التدريب علي خدمة الكلمة
قدّمت الجمعيّة العامّة في بوغوتا توصيات ملموسة وملحّة حول التدريب على خدمة الكلمة في مختلف وجوهها، وهي متيقّنة أن التنشيط البيبلي للعمل الرعائي لن يكون واقعاً وحقيقة إن لم يكن هناك أشخاص مهيّأون (8: 3، 3). وقد التزم كل اعضاء الرابطة أن يحقّقوا هذه المقرّرات في السنوات التي بعد بوغوتا.
تبدأ خدمة الكلمة مع المرسل الذي يحاول أن يثير أول فعل إيمان. ثمّ إن معلّم التعليم المسيحي ينير الايمان بالعقيدة فيسعى إلى أن يجعلها حيّة واضحة، ناشطة. بعد هذا يأتي الاحتفال الليتورجي في أشكاله المتعددة، وتأتي عظة الأحد في القداس. في النهاية، نصل إلى خدمة اللاهوتي الذي يقدّم نهجاً، وينمي البحث العلميّ لحقائق الايمان. وإذا توقفنا عند الوسائل المستقلّة في كل مرحلة (دراسات في معهد، بالمراسلة، فرق متنقلة، ترجمات ومنشورات، وسائل الاتصال الحديث)، نفهم اتساع هذه التنشئة من أجل خدمة الكلمة.
لم يكن هدفي أن أعدّد كل المبادرات التي نجدها في اميركا اللاتينيّة في كل هذه المجالات، بل أن نتعرّف الى نمط التدريب الذي نحاول أن نعطيه في مختلف مجالات خدمة الكلمة. هناك الخبرات التي ذكرت، والدور الأول يعود فيها الى العلمانيّ.
1- الممارسة
أ- المبادرات
- تكوين منشّطين أو خدّام الكلمة: هم علمانيّون يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالجماعة التي جاؤوا منها أو يخدمونها. نحن بشكل خاص أمام تنشئة الجماعة نفسها. ويتدرّب المنشطون شيئا فشيئاً داخل الجماعة وحسب نظامها. تلك هي مدرسة التنشئة. لا نريد أن نكوّن اختصاصيين يأتون من خارج الجماعة.
- نفضّل أن نعمل مع الفقراء والمهمّشين في وسطهم، في الأكواخ التي اجتاحت البلاد، وفي أماكن الرسالة البعيدة عن المراكز الكبرى. وإذ نقوم بهذا الخيار، نلاحظ أن الفقراء يتجاوبون مع هذا النوع من الرسالة، ويسيرون بشكل أفضل في الخطّ الذي نقدّمه لهم.
- نتوخّى العمل في أنجلة جديدة تتجاوب مع نداء البابا الى القارة الاميركية على مشارف الألف الثالث. وهذه الانجلة تكون جديدة في مضمونها وحرارتها، في نهجها وفي تعابيرها. وإذ نستلهم وثائق الاساقفة في بوابلا وسانت دومنغ، نجعل في أساس الانجلة المثلّث التالي: العودة الى كلمة الله، دفع العلمانيين الى العمل، تكوين الجماعات.
ب- نقطة الانطلاق
في هذه المهمة نجد نقطة الانطلاق في دستور الوحي رقم 22: ليكن لجميع المسيحيين امكانيّة الاقتراب من الكتاب المقدس. وذلك عبر الاتصال الشخصّي والجماعي مع النصّ البيبلي نفسه مع تكوين من أجل "قراءة أمينة" للكتاب المقدس.
ج- المعايير
- قراءة النصّ انطلاقاً من الواقع والعكس بالعكس.
- قراءة كلمة الله منطلقين من النظرة إلى القرّاء. وهناك القراءة انطلاقاً من وضع المرأة، وضع أهل البلاد الاصلييّن، وضع العبيد.
- قراءة جماعيّة مع حسن كنسيّ شامل، لا يفصل بين الكنيسة والتقليد.
- قراءة ترتبط بالحياة ولا تعلن فقط الاخلاقيّات. لا نهتمّ أولاً إن كان هذا العمل أو ذلك خطيئة. فالسؤال الذي نطرحه: ما هو نداء الله إلينا حين نكون في خبرة مشتركة، حين تبرز إمكانية الحوار؟
- نهج خلاّق. هكذا استطعنا أن نتغلّب على بعض الصعوبات مثل الاميّة، كما على بعض المقاومات التي سنذكرها.
- رعاية بيبلية لا تنحصر في بعض المبادرات المنعزلة، بل تحرّك كل قطاعات العمل الرعائيّ إنطلاقاً من تعليم الكتاب المقدس.
- ردّة الفعل الشخصية على قراءة البيبليا الجماعيّة والعكس بالعكس.
