مقاربة اسيوية لقراءة الكتاب
بعد الذي قلناه عن وضع الكتاب المقدس في يد القارىء الآسيوي، نطرح السؤال: بعد أن تقوّت آسيا باكتشاف كلمة الله القريبة منها في البيبليا، وبعد أن وعت هذا الغنى الذي وصل إليها من الغرب، ما ستكون طريقتها الخاصة في قراءة البيبليا؟ هل تستطيع آسيا أن تقدم للغرب شيئاً مقابل الوفر الذي حصلت عليه؟ هنا نطرح القسم الثاني من محاضرة ماريا كو حول المقاربة الآسيوية لقراءة الكتاب. أو كيف يقرأ شخص آسيوي الكتاب المقدس فيكتشف فيه غنى خاصاً يحمله إلى عالم الغرب؟
إن وثيقة اللجنة الحبريّة البيبليّة (1993) التي عنوانها: تفسير البيبليا في الكنيسة تقرّ بوضوح أن "تفسير نصّ من النصوص يرتبط دوماً بعقليّة القرّاء واهتماماتهم". لهذا يجب أن تكون مجهودات المثاقفة دائمة فلا تتوقّف. هناك تفاعل مستمرّ بين الانجيل وحضارات العالم. وإذ تكلّمت اللجنة الحبريّة بشكل خاص عن البلدان التي تبدو فيها الانجلة في بدايتها، نلاحظ ما يلي: "يحمل المرسلون بشكل لا نستطيع أن نتجنّبه كلمة الله وقد تطعّمت بحضارة البلد الذي وُلدوا فيه. لهذا، يبدو من الضروريّ على الكنائس المحلية أن تقوم بمجهود كبير لكي تحرّر نفسها من هذه الأشكال. الغريبة من المثاقفة للبيبليا، لتقدّم أشكالاً أخرى توافق أفضل موافقة حضارة بلدانهم" (الفصل الرابع).
وقد قامت آسيا بعمل هام في هذا المجال خلال السنوات العشر الأخيرة. ولكن لا يُوجد بعدُ تفكير واسع ومنهجيّ. ولا شكّ في أننا لا نستطيع أن نرى الآسيويين يصوغون أساليب ونماذج شبيهة بما نجده في التأويل العلميّ. وقد لا يكون اطلاقاً أي جديد في المقاربة الآسيوية لقراءة الكتاب المقدس. فقد نكون فقط أمام احساس تأويليّ خاصّ بالشرف الأقصى وأفكار تدخل في غنى وتناسق هذه المغامرة الرائعة والمسكونيّة في تفسير كلمة الله. وأحصر كلامي في بعضا وجهات هذا الإحساس التأويليّ.
1- قراءة وراء الكلمة المكتوبة
نتذكر هنا مز 62: 12: "تكلّم الله مرة أولى ومرة ثانية فسمعت". لقد استعمل الرابانيون هذه الآية في التفاسير البيبليّة ليقدّموا صورة عن طفوح المعنى الكتابيّ (يطفح كالماء في وعاء) الذي يكشف ما هو أكثر (غنى الله) في ما هو أقلّ (عقلنا، فكرنا). فكل كلمة وكل حرف من البيبليا يحمل ثقل المعنى الذي يتجاوز امكانيّته كل التجاوز. كل لفظة هي تركيز عجيب على اللامحدود كما يقول لافيناس (فيلسوف يهوديّ) دافعاً القارىء إلى أن يذهب أبعد من الآية. إذن التفسير البيبليّ يمكن أن يكون لا محدوداً.
إن القارىء الشرقيّ أكثر انفتاحاً على استبصار (أو حدس) اللامحدود. وقد يكون النمط الشرقي للكتابة هو الذي يعدّنا لهذا البُعد. ففي العصور القديمة، كان العبرانيون يقرأون نصوصهم حسب نهج أبجديّ لا يعرف إلا الحروف المصوّتة. أما الحروف الصامتة فلا تكتب، شأنها شأن نسمة الحياة الخفيّة التي تنعش الحروف المصوّتة وتحييها. الحروف الصامتة هي ليّنة، متبدّلة، متحرّكة، يحدّدها القارىء في كل قراءة. أما الحروف المصوّتة فهي ثابتة، وقد رتّبت بشكل من الأشكال، وهي تنتظر أن يُكشف معناها. إنها تشبه الحيوانات (صورة مأخوذة من تك 2: 19) التي مرّت أمام آدم كما في استعراض لتنال منه أسماءها. وهذه القراءة تصبح مسيرة ديناميكيّة يصبح فيها التفاعل ضرورياً بين القارىء والنصّ.
