الفصل الرابع عشر
الجهاد المسيحي بانتظار المجيء
5: 7- 11
نتوقّف في هذا الفصل عند الرجاء في مجيء الرب، وانتظارنا له في الحياة المسيحيّة. فنتوسّع بعض الشيء في موضوع مجيء الرب، وكيف نعيش هذا المجيء. هنا نعود أيضاً الى الفن الجليانيّ الذي يطبع بطابعه نهاية ف 4 (آ 13- 18) وبداية ف 5 (آ 1- 11). نقابل بين النصيّن ونستنتج صورة عن مجيء الرب.
1- 1 تس والفن الجليانيّ
إن 4: 13- 18 و5: 1- 11 هما قطعتان تنتميان إلى الفن الأدبي الجلياني، وهو فن ازدهر بين القرن الثاني ق م والقرن الثاني ب م، فقرأناه في سفر دانيال وفي أسفار منحولة (مكتومة) مثل كتاب أسرار أخنوخ، عزرا الرابع، رؤيا باروك... ولا ننسى في العهد الجديد سفر الرؤيا الذي يُلقي ضوء الانجيل على الأزمة التي عاشتها الكنيسة في نهاية القرن الأول، في صراعها ضدّ العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ.
بعد أن نقدّم هذين النصّ في موازاة، نستخلص العناصر الجليانيّة التي نجدها فيهما.
أ- نصان مختلفان
أولاً: نظرة سريعة
4: 13: مدخل إلى الموضوع مع "أما... أيها الاخوة" = 5: 1.
4: 14: استغلال عبارة اعتراف ايماني= 5: 9- 10.
4: 13- 14: الايمان والرجاء= 5: 8.
4: 13: مقابلة مع الآخرين= 5: 6.
4: 13، 14، 15: مقابلة الموت مع النوم= 5: 10.
4: 15، 17: سنكون "نحن" هناك حين يجيء الرب= 5: 10.
4: 17 (14): الهدف النهائي: أن نكون كلنا مع الرب= 5: 10.
4: 18: ليعزّ بعضهم بعضاً ليشجّع...= 5: 10.
ثانياً: مقابلة
4: 13: لا نريد أن تكونوا
في جهل أيها الأخوة
في ما يخصّ الراقدين
لئلا تحزنوا
كغيركم ممّن
لا رجاء لهم
14: فإن كنا نؤمن
أن يسوع مات ثم قام
كذلك الله أيضاً بسبب يسوع
سيحضر معه الراقدين
15: نقول لكم هذا
على قول الرب
إننا نحن الأحياء
الباقين إلى مجيء الرب
لا نسبق الراقدين
16: لأن الرب في إشارة
وصوت رئيس الملائكة
وبوق الله
ينزل من السماء
فيقوم الموتى اولاً
17: ثم الأحياء الباقين
جميعاً معهم
نختطف في الحب
للقاء الربّ في الفضاء
وهكذا نكون دوماً مع الربّ
إذن، عزّوا (شجعوا)
بعضكم بعضاً
بهذا الكلام. 5: 1: أما الأزمنة والأوقات
أيها الأخوة فلا تحتاجون
أن يكتب إليكم
2: انتم تحملون يقيناً
ان يوم الرب
كلصّ في الليل
هكذا يأتي.
3: حين يقولون: سلام وأمن
حينئذ يدهمهم الدمار
كآلام المرأة الحبلى
ولن يفلتوا
4: أما أنتم أيها الاخوة
فلستم في الظلام
حتى يغشاكم ذلك اليوم
كلصّ
5: فأنتم ابناء النور
أبناء النهار
لسنا من الليل
ولا من الظلمة
6: أذن لا ننَم كالآخرين
بل لنسهر ونصحُ
7: فالذين ينامون
في الليل ينامون
والذين يسكرون
في الليل يسكرون
8: أما نحن أهل النهار فلنصحُ
ولنلبس الايمان
والمحبّة درعاً
ورجاء الخلاص خوذة
9: لأن الله لم يجعلنا للسخط
بل لامتلاك الخلاص
بربنا يسوع المسيح
10: الذي مات لأجلنا
لكي إذا كنا ساهرين
أو كنا نائمين
نحيا جميعاً
معه
11: لهذا عزّوا (شجعوا)
بعضكم بعضاً
وليبنِ احدكم الآخر
كما تفعلون.
