الفصل الثالث والعشرون
وجوه نسائية في الكتاب المقدس
حين نتطلّع إلى محيطنا نرى أن الرجل هو الذي يسيطر وأن المرأة تكاد تكون ضائعة. غير أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يقدم لنا وجوهاً نسائية تدلّ على دور المرأة في أوقات عصيبة من تاريخ شعبها، في حياة شعبها. لن نستطيع أن نرسم وجه كل امرأة يحدّثنا عنها الكتاب المقدس. والمرأة بما هي أم لها دور في العائلة، وبما أنها سيدة لها دور في المجتمع، وبما أنها مواطنة لها دور في الوطن. سنرسم فقط بعض الوجوه. نقرأها في الماضي ونحاول أن نفهمها اليوم فلا تبقى المرأة تلك القاصرة التي يفرض عليها كل شيء ولا يحقّ لها أن تنير دربها بما حباها الله من عقل وحكمة ورزانة، وبالتالي لا يحقّ لي إلاّ بدور مجتزىء في المجتمع.
1- في العهد القديم
نبدأ مسيرتنا في العهد القديم. نتعرّف أولاً إلى دبورة، ثم إلى حكيمة أولى خلَّصت السلالة الملكية من الضياع، وحكيمة أخرى خلَّصت المدينة من الخراب.
أ- دبورة النبية
يروي سفر القضاة (4: 4؛ 5: 31) أن الحالة كانت سيّئة في البلاد، والخطر على الحدود. فلا بدّ من "رجل يقضي" في (يهتمّ بأمور) الناس ويخلّصهم من العدو الذي يضايقهم. فإذا نحن أمام امرأة إسمها دبورة، ومعنى اسمها النحلة، وقد عرفت بنشاطها فجعلت البلاد تستريح بعدها أربعين سنة أي فترة كبيرة من الزمن (5: 31).
يذكر الكتاب المقدس زوجها. إسمه لفيدوت، ولا يعطيه أي دور ولا يقول شيئاً عن أولادها. ما أراد أن يشدّد على دور الأمومة، بل على دور القوّة المعنويّة التي تمتّعت بها هذه المرأة، فخطّطت ونفّذت وشجّعت فكان النصر لشعبها.
كانت دبورة نبيّة على مثالة مريم أخت هارون وموسى (خر 15: 20). والنبي هو الذي يرى الأمور بعين الله. هو الذي يتكلم باسم الله. هو الذي يثق بالربّ ويسير في الطريق الذي يلهمه دوذ أن يخاف الصعاب وحتى الموت. بحسّها النبوي خلَّصت دبورة شعبها فأصبحت بين القضاة الإثني عشر الذين خلَّصوا شعبهم في ضيق من الضيقات، مع جدعون ويفتاح وشمشون وصموئيل. قال عنها الكتاب: "كانت تجلس تحت نخلة تقع بين الرامة وبيت إيل في جبل افرايم. وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم" وتنظّم أمورهم. وقد اشتهرت هذه النخلة باسم هذه المرأة المقتدرة التي فرضت على الناس احترام أحكامها.
أما دورها كنبيّة، فلعبته خلال الحرب على بلادها. ولهذا ستسمى في النشيد أم شعبها (5: 7). دعت رجلاً إسمه باراق وقالت له: "الربّ أمرك فاذهب إلى جبل طابور". سمعت كلام الربّ وأوصلته إلى من يجب أن يسمعه. ولكن باراق بدا خائفاً وغير واثق بنفسه فقال لها: "إذا ذهبت معي أذهب". فقالت له: "أذهب معك". تقوّت بقوّة الربّ فما عادت تخاف الموت. سارت في المقدّمة مع القوّاد في قبيلتها (5: 15)، لا في المؤخّرة كما اعتادت النسوة أن تفعل.
إمرأة لا تخاف، ولكنها تعرف الوداعة والخفر فلا تفرض نفسها. لم تكن قائداً حربياً، ولكنها كانت الوسيط بين الله وشعبها من أجل إقامة سلطة شرعيّة.
دبورة هي امرأة تتمتّع ببُعد نظر وتعيش الفضيلة. وهذا ما ساعدها على أن تلعب الدور الذي لعبته، فصارت قريبة جداً من يهوديت التي عرفت الاتكال على الله ساعة خاف الجميع وقرروا الإستسلام إن لم يساعدهم الله بعد خمسة أيام. وجاءت المساعدة من الله لا بصورة مباشرة بل بيد إمرأة أرملة.
