الفصل التاسع
دم المسح يطهرنا
"أمّا المسيح، فقد جاء حَبراً للخيرات المستقبلة... فدخل المكان المقدّس مرَّة واحدة. لم يدخله بدم التيوس والعجول، بل بدمه، فكسب لنا فداء أبدياً. فإذا كان دم التيوس والثيران يقدِّس المنجسين، فما أولى دم المسيح الذي قرَّب نفسه إلى الله بروح أزلّي قرباناً لا عيب فيه..." (عب 9: 11- 14).
هذا هو موضوع كلامنا: تطهيرنا بدم المسيح. في التاريخ القديم ارتبطت الطهارة بالقداسة ثم تعمَّقت وتروحنت. ولكن مسألة تطهير البشر لن تجد الحلَّ النهائي لها، إلاّ في ذبيحة يسوع المسيح.
1- متطلبات الله القدوس
الربُّ هو وحدَه قدوس. فإذا أراد الناس ان يقتربوا منه وجب عليهم أن يكونوا قديسين. هذا ما قاله سفر اللاويين (19: 2): "كونوا قديسين لأنَّي أنا الربّ إلهكم قدوس". وقال أيضاً: "لأني أنا الربّ الذي هو إلهكم. تقدَّستم وصرتم قديسين، لأني أنا قدوس... أنا هو الربّ الذي أصعدكم من أرض مصر لأكون إلهكم. كونوا قدِّيسين، لأني أنا قدُّوس" (لا 11: 44- 54).
ولكننا، لا نطلب الطهارة فقط. فكيف نحصل على القداسة؟ هناك طقوس التطهير: غسل ثياب (لا 11: 35)، التوضّؤ، وغسل الجسد (لا 14: 8- 9)، رشّ الماء المطهر على الدنسين (لا 19: 17- 21)، الذبائح التكفيرية (لا 4- 5). غير أن كل هذه الوسائل بدت ضعيفة وبدون جدوى. قال صاحب الرسالة إلى العبرانيين: "هذه الذبائح هي عاجزة، فلا تقدر أن تمنح الكمال للذين يقتربون منها. إن دم الثيران والتيوس لا يستطيع أن يزيل الخطايا" (عب 10: 1- 4).
إذاً، لن يبقى إلاّ تطهير بالنعمة، سيقوم به الربّ في شعبه. هو يمنحه كعطيّة مجانيّة لا يستطيع الانسان أن يحصل عليها بقواه. هكذا تنقَّت شفتا أشعيا، فاستعدَّ للانطلاق إلى الرسالة. أجل، إن الله يقدر ان "يبيّض" الخطأة. قال في أش 1: 18: "لو كانت خطاياكم كالقرمز، تبيضُّ كالثلج، ولو كانت حمراءَ كالأرجوان، تصير بيضاء كالصوف". وسيحدِّثنا حزقيال عن المياه المطهرة التي لا تفعل إلاّ لأنَّ الله يفعل فيها. أجل، إن الله يحوِّل البشر في أعمق أعماقهم. قال الربّ: "أرشُّ عليكم ماء طاهراً فتطهرون. أُطهِّركم من كل نجاساتكم ومن قذارتكم. أُعطيكم قلباً جديداً، واجعلُ في أحشائكم روحاً جديداً. أَنزعُ من صدركم قلبَ الحجر، وأُعطيكم قلباً من لحم. وأَجعل روحي فيكم وأَجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (حز 36: 25- 27). أجل، هناك طقس جديد يقوم بحلول الروح الذي يلِج أعماق القلوب. وهذا الوعد بالخلاص، يرتبط بالعهد الجديد الذي يتحدّث عنه إرميا (31: 31- 34). نعمة الفداء هي عطيّة من الله، ولكنَّ عبد الله (أش 53: 10- 11) سيحصل عليها بذبيحة نفسه، فيكفِّر عن خطايا البشر. هنا نصل إلى المسيح الفادي الذي يحصل بذبيحته، على غفران كلِّ خطايا البشر.