ب- العناصر الجليانيّة
يبقى أن نحدّد بم يكون هذان المقطعان من الفنّ الجلياني. إنهما ينتميان في الدرجة الأولى إلى الاحثاث والتحريض. يريد بولس أن يدفع المسيحيّين إلى موقف مسيحيّ: رفْض الحزن أمام موت أشخاص أعزّاء. سهر يرافقه نسك تجاه الجهاد المسيحيّ. ويقوم بولس بهذا الاحثاث على أساس جليانيّ دون أن يستغلّ كل المصطلحات التي بها نعرف اسفار الرؤى: نسبة النصّ إلى شخص شهير في الماضي (آدم، اخنوخ...)، تاريخ مسبق (مثلاً، نحن في دانيال في القرن الثاني ق م، فيجعلنا الكاتب في القرن السادس وما بعد)، تقطيع التاريخ إلى قطع، تصوير الكوارث في صور مخيفة، الرؤى، الملائكة. هذه اللائحة بالسمات الجليانيّة تدعونا إلى استنتاجات خفرة وبسيطة.
في المقطع الأول (4: 13- 18) تتركّز السمات الجليانيّة في سيناريو نزولا الرب في آ 15- 17: الاشارة (أو الهتاف)، صوت رئيس الملائكة، بوق الله، النزول من السماء، قيامة الموتى، الاختطاف على السحاب في الفضاء.
في المقطع الثاني (5: 1- 11)، إذا جعلنا جانباً الغضب في آ 9، نجد السمات الجليانيّة في آ 1- 3: الأزمنة والأوقات، يوم الرب (الذي ينتمي ايضاً إلى الأدب النبويّ)، فكرة المباغتة (فجأة)، الكارثة، مخاض الحبلى، استحالة الافلات. نستطيع ان نزيد النور والظلمة (آ 4- 5) اللذين نجدهما في فنون أدبيّة جدّ مختلفة.
ولكن ما يُشرف على تفسير هذين التحريضين، كما على تفسير مقاطع أخرى من هذ الرسالة، هو نهج الفكر الجليانيّ الذي ظهر في العالم اليهوديّ قبل المسيح كطريقة جديدة للنظر إلى العالم ولعيش الايمان.
فالحركة الجليانيّة التي برزت من أزمات متعاقبة في تاريخ اسرائيل، ولّدت نظرة متشائمة إلي التاريخ: لقد انفصل هذا العالم عن الله، فغرق في الشّر. لهذا لا يستطيع الخلاص بعد اليوم أن "ينبت من الأرض": لم يعد التاريخ "تاريخ خلاص". وهذا الخلاص لا يمكن إلاّ أن يأتي "غداً" (في المستقبل، في الآتي من الأيام)، إلا أن يأتي من فوق. ليس هو هنا، ليس هو الآن، إنه هناك في البعيد وفي آخر الأزمنة.
إن ملكوت الله لا يعمل عمله داخل الممالك التاريخيّة: بل سيحلّ محلّها ومحلّ تاريخها لكي يخلق شيئاً جديداً. هنا نجد الفرق بين وعي إيماني ينعش الانبياء الذين يرون أن إسرائيل يختبر في التاريخ حضور الله المخلصّ. وبحسب الفكر الجليانيّ، يجب ان تتحطّم مسيرة هذا التاريخ لكي يأتي عمل الله عبر هذا العالم. هكذا يعود دور التاريخ البشريّ إلى أقلّ شيء ممكن، إلى إستعداد سلبيّ، والتسامي الالهي يحتلّ حقل الفكر كله.
الله هو ذلك الذي لا يُدرك، الذي يقيم في السماوات. أما عند الأنبياء فهو الكليّ القداسة، وفي الوقت عينه القريب جداً منّا. وها هو الآن يرسل ملاكه ليكشف أسرار النهاية التي نرجوها والتي ليست تكملة للتاريخ. وهذه النهاية توافق مجيء المسيح الذي سيصنع كل شيء جديداً.