يوم كانت الفوضى تعمّ المجتمع، تدخلت امرأة اسمها دبورة. يقول سفر القضاة (21: 25): "في تلك الأيام لم يكن ملك لبني إسرائيل، وكان كل منهم يعمل على هواه". أجل إن مجتمعنا يعرف الضياع والفوضى وهو يحتاج إلى قوّاد. والله يختار ذلك الذي يريد أن يختاره، ولا شيء يمكن أن يحدَّ اختياره. روح الربّ يحل على الشباب وعلى الكهول، على الرجال والنساء، فيجعل منهم قواداً روحيين يقودون الشعب إلى ملء الحياة. هذا ما فعله في دبورة النبية التي احتفظ شعبها بذكراها جيلاً بعد جيل.
ب- المرأة الحكيمة
عرفنا لدى دبورة صفة النبوءة. تعلّمت مع الله بُعد النظر والشجاعة، فحكمت في شعبها وأحبّ الشعب حكمها. والآن سوف نتوقّف عند المرأة الحكيمة. وأمامنا مثلان نقرأهما في سفر صموئيل الثاني. لا نعرف عن الأولى إلاّ اسم بلدتها تقوع (تقع جنوب أورشليم). أما الثانية فلا نعرف عنها إلاّ أنها خلّصت مدينتها من الدمار. ولكن المرأتين اشتهرتا بحكمتهما.
أولاً: إمرأة تقوع
كانت الحالة صعبة في البلاد بعد أن ذهب ابشالوم، ابن داود الملك، إلى المنفى، وظل هناك ثلاث سنوات. ما السبيل لإخراج البلاد من المأزق؟ تطلَّع يوآب قائد الجيش إلى امرأة حكيمة فوجدها في تقوع (1 صم الثاني 14: 1- 7).
"جاء يوآب بامرأة حكيمة وقال لها: تظاهري بالحزن، والبسي ثياب الحداد ولا تتزيّني، بل كوني كامرأة تنوح من أيام عديدة على ميت، وروحي إلى الملك وكلّميه". فذهبت إلى الملك وأعطته مثلاً جعله يعود إلى رشده. قالت: "كان لي يا سيدي ابنان تشاجرا في البرية ولم يكن من يفصل بينهما، فضرب أحدهما الآخر فقتله. فهجم جميع العشيرة عليّ وقالوا: سلّمي إلينا قاتل أخيه لنقتله انتقاماً له". فقال لها الملك: "عودي إلى بيتك وأنا أقوم بالمطلوب. وإذا تهدّدك أحد فجيئيني به. لا تسقط شعرة من رأس ابنك".
حنيئذ دخلت المرأة في الموضوع فقالت: "دعني أقول شيئاً آخر". قال الملك: "تكلّمي". فقالت المرأة بعد أن شعرت أن قلب الملك انفتح ولم يعد مغلقاً: "لماذا نويت شراً على شعب الله. فأنت بما حكمت لي أيها الملك حكمت على نفسك، لأنك لا ترد ابنك الذي أرسلته إلى المنفى. فالله لا يريد أن يقضي على حياة أحد. ولا هو يريد أن يظلّ منفيٌّ بعيداً عنه (أي عن أورشليم حيث يقيم الله) في منفاه".
ورأت المرأة في حكمتها أنها تمادت في الحديث، وأنها تجرّأت وقالت للملك أكثر مما يجب أن تقول. فعادت واختبأت وراء مثلها: "الشعب هدّدني فقلت في نفسي: أكلم الملك لعله يساعدني. فالملك يسمع لي وينقذني من يد الرجل الذي يريد أن يزيلني أنا وابني من البلاد".
وكان لامرأة تقوع ما أرادت. دعا الملك يوآب قائد جيشه وقال له: "إذهب وردّ الفتى ابشالوم".
رد ناتان النبيّ داود عن غيّة حين قتل أوريا الحثي وأخذ له امرأته (1 صم الثاني 12)، فأورد له مثل رجل غني اغتصب نعجة رجل فقير. وانتهى بالقول للملك: أنت هو الرجل. وهكذا فعلت امرأة تقوع حين روت للملك ما روت. إنطلقت من وضع الأرملة التي لها اعتبار كبير في شريعة الله، وأثارت شريعة الثأر وما فيها من دمار للبلاد والمجتمع، فدفعت الملك إلى العفو بدل القتل.
ولكن هذه المرأة لم تكن حرّة. فقد كانت أداة في يد يوآب. غير أنها سيطرت على الموقف منذ دخلت إلى القصر ووصلت بالملك إلى أن يعيد الأمل إلى المملكة. لعبت دور الأم التي فقدت ابنها. فصارت أماً لشعبها بفضل هذا الدور الذي قامت به. قال لها الملك: "عودي إلى بيتك وأنا أقوم بالمطلوب". وفي الواقع كان لها ما أرادت. أو بالأحرى ما أراده يوآب.