وكتابات الشرق القديم تتمتّع كلها بهذه الميزة. ففي الرمز الكتابيّ الصينيّ، لا تتألف اللفظة من تسلسل الحروف، بل بالحريّ من تمثّل رمزيّ يحيط بالواقع في مجمله. والكتابات التي تستعمل الابجديّة الغربيّة تدعو الفكر إلى أن يتبع تسلسل الحروف في ترتيب حدّد مسبقاً، أن يتبع تراتبيّة الأقسام الخاصة إنطلاقاً من نماذج منطقيّة مختلفة، أن يحلّل بشكل عقلانيّ، أن يكتشف الرباطات الممكنة في التأليف، وأن يثبت العلّة والنتيجة. هذا ما يشجّع القارىء على تنظيم مسيرات منهجيّة، على الانتقال من الواقع إلى المفهوم، على تفضيل البرهان على السّر، والحقيقة المختبرة على السطرة، وما هو تقنيّ على ما هو فنّي، والتهجئة الصحيحة على جمال المكتوب، والغراماطيق على الاسلوب.
فإذا أردنا أن ندرك أفضل إدراك معنى ما هو مكتوب، علينا أن نحاول أن نفهم، أي نقف تحت النواميس العملياتيّة الموضوعيّة. فقراءة المكتوبات الشرقيّة تميل بالحري إلى أن تقود القارىء إلى أن يذهب إلى ما وراء الحروف والعلامات. فمعنى الكلمات لا يأتيه من مزج منطقيّ لعناصر بسيطة. بل هو شيء يفرض نفسه بشكل بديهيّ، وينكشف لا في تحليل عقلانيّ بل في مشاهدة إجماليّة.
خلال القراءة، تبدو العلاقة بين القارىء والنصّ، بين الوسيط والتعليم، ديناميكيّة ورمزيّة مع مساحة واسعة من أجل الخلق في التفاعل. ففي اللغات الشرقيّة تمتلك معظم الكلمات عدة مدلولات. وبنية هذه اللغات ليّنة (لا جامدة) مع أقلّ ما يمكن من قواعد الغراماطيق وتركيب الجمل. ورغم تقليد أدبيّ طويل وإرث غنيّ من الكتابات، لا يهتمّ الشرقيّ اهتماماً خاصاً بالتوسّع في مبادىء ونماذج تأويليّة.
وهذا الاتجاه لتجاوز الوجهة الماديّة للغة المكتوبة، يدعونا إلى النظر إلى ما لم يكتب، ما لم يُقَل، ما لم يعبرَّ عنه. وإلى البحث عن الصمت، إلى ما يغذّي ويعطي الكلمات عمقها وثباتها.
ولنتأمل لوحة شرقيّة. لا يُغطّى القماش أو الورق بالألوان تغطية كاملة. فهناك كثير من المساحات البيضاء. وقد تكون المساحة البيضاء أكثر من المساحات الملوّنة. فالمساحة البيضاء لا تدل على الفراغ أو العدم (أو الخواء) بل بالاحرى على انفتاح على اللامحدود، على حقل من الحرية مليء باحتمالات عديدة، على دعوة لكي نذهب إلى ما وراء اللوحة. المساحة البيضاء جزء من اللوحة، وهي تكوّن وحدة متناسقة مع السحبات الملّونة التي نراها.
فالحركة في اللوحة تنطلق من الألوان إلى شفافيّة النور نفسه. ذاك هو الأمر في الشعر الذي ينطلق من الكلمات إلى الصمت الذي يحيط بها. وفي الكتابة (وفي القراءة) التي تنطلق مما هو منظور إلى ما هو لا منظور، ينطلق الاتجاه ممّا هو محدود ليصل إلى اللامحدود في مسيرة من الانفتاح لا تنتهي. إن لاوتسي الفيلسوف الصيني في الأزمنة القديمة، ومؤسّس التاوية، بدأ تفكيره في طبيعة التاو (أي الطريق) بهذه الكلمات: "التاو الذي نستطيع أن نعبّر عنه ليس التاو الأبديّ. والاسم الذي نستطيع أن نسميه ليس الاسم الابديّ".
إن الشرقيين يعطون قيمة كبيرة للمساحة البيضاء والصمت. هم لا يحبّون التفاسير الطويلة والشروح الموسّعة لكتاباتهم المقدّسة أو كتبهم الكلاسيكيّة، لأن خصب الكلمة لا يكون في كثرة الألفاظ. فالكلمة، حسب مثل بوذي، يجب أن تكون كالاصبع الذي يدلّ على القمر. نحن ننظر إلى القمر لا إلى الاصبع الذي يتوجّه إلى القمر.