2- حكم على الممارسة
أ- المقاومات
- الكليريكالية التقليديّة لدى الاكليروس والعوام تترجم في انفعال لا في فعل، في ارتباط مفرط بالكاهن، في نظرة ليتورجيّة إلى الإيمان مع سيطرة الكهنة. وإذا كان الكاثوليك لا يستعملون البيبليا، فهذا عائد إلى فكرة مسبقة تترك للكاهن وحده مفتاح قراءة الكتاب المقدّس.
- قلّة إهتمام من قبل الرعاة (الاساقفة والكهنة) بالنسبة إلى الرعاية المركزّة على البيبليا، وهذا ما يوقف كل محاولات التجديد ويغرق مسيرة التنشئة في الرمال فلا تركما النور.
- العقليّة التي تشدّد بإفراط على ممارسة الاسرار لدى الكهنة الذين يعتبرون أن التعمّق المستمرّ في الإيمان يعتبر شيئاً عرضياً. هذا ما يمنع العلمانيّ من أن يكتشف نفسه فاعلاً في كلمة الله، لا موضوع هذه الكلمة.
- تردّد الاساقفة والكهنة حين يجدون نفوسهم أمام حركة أساسيّة مثل الجماعات الصغيرة واستعمالها للبيبليا. وهذا التردّد، بل هذا الحذر، يدمّر الاطار الذي فيه تنير كلمة الله الواقع الذي نعيشه.
- التحاسد بين الكهنة يقتل اهتمام العلمانيين بالانجلة ومكانة البيبليا في حياتهم وفي عملهم الرسوليّ.
- عقليّة الكنيسة المهتمّة بظاهرة الحشد الجماهيريّ أكثر منه بالتبشير بواسطة جماعات صغيرة.
- نشر التعليم المسيحيّ قبل البيبليا. قال بولس السادس: "مسؤوليتنا خطيرة في أن نعمل كل شيء لكي يكون الاقتراب إلى الكتاب المقدس مفتوحا بشكل واسع على الشعب". فلا نعيق مشروع "الوحي الالهي".
- اشكالية السامعين: فقر مدقع، فرديّة، عنف كبير لا سيما في الامتدادات السكنيّة، وهذا ما يوقف مسيرة التحرّر التي تطلق الكلمة.
- عدم توافق حول المقاييس الراعويّة، وهذا ما يجعل شعب الله ييأس في بحثه الصريح عن الله.
- أصوليّة الاشخاص الطالبين التنشئة. وهذه تظهر في مواقف محافظة لا يستطيعون أن يتجاوزوها.
- أشكال الطقسانيّة (تعلّق مفرق بالطقوس) المقولبة في احتفالات الكنيسة، وهذا ما يقتل المبادرة.
ب- النتائج
أما نتائج مسيرة هذا التكوين فتبدو كما يلي:
- تكوين جماعات لا مجموعات رسوليّة، وذلك على جميع المستويات. هذا ما يحرّك مسيرة، لا أعمالاً منعزلة.
- دفع العلمانيين إلى العمل.
- إلتزام سياسيّ وتحرريّ وترقويّ. فالجماعات نفسها تجد الحلول على مشاكلها العديدة عائدة الى غناها الخاص.
- حل للانفصام بين الإيمان والحياة.
- إعادة النظر في صورة الكنيسة وأساليبها الرعائيّة.
- إشعاع الجماعات الصغيرة على مستوى الرعيّة والابرشيّة.
- تنقية الايمان الذي نعبرّ عنه في أصرح عناصر الديانة على المستوى الشعبيّ.
- دخول إلى جميع الاوساط: العائلة، العمل، مراكز الدراسة، حياة الجماعات.
- إحتفالات ليتورجيّة يشارك فيها أشخاص عديدون فيعبرّون عن إيمانهم العميق. هي ليتورجيا تتوجّه إلى المرتدّين كما إلى الموعوظين.
- مسيرة إيمان مركّزة على المسيح. بعد ذلك تأتي الكنيسة والعذراء والقديسون.
- نمّو حياة المناجاة في الجماعات.
ج- الصعوبات
هناك مقاومات، كما أن هناك صعوبات تعوق المسيرة التي صوّرناها.
- عظات اخلاقيّة يوم الأحد لدى بعض الكهنة، دون عودة الى النصّ البيبلي.
- غياب التواصل بين الاختبارات والمسيرات التي نبدأ بها.
- نقصد كل ما يساعد على التعليم، نقص في نسخات الكتاب المقدس...
- بُنى الليتورجيا المقولبة التي تخنق كل مبادرة.
- عدم ثقة بمشاركة العلمانيين.
3- نظرية الممارسة
إن نظرتنا إلى الممارسة تستند إلى ما قلنا حول الخبرة الأولى. ولكن لا بدّ من طرح سؤالين خاصين: ماذا تقول كلمة الله للحياة؟ ماذا تقول الحياة لكلمة الله؟ ما يحمله عالم اميركا الجنوبيّة بشكل خاص هو الموضع التفسيري لخدمة الكلمة: من الكلمة إلى الحياة، ومن الحياة إلى الكلمة.
في الحركة الأولى، نشدّد على بعد الكلمة الذي يحوّل الواقع: "هي لا تعود الّي فارغة، لا تعود بدون نتيجة" (أش 55: 11). والبعد الملموس للكلمة: "ماذا ينفع يا اخوتي أن أقول إن عندي إيماناً ولا اعمال عندي" (يع 14:2).
وفي الحركة الثانية، نؤكّد على الروح في العالم، على قيمة العالم، دون أفكار مسبقة على مستوى الاخلاق (مثلاً، العالم شّرير). وهكذا تعطي الحياة للكلمة امكانيّة بأن تكون أداة تفسير، وموضع تمييز، وثمرة هذا الحضور التفسيريّ للكلمة. وهكذا يقود التدريب على خدمة الكلمة إلى المناجاة، وبصل بنا إلى الاحتفال الليتورجيّ (الاسرار).
خاتمة
أعود إلى خاتمتين تتيح لنا أن نطعّم ملاحظاتنا في الموضوع المركزيّ لهذه الجمعيّة العامة.
كلمة الله تدعونا إلى الحياة، إلى إعطاء الحياة. هنا تدخل البشارة. نشدّد على ما في هذا "الخبر" من صلاح، أي على طابعه الخلاصيّ من أجل الانسان. البشارة هي الجديد الذي يحمل الفرح والرجاء، لأنها تعطي الخلاص والحياة. لهذا، لا نمزج نجين التدريب على قراءة الكتب المقدسة وعلى خدمة الكلمة، وبين الفقاهة أو التعليم الدينيّ اللذين هما محطّتان مكمّلتان ولاحقتان. ليس الموضوع بأن ننقل معلومات، بل أن نحمل الحياة التي تخلّص.
1- انجل (بشّر)، أي أعطى الحياة. نقل البشارة والخبر الطيب الذي هو المسيح. فالكتاب المقدس كله يعود بشكل جوهريّ إلى حدث يسوع المسيح، يركّز على شخص الرب. من الأسف أننا اعتدنا أن نتكلم عن الكنيسة، عن الاسرار، عن الخطيئة، عن الاخلاقيات، ولم نعتد أن نتكلم عن المسيح. لقد دُعينا لا لنقدّم تعليماً أو بلاغاً أخلاقياً، كتاباً أو مؤسسة، بل شخصاً نتصل به فيترك أثاره ويعطي الحياة: "الحياة لي هي المسيح". (فل 1: 21). إن لم يكن هو مركز كل شيء، لا شيء جديداً، وبالتالي لن يكون هناك حياة. ونحن نتقبّله هو بالايمان كالتزام حياة، لا كعاطفة عقلانية تجاه نظام تعليمي، تجاه وثيقة إيمان، تجاه طقس من الطقوس.
الايمان يجعل منّا تلاميذ المسيح: نحن نتبعه ونكمّل حياته ورسالته. إنه قوة الحياة التي تحطم الحواجز والافكار المسبقة لكي تُبنى عائلة أبناء الله. لهذا نحن بالأحرى أمام شكل حياة لا أمام شكل فكر. ولهذا نهتم بالارتوبركسية (العمل القويم) أكثر من الارثوذكسية (أي المعتقد القويم).
تقبّلُ الانجيل الذي هو تقبّل الربّ، يفرض علينا الالتزام بأن نحيا حياة تليق بإنجيل المسيح (فل 1: 27). ويكون الايمان صحيحاً حين نعبرّ عنه في العمل، حين نجمله في حياة المحبّة. هكذا نحوّل المجتمع الذي نعيش فيه. لهذا نبرز البعد النبويّ أكثر منه البعد الطقوسيّ، لأننا هكذا نكتشف هويتنا كأبناء دله وإخوة بعضنا لبعض.
2- هذا الخلاص هو شامل، أي هو حياة للجميع. وهو يتطلّب انفتاحاً يمنع كل انغلاق على "محجر" ضيّق يستبعد الآخرين. ويتطلّب أيضاً ديناميّة الانفتاح على الجميع، لاسيمّا المستبعدين، والذين يهملهم المجتمع لأنهم خارجه. وأفضل طريقة لاعلان شموليّة الحياة التي يريد الله أن يعطينا، هي أن نجعل "المستبعدين" يحيون. لهذا تحمل كلمة الله في ذاتها الثورة، لأنها تصطدم بمنافع العالم السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. هي تزعزع مجتمعاً تنظّمَ على الاختلافات، على الظلم، على الاستغلال. هذا شيء لا نستطيع أن نسمّيه الحياة. فالانسان لا يستطيع أن يعيش هكذا.
وهذه العودة الاختياريّة إلى الفقراء، لا ترتبط بالظروف. ليست سوسيولوجيّة ولا سياسيّة ولا إيديولوجيّة، بل بيبليّة. فيسوع مركز الوحي، كان فقيراً وعاش مع عالم الفقراء في مشاركة تامة.