إن هذا الفكر الجليانيّ يبقى في خلفيّة مراحل عديدة من التقليد الانجيلي، وذلك فبل التدوين الأخير لأناجيل لو، مت، يو. أما بولس فسيبقى مرتبطاً بهذا الفكر قبل أن تجعله خبرة الحياة والرسالة يلقي على التاريخ، نظرة أكثر توازناً. حينئذ يتطلّع إلى بَسط التاريخ كموضع المصالحة بين البشر، والسيادة المتنامية للمسيح الممجّد بفضل إعلان الانجيل. بل كموضع قيامة مسبقة لا في يسوع وحسب، بل في حياة المؤمنين. لهذا ظلّ فكر بولس في 1 تس في خطّ رسمات جليانيّة بحيث كان يعتقد أن جيله سيعيش "نهاية الأزمنة" التي انتظرها الناس في أيامه.
لما كان الحديث عن مصير الأموات أو عن تاريخ النهاية، مع أنه عالج المسألة من زاوية التحريض على الشجاعة والسهر، فلا نستطيع أن نفهمه خارج النهج الجليانيّ.
وإليك كيف نتعرّف إليه: هناك تعليم موحى نقبله، هناك "قول الربّ" (4: 13). ولا نستطيع أن نبقى في الجهل (4: 13). أما بولس فهو المهيّأ ليحمل هذه الكلمة إلى جماعة المؤمنين. وكل هذا يتركّز على النظر إلى يسوع كالتتمّة الأخيرة لمواعيد الله وعمله: كل ما نستطيع أن نقوله ونعيشه، هو نتيجة هذا الحدث الأخير الذي صار وراءنا. وليس يسوع حدثاً بين أحداث أخرى تتوالى في التاريخ: إنه الذروة القصوى لهذا التاريخ فلا يعود لنا إلاّ أن ننتظر مجيئه.
وأخيراً، هذا العالم الذي يمثّله "الآخرون"، يعارض الله، وهو بالتالي غريب عن الخلاص وعن الرجاء الذي يتطلّع إلى هذا الخلاص.
2- صورة عن المجيء
إذا عدنا إلى 4: 13- 18، نكتشف أولاً الموضوع والسبب الذي دفع بولس إلى معالجته. وبعد هذا، يأتي تأكيد ينطلق من التوافق الأساسي: المسيح مات ثم قام. وبعد شرح العبارة "الله يجمعهم إلى يسوع" (هذا قول الرب)، نصل إلى الخاتمة التي فيها يطلب منهم بولس أن يعزّوا بعضهم بعضاً، أن يشجّعوا بعضهم بعضاً بكلام الربّ. ونتوقّف عند صورة المجيء في ست محطات.
أ- ينزل الربّ من السماء
هي المرّة الأولى في الرسائل البولسيّة يقال لنا فيها أن "المسيح ينزل من السماء". مثلُ هذا الكلام يطرح علينا سؤالاً. فالاناجيل الازائيّة قد احتفظت بسبعة عشر قولاً ليسوع حوله ابن الانسان المجيد: في سبعة من هذه الأقوال، "يجيء" ابن الانسان. وثلاثة أخرى تتحدّث عن "مجيئه" وعودته (باروسيا)، ولكنه لا "ينزل" ابداً. وفي الرسائل البولسيّة تسيطر لغة المجيء. نقرأ في 1 كور 4: 5: "إلى أن يجيء الرب". وفي 11: 26: "تعلنون موت الرب إلى أن يجيء". وفي 2 تس 1: 1: "سيجيء في ذلك اليوم لكي يتمجّد في شخص قدّيسيه". ونقرأ في عب 10: 37: "بعد وقت قليل جداً يأتي الآتي ولا يبطىء".
في العهد القديم، يُذكر "نزول" الرب المقبل مرّات قليلة. بما أن مسكن الله هو "في السماوات" "التي هي فوق"، فالله ينزل حين يظهر على البشر. ولكن المؤمنين لا يأملون إلا قليلاً بتدخّل آخر لله بشكل نزول من السماء، ما عدا مز 14: 5: "يا رب طأطىء سماواتك وانزل". وفي الصلاة المسيحانية الكبرى في أش 63: 14 نقرأ: "يا ليتك تشقّ السماوات وتنزل". وسفر دانيال نفسه بما فيه من عناصر جليانيّة، لا يشير إلى نزول من السماء إلا في بعض الترجمات. يتحدّث عن نزول ملاك (مثل مت 28: 2: "نزل ملاك الربّ من السماء ودحرج الحجر"). في دانيال، لا ينزل ابن الانسان السريّ. هو يجيء. أما السفر الوحيد الذي يتحدّث مراراً عن النزول فهو رؤيا القديس يوحنا. ولكن لا الله ينزل ولا المسيح: ما ينزل فقط هو النار والبرَد والملاك وأورشليم الجديدة.