هذه الميزات في الحضارة الشرقيّة تسهّل على القارىء رؤية الجديد الدائم في البيبليا. فالوحي يولد كل يوم جديداً ولا يتوقّف. وقد شبّه افرام السرياني (أحد آباء الكنيسة الشرقيّة) الكتب المقدسة بعين ماء، فقال: "العين هي التي تروي عطشك. وعطشك لا يستنفد العين". فلا نسجن قراءة البيبليا في تقنيّة محدّدة تحاول أن تفكّ رموز النصّ.
إن القارىء الذي يقارب النصّ دون أفكار مسبقة ونظرات حول النتيجة، هو منفتح وشاكر، وهو مستعدّ لأن يتقبّل ما لا يتوقّعه، أن يغطس في اللامحدود، في صمت الاعجاب، لأن حكمة الله واسعة كما يقول إبن سيراخ الحكيم: "لا الانسان القديم اتقن الحكمة ولا الأخير يقدر على إدراكها" (24: 28).
لا شكّ في أن العناصر التي أشرنا إليها لا يمكن أن نحصرها بالشرقيين أو نقوّمها تقويماً خاصاً في اتجاه واحد. فتعالي النصّ يتجذّر في وجدان تاريخيّ لهذا النصّ عينه، وإلاّ نتعرّض لحكم خاطىء. ثمّ إن النصّ يفترض دراسة جدّية، كما يطلب أن تُراعى هويّته التاريخيّة.
وهناك عنصر آخر لا نستطيع أن نهمله: إن الميزات الحضاريّة والتفسيريّة بشكل عام، لا يمكن أن تعمَّم بالنسبة إلى مجمل البيبليا دون وساطة فكر لاهوتيّ صحيح. فللوحي البيبلي وضوحه الخاص الذي لا يمكن أن يخسره في فعل التجسّد في مختلف الحضارات. فالقارىء الآسيوي يميل إلى الذهاب إلى ما وراء الحرف ليمسك بما لم يعبرَّ عنه. ولكن عليه في ذلك الوقت أن يتذكّر ما قاله أغناطيوس الانطاكيّ: "وحده الذي يمتلك كلمة يسوع يستطيع أيضاً أن يفهم الصمت الذي فيها وأن يدرك كمالها".
2- التقليد يغني القراءة
هنا نقرأ تث 32: 7: "إساألوا آباءكم وحم يقولون لكم". كلنا يعلم أن في الشرقي إحساساً قوياً يجعله يتّحد بتقاليده وبأجداده. ونجد أيضاً هذه الميزات في حقول المعرفة والتفسير. ففي البحث عن الحقيقة وفي تفسير الكتابات الدينيّة، تلعب خبرة الأجداد وحكمة الآباء والمعلّمين والحكماء والمرشدين دوراً هاماً جداً. فكونفوشيوس، المعلم الأكبر وفيلسوف الصين، قدّم نفسه على الشكل التالي: "لم أكن ذاك الذي وُلد وهو يملك المعرفة. أنا ذاك الذي يحبّ أجداده وهو صادق في البحث عن المعرفة فيهم". نجد شيئاً مماثلاً لذلك في ابن سيراخ حين يصوّر الحكيم، "يتفحّص حكمة الأجداد" (39: 1). ولكن العبارة "اسأل آباءك" لا تعني فقط: "تفحّص الماضي، انظر إلى الماضي وتبدّلاته المتواصلة". فالشرقيّون يرون في الماضي شيئاً من الأبديّة. وحين يستمعون إلى أجدادهم يختبرون معنى حضور وسّرية اتحاد.
هذا ما ينطبق على قراءة البيبليا. فالبيبليا تجعل القارىء في إرث المؤمنين منذ الانطلاقة الأولى في العهد القديم حتى أيامنا، فتخلق رباطاً قوياً من التضامن بين الأجيال المتعاقبة. فالذي يقرأ البيبليا يختبر عواطف ذلك الذي ينظر إلى صور العائلة. هو يكتشف أجداده في الايمان ويشاهد عجائب الله الذي يكشف عن ذاته فيهم. يحسّ نفسه "محاطاً بسحابة كبيرة من الشهود" كما تقول عب 12: 1. إن البيبليا تجمع عدّة أخبار من الايمان في خبر خلاص واحد، فتضمّ حوارات عديدة وفريدة في حوار واحد عظيم بين الله والبشريّة.
