الفصل الثاني
اسم الله
1- أسماء الآلهة عند الشعوب
الله هو أولُّ الأسماء التي تلفَّظ بها الانسان منذ قديم الزمان. عرفت بلاد الاشوريِّين الاله "أشور" الذي يهب القوَّة لجيوشها، وعرفت القبائل الساميّة المتوجّهة إلى الجزيرة العربية الإلاهة عشتار التي تقود خطاها، وعرفت مصر حورس الصَقْر الذي يحلِّق في العلاء فيحمي قبائلها من كلِّ شرّ. وسيطرَ في كنعان بَعْل الذي هو السيِّد والمالك والزوج، كما دعت فينيقية إله آلهتها: إيْل، فأشارت إلى قدرته في إعطاء الخير ومعاقبة الأشرار.
اسم الاله يدلُّ على ظهوره في الكون. وحين يعرف الانسان إلهه، يتعرَّف إليه ويدعوه ويناديه في أناشيده وصلواته.
هذه العواطف التي عمرت في قلب الانسان منذ بداية الكون، هي التي سنكتشفها في الكتاب المقدّس، في العهد القديم كما في العهد الجديد.
أ- اسم الله في العهد القديم
يَهوه أو الاله الذي هُوَ. حين دخل بنو اسرائيل إلى أرض كنعان، كان إلههم "بَعل" (هو 2: 18) "بعل العهد" (قض 9: 4). وسيسمّى ابن شاول "اشبعل" أي "إنسان بعل، رجل بعل" ونجد تيَّاراً موازياً يرفض أن يدعو الله باسم من الأسماء لئلا يحصره في عمل من الأعمال ويضع حدّاً لقدرته. إنّه إله الآباء، وهذا يكفي.
في أحد النصوص عن صراع يعقوب مع كائنٍ سرِّيّ يلتقي به عند مجاز وادي يَبُّوق (تك 32: 30)، حاول يعقوب أن يتعرّف إلى اسم مَنْ قاتله طوال الليل، ولكن عبثاً. وحين نال والد شمشون رؤية سماويّة في صَرْعَة، سأل: "ما اسمك حتى نستطيع أن نكرّمك حين تتمَّ كلمتك"؟ فجاءه الجواب: "لِمَ سؤالك عن اسمي، واسمي عجيب (أو سرّي)" (قض 13: 17- 18)؟
وحين ظهر الربُّ في علّيقة حوريب، سأله موسى عن اسمه، فجاء الجواب: "أنا الذي هو، أنا الكائن" (خر 3: 13- 14). قد يعني الجوابُ رفضاً من الربّ للإعلان عن اسمه. ولكنَّ وَحْيَ النصِّ يدلُّ على أنَّ الله أعطى اسمه إلى موسى، حين قال له: "هذا اسمي إلى الدهر، وبه تدعوني الأجيال المقبلة" (خر 3: 15). سيثقُ بنو إسرائيل بهذا المرسَل، لأنَّ يهوه (الاله الذي هو، الربّ) كشف عن نفسه لهم: إنَّه الكائن حقاً، إنَّه الموجود. أمّا سائر الآلهة، فلا وجود لها، كما سيقول الأنبياء.
"يهوه" هو اسم الاله بحروف أربعة. ولكنّ اليهود سيتخلّون عن هذا الاسم في القرن الأوّل قَبْل المسيح. لن يريدوا أن يتلفّظوا به، احتراماً وإجلالاً: فيكتبون "يهوه" ويلفظون "أدُونَاي" أو السيِّد والربّ. وهكذا ستسمّيه الكنيسة: "كِيرِيُوس" أي الربّ (راجع كيريالَيسُن، أي يا ربّ ارحم).
ولكن بانتظار هذا التحوّل، ستدعو القبائل العبرانيَّة الله: "يهوه": هتف بنو منسّى حين أطبقوا في الليل على مخيَّم المديانيّين في عين حرود: "ليهوه (للربّ) ولجدعون" (قض 7: 18). وفي شكيم، طلب يشوع من القبائل التزاما احتفالياً. قال: "أمًّا أنا وبيتي فنعبد الربّ". قالوا: "نحن أيضاً نعبد الربَّ لأنّه إلهنا. قال يشوع: "لا تستطيعون أن تعبدوا الربّ لأنّه إله قدُّوس" (يش 24: 15- 19).
ب- اسم الله وسط شعبه
اسم "يهوه" يذكِّر شعبه بالحرب والنصر، وتابوت العهد هو عرشه الذي رافق جيوشه. إنّه ربُّ الصباؤوت الجالس على الكروبيم (2 صم 6: 2).