نحن هنا أمام لغة لم نعتَد عليها. كيف نفسّر هذا الوضع الفريد؟ هنا نعود إلى انجيل يوحنا الذي يشدّد على ارتفاع يسوع المقبل، وبالتالي على نزوله في السابق وفي الحاضر (يو 3: 12؛ 6: 32، 38، 50، 51، 58). فيسوع ابن الانسان سيُرفع في المجد حين يُرفع على الصليب. هذا يعني في نظر يوحنا أنه نزل من السماء (رج 6: 62: وحين ترون ابن الانسان صاعداً حيث كان أولاً).
في يوحنا، النزول ضروريّ من أجل ارتفاع المسيح: فلا قيامة بدون تجسّد يسبق هذه القيامة. وفي 1 تس لا يرتبط النزول بتجسّد يسوع. هو نزول مقبل، وهو موضوع رجاء وانتظار. غير أن هذه اللغة ترتبط بسّر القيامة والتمجيد (كما في يوحنا). وبما أن يسوع ارتفع وجلس عن يمين الله، يستطيع بولس أن يتحدّث عن نزوله المقبل. والأقوال عن ابن الانسان الذي "يجيء" (لغة قبل فصحيّة) قد أعيدت قراءتها على ضوء قيامة المسيح وتمجيده فإن شاء أن يجيء سينزل من السماء بعد أن صعد إلى هناك.
ب- صوت رئيس الملائكة وبوق الله
إن سيناريو مجيء الرب يستعمل لغة خاصّة، لغة نادرة في الكتاب. يُذكر "الأمر" (رج أم 30: 27 حسب السبعينيّة)، أمر رئيس الملائكة (لا يرد في العهد القديم، بل هنا وفي يهو 9). أما بوق الله فيرافق في العهد القديم ظهورات الله الكبرى المسمّاة "تيوفانيا" (خر 19-20). ونحن نجده في الأدب الجليانيّ وفي مت 24: 31: "يرسل ملائكته ببوق عظيم".
هل نجد في "الأمر" و"صوت رئيس الملائكة" و"بوق الله"، تأكيداً على كل تفاصيل المجيء؟ لا نحاول أن نوضح أموراً لم يوضحها الرسول الذي يذكر في 1 كور 15: 52 "البوق" دون أن يقول "بوق الله". غير أن لهذه الرمزيّة الجليانيّة مدلولاً ثمنياً: فهي تقول بطريقتها إن مجيء الرب لا يقع في قبضة الانسان، إنه حدث يتقبلّه البشر دون أن يكون لمبادرتهم أي دور فيه. لا شيء من الانسان في هذا السيناريو: فالله هو سيّده ووحده يعرف زمانه. أما التاريخ فقد أعطي للانسان لكي يملأه بإنجازاته: ونهاية هذا التاريخ هي في الوقت عينه نهاية كل مبادرة بشريّة.
ج- الموتى والاحياء
أولاً: يقوم الموتى اولاً
نلاحظ في لغة هذا الاعلان أن الصفة تحوّلت إلى موصوف. استعاد بولس لفظة من التوراة والتقليد المسيحيّ، فترك لفظة "الرقاد" التي استعملها ثلاث مرات في الآيات السابقة.
ونقرأ لفظة "أولاً" التي هي هامّة. فقيامة الموتى عنصر هام في الفقاهة الرسوليّة، في خطّ عقيدة الفريسيّين المتجذّرة في التقليد البيبلي الحديث (دا 12: 1 ي؛ 2 مك 7: 9)، وتعليم يسوع نفسه.
غير أن الجواب على سؤال التسالونيكين، ليس في التأكيد على قيامة الموتى بقدر ما هو في التأكيد على أن هذه القيامة ستكون النتيجة الأولى لنزول الرب: "يقوم الموتى أولاً".