2- ما ينجّس الانسان
ظلَّ مفهوم الطهارة ملتبساً في العهد القديم. لا شكّ أننا نجد في خطِّ الوصايا العشر والكرازة النبويّة، سلسلة من القيم، تجعلُ الطهارة الأخلاقية فوق كل طهارة، وترى في الخطيئة، النجاسةَ الأولى. ولكنَّ القانون المكتوب والقانون العرفيَّ ظلاَّ يحصران الحياة في سلسلة من الفرائض الدقيقة ليؤمّنا طهارة طقسيّة ستحلُّ عند الشكلانيين محلَّ الطهارة الاخلاقيّة. في هذا المجال، اصطدم الروح الجديد الذي حمله الانجيل، بتقوى الفريسيين المتعلِّقة بكلِّ ممارسات الشريعة، وما زادت عليها من التقاليد الشفهية. ويُورد متى ومرقس مشهداً نرى فيه التلاميذَ أمام الكتبة والفريسيين (مت 15: 1- 30؛ مر 7: 1- 23). تناول التلاميذ الطعام ولم يغسلوا أيديهم. إذاً، تنجَّسوا من الناحية الطقسية. وطُلب من يسوع أن يتَّخذ موقفاً، فقدَّم مبدأ يحوِّل معطيات المشكلة. قال: "ما من شيء خارج عن الانسان، إذا دخل الانسان، ينجِّسه. ولكن، ما يخرج من الانسان هو الذي ينجِّس الانسان... فمن باطن الانسان ومن قلبه تنبعث مقاصد السوء: الفحشُ والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث والغشُّ والفجور والحسد والنميمة والكبرياء والسفَه. جميع هذه الأمور السيِّئة تخرج من بطن الانسان وتنجِّسه" (مر 7: 15، 21- 23).
هذا هو الجواب العميق على هذا السؤال. فالمهمُّ ليسَ الطهارة الطقسيّة بل الطهارة الأخلاقيّة. الحاجز الحقيقيّ الوحيد في العلاقات الدينيَّة بين الانسان والله هو الخطيئة الارادية التي تخرج من قلبه الشرير. لا شكَّ في أنَّ تلاميذ يسوع لم يستخرجوا حالاً، من هذا المبدأ، كلَّ النتائج المنطقيّة المتفرِّعة عنه. فقوَّة العادة كانت تُخضعهم لنير الشريعة اليهوديّة. وهذا ما نلاحظه، بمناسبة عماد الضابط كورنيليوس (أع 10: 1- 11: 18): لقد احتاج بطرس إلى رؤية سماوية ليتغلّب على تردُّداته ويعلمَ ان ليس من حيوان نجساً (ما طهَّره الله لا تسمِّه نجساً، 10: 15)، وأن ليس من إنسان نجساً بسبب انتمائه العرقي، إذا كان الله قد طهّر قلبه بنعمته. وهكذا أُسقطت كلُّ موانع الشريعة اليهودية. وتلك كانت الطريق التي سار فيها بولس بعزم، فأَعلنَ الانجيل للوثنيّين ولم يفرض عليهم ممارسات الشريعة اليهودية، إلاّ ما كان منها أخلاقياً.
3- خطأة مطهَّرون بدم يسوع
ولكن، تبقى المسألة الأساسيّة: مسألة الخطيئة التي هي النجاسة الجوهريّة في الانسان. إذا كان الانسان يعجز عن تطهير ذاته بقواه الخاصَّة، كما يقول الأنبياء وصاحب سفر المزامير، فكيف يحصل على النعمة الضرورية؟ أجاب التعليم الانجيلي: بموت يسوع وقيامته. وهذا سرُّ إيماننا الجوهري. هنا، ندخل في تفكير دينيّ جديد يوحِّد معطيات العهد القديم ويكون امتداداً لها.
دشّنَ هذا التفكير يسوع نفسه (كما يقول الإزائيون) حين فسَّر مُسبقاً، معنى موته القريب. أظهر من جهة، أنّ فيه تتحقّق ذبيجة التكفير التي قدَّمها عبد الله: إنّ ابن الانسان جاء ليَخدم ويقدِّم ذاته ذبيحة عن الكثيرين (مر 10: 45؛ أش 53: 10- 12). وخلال العشاء الأخير قال: "هذا هو دمي... الذي يُراق عن الكثيرين لمغفرة الخطايا" (مت 26: 28؛ أش 52: 12). ومن جهة ثانية، عرف أنّ موته يختم العهد الجديد الذي أعلنه الأنبياء فقال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُراق عنكم" (لو 22: 20) لهذا، فالخيرات الأسكاتولوجيّة الموعود بها لزمن العهد الجديد، سيعطيها يسوع لأخصَّائه، حين يُتمّ ذبيحته. وحين يقوم، يدعوهم لكي ينتظروا الروح القدس (أع 1: 4- 5؛ يو 20: 22).