ولقد ظلَّ هذا "التابوت" (صندوق يحوي لوحَي الوصايا العشر) يتنقّل من مكان إلى آخر إلى أن وجد له مقاماً ثابتاً في صهيون (إحدى تلال أورشليم وأقدسها). وقد نقل داود تابوت العهد إلى أورشليم، وجعل اسم الله يرفرف على هذه المدينة المقدَّسة. وسيُبنى الهيكل في أورشليم لئلا يبقى "التابوت" في خيمة (2 صم 7: 2). هناك سيجتمع الشعب، وهناك سيدعون باسم الربّ، والهيكل هو معبد وطنيُّ من أجل الاحتفالات الوطنيّة التي تقام باسم الله. والاسم الذي به يُدعى الله هو: الربُّ الذي يوجِّه مصير شعبه والذي يحمل إليهم البركة إن حافظوا على الأمانة، والشقاء إن خانوه. فهذا الاله لا يريد مؤمنيه عبيداً يخضعون له عن خوف أو آلة تُسيرَّ بيد آخر ولا حريّة لها.
الله هو الربّ على جبل صهيون، والقصر الملكيّ هو بجانب المعبد الوطنيّ. فالملك الذي مُسِحَ هو وكيل الربّ، ولأجله نصلّي قبل أن ينطلق إلى الحرب: "ليَستجِبْ لك الربّ في يوم الضيق" (مز: 20: 1). وإن عاد منتصراً، رفعوا معه آيات الشكر: "هلُّموا فانظروا أعمال الربّ" (مز 46: 9).
حين نُقل تابوت العهد، وصل الله في الغمام. قال: هيكل صهيون هو "البيت الذي فيه يقيم اسمي" (1 مل 8: 1- 13). هذا مع "أنّ السماوات وسماوات السماوات لا تَسَعُهُ"، فكيف هذا البيت الذي بناه سليمان (1 مل 8: 27).
لقد اختار الله، بنعمة علويَّة، مكاناً تتمُّ فيه الليتورجيّا باسمه وتُسمَعُ الصلاة الموجّهة إلى اسمه. فتنازل الربُّ القدير برحمته، وارتبط بمعبد ابن داود (سليمان)، بانتظار أن يأتي ابن داود (يسوع) في ملء الزمن (غل 4: 4) فيؤمِّن حضوراً متواصلاً لنعمته، يشبه ذاك الحضور ويختلف عنه. فإله العهد القديم هو إله العهد الجديد. ولكنَّ هيكل الحجر زال سنة 70 بعد المسيح على يد تيطس الروماني، فترك الربّ للمؤمنين هيكل جسد المسيح وكنيسته.
وانّ صلاة سليمان تعبرّ أفضل تعبير، عمًّا يعني هذا الحضور: حضور اسم الربّ في صهيون، هذا المكان الذي فيه تقيم سلطة الله الخيرِّة بالنسبة إلى المؤمنين الذين يرفعون إليه صلاتهم. قال سليمان: "نوى داود أبي أن يبني بيتاً لاسم الربّ، ولكنّ الربّ قال له: أنت لا تبني هذا البيت، بل ابنك الذي يخرج من صلبك هو يبني بيتاً لاسمي... إلتفتْ إلى صلاة عبدك، أيُّها الربُّ إلهيّ، واسمع الهتاف والصلاة اللذين أصلّي بهما أمامك. لتكن عيناك مفتوحين على هذا البيت الليل والنهار، على الموضع الذي قلت: يكون اسمي فيه. إسمَع الصلاة التي أصلّيها في هذا الموضع، واستجب تضَّرع عبدك وشعبك حين يصلّون في هذا الموضع. إسمَع أنت من موضع سكناك في السماء، إسمَع واغفِر" (1 مل 8: 17- 30).
ويعطي سليمان أمثلة عن الصلاة: المؤمن الذي يَخطأ ضدَّ قريبه، أو الذي قهره العدوّ، وضايقه القحط والجوع (1 مل 8: 31- 40). ويفتح قلبه فجأة على مستقبل مسيحاني: "والغريب الذي ليس من شعبك، إن جاء من أرض بعيدة من أجل اسمك (لقد سمع الناس باسمك العظيم ويدك القديرة وذراعك الممدودة)، إن جاء وصلّى في هذا البيت، فاسمع أنت من السماء من مكان سكناك. إستجب كلّ طلبات الغريب ليعرف جميع أمم الأرض اسمك" (1 ملوك 8: 41- 43).