نحن نجد تداخل الأخبار والوجوه، لا في النصّ البيبلي وحسب، بل في نقل هذا النصّ أيضاً. سبق وتحدّثنا عن نموّ البيبليا وانتشارها. والمسيحيّ في القرن العشرين يقرأ البيبليا التي اغتنت بكل المعاني المختلفة التي اتخذها النصّ على مرّ العصور. كتب الونسو شوكل، أحد شرّاح الكتاب المقدس المعروفين: "التقليد هو وسيلة ضروريّة تساعدنا على فهم النصّ وحياته. فهو قد عاش وما زال يعيش في التقليد. وإلا فسوف يموت. فالتقليد يدخل في مسيرة جدليّة من العلاقات المتبادلة مع النصّ، بحيث تشرف على فهمه وإدراكه. وإذ يتحقق النهج التاريخيّ النقديّ من الأسباب والاطر التي انتجت النصّ، فالتقليد يلقي بضوئه على النتائج التي ولّدها والنشاط الذي حمل هذا النصّ إلى زماننا الحاضر. والنتائج في جيل من الأجيال تصبح جزءاً لا يتجزّأ من فهم انتقل إلى الجيل التالي. كل هذا يتواصل تواصلاً ديناميكياً وحياً".
كان الآسيوي غائباً عن بداية هذه المسيرة التفسيرية. فكيف يستطيع أن يدخل فيها في نقطة محدّدة من الزمن؟ هل يستطيع أن يشارك في ديناميّتها؟ هذا لن يتمّ بطريقة آليّة، ودونه صعوبات جمّة. فالقارىء الآسيوي يحس انطلاقاً من عقليّته وحضارته (أكثر من الآخرين) بضرورة الحوار مع الاجداد والمعلّمين، بضرورة قراءة جماعيّة يسندها التقليد والجماعة الكنسيّة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يحسّ الشرقيون أنهم أبعد من غيرهم من التقليد المسيحيّ الذي انطبع انطباعاً واسعاً بالفكر الغربي.
تساءل ترتليانس ببعض مزاح: "هل من علاقة بين أثينة وأورشليم"؟ وكان الجواب: كلا. فهذا الكاتب لم يكن يرى من الممكن أن تلج المسيحيّةُ الحضارة اليونانية والرومانيّة. ومع ذلك، فالتوسّعات اللاحقة في الكنيسة قد برهنت على أنه أخطأ. أما نحن فما عدنا نطرح مثل هذه الاسئلة في أيامنا. ونحن مقتنعون بامكانيّة، بل بضرورة انثقاف كلمة الله. بل نؤمن أيضاً أن الغنى الذي انتجته البيبليا على مر العصور هو ميراث من أجل جميع المؤمنين، ويجب أن ينتقل إلى كل الأطر الحضارية. فالمسيحيّ في آسيا يستطيع أن يرى في اوغسطين وتوما الاكويني وسائر الكتّاب، أجداده في الايمان، شأنه شأن المسيحيّ الغربيّ. فعليه أن يوجّه قلبه وعقله إلى الآباء المشتركين، ويتعلّق بالتقليد الواحد، لا لأن ذلك يشكّل القاعدة السلطوية، بل بسبب حاجة باطنيّة: علينا أن نغطس في تيار كلمة الله المحيي لكي نفهمها.
ولكن، في الممارسة اليوميّة في آسيا، لم يكن المجهود كافياً في هذا المجال. فمعرفة أعمق لتاريخ التفسير البيبليّ، وتنبّه إلى انتشار كلمة الله انتشاراً ديناميكياً في مختلف العصور وفي الأطر المتنوّعة، كل هذا يساعد على انثقاف البيبليا في آسيا. وأظنّ أن المسيحيين في آسيا يستطيعون بشكل خاصّ أن يستفيدوا من غنى التأويل الآبائي. فآباء الكنيسة الأولى هم شهود مميّزون للتقليد. وتفسيرهم للكتب، وإن يكن محدوداً، له قيمة خاصة، لأنهم كانوا قريبين من الاصول المسيحيّة. لهذا قال بيوس الثاني عشر في رسالته "بفيض من الروح القدس": إن "مشاركتهم جاءت من نمط إدراك دقيق لأمور السماء، وولوج الروح بشكل لا يعبرّ عنه". بدأوا مسيرة المثاقفة وسيظلّون النماذج والمعلّمين لهذا الالتزام في الكنيسة. وهؤلاء الآباء الأولون في الكنيسة، ولا سيما آباء الشرق، يستعملون أكبر استعمال الرموز والصور واللغة المجازيّة والتعابير الحكميّة. وفي هذا يحسّ القارىء الشرقيّ أنه في دياره حين يحاول أن يفسّر كلمة الله.
ويجب أن نتذكّر أننا نغتني بتأويل قام به الآخرون. فهذا الغنى لا يحلّ محلّ قراءتنا المباشرة للنصّ. بل هذا يعني أننا نقرأ النصّ معاً وفي حوار بنّاء. هذا ما يقوله لاهوتي عبريّ (روزنفايغ): "عندما يلفت انتباهي نصّ بيبلي، أقرأ كل ما كُتب عن هذا النصّ في التفاسير التقليديّة، عن مكانته في تاريخنا العبريّ. عمّا صار إليه في التقليد المسيحيّ... وحين اكتشف فجأة أني صرتُ أحد هذه التفاسير الكتابيّة اعتبر أني فهمت المقطع الكتابي".
إن قراءة النصّ بهذه الطريقة يوسّع فهمنا ويقودنا إلى أن نُدخل في هذا الحوار، التقاليد والمعلّمين وحكماء حضارتنا. مثلاً يستطيع الصينيّ أن يكتشف بعض التناسق بين تعاليم كونفوشيوس أو لاوتسي ومضمون البيبليا. ويستطيع الهندي أن يكتشف شيئاً من تعاليم المسيح في أفكار روحيّة عميقة نجدها عند كتاب مثل طاغور أو غاندي. وهذا ما يقود إلى الحوار بين الديانات. تحدّث الأب بانيكار عن "المسيح المخفي في الهندوية". وقابل آخرون بين سمات بوذا وسمات يسوع، كما قابل غيرهم بين سمات البوذية وسمات المسيحيّة. وهكذا صارت البيبليا سهلاً خصباً للقاء، وصار الكاتب وسيطاً بين كلمة الله المدوّنة في كتاب و"بذار الكلمة" الموّزع عبر التاريخ. وفي نطاق البيبليا هذا، يتلاقى الآباء ويتحاورون في الايمان، في الدم، في الحضارات. وهذا الحوار الموسّع يدلّ على شموليّة وحي الله (يملأ العالم كله) الذي يريد أن يحاور المسكونة كلها ويجنّد العالم كله من أجل حوار وحيد هو حوار الخلاص.
3- قراءة حكميّة
نذكر هنا مز 119: 105: "كلامك سراج لخطاي". حين تحدّث غاندي عن تفسير النصوص الهندويّة المقدّسة، أكّد أن القاعدة الأولى لفهم النصّ، هي "خبرة عمليّة للحقيقة". وهكذا أشار إلى وسيلة تأويليّة يعرفها الشرق كله. فالحقيقة التي نبحث عنها في الكتب المقدّسة ليست مجرّدة، ولا نظريّة، ولا ماورائيّة. بل هي بالاولى عمليّة وحياتيّة. هي تعلّمنا كيف نعيش. إنها نور للطريق، وهي تقود إلى "معرفة الطريق القويم" (أم 14: 8). الحقيقة تحبّ أن تكشف عن ذاتها، لا في معرفة عقلانيّة، بل في حكمة متناسقة.
ففي التوراة، يتضمّن الأدب الحكميّ سلسلة من الأسفار، كما تحتلّ مقولة "الحكمة" مكانة هامة. في العهد القديم، تمتلك الحكمة مساحة التقاء (كما الأنهار تصب في البحار) حيث التقاليد التشريعيّة والتاريخيّة والنبويّة تتقارب، حيث يتمّ التفكير في مسائل واسعة وسع الكون، حيث الفكر العبريّ يلتقي مع الحضارة الهلنستيّة والفلسفات الشعبيّة في ذلك الزمان. والعهد الجديد نفسه ينسب إلى المسيح وتعاليمه عدّة أقوال حكميّة. قيل فيه: "هو أعظم من سليمان" (مت 12: 42). غير أن حكمته ليست حكمة أشخاص موهوبين أو علماء، بل حكمة تنكشف للصغار، للاطفال (لو 10: 21).
في النصوص البيبليّة، يختبر الحكيم الدهشة أمام الطبيعة وجمال الحياة. ولكنه يحسّ بنفسه ضعيفاً أمام تناقضات الحياة وعبثها. هو لا يحاول أن يجد جواباً للمسائل أو يفلت من الواقع. بل هو يدخل في أعماق الواقع وخبرة الحياة، فيكتشف النظام السّري الذي يوحّد كل شيء، بل ينظر بإعجاب كبير إلى العلاقة المتناسقة التي يجدها بين الله من جهة والكون والشخص البشري والحياة والزمان والمكان والفرد والمجتمع من جهة ثانية. هذا ولو كانت تلك العلاقة مخفيّة تحت الفوضى والنزاعات.
كان للحكماء موقف المشاهدة أمام الواقع. فالزان البوذي يتحدّث عن "عين ثالثة" لدى الحكيم، عن عين ترى الأعماق وتلج المناطق الخفيّة التي لا نجدها في رؤية سطحيّة تجعل كل الاشياء على مستوى واحد. عاد اللاهوتيّ الصيني سونغ شوان سنغ إلى هذه الصورة فتحدّث عن "لاهوت العين الثالثة" الذي نستطيع أن نطبّقه على قراءة البيبليا قراءة تستعمل تأويل العين الثالثة.
وإذ نستند إلى اولويّة المقولة الحكميّة في التوراة، نستطيع أن نفترض بحقّ أن مقاربة القارىء الآسيوي من النصوص المقدّسة، تسهّل له الطريق بشكل خاص لقراءة الأدب الحكميّ. فهو يُدرك إدراكاً أسهل قوّة الحياة والتنسيق التي تنبع من النصّ خصوصاً تجاه المخاطر التي نتعرّض لها في قراءتنا للبيبليا: انفصام بين الإيمان والحياة، بين الفكرة والعيش، بين الفهم والعمل، بين الطاعة والخلق، بين الاستنارة والارتداد.
وحين نعلم أن الحكمة هي عمليّة، لن يعود التفسير الحكمي للبيبليا تفسيراً لنصّ وحسب، بل تفسيراً للحياة أيضاً. فهناك قول مأثور يعود مراراً في التأويل العبريّ، وهو ينطبق على الاطار الآسيويّ: حين تعيش الكتب المقدّسة تفهمها فهماً أفضل. وأعلن غريغوريوس الكبير في إحدى عظاته هذه العبارة القاطعة: "من أراد أن يفهم ما سمع، ليحاول أن يمارس بأقصى سرعة ممكنة ما سمعه". فالعمل ليس فقط امتداداً للفهم. إنه جزء لا يتجزّأ من الفهم. هناك حركة دائريّة تنطلق من الفهم فتصل إلى العمل، وتنطلق من العمل فتعود إلى الفهم. وأقوال يسوع تعطي فكرة واضحة عن هذه النظرة: "الذي يعيش في الحقّ يأتي إلى النور" (يو 3: 21).
إن هذه المقاربة الحكميّة للكتب المقدّسة، تدفع قرّاءها إلى اتّخاذ موقف الاعجاب والشكر والتواضع الصادق. فهؤلاء القرّاء يعرفون، شأنهم شأن حكماء العهد القديم، أن بداية الحكمة هي "مخافة الله"، لا امتلاك الأمور الالهية، ولا حتى امتلاك حياتهم الشخصيّة. فالقارىء الذي يحلّل وينظّم النصّ ويعقلنه لا يستنير، بل النصّ هو الذي يستنير في مضمونه وتنكشف حقيقته.
حين يكون الوحي سامياً جداً، حين تكون أنواره باهرة فتصل بنا إلى ما وراء الفهم، ينحني القارىء الحكيم أمام النصر "ساجداً" ويحفظه في ذاكرته وفي قلبه، وهو يرجو أن ما حفظه في القلب ينكشف شيئاً فشيئاً ويدرك ملء معناه في اختبارات الحياة. فالتربية في آسيا تشدّد على الحفظ في الذاكرة. ومعلّمو الزان يسلّمون إلى تلاميذهم "كوان"، وهي أمثال حكمية تبدو في الظاهر غير مفهومة. فعلى التلميذ أن يحفظها في ذاكرته ويتأمّل فيها ساعاتٍ وأياماً إلى أن تكشف هذه الأمثال معناها الحقيقيّ. والنتيجة الأخيرة هي "الاستنارة" بواسطة الأقوال الحكميّة، و"يقظة" لدى ذاك الذي تأمّل فيها.
قد ننتقد الآسيويّين بسبب نمط من المعرفة بعيد عن المنطق ولا يتأسّس على البرهان. أو بسبب إعمال الذاكرة دون اللجوء إلى فهم تام. ولكن قد يكون هذا تعبيراً عن الحكمة، وهي حكمة تشبه حكمة مريم التي لم تكن تدرك كل شيء بشكل سريع ومباشر، "فكانت تحفظ كل هذه الأمور وتتأمّلها في قلبها" (لو 2: 19، 51).
4- قراءة من القلب إلى القلب
نقرأ في تث 30: 14: "هذه الحكمة هي قريبة منك، في قلبك". فكلمة الله تحتاج أن نحفظها في قلبنا. في الروحانيّة الآسيويّة، يحتلّ القلب مكانة مميّزة. وفي هذا تشارك آسيا العقليّة البيبليّة التي ترى في القلب ينبوع الحياة الباطنيّة لدى الشخص البشريّ. فليس القلب فقط مركز عواطف الحبّ الحميمة، مركز الرغبة، بل مركز العقل والحكمة والحياة الأخلاقيّة كلّها. هنا نكتشف لقاء الله معنا. القلب هو الأرض التي فيها تنبت الكلمة وتثمر وتحوّل الحياة.
إن مختلف أشكال التأمّل التي تمارَس في الشرق، وقد انتشرت الآن في الغرب، تحاول أن تهيّىء الشخص البشريّ على مستوى الجسد والروح، للانفتاح التامّ. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، هي تحاول أن توسّع الزمان والمكان حيث تعيش الكلمة التي نتأمّل فيها، لكي تنغرز شيئاً فشيئاً في أعماق القلب فتتشرّب منها كل كيان الانسان.
في اللقاء الذي تمّ بين المسيح وتلميذَي عمّاوس على طريق عماوس، وبّخهما يسوع في بداية حديثهما "لأنهما بطيئان وثقيلا القلب" (لو 24: 25). وحين فسّر لهما يسوع الكتب المقدّسة "اشتعل قلباهما في داخلهما" (لو 24: 27). فتقبّل كلمة الله يتضمّن مسيرة خاصة فيها يتبدّل قلبنا.
ونقول الشيء عينه عن البيبليا. فالله يكلّم القلب ويعمل في القلب. إلاّ أن هناك وجهة لا تقلّ واقعيّة ودهشة عن تلك التي ذكرناها: فبواسطة البيبليا نستطيع نحن البشر أن نلج قلب الله. هذا ما اقتنع به آباء الكنيسة. وقال غريغوريوس الكبير: "حين نقرأ الكتاب المقدّس نتعلّم أن نعرف قلب الله بواسطة كلامه". ولقد قابل توما الاكوينيّ القارىء بالتلميذ الحبيب الذي استند إلى قلب المسيح، فأكّد أن من قرأ البيبليا "فهم الكتب المقدّسة التي تكشف قلب المسيح بواسطة قلب المسيح نفسه". البيبليا هي جسر من قلب إلى قلب، من قلب الله إلى قلب الانسان، ومن قلب الانسان إلى قلب الله.
وحين يلج القارىء قلب الله، يدرك بشكل تدريجيّ ما سماه بولس الرسول: "نلبس فكر المسيح" (1 كور 2: 16). "تكون فينا عواطف المسيح" (فل 2: 5). نختبر في قلب الله حبّه للبشرية حين يمنحنا حكمته البعيدة كل البعد عن المنطق البشريّ.
حين رسم كونفوشيوس مسيرته الروحيّة الخاصة، صوّر المرحلة الأسمى بهذه الكلمات: "في عمر السبعين كنت أستطيع أن اتبع رغبات قلبي دون أن أتجاوز ما هو حقيقيّ". وهكذا أدرك تناسق القلب الكامل في علاقته مع الله، مع الكون، مع الآخرين.
إن سلطان القلب هذا الذي أبرزته الروحانيّة الآسيويّة، لم يكتشفه بعد اللاهوتيّون المسيحيّون بما فيه الكفاية. فالتعليم المسيحيّ في آسيا يتوجّه إلى العقل ولا يصل إلى هذا المكان الذي فيه تلتقي القلوب. والأنجلة بالقلب ترافقها شهادة الحياة وخدمةُ المحبة التي تعتبر مجالاً منفصلاً كل الانفصال عن التفكير اللاهوتيّ. إن دراسة معمّقة للبيبليا وأنجلة القلب مركّزة على كلمة الله، تستطيعان أن توقظا هذه القوّة السريّة فينا.
فكَّرت ديانة آسيا وحضارتها بواقع الألم، بالرحمة والحنان، بالحبّ الشامل، بالتناسق الكوني والسلام. إنها مواضيع مرتبطة ارتباطاً متيناً بالتعليم البيبليّ. وهي لا تعالَج بمقاربة عقلانيّة، بل عن طريق القلب.
يستطيع مسيحيّو الشرق بسبب هذا الاحساس الخاص، أن يقاربوا سّر الفصح والقيامة في عمق يجعلهم يحسّون بالآلام التي تدمي القلوب البشريّة. فهم يعرفون كيف يقتربون من الصليب لكي يتأمّلوا عظمة حبّ الله وحنانه حين افتدى بألمه ألم البشريّة. ويلجون السّر الذي يجعل الفرح والعذاب في إضمامة واحدة (هذا ما عبرّ عنه يسوع في استعارة المرأة التي تلد، يو 16: 21- 23). ويفهمون أن كل إنسان، كل حياة، كل خليقة، هي ثمينة في عين الله، وأن الجميع مدعوّون ليعيشوا في تفاهم ووئام دون أنانيّة واستعلاء على الآخرين. وليس من قبيل الصدف أن يكون اللاهوتيّون الشرقيّون قد توسّعوا بشكل أصيل وبإحساس خاص، في مواضيع مثل "عذاب الله" (كازوكيتاموري)، "صمت الله"، "عزلة الله" (سوساكو اندو). "تعاطف" (حنان) الله مع "منجونغ" أو البشريّة المتألّمة التي لا صوت لها ولا وجه، ولكن يحقّ لها أن يعترف بها العالم في مسيرة التاريخ (كورش مون).
وهكذا يبدو لي أن قراءة الانجيل "من القلب إلى القلب" (من قلب الله إلى قلب الانسان والعكس بالعكس) تستطيع أن تعمل من أجل لاهوت مسيحي آسيوي وروحانيّة أمينة للوحي الإلهي والحضارة الآسيويّة. كل هذا ينتج عنه وجدان كنسيّ واجتماعيّ جديد، أسلوب أنجلة جديد يقود خطانا إلى حقبة جديدة من أجل شعوب آسيا.
خاتمة
قال يسوع للسامريّة التي استشفّت أنه المسيح: "أنا هو أنا الذي يكلّمك". وهكذا نصل في نهاية حديثنا إلى قراءة تقودنا إلى السّر. هنا يجب على كل مسيحيّ، سواء كان من آسيا أم من قارة أخرى، أن يقتنع أن كل قراءة بيبلية مهما كان الإطار الحضاري، مهما كان النهج المتبع، مهما كانت المقاربة، يجب أن تؤول بنا إلى اللقاء بالمسيح.
مع أن المسيحيّة تمتلك كتباً مقدّسة، شأنها شأن العبرانيين والمسلمين والهندويين والبوذيين، فليست ديانة كتاب، ديانة البيبليا: إنها ديانة المسيح (هنري ده لوباك). لهذا، فتفسير البيبليا لا يتوجّه إلى النصّ أو الكتاب في حدّ ذاته، بل تكون وظيفته بأن يقود جميع البشر إلى سّر المسيح.
بدأت هذه المحاضرة بمقطع تحدّث عن الحبشي الذي يقرأ الكتب المقدّسة. فأدرك بقيادة الروح القدس ومساعدة فيلبس المبشر، النقطة التي فيها قبل المسيحَ في مياه المعموديّة. وأنهي الآن بمقطع هو في قلب "القراءة الربية" التي نقوم بها في هذه الأيام: لقاء المسيح مع المرأة السامريّة. نجد نفوسنا مرّة أخرى في السامرة حيث تمّ ارتداد الحبشيّ إلى المسيح، وهو ارتداد بدأ مع قراءة البيبليا. وهنا أيضاً نجد رمز المياه وعدم فهم في البداية. لم يكن للمرأة أن تقرأ نصاً كتابياً، بل أن تلتقي بالمسيح في "قناع" شخص يهوديّ. لم يكن فيلبس هو الذي قاد هذه المرأة، بل يسوع نفسه الذي أطال أناته فسار معها مسيرة طويلة وكشف لها عن سّره بشكل تدريجيّ. يسوع هو غاية هذه المسيرة، وهو في الوقت عينه ملهمها وموجّهها. ومع رمز الماء حرّر يسوع المرأة من انتظاراتها السطحيّة ودفعها إلى ما وراء الواقع الطبيعيّ، إلى السّر. وبيّن لها أنه في الحقيقة أكبر من أجدادها. وأن عطيّته أعظم من تقليدها الحضاريّ. كلّم قلبها فدخل في أعماق حياتها وفتحها على الآب يعد أن جاء بها إلى آفاق لا محدودة من العبادة في الروح والحق، وساعدها لكي تفهم أن مسيرة البشرية كلّها إلى الله هي أيضاً مسيرة الله إلى البشريّة. فليست البشريّة فقط هي التي تطلب الله وهو يكلّمها. فالله أيضاً يطلب بشكل مستمرّ العبّاد الحقيقيّين. وفي نهاية هذه المسيرة، كشف يسوع عن نفسه كما كشف عن سّر الخلاص المرتبط به. قبلت المرأة أن تدخل في هذا السّر وتصبح بدورها شاهدة له ورسولة، لأن هذا السر معديّ بطبيعته وهو يشمل كل شيء.