ثانياً: ثمّ الاحياء معهم
والفصل الثاني (ثمّ ثانياً) هو اجتماع القائمين "والبقيّة" في مجموعة واحدة موحّدة. تُرفع، "تختطف للقاء الرب في الهواء". استعمل بولس هنا موضوعاً أدبياً هو موضوع الاختطاف: فمشاهد الاختلاف متواترة بعد حالتين نموذجتين: اختطاف اخنوخ (تك 5: 24)، والنبيّ إيليا (2: 2- 18). وزادت كتب الرؤى النحولة: عزرا، باروك، موسى، أشعيا. ولعبت السحب دوراً هاماً في اختطاف اخنوخ وموسى، كما كنت مطيّة ابن الانسان في دا 7: 15.
نقارب بين هذه الأخبار ونصوص تصوّرُ الاختطاف بشكل متطوّر: هو اختطاف النفس كما في العالم الهلّيني (وصيّة ابراهيم 14: 6- 7). ولكننا لا نقرأ كما في 1 تس فعل "اختطف" الذي نقرأه في نصوص رومانية ويونانية (اختطاف رومولوس مؤسّس رومة).
في كل هذه الحالات، يكون الاختطاف أجراً يُمنح لكائن خارق، ودلالة على نجاح حياة مميّزة. هذه الفكرة ينقلها بولس في اسلوب شعبيّ، وهكذا يقودنا إلى ذروة تعليمه الرسوليّ: "نكون مع الربّ على الدوام".
د- نلاقي الربّ
هي عبارة عاديّة، ونحن نجدها أكثر من مئة مرّة في العهد القديم. يعود الملك او القائد من الحرب، فيذهب الناس للقائه تكريماً له. في تك 14: 17، خرج ملك سدوم للقاء ابراهيم العائد من حربه مع الملوك الأربعة. وفي 1 مل 19: 16 خرج رجال يهوذا إلى الجلجال للقاء داود الذي انتصر على أبشالوم.
أما الصورة البولسيّة فتستلهم تيوفانيّة سيناء. "في اليوم الثالث ينزل (يهبط) الرب من جبل سيناء أمام جميع الشعب... وحين تأتي الاصوات والابواق والسحاب من الجبل، حينئذ يصعدون على جبل... وفي اليوم الثالث في الصباح كانت أصوات وبروق وسحاب كثيف على جبل سيناء وصوت بوق شديد جداً. فأخرج موسى الشعب من المخيّم لملاقاة الله، فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء، مغطّى كله بالدخان، لأن الرب نزل عليه من وسط النار" (خر 19: 11 ي).
إذن، لا نعجب إن كان نزول الربّ الأخير يستعيد السمات الجوهريّة في التيوفانيا العظمى التي عرفها شعب الله في بداياته. ولكن حين تكلّم بولس بهذه الطريقة، استعمل لغة يفهمها قرّاؤه اليونانيّون. فحين يدخل الملك إلى مدينة ليزورها أو يضع يده عليها، يخرج الناس إلى خارج المحّلة ليواكبوه بأناشيد الفرح (هذا ما فعل المسيحيون لمّا وصل بولس على ابواب رومة: أع 28: 15).
فالذهاب لملاقاة الربّ يعني أن نشارك المسيح فرحته في انتصاره على الموت. وهذا ما نقرأه بوضوح في 1 كور 15: 54- 55: "حينئذ يتمّ القول الذي كتب: قد ابتلع الموت في الغلبة. فأين غلبتك أيها الموت؟ وأين شوكتك أيها الموت"؟.
ونقرأ: "نُختطف في السحب لنلاقي الربّ في الهواء". كيف نفهم هذا الكلام؟ هل نعتبره تعبير إيمان ثابت؟ نلاحظ اولاً أن 1 كور 15: 51- 52 لا تستعيد هذا التعبير، بل هي تقول عن الذين نالوا نعمة بأن يكونوا على قيد الحياة عند مجيء الرب: "نتحوّل. يقوم الموتى. ونحن نتحوّل". أي نلبس اللافساد، نلبس الخلود (اللاموت). هذه اللغة هي تفسير 1 تس المرتبطة بالتمثلات المكانيّة. فحين يتحدّث بولس عن اختطاف على السحب وفي الهواء، فهو يدلّ على تحوّل جذريّ تفرضه الحياة مع الرب القائم من الموت. وهكذا نكون على صورته.