وهكذا يُدعى الغريب إلى المشاركة في نعمة الاختيار الإلهي الذي أعطى البشريّة معبداً تستطيع أن تلتقي فيه بحضوره وتلجأ إلى قدرته. وسيأتي المؤمنون إلى الله في صهيون وينشدون أناشيد المراقي (يصعدون التلّة): "الذين يتّكلون على الربّ هم كجبل صهيون الغير المتزعزع، الثابت إلى الأبد. أورشليم، تحيط بها الجبال. هكذا يحيط الربُّ بشعبه من الآن وإلى الأبد" (مز 125: 1- 2). سيأتي بنو إسرائيل وسيأتي معهم كلُّ الذين عرفوا اسم الربِّ والموضع الذي يقيم فيه مجده.
ج- اسم الله وسط الأمم
خلال المنفى، سيفهم بنو إسرائيل أنَّ الله عرَّف نفسه إلى الأمم بشريعته وقضائه، بعدله وخلاصه: "أصغوا إليَّ أيُّها الشعوب واصيخوا لي أيّها الأمم. منِّي تخرج الشريعة، وحكمي يكون نوراً للشعوب، آتي فجأة بعدلي ويبرز خلاصي كالنور. ذراعي تحكم على الشعوب والأمم البعيدة (حرفياً الجزائر) تنتظرني وعلى ذراعي تعتمد" (أش 51: 4- 5).
سيَجتَمعُ الشعب المختار مع سائر الأمم في أمانة مشتركة. ستخرج كلمة الله من صهيون وتدعو الشعوب من أجل السلام: "وفي المستقبل من الأيام (أي أيّام المسيح) يوطَّد جبل بيت الربّ (أي جبل صهيون) على رؤوس الجبال، ويرتفع فوق التلال. تجري إليه جميع الأمم وينطلق شعوب كثيرون ويقولون: هلمّوا نصعد إلى جبل الربّ، إلى بيت إله يعقوب. إنّه يرينا طرقه فنسلك فيها. أجل، من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الربّ. يكون قاضياً بين الأمم وحَكَماً بين الشعوب الكثيرة. يضربون سيوفهم فيجعلونها سككاً، وحرابهم فيجعلونها مناجل. فلا ترفع أمَّة على أمَّة سيفاً ولا يتعلَّمون (يُتلمذون) الحرب من بعد" (أش 2: 1- 4). وهكذا لن يتنجّس اسم الربّ أمام الأمم التي يعيش بينها بنو اسرائيل (خر 20: 9، 22). وهكذا يعلم الجميع أنيّ أنا يهوه، أني الربّ (خر 20: 26).
ولكنهم لن يعودا يتلفَّظون باسم "يهوه". فقرار كورش (عز 6: 3- 12) يسمّيه "إله السماء" أو "الإله". وفي شعب اسرائيل يبرز خطر التلفُّظ باسم الله باطلاً أو كذباً (خر 20: 7). وقال أش 30: 27 أنّ اسم الربّ يأتي من بعيد (أي من العالم الوثنيّ) فيغربل الأمم.
وستكتشف النصوص نظرة جديدة شاملة، فتدعو الربّ أو إله اسرائيل ذلك الذي تجلَّى لابراهيم، ثمّ لموسى في العلّيقة المتّقدة، وسيحلّ آلوهيم أو الله محلَّ يهوه (ق مز 14 و53) بعد أن استعمل المؤمنون اسم يهوه من أجل "أعمال سحريّة". ثم بما أنّ يهوه هو اسم الاله الوطنيّ، فما عاد الشعب يتلفَّظ به يوم جاء يسوع الناصري إلى العالم.
2- اسم الله في العهد الجديد
أ- اسم يسوع
إذا عدنا إلى مت 1: 25، نعرف أنَّ يوسف أعطى المسيح اسم يسوع، مع أن النبوءة الواردة في مت 1: 23، تقول إنّه يُدعى عمَّانوئيل. وإذا عدنا إلى لو 1: 31، نسمع الملاك يقول لمريم: "تسمِّينه يسوع" أي المخلّص (مت 1: 21؛ لو 2: 11؛ أع 3: 16، 4: 12). وإذا عدنا إلى لو 2: 21، نعرف أن هذا الاسم أعطي لابن مريم حين خُتن (وهذا ما حدث ليوحنا المعمدان أيضاً (لو 1: 59- 63).
يُعطى الاسم للولد ساعة الولادة. وقد يُعطي لهم اسم آخر حين الختانة. هذا ما حدث لابراهيم الذي كان اسمه ابرام (تك 17: 4- 5). ويروي لنا لو: 59- 61 كيف تدخَّلت أمُّ المعمدان ليسمَّى ابنها يوحنّا لا زكريّا مثل أبيه، فدلَّت على حنان الله ورحمته. ودلَّ لوقا في خبر ختانة يسوع على انّ هذا الابن خضغ لشريعة موسى وبني اسرائيل، فأعطى النورَ للأمم. إنّه يسوع أي الربَّ الذي يخلّص، لأنَّه مخلّص جميع الشعوب (لو 2: 21- 39). نحن نعلم من خبر البشارة، أنّ يسوع ابن مريم هو ابن العليِّ وسينال عرش داود أبيه. وتبدو تقدمة يسوع (لو 2: 22- 38) مثل تقدمة اللاّويين (عد: 6- 22) الذين يخدمون في الهيكل. إذن تطهير يسوع يدلُّ على كهنوته وسيتعرَّف سمعان الشيخ إلى حضور ذلك الذي سيكون نور السلام.
ب- قدرة اسم يسوع
وسينعم بنو اسرائيل بقدرة اسم يسوع المخلّص قبل أن تصل هذه القدرة إلى الكون كلّه، وذلك خلال حياته العلنيَّة: أرسلَ تلاميذه فطردوا الشيّاطين (لو 10: 17) وأتمّوا المعجزات باسمه. وسيتوسّع هذا العمل بعد القيامة، كما يقول سفر الأعمال (3: 46؛ 4: 7- 12). "الآيات تصحب المؤمنين، باسمي يُخرجون الشيّاطين وينطقون بألسنة جديدة، ويأخذون الحيّات بأيديهم. وان شربوا سُمّاً مميتاً فلا يؤذيهم. ويضعون أيديهم على المرضى فيشفون" (مر 16: 17- 18).
هذا الاسم الإلهيّ، قد كشفه بطرس في قيصريّة فيلبّس. فاعتبر يسوع أنَّ وحياً من الله كشف له عن هذا الاسم. هنا نستشفّ عند كلّ من متّى ولوقا نظرة الابن إلى الآب، هذه النظرة التي تستبق كلّ أعماله: لا يعرف أحدٌ الآبَ إلاّ الابن ومَنْ يريد الابن أن يكشف له. فالابن هو الذي يتميَّز سبل الآب وطريقته في الكشف عن ذاته للصغار والبسطاء.
لن يتكلّم المسيح كثيراً عن الربّ (يهوه)، بل عن الله أو بالأحرى عن أبيه بعد أن كشف أبوَّته للبشر: "أبي هو أبوكم" (يو 20: 17).
هذا هو الاسم الذي يجعله في فم التلاميذ عندما يعلّمهم الصلاة: "أبانا الذي في السماوات"، هذه السموات التي جاء يقيم ملكها على الأرض. وموضع الطلبة الأولى في هذه الصلاة، هي إقامة مُلْكِ الآب وتقديس اسمه. ما معنى هذه العبارة؟ نعرف أنّ موسى وهارون سقطا خلال محنة البريّة فقال لهما الربّ: "لم تؤمنا بي ولم تقدِّسا اسمي أمام بني اسرائيلُ" (عد 20: 12). إنّهما لم يُظهرا قداسة الله بتصرِّفهما، فكان هذا التصرّف حاجزاً في كشف الله عن اسمه وقدرته في صنع العجائب. وسيقول حز 36: 20 عن الشعب بفم الله: "دخلوا بين الأمم فدنَّسوا اسمي القدّوس". ذهبوا إلى المنفى فاعتبروا أنَّ الله ضعيف ولا يقدر أن يخلّص شعبه. ولكنَّهم نسوا أنَّ الله هو سيِّد التاريخ. ولكن، بفضل الابن ستتمّ نبوءة أشعيا: "سيقدِّسون اسمي ويقدِّسون قدُّوس يعقوب، ويخافون إله اسرائيل" (أش 29: 23). ولكن المسيح عرَّفنا إلى أبيه كأبٍ عطوف ومحبّ، عرَّفنا إليه في طاعته البنويّة.
ج- اسم الربّ
انّ يسوع الناصريّ قد نال من الآب بآلامه وقيامته، اسماً يفوق كلَّ الأسماء. هذا هو نشيد الكنيسة الأولى، كما أورده القدِّيس بولس في الرسالة إلى أهل فيلبّي: "هو القائم في صورة الله، لم يعتدَّ مساواته لله حالة مختلَسة. بل لاشى ذاته آخذاً صورة عبد (عبد الله كما في أشعيا 53). صار شبيهاً بالبشر فوُجدَ كإنسان في الهيئة (وفي تصرّفه). ووضع نفسه وصار طائعاً حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله جدَّاً وأنعم عليه بالاسم (اسم الربّ) الذي يفوق كلَّ اسم، لكي تجثو لاسم يسوع كلُّ ركبة في السماوات وعلى الأرض (حيث يقيم الاحياء) وتحت الارض (حيث يقيم الموتى)، ويعترف كلُّ لسانٍ بأَنَّ يسوع هو ربٌّ (كِيِريُوس) لمجد الله الآب" (فل 2: 6- 11).
أُعلِنَ يسوعُ ربَّاً، ونال اللقب الذي أعطاه شعبُ اسرائيل لله. فبقيامته القديرة (روم 1: 4)، اشتركتْ بشريَّة المسيح المنتصرة في مجد ومُلك الله الذي يسود على الأجيال. وهذا ما تقوله أف 1: 19- 21. يتحدَّت بولس الرسول عن مجد الآب الذي ينير عيون قارئيه ويفهمهم "ما هو لنا، نحن المؤمنين، من فرط عظمة قدرته المتجليّة في عزّة قوّته، التي بسطها في المسيح، إذ أنهضه من بين الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماوات فوق كلّ رئاسة وسلطان وقوَّة وسيادة وفوق كلِّ اسم يسمَّى ليس في هذا الدهر فقط، بل في الدهر الآتي أيضاً.
فبالاسم والقدرة والسلطان التي نالها، صار المسيحُ فوق كلّ اسم وقدرة وسلطان في العالم. وستصوِّر الرسالة إلى العبرانيين مجدَ وقدرة المسيح الذي تقابله بالملائكة وأسمائهم، بهؤلاء الملائكة الذين هم قوى كونيّة خاضعة لعقل الخالق وقدرته. "فالابن الذي يضبط كلّ شيء بكلمته القديرة، وبعد أن طهَّرنا من خطايانا، جلَس عن يمين الجلال في الأعالي، فصار أعظَم من الملائكة بقدر ما الاسم الذي ورثه أفضل من أسمائهم" (عب 1: 3- 4). استعارت الرسالة إلى العبرانيين ألقاب المسيح. أمّا الرسالة إلى أهل أفسس فاختتمت النصَّ الذي قرأناه قائلة: "أخضعَ الله كلَّ شيء تحت قدميه (قدميَ يسوع)، وأقامه فوق كلِّ شيء رأساً للكنيسة التي هي جسده وكمال الذي يملأ كلَّ الكائنات" (أف 1: 22- 23).
لن نتوقَّف على البعد الدقيق لهذه الكلمات الأخيرة، بل نفهم أنَّ قمَّة كلِّ شيء في نظر المسيح، تقوم بأن يكون هو رأس هذا الجد الحيّ والعضوي الذي هو الكنيسة. تأسست الكنيسة على الرسل الذين فرحوا لأنَم اعتُبروا أهلاً لأنّ يتألّموا من أجل اسم المسيح (أع 5: 41). وامتدَّت الكنيسة إلى إقاصي الأرض بفضل المرسَلين "الذين انطلقوا من أجل الاسم، ولم يأخذوا من الأمم الوثنية شيئاً" (3 يو 7). وستشارك الكنيسة في الليتورجيّا السماويّة التي يتحدَّث عنها سفر الرؤيا (19: 5- 8).
المنتصر هو المسيح الذي ينال مع الجالس على العرش "الحمدَ والاكرام والمجد والجبروت إلى أبد الدهور" (رؤ 5: 13). هو الذي نال اسماُ جديداً يعطي اسماً جديداً لمؤمني كنيسة برغاموس: "مَنْ غلب، أعطيته المنّ الخفيّ وحصاةً بيضاءَ منقوشاً فيها اسمٌ جديد لا يعرفه إلاَّ الذي يناله" (رؤ 2: 17). وفي كلامه إلى كنيسة فيلادلفية: "سأجعل الغالبَ عموداً في هيكل إلهي، فلا يخرج منه أبداً. وأنقش فيه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة التي تنزل من السماء من عند الله، وأنقش اسمي الجديد" (رؤ 3: 12).
خاتمة
إنّ اسم الربّ الذي يحمله منذ الآن يسوع الناصريّ وابن داود، ينطبع في المؤمنين. فالمسيحيّ، بعد أن تعمَّد باسم يسوع، ينطبع إلى الأبد باسمه الجديد الذي يحمل الغلبَة. فالربّ الذي صنع سماوات جديدة وأرضاً جديدة، قد افتدى الانسان في كونٍ أراده مصالحاً مع الله يوم صلبه وقيامته وصعوده.