ثانياً: في مدينة آبل
ونعود من جنوب البلاد إلى شماله لنكتشف في آبل (مدينة تبعد 40 كلم إلى الشمال من بحيرة جناشر أو طبرية) "إمرأة حكيمة" ستخلّص المدينة، ساعة ضاع الجميع وما عرفوا كيف يتصرّفون (2 صم 20: 14- 22).
ثار على الملك شخص من بنيامين إسمه شبع بن بكري. لاحقه يوآب رئيس الجيش، فلجأ إلى آبل. فحاصر يوآب المدينة، ورفع تلاً حول السور وأخذ يعمل على هدمها بواسطة جنوده.
وجد سكان المدينة امرأة تمثّلهم وتبعد الشر عنهم. لا شكّ في أنها كانت تتمتّع باحترام الجميع. ونجاحُها لدى يوآب يدلّ على أن قائد الجيش اعترف بمركزها، وإلاّ لما كان حادثها أو قبِل أن يلتقيها.
نحن هنا أمام نظرة إلى الحكمة التي هي نظرة إنسانية إلى الحياة: فلسفة تعلّمنا التعامل مع الواقع، بحث عن الأسباب ومحاولة وضع حدّ لفوضى يعيشها المجتمع. هذا ما أحست به امرأة آبل. أحبّت مدينتها التي هي "أم المدن"، ورفضت عمليّة التلف والهدم. فالله هو إله غرس وبناء، فكيف نقلع ونتلف، كيف نهدم ما بناه آباؤنا؟
تصرّفت المرأة بحكمة مع يوآب، فأقنعته بالتوقّف عن عمل الهدم. ولما عرفت طلبه وعدته خيراً. عادت إلى أهل المدينة، أو بالاحرى إلى الشيوخ فيها. وتصرّفت بحكمة. سمعوا لها فاقتنعوا. سلّموا رأس شبع بن بكري إلى يوآب، فنفخ في البوق فارتد رجاله عن المدينة وذهبوا إلى بيوتهم. وهكذا نجت المدينة بفضل هذه المرأة الحكيمة.
امرأتان حكيمتان قلقتا على مصير شعبيهما فاستعملتا الإقناع وسيلة. لا القوّة والعنف. والقوّة لا يصدر عنها إلاّ الحقد. أبرزت امرأة تقوع الحاجة إلى العفو والغفران. وشدّدت الثانية على الحكمة التي اشتهرت بها مدينة آبل. عرفت الأولى أن حياة الشعب أهمّ من شرف الملك. وعرفت الثانية أن خلاص المدينة يرتبط بإزالة متمرّد حمل الشر معه إلى الجماعة كلها. وعملتا على ضوء الإيمان وفي إطار مخافة الله. فقد قال الكتاب: "رأس الحكمة مخافة الله".
2- في العهد الجديد
قد نستطيع أن نعود إلى الانجيل فنتذكّر اليصابات أم يوحنا المعمدان أو حنة النبية، أو مريم المرأة الأولى بين النساء، ولكننا نتوجّه بالاحرى إلى تاريخ الكنيسة الأولى، فنتعرّف إلى دور فيبة الشماسة في رومة، وليدية في مدينة فيلبي (اليونان).
أ- فيبة الشماسة
الشماس هو الخادم الذي يرافق الأسقف في الأعمال الليتورجيّة وفي واجبات المحبّة. هو الذي يقود الموعوظين إلى العماد، يقرأ الانجيل ويعظ، يقدّم مساعدات الكنيسة للمحتاجين. وكما كان شماسون من الذكور، كانت هناك شماسات من النساء. أما هدف حياتهم جميعاً فهو الخدمة في كنيسة الربّ.
وتحدثنا الرسالة إلى رومه (16: 1- 2) عن فيبة حيث يقول بولس: "أوصيكم باختنا فيبة، خادمة (شماسة) كنيسة كنخرية. تقبّلوها في الربّ قبولاً يليق بالاخوة القديسين، وساعدوها في كل ما تحتاج إليه منكم، لأنها أسعفت كثيراً من الاخوة وأسعفتني أنا أيضاً".
كنخرية هي المرفأ الشرقي في كورنتوس. منه انطلق بولس إلى أنطاكية بعد الرحلة الرسولية الثانية (أع 18: 18). القدّيسون هم المكرّسون لله، هم الذين دعاهم الربّ وسلّم إليهم رسالة. هم المسيحيون، هم الذين تفرض عليهم دعوتهم أن يعيشوا حياة القداسة.
يقول بولس عن فيبة إنها أسعفت القديسين وأسعفته هو. الكلمة اليونانية تعني من يدافع عن الغرباء المحرومين من حقوقهم في المدينة التي يقيمون فيها. وهكذا كانت فيبة صاحبة مقام رفيع، فتدخلّت من أجل المسيحيين، لهذا استحقّت شكر بولس، واستحقّت كل مساعدة. طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون. الله بنفسه يرحمهم ويرسل إليهم من يعاملهم بالرحمة والمحبّة. أجل كانت فيبة شماسة في كنيسة كنخرية، ولعبت دوراً في الكنيسة الأولى. وها هو بولس يحمِّلها رسالة توضية لكي يتم إستقبالها كما لو أنها عضوة في كنيسة رومة. لها خبرتها في عمل الرسالة والاهتمام بالقديسين. فعلى الجماعة في رومة أن تستفيد من هذه الخبرة وتعرف أن فيبة ليست جديدة ومتجدّدة، ليست متطفّلة على ما ستقوم به من عمل. فيبة هي من هذا المجتمع الروماني حيث تتوزع النساء إلى ثلاث فئات: المرأة الحرّة، المرأة الغريبة، المرأة العبدة أو الأمة. على الأولى أن تؤمِّن لزوجها "ولي العهد" أي الذكر الذي يرث إسم الزوج وأملاكه. أما الغريبة فتقوم بأعمال قد تصل بها إلى العمل على المسارح أو ربما البغاء. أما العبدة فهي آلة في يد سيدها أو سيدتها.
وهكذا ارتبطت النساء ارتباطاً وثيقاً ببنى المجتمع الذي فيه يعشن. أما فيبة التي لا تبدو مرتبطة بزواج والتي تسافر بين مناطق الإمبراطورية، فقد يتساءل أفراد الجماعة في رومة عن وضعها. فكتب إليهم بولس يدعوهم إلى استقبالها ومدّ يد المساعدة لها فتكون عضوة كاملة في الكنيسة.
أجل، خرجت فيبة من إطار محدّد للمرأة. ففي المسيحية لا رجل ولا امرأة، لا عبد ولا حر. كلنا واحد في المسيح. كلنا أبناء الله الواحد. وللمرأة حقوق في الكنيسة كما للرجل. وعليها وما على الرجل من واجبات في الكنيسة. وكلّ ذلك من أجل بناء جسد المسيح.
حين نعود إلى روم 16، نجد أن بولس يرسل سلامات إلى معارفه، إلى معاونيه في عمل الرسالة. ذكر برسكلة وآكيلا، هذين الزوجين اللذين تعرّف إليهما في كورنثوس (أع 18: 2). عاونا بولس، عملا معه عمل الرسالة المسيحية. ذكر اندرونيكس ويونيا اللذين يعملان عمل الربّ بالإضافة إلى الاهتمام بالبيت والعائلة. من يعمل أكثر؟ الرجل أو المرأة. هذا ما لا يقوله بولس. فهناك مواهب، وكل واحد يخدم كنيسة الربّ حسب المواهب التي أعطيت له دون تمييز بين الرجل أو المرأة، بين غنيّ وفقير، بين صغير وكبير.
لهذا نحن نفهم دور فيبة الشماسة، كدور سائر الشمامسة والشماسات (أي الخدّام) في الكنيسة. وهكذا قدمت المسيحيّة نظرة أخرى إلى العالم وأسلوباً آخر في الحياة يجعل المرأة والرجل يخرجان من الرتابة، من الأكل والشرب وعبودية الحياة اليومية، ليعملا من أجل الاخوة في العالم، ليبشّرا بملكوت الله.
ب- ليدية تقدم بيتها
ووصل بولس إلى فيلبي وهي أكبر مدينة في ولاية مكدونية (أع 16: 11- 15). اعتاد أن يذهب إلى المجمع اليهودي في المدينة وهناك يحدّث الناس. ولكن لا مجمع في فيلبي. لهذا انضم بولس إلى بعض النساء المجتمعات قرب النهر. وبدأ الحديث عن الانجيل. وتميّزت إحدى النساء بالسماع. هي ليدية. ليست من فيلبي، بل من ثياتيرة، مدينة الارجوان في آسية الصغرى (أي تركيا الحالية).
على الصعيد الاجتماعي، كانت ليدية تاجرة من التجّار الكبار الذين تسمح لهم تجارتهم بأن يسافروا من بلد إلى آخر. وعلى الصعيد الديني كانت من فئة الاتقياء المتعبدين لله. لم تكن يهودية، بل وثنية. ولكنها تأثرّت بتعليم التوراة ووصايا الله الواحد.
وستخطو ليدية خطوة أخرى، شأنها شأن عدد من الاتقياء المتعبدّين الذين جاؤوا من العالم الوثني. فكورنيليوس الضابط الروماني مثلاً، آمن باله اسرائيل، وتعلّق بمتطلبات الشريعة تجاه الله والقريب (أع 10: 2) قبل أن يعتمد ويصير مسيحياً هو وأهل بيته. لقد قدم هذا المحيط الديني عدداً من الناس فصاروا أعضاء في الجماعة المسيحية. وهكذا فتح الله قلب ليدية، فأصغت وفهمت واقتنعت بالكلام الذي يقوله بولس وفعلت كما فعل كورنيليوس (أع 10: 48): "تعمدت هي وأهل بيتها".
ولكن لا مكان في فيلبي للاجتماع والصلاة والعبادة. قدّم كورنيليوس بيته فصار كنيسة وموضع لقاء المسيحيين في قيصرية الساحلية (على شاطىء البحر). وهكذا عملت ليدية. قدّمت بيتها، بل ألحّت على بولس ورفاقه ليكون بيتها أول كنيسة في فيلبي بل في أوروبا بأكملها. تبدو ليدية إمرأة معروفة، بل تبدو هي ربّة البيت. قد تكون أرملة، أو يكون هناك سبب آخر. فوضعها الاقتصادي أعطاها درجة من الحرية على المستوى الشخصي كما على مستوى التنقّل من مكان إن آخر، لم تصل إليه نساء من مستوى أدنى. "فرضت" نفسها على بولس ورفاقه، فدلت على تأثيرها على المدينة وعلى الكنيسة. هذه المرأة كانت حقاً رائدة في جماعة فيلبي المحليّة.
إذا عدنا إلى أعمال الرسل بل إلى إنجيل لوقا، نرى أن الكاتب يقدّم صورة عن المرأة تتحدّى دورها كأنثى في المجتمع الروماني. لا شك في أن هناك نساء رومانيات أمسكن بيوتهن وأدرن أعمالاً تجارية، إلاّ أن عدداً صغيراً منهن أخذ على عاتقه موقفاً قيادياً في المجتمع. تبدو ليدية مشتغلة في عملها التجاري، كما تبدو أنها تدير بيتها بحيث تعمّد الجميع من أبناء وبنات وخدم بمجرد أن تعمّدت هي. ولكن دورها كمسيحية يوافق موافقة تامة صورة المرأة التي تقدم بيتها مع كل مساعدة من أجل الرسالة. أما هكذا كان وضع النساء اللواتي تبعن يسوع؟ كانت مريم المجدلية، وحنة امرأة خوزي وكيل هيرودس، وسوسن وغيرهن يساعدن يسوع والرسل (الجماعة المسيحية الأولى) بأموالهن (لو 8: 1- 3).
إن وجود نسوة بقرب يسوع أمر يشهد له سائر الإنجيليين (مر 15: 41). قد قال مت 27: 55- 56 إنهن "تبعن يسوع من الجليل. كن يخدمنه". وقد رافقنه حتى الصليب، بل سيعرفن خبرة القيامة. إن مثل هذا الوضع وهو وجود امرأة أو نساء في مثل هذا العمل الاجتماعي، كان شواذاً في مجتمع فلسطين، كما في بعض المحيطات المحافظة في العالم الروماني. ولكن يسوع حطّم مثل هذه القيود، وجعل المرأة تهتمّ بعمل الرسالة، شأنها شأن الرجل. أما أرسل النسوة يبشرن بقيامته يوم الأحد؟ "إذهبن وقلن لتلاميذي: هو يسبقكم إلى الجليل، وهناك ترونه كما قال لكم" (مر 16: 7).
ما حملته هذه النسوة من رسالة، قد حملته فيبة وليدية وبرسكلة ويونيا، وغيرهن عدد من النساء في الماضي واليوم وحتى نهاية العالم. وما قامت به المرأة المسيحيّة على مستوى شعبها، يجب أن تقوم به المرأة اليوم. يبقى على كل امرأد في مجتمعنا أن تعرف دورها كأم مع أولادها، كزوجة مع زوجها تتمتّع مثله بذات الحقوق والواجبات لأنها مثله على صورة الله. وعليها أيضاً أن لا تنسى دورها في المجتمع وفي الكنيسة. فما زالت المرأة لما تصل إلى المستوى الذي أعدّه الله لها، فسيبقى مجتمعنا متخلّفاً وكنيستنا جامدة لا حنان فيها ولا محبة.