فالانسان المأخوذ من الأرض لا يستطيع بقواه الخاصة أن يصعد في الفضاء. فإن استطاع، فهذا. يعني أن حالته قد تبدّلت، تروحنت: لقد أمسك به الروح كما أمسك بالمسيح في قيامته.
هـ- نكون مع الربّ على الدوام
إن العلاقات بين المؤمنين والمسيح تُفهم بأشكال مختلفة: ويراعي بولس بشكل عاديّ هذا التنوع مستعملاً حروف جرّ مختلفة: في المسيح، بفضل المسيح، بالمسيح، للمسيح، مع المسيح. وهكذا، فالمسيحي خلال حياته على الارض هو "في المسيح". وهذه العلاقة الجديدة تجعله يعيش من الإيمان والرجاء. ذاك هو وضع الإنسان المبرّر.
ولكن حين يكون الحديث عن نهاية الحياة المسيحيّة على الأرض، إمّا في مجيء الربّ، وإمّا في موت الانسان، يستعمل بولس حرف "مع" (سين) الذي يختلف عن "ميتا" المستعمل في الاناجيل للحديث عن رفقة يسوع للتلاميذ والجماعة (في 3: 13 نجد رفقة الرب مع قديسيه). فحرف "سين" يقرّبنا من المشاركة والمقاسمة. إذن، العلاقة هي وثيقة وحميمة أكثر ممّا في عبارة "في المسيح". هي مشاركة على مستوى الجسد للمؤمنين في قيامة المسيح. هي تتمّة مسيرة المسيحيّ مع المسيح.
وهذا الاجتماع بالرب في نهاية مسيرة المسيحيّ، يغرز جذوره في الخط عينه (مع المسيح) الذي يتمدّد في أصول الحياة المسيحيّة: في المشاركة مع المسيح، مع حدث موته وقيامته من جهة، ومن جهة ثانية في تأوين هذا الحدث بالنسبة إلى كل مؤمن بفضل سّر العماد. رج روم 6: 4 ي: "بالمعمودية دُفنّا مع المسيح فصرنا كائناً واحداً معه، على شبه موته... صُلب انساننا العتيق معه... متنا مع المسيح".
وزادت كو 2: 12: "قمتم معه بالايمان في عمل الله الذي أقامه من بين الأموات: أحياناً معه". لماذا؟ هذا ما يقوله اعتراف الايمان في 5: 8: "مات المسيح من أجلنا". وتتمّة الحياة المسيحيّة في مشاركة الرب في حياته ومجده، هي الظهور الكامل لما تضمنّه الحدث (موت المسيح وقيامته) الذي أسّس المعمودية وأوّنها بالنسبة إلينا.
لا يُقال هنا أي شيء عن الحياة مع الرب. ونحن نخاطر إن نسبنا إلى بولس نظرة الالفية (أي ملك مع المسيح يدوم ألف سنة). بحسب هذه النظرة، تكون نهاية نزول الرب إقامة المسيح المجيد على الارض حيث "يملك" المؤمنون معه. لا يهتمّ بولس بمسألة المكان: فهو يرجو التئام جميع المؤمنين في المشاركة مع الرب. وسيقول في 2 تس 2: 1: "اجتماعنا معه".
3- تعليم للمؤمنين على أساس إيمانهم
هنا نعود إلى نص 1 تس 5: 7- 11، بل نبدأ مع آ 4. فبعد أن تحدّث بولس عن البشر بشكل عام، ها هو يتوجّه الآن إلى المؤمنين: "أيها الاخوة". ويتوسّع كلامه في موجتين متلاحقتين. وفي كل موجة يستند البرهان إلى اختلاف بين "الناس" الذين تحدّث عنهم (الآخرين)، والذين يسمّيهم الآن "أنتم" (آ 4- 5 أ: لستم في الظلام) و"نحن" (آ 5 ب- 10: لسنا من اهل الليل)، أي المسيحيين. وإذا عدنا إلى الأقوال النبويّة نقول: إذا كان يوم الرب هو يوم ظلمة ودمار "للآخرين"، فسيكون يوم خلاص للذين ظلّوا أمناء للربّ
أ- توسّع أول (آ 4- 7)
نعود هنا إلى مثل اللصّ في الليل. بما أن اللصّ. يأتي في الليل، وبما أنكم لستم في الظلمة، فلا يستطيع شيئاً ضدّكم. إذن ينطلق بولس من "الليل" في المعنى الزمني (يقابل النهار) إلى "الظلمة" التي تحدّد وضعاً روحياً من الجهل والشرّ والخطيئة. ثم يقول بشكل إيجابيّ: "إنكم جميعاً أبناء النور، أبناء النهار". إن استعارة "النور" تجاه "الظلمة" تشير إلى عالم الايمان والمحبة والرجاء، إلى موضع العلاقات مع الله. و"اليوم" هو الآن "يوم الرب": بما أنكم أبناؤه، بما أنكم تخصّونه بشكل طبيعيّ، فهذا اليوم هو يومكم، يوم خلاصكم
ثم يعود بوليس بشكل سلبيّ فيقول: "لسنا من (لا ننتمي إلى) الليل ولا مِن الظلمة". وتستخرج آ 6 نتيجة انتماء المسيحيين لعالم النور والنهار: "لا نَنْم كالآخرين". وأخذ فعل "نام" معنى استعارياً. هو لا يدلّ على الموت كما في فعل رقد. بل يوضحه الوقف الذي يقابله: "لنسهر ونعش في العفّة". إذن النوم هو استسلام لحياة سهلة، كحياة تعرف الاهمال والتهاون لا العفّة والاعتدال. وتفصّل آ 7 هذا الموقف: نحن أمام ما يُصنع في الليل والظلام، في الخفية، كما يفعل السارق، لأن مثل هذا العمل مذموم: كل هذا يلخّص في الشرب والسكر.
وترتبط فكرة الاعتدال (والعفّة. من عفّ عن الشيء امتنع) بفكرة السهر. نحن نعفّ عن الشرب ونعتدل فيه. وكما أن السهر هو ما يمنع النوم، فالعفّة ليست فقط على مستوى الاعتدال في شرب الخمر، لأن السكر يغرق الانسان في اللاوعي فلا يعود انساناً. أما الانسان المعتدل فهو الذي يحتفظ بملكاته كإنسان. يكون "في حالة جيّدة" على المستوى الروحيّ والمستوى الجسديّ. هذا ما يحصل عليه بالتنسّك والجهاد.
ب- توسع ثانٍ (آ 8- 10)
ويستعيد بولس الحديث عن انتماء المؤمنين إلى عالم النور في ثلاث كلمات: "أما نحن فبما أننا من النهار". ويتوضّح مضمون التحريض على السهر بأكثر من الاعتدال. هناك حرب وقتال بسلاح (الدرع، والخوذة) الايمان والمحبّة والرجاء. فهذه الفضائل الثلاث تدلّ أفصل دلالة على المسيحيّ.
ولماذا هذه الحرب غير المتوقعة؟ هنا نعود إلى آ 9: "لم يجعلنا الله للسخط بل لاقتناء الخلاص". إذا كان الله قد اعدّنا للخلاص، فلماذا القتال؟ أما يعطينا الخلاص مهما كانت الظروف؟ أما بولس فيقول: بما أن الله أعدّنا للخلاص، فنحن مدعوّون للحرب الروحيّة. مثل هذا الكلام يفترض يقيناً يقول: إذا كان الخلاص عطيّة من الله، فهو ليس بعطيّة تفرض علينا. إنه ثمرة مشاركة حرّة بين الانسان (الذي يفعل ما يُطلب منه، ولو كان ناقصاً) وبين الله الذي يخلِّص. فالمؤمنون هم مسؤولون مع الله عن خلاصهم الذي يقف في نهاية حياة من الاستقامة، حياة من الايمان والرجاء والمحبّة.
منذ ف 1 فهمنا دور الايمان والمحبة والرجاء. وفهمنا أن حياتنا ليست منفعلة، بمعنى ان الله يفعل كل شيء ونحن "نكتّف" أيدينا. فالايمان يكون ناشطاً فاعلاً. والحبّ يقوم بمجهود من أجل القريب. والرجاء نعيشