل إليه المعلومات عن خلائقه، ويختبر أمانتهم لله. لا شكّ في أنّ الشيطان خاضع لله، ولكنّه سيحمل إلى أيّوب كلّ الضربات الممكنة. أمّا في كتاب الأخبار، فسوف نرى الشيطان خصماً حقيقيّاً للربّ، ذلك الذي يدفع الناس إلى الخطيئة. صارت الكلمة اسم علم (من دون الـ التعريف). قال 2 صم 24: 1: "فأغرى الله بهم داود قائلاً: اذهب فأحصِ اسرائيل ويهوذا". أمّا 1 أخ 21: 1 فلم يذكر غضب الربّ، بل نسب إلى الشيطان الايحاء إلى داود بأن يحصي الشعب: "ووقف الشيطان ضدّ اسرائيل، فدفع داود لكي يحصي اسرائيل". وسيقول سفر الحكمة (2: 24) في الخطّ عينه: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، فيذوقه الذين هم من حزبه". حين يعارض الشيطان مخطط الله الخلاصيّ، يبدو ذلك الذي يحاول أن يدمّر العلاقة بين الله والبشر، وبصورة خاصّة بين الله وشعبه. هذا الذي قال: أَصعدُ إلى السماء، وأرفع عرشي فوق كواكب الله وأكون شبيهاً بالعليّ (أش 14: 12- 14)، ها هو قد سقط. وسيقول فيه يسوع: "رأيت الشيطان هابطاً من السماء كالبرق" (لو 10: 18). بدا الشيطان في العهد القديم بشكل حيّة، بشكل المرض والموت، ولكنّه ظلّ خفيّاً. ولكنّ العهد الجديد سيُظهر شروره بكلّ وضوح: إنّه الظلمة تجاه النور، إنّه ذلك الذي استعبد الانسان وستكون نهايته في النار والكبريت (رؤ 21: 8).
2- الشيطان في العهد الجديد
يصوّر لنا العهد الجديد مبدأين، أو بالأحرى مملكتين تتصارعان، فتحاول الواحدة أن تسيطر على الأخرى. سيبدو لنا المسيح كالأقوى. يرى "القويَّ المتسلِّح فيجرِّده من جميع سلاحه ويقسّم غنائمه" (لو 11: 21- 22). سيغلب الشيطان في حرب روحيّة. وينتج عن هزيمته تحرُّر البشريّة التي خضعت له. أجل، سيُنتزع الانسان من سلطان العدوّ حين يولد ولادة جديدة، وحين يحلّ فيه مبدأ حياة روحيّة يلغي المبدأ القديم. ولكن، لم يكن باستطاعتنا أن نكتشف الوجه الحقيقي للمعركة لولا مجيء النور. أمّا وقد جاء المسيح، فقد نزع القناع عن الشيطان وواجهه في عقر داره.
أ- تجربة يسوع في البرّية (لو 4: 1- 13)
إنّ التجربة في البرّية وضعت يسوع تجاه خصمه بطريقة شخصيّة. لن نجد تفصيلاً في الانجيل يساعدنا على رسم صورة دقيقة لهذا الوجه الذي "رآه" يسوع. غير أنّ حواره مع إبليس يكشف لنا العمل الحقيقيّ للشيطان في العالم. هنا، وفي المرّة الأولى من حياته كإنسان، وعى الكلمة المتجسّد وعياً كاملاً كلّ ما يعني "عالم مغموس كلّه في الشرّير أو الشرّ". وإذ أراد، وهو آدم الجديد، أن يحقّق ملكوته ويدخلنا إلى هذا الملكوت مطهّرين ومبرّرين، وجب عليه أن يمرّ بحرّيته في بوتقة المحنة. وفي الوقت عينه، أخذَ على عاتقه مسيرة شعبه الخارج من مصر، فكشف معنى هذه السنوات الأربعين من التجربة في البريّة.