إن موت يسوع وقيامته هما النقطة التي إليها توجَّهت أقوال الأنبياء. فعلى ضوء هذه الأقوال، وُجدت نبوءة عبدالله المتألم، ووعد العهد الجديد الذي عبرًّ عنه إرميا، وقول حزقيال في تطهير البشر وتحويل قلوبهم بروح الله، كلُّ هذا وَجد معناه النهائيء وإنَّ غفران الخطايا وعطيّة الروح هما وجهان لعمل إلهيّ واحد. إنَّهما مثل موت المسيح وقيامته في المجد اللذين هما وجهان لسرِّ واحد: أُسلمَ المسيح من أجل خطايانا، وقام من أجل تبريرنا (روم 4: 25).
غير أنّ التفكير المسيحي يقدر أن يتوقَّف على التوالي، على إحدى وجهتَي هذا السرّ: جعله الله كفَّارة بدمه (روم 3: 25). هذه هي علامة الحبّ السامي الذي لم يتردَّد الربُّ في أن يمنحنا إيّاه: لسنا نحن الذين أحببنا الله، ولكنَّه هو الذي أحبّنا وأرسل ابنَه ذبيحة تكفيرية عن خطايانا (1 يو 4: 10)، وإليك الآن الوجهة الثانية: فيسوع هذا، قد أقامه الله من بين الأموات. والآن، وبعد أن تمجَّد من عن يمين الله، نال في الآب الروحَ الموعود به وأفاضه علينا (أع 2: 32). وهكذا، فتبرير البشر بدمِ المسيح (روم 5: 9)، لا يكمن فقط في محوِ ذنوبهم. إنَّه يتضمَّن أيضاً، خلقاً حقيقياً جديداً لكيانهم.
وتتميَّز الرسالة إلى العبرانيين عن سائر أسفار العهد الجديد في أنها توسَّعتْ بطريقة منهجية، في لاهوت الفداء هذا، في وجهتيه معاً. فذِكر عبدالله المقدَّم ليزيل خطايا الكثيرين (عب 9: 28) يلتقي بليتورجية التكفير التي يتمُّها الكاهن الأعظم في يوم الغفران (عب 9: 7). نحن هنا أمام صورة ضعيفة للمسيح الذي دخل مرَّة واحدة في المعبد السماوي، لا بدم التيوس والثيران، بل بدمه الخاصّ فنال لنا فداء أبدياً (عب 9: 12). ولكنَّ هذه الذبيحة كانت أيضاً ذبيحة العهد الجديد التي تُتيح لنا الدخول إلى المعبد السماوي (عب 10: 19). لهذا نستطيع منذ الآن، أن نقترب من الله في ملء الايمان، بعد أن تنّقت قلوبنا من كلِّ نجاسات الضمير الشرِّير واغتسل جسدنا في ماء طاهر (عب 10: 22).
إنّ طقس العماد يفعل فينا التطهير الباطني الذي وعدنا به حز 36: 25- 27، لأنّه يفيض علينا الروح القدس (أع 2: 38). وإذا كانت التوبة صارت ممكنة لنا، فبالنعمة التي نالها لنا يسوع بدمه. ونحن كخطأة تائبين، نقدر الآن أن نتلو مزمور "ارحمني يا الله"، ونحن متأكِّدون من أن الله يخلق فينا قلباً نقيّاً.
4- إنضمامنا إلى الشعب المقدس
حاول العهدُ القديم أن يكوّن على الأرض شعباً مقدَّساً أي مكرَّساً لله (خر 19: 6). وهدفت علامة دم العهد (خر 24: 8) إلى هذه الغاية. كما أنَّ عطيَّة الشريعة آلت هي أيضاً، إلى ذلك: "كانوا قديسين كما أني أنا الربّ فدوس" (لا 19: 2). ولكنَّ مثل هذا السرِّ حُفظ للعهد الجديد، لأنّ وجود الخطيئة في العالم، أخذ من تدبير الشريعة كلَّ قوة وكلَّ فاعلية. أمًّا الآن، وبعد أن أراق المسيحُ دمه الكفاريّ (عب 12: 24) ليعقد معنا عهداً جديداً، اقتنى لنفسه شعباً هو الأمّة المقدسة (1 بط 2: 9) الحقيقيّة، هو الكنيسة التي جعلها عروسه وجسده. وهذه الكنيسة لا تستند لكي تبقى طاهرة، إلى الضحايا الحيوانية ولا إلى رشِّ المياه الطاهرة. فالمسيح نفسه أسلم ذاته لأجلها ليقدِّسها بغسل الماء الذي ترافقه الكلمة (أف 5: 26): هذا هو معنى المعمودية التي بها يدخل المؤمنون في الكنيسة. صاروا أطهاراً لا بفضل ممارسات الشريعة، بل بفضل كلمة المسيح التي تفعل بواسطة الطقس (يو 15: 3). لأنه ان كان المسيح تكرَّس لله ذبيحة وضحيّة، فلكي يتقدَّس تلاميذه أنفسهم (يو 17: 18- 19).
نحن أعضاء هذا الشعب المقدّس الذين تمَّت لهم المواعيد الإلهيّة. فلم يبقَ لنا إلاّ أن نعيش حياة تليق بدعوتنا. من هذا القبيل، لا تكون شريعة المسيح (غل 6: 2) أقلَّ تطلُّباً من الشريعة القديمة، ولكنَّ متطلباتها تبرز بطريقة مختلفة. فإرادة الله هي تقديسنا. وهذا التقديس ينفي النجاسة بكل أشكالها (1 تس 4: 3- 7): لا النجاسة الطقسيّة التي لا مكان لها في شعب تحرَّر من عبودية الشريعة، بل النجاسة العميقة والخطيرة التي هي خطيئة الانسان (أف 4: 19). ثم إنّ إرادة الله ليست فقط مجرد شريعة خارجية تضع الحواجز أمام ميول الانسان القديم، الخارج من آدم الأوّل والخاطىء. فالعماد الذي يمنحنا الروحَ القدس يصوِّرنا من الداخل، على مثال يسوع المسيح. بفضل هذا التحوُّل الروحاني الذي تمَّ فينا بطريقة جذريّة، يجب علينا أن نلبس الانسان الجديد الذي خُلق بحسب الله، في البرّ والقداسة الحقيقيّة (أف 4: 24). إذاً تشكِّلُ الطهارة والقداسة شريعة وجودنا المسيحي التي يدفعنا إلى المحافظة عليها الروحُ القدس عينه.
لا شكّ في أنّ الكائن الجديد الذي صرناه، يعيش في محنة، ما طال حجُّنا على الأرض. ففينا الجد يشتهي ما يخالف الروح والروحُ يشتهي ما يخالف الجسد (غل 5: 17؛ روم 7: 14- 23). ولكن، إذا خضعنا بإرادتنا لروح الله، حفَظنا روح الله من النجاسة. وان جرّنا مع ذلك الضعفُ البشري إلى هذه الخطيئة أو تلك التي لا تذهب بنا إلى الموت (1 يو 5: 16- 17)، لأنها لا تتضمَّن نكران يسوع المسيح، فنحن نستطيع أن نعترف بخطايانا. والمسيح هو أمين وعادل فيغفر خطايانا وينقِّينا من كلّ اثم (1 يو 2: 9). إنّه غسل أقدام تلاميذه بعد أن تطهَّروا بالغسل (يو 13: 6- 10) فدلَّ على هذا التطهير الإضافي.
وهكذا حلَّ تدبير الكنيسة الاسراري محلَّ الطقوس القديمة. استعملت إلى درجة ما رموزها وربطت غفران الخطايا برشّ العماد. ولكنَّ الواقع العميق الذي نعبرُّ عنه هنا، هو ذبيحة المسيح التى تقدر وحدها أن تطهِّر البشر وتقدِّسهم، فتنقل إليهم قداسة من الذي هو مخلِّصهم ورئيسهم.
الانسان ذو الحياة الطاهرة ليس ذلك الذي يحفظ نفسه من الخطيئة. إنّه الخاطىء الذي طهَّره دم يسوع المسيح. والقدّيس المسيحي ليس الانسان الفاضل، كما كان الفلاسفة يقولون، وليس الانسان المحافظ على الشريعة، كما ظنَّ اليهود. القدِّيس المسيحي هو الخاطىء الذي برَّره دم المسيح وقدَّسه الروح. إنّه الانسان الذي عرف أن يموت مع المسيح ليحيا معه حياة القيامة.