التجربة هي هذا الانشداد الروحي الذي فيه يدعى كلّ إنسان لكي يعيش ويموت: نداءان متعارضان يدفعان في الوقت نفسه، قلبَ ذلك المجرّب إلى اتّخاذ قرار: انقسمت حوّاء بين وعد الله (تك 2: 16- 17) وإغواء الحيّة (3: 5). وإبراهيم بين العهد (تك 21: 12) والذبيحة المطلوبة (تك 22: 1 ي). وأيّوب بين الهه (أي 2: 10) والشيطان (2: 9، مع امرأة أيّوب). وداود بين نقاوة القلب (مز 51: 2) وضعفه (2 صم 11: 27). وإسرائيل بين محنة الايمان (مز 81: 8) وتذمّرات الكفر (خر 17: 1 ي). والمسيحي بين الآب والشرّير (مت 6: 13). إذاً، التجربة هي في الوقت عينه صالحة وشّريرة، لأنّنا فيها نحسُّ بالنداء إلى الإيمان وبالإيعاز بالخطيئة. على ضوء هذا الالتباس، يمتحننا الله وإبليس كلاهما. أن يمتحننا إبليس، هذا ما رأيناه في العهد القديم: عمله الإغواء وهدفه التدمير. ولكنّه ليس حرّاً كلّ الحريّة بتجريب البشر. حين يجرّب فهو يفعل دوماً بإذن وسماح من الله (أي 1- 2؛ 1 كور 10: 13؛ مت 4: 1). وحين يجرّب الله فهو يفعل بنيّة إيجابيّة: هو يريدنا أحراراً، هو يطلب منّا العبادة الحرّة. قال الربّ في تث 30: 15- 20: "وضعت أمامك الموت والحياة، وطلبت منك أن تختار الحياة". الله هو الذي يفحص الكلى والقلوب، أي العواطف والأفكار وأعماق الاقلوب، لكي يخرج منها النور الخفيّ في الانسان (مز 7: 10). ومهما كانت المحنة قاسية وصعبة، فهي تعمل دوماً، على تنقية المجرّبين وتقديسهم.
ولكن، إذا كنّا نفهم بسهولة بُعد التجربة في حياة إنسان عاديّ، فالواقع يحيرّنا حين نكون أمام المسيح. هذا ما لم يعوّدنا عليه التقليد اليهودي. فهناك تقليد من تقاليد المعلّمين يفسّر مز 36: 10 (في نورك نرى الربّ) في تعليق على أش 60: 1 (قومي أنيري أو استنيري فإنّ نورك قد وافى) على انّه يدلّ على بهاء المسيح. رآه الشيطان فارتمى ساجداً له. ثمّ جاءت الملائكة فرفعته على قمّة الهيكل لا ليجرَّب، بل ليعلن سلطانه الشامل وخضوع الوثنيّين له. ولكن ما رآه المعلّمون ظهوراً مسيحانيّاً، قد رفضه يسوع واعتبره إيحاء شيطانيّاً، وهو من سيقول لبطرس المحتجّ على آلام المسيح وموته: "اذهب خلفي، يا شيطان! أنت حاجز في دربي. ليست أفكارك أفكار الله، بل أفكار الناس" (مت 16: 23).
وغاص يسوع في البريّة، تلك الأرض المخيفة (تث 1: 19) والخَربة (حز 6: 14) والقاتلة (إر 2: 6)، وأرض تجربة الإيمان. لا يستطيع الانسان أن يعيش فيها، فهل يثق بنعمة الله، أم أنّه سيغضب ويفقد صبره فيفضّل العودة إلى مصر؟ إذا كان الله قاد شعبه إلى هناك، فليدلّ هذا الشعب، في شظف البريّة، على حقوق الله. واقتيد المسيح إلى البريّة وجُرِّب بدوره ليبرز الصراع الخفيّ بين الله والشيطان بشأن مستقبل البشريّة. فإذا بدا إبليس وكأنّه سيّد الأرض، وكأنّه في بيته في العالم، فالله الذي يمتلك وحده كلّ سلطان على العالم، أرسل ابنه ليستعيد هذه السيادة المطلقة: "ظهر ابن الله ليدمِّر إبليس" (1 يو 3: 8).
التجربة الأولى: عارضت فكرةُ المسيح فكرة المعلّمين الذين اعتبروا أنّ المسيح سيطعم الفتراء خبزاً (يو 6: 14). قال الناس بعد تكثير الخبز: هذا هو النبي الآتي إلى العالم. ولكن يسوع كشف القناع عن إبليس ورفض المعجزة. ما أراد أن يستند إلاّ إلى قوّة كلمة الله: "لا يحيا الانسان بالخبز فقط" (تث 8: 3). هذا هو أسلوب يسوع: لا وسائل العظمة بل وسائل الفقر.
والتجربة الثانية، حسب لوقا، وضعت الخصمين في قلب العالم. عرضَ الشيطان على المسيح أن يقيم التيوقراطيّة (أو حكم الله) المسيحانية، وبالتالي سلطانه، لأن كلّ سلطة لا تخصْ الله تعود إلى الشيطان. ولكن يسوع جاء يؤسّس مملكة الله في هذا العالم الذي استسلم لابليس بسبب تخلّي الانسان عين مسؤوليّاته. ولهذا فهو سيُتمّ يوماً بعد يوم مهمّته الخلاصيّة المتواضعة: "إنّ ملك العالم قد صار لربّنا ولمسيحه، فهو يملك إلى دهر الدهور" (رؤ 11: 15). ولقد رأى الشيطانَ هابطاً من السماء كالبرق (لو 10: 18).
والتجربة الثالثة ترتبط بتقليد يهودي يعتبر أنّ المسيح يظهر من أعلى الهيكل. وها هو الشيطان يُسرّ في أُذن يسوع: "إن كنت ابن الله". ولكن يسوع قد تجرّد عن طبيعته الالهيّة وصار بشراً حقّاً. أحسّ بتجربة شعبه في البريّة. تذمّروا فقالوا: "هل الله معنا أم لا" (خر 17: 7)؟ وانتصر يسوع على التجربة فرفض أن يمتحن أباه. قال للشيطان: "لا تجرّب الربّ إلهك" (تث 6: 16).
وهكذا بدا الشيطان بوضوح أنّه المضادّ للمسيح وخصم الملكوت (مت 13: 28، 39). إنّه الخبيث (راجع شطن في العربيّة) والشرّير الذي يجرّب المسيحيّين اليوم كما جرّب المسيح في المايهما. أما نصلّي إلى أبينا السماوي ونطلب منه أن يخلّصنا من تجربته وقبضته (مت 6: 12- 13)؟ ولكن هذا الشرّير لا يزال يزرع الزؤان في الكنيسة حتى نهاية العالم (مت 13: 38). وفي العشاء الأخير، لمّح المسيح إلى تسلّط الشيطان المتواصل على العالم (1 يو 5: 19: "العالم كلّه تحت سلطان الشرّير")، فأكّد بوضوح أن تلاميذه لا ينتمون إلى عالم الشيطان، وصلّى إلى أبيه ليحفظهم من الشرّير (يو 17: 14- 16).
ب- إخراج الشيّاطين في الأناجيل الإزائيّة
نحن نرى خلال حياة المسيح العامّة، مواجهة دراماتيكيّة بين الشيطان وعالم الخطيئة، وبين يسوع الذي جاء ليزيل خطيئة العالم. كان هناك رجل قويّ هو الشيطان، فجاء من هو أقوى منه (لو 12: 21- 22).
جاء ابن الله إلى عالم يسيطر عليه الشيطان المدجّج بالسلاح. فطرحه إلى الأرض، وانتزع منه سلاحه واستولى على خيراته. كانت الحرب قاسية في البريّة. ولكن، بعد أن أنهى الشيطان كلّ أنواع التجارب ابتعد إلى حين (لو 4: 13). أمّا مملكة الله فبدأت تظهر في شخص المسيح الذي استعمل قدرته تجاه "المتشيطنين" (أي الذين فيهم شيطان) فأعلن اختلال مملكة الشيطان. ما هي طبيعة سيطرة الشياطين هذه؟ لسنا أمام اضطرابات عصبية وهستيرية، بل أمام واقع تعرّف إليه المسيح. وهو يؤول إلى إظهار مجيء الملكوت ومجده.
خلال إقامة يسوع الأولى في كفرناحوم، النقى في المجمع، برجل امتلكه روح نجس. حرّر يسوع ذلك الرجل، فاشتهر في كل الجليل (مر 1: 32- 38؛ لو 4: 33- 37). وأعلنت أرواح نجسة أخرى أن يسوع هو ابن الله أي المسيح. ولكن يسوع أسكتها وأخرجها من الناس المعذّبين بها (مر 3: 12؛ يوحنّا 4: 41؛ مت 8: 29). واعتبر الكتبة أنّ يسوع يطرد الشيّاطين باسم بعل زبول. فأجاب يسوع أنّ الشيطان لا يعمل ضدّ نفسه ولا يدمّر مملكته (مر 3: 22- 26). وأعلنوا أن يسوع مسكون بروح نجس، فجدّفوا على الروح القدس واقترفوا خطيئة لا تغفَر (مر 3: 29- 30). إنّ يسوع يطرد الشيّاطين بروح الله، بإصبع الله. وممارسة هذا السلطان تبرهن أن ملكوت الله اقترب من البشر.
لا شكّ في أنّ قوة الظلمة هذه التي ردعها يسوع خلال حياته العامّة، قد تسلّطت عليه لحظة، في وقت آلامه، فاستطاع اليهود (معاونو الشيطان) أن يمسكوه ويقتلوه (لو 22: 53). ودخل الشيطان في يهوذا فخان سيّده (لو 22: 3؛ يو 13: 27). ولكن، حين انتصر يسوع بقيامته الانتصار النهائي على الشيطان والخطيئة، أعطى رسله السلطان بأن يطردوا الشيّاطين باسمه (مر 16: 17).
ج- الشيطان في إنجيل يوحنّا
أولاً: سلطان هدا العالم
جاء ملك أورشليم يطرد سلطان هذا العالم عن عرشه. وها إنّ ملكوت الله يحلّ محلّ ملكوت الشيطان. هذه الوجهة من رسالة يسوع تلقي ضوءاً على آلامه، على "ساعته": "لا تخافي يا صهيون، فها ملكك يأتي" (لو 12: 24). "ها إنّ سلطان هذا العالم يُطردُ خارجاً" (يو 12: 13). "العالم كلّه تحت سلطان الشرّير" (1 يو 5: 19).
إنّ السلطان الذي يدّعيه المجرّب على الكون كلّه (لو 4: 6)، يجد تعبيره في لقب "سلطان هذا العالم" الذي أقرّ به يسوع ليلة آلامه. ولكن، من أين للشيطان هذا السلطان؟ منذ البدء، آمن الانسان بالشيطان الذي أغواه وخان الربّ، وهكذا صار العالم تحت سلطان إبليس. هذا ما كان من آدم الأوّل. ولكنّ آدم الثاني سيستعيد المملكة وينال السلطان على كلّ الخلائق المنظورة وغير المنظورة.
ثانياً: أبو الكذب
أجل، هذا هو الدور الذي لعبه إبليس تجاه الله والبشر: إنّه أبو الكذب، كما قال عنه يسوع (يو 8: 44). وها نحن نشهد المواجهة من جديد، بين الحقيقة والكذب. الحقيقة هي الله. أمّا الشيطان فهو كذّاب ومنذ بداية الخليقة يحارب إله النور والحقّ. هو يكذب بكيانه وبكلّ توجّهات قلبه العميقة.
قال يسوع لليهود: "الحقّ الحقّ أقول لكم: أن كلّ مَن يعمل الخطيئة، هو عبد للخطيئة. أنا أعلم أنّكم ذريّة ابراهيم، ولكنّكم تطلبون قتلي، لأنّ كلامي لا ينفذ فيكم. أنا أتكلّم بما رأيت عند أبي، وأنتم أيضاً تعملون بما سمعتم عند أبيكم". فأجابوه: "إنّ أبانا إبراهيم". قال لهم يسوع: "إن كنتم أبناء ابراهيم فاعملوا أعمال ابراهيم. ولكنّكم الآن تطلبون قتلي... إنّ أباكم هو إبليس، ورغبات أبيكم تبتغون أن تحقّقوا. إنّه من البدء قاتل الناس، ولم يثبت على الحقّ، لأن لا حقّ فيه. فإذا ما نطق بالكذب فإنّما يتكلّم بما عنده، لأنّه كذّاب وأبو الكذب" (يو 8: 34- 44).
كذبَ الشيطان على نفسه، وكذبَ على حوّاء. ولقد جعل النصّ السامري كلمة "كذّاب" محل "حيّة": قال الكذّاب للمرأة (تك 3: 4). ثمّ إنّ كذب الانسان يقوم بأن لا يقبل الله، بأن يستقلّ عنه، بأن يقتدي بالشيطان "القاتل" الذي يذبح ضحيّته. حين يقول يسوع: "أنا أقول الحقّ"، فهذا لا يعني فقط أنّ كلماته توافق الواقع، بل إنّها تدلّ على الله نفسه، بل هي الحدث الذي فيه يقترب الله من الانسان ليكشف له كذبه. والفرّيسيّون الذين يعارضون الكلمة (يسوع) يدلّون على انّهم "أبناء الشرّير"، "أبناء جهنّم". أمّا الكلمة فهو حامل سلطة الله، وأبناء الآب هم اخوته (عب 2: 10- 18)، وهو بالنسبة إليهم الرأس والمبدأ. أمّا الشيطان فهو يمارس دوره تطاولاً واغتصاباً. والذين يرتبطون بمملكة الشيطان يقيمون معه علاقة شبيهة بعلاقتنا بالله أبينا: "من اقترف الخطيئة كان من الشيطان" (1 يو 3: 8). ويقابل يوحنا بين أبناء الله وأبناء إبليس (1 يو 3: 10). أبناء الله وُلدوا من الله ويحملون في ذواتهم زرع الله" (1 يو 3: 9). ولكن إذا كنّا من الله، "فالعالم هو تحت سلطان الشرّير" (1 يو 5: 19).
لن نتوقّف عند ما قاله يوحنا حول سلطان هذا الزمن الحاضر (رج أف 2: 1- 2)، ولا عند مصير الشيطان كما يصوّره سفر الرؤيا: "أنّ المؤمنين غلبوه بدم الحمل، وبكلمة شهادتهم" (رؤ 12: 11)، بانتظار أن يطرَد خارجاً (يو 12: 31). ولقد قال عنه سفر الرؤيا أيضاً (20: 9- 10): "وأمّا إبليس الذي أضلّ المؤمنين، فطُرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبيّ الكذّاب. هناك يعذّبون نهاراً وليلاً إلى دهر الدهور".
خاتمة
رافقنا الكتب المقدّسة وهي تتكلّم عن الشيطان، ولكنّنا اكتشفنا حبّ الله عبر التاريخ. نحن هنا في وجهة من وجهات السرّ الفصحي في الكنيسة، ونحن نشاهد معارضة الشرّير لله. قد يكون الشرّ أنهى كلّ محاولاته، ولكن الله يختار له بقيّة يقودها من الظلمة إلى النور. وما زال الشرّ، ولا يزال لفترة طويلة، ممزوجاً بالخير (مت 13: 30). ولكنّ الكنيسة المجاهدة تشاهد في الأفق، مجيء يسوع والقيامة والدينونة، وتنتظر الوقت الذي فيه لن يترك يسوع أسلاباً في يد العدوّ. "حينذاك، وبعد أن يكون قد أخضع له كلّ شيء، يُخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء ليكون الله كلاًّ في الكلّ" (1 كور 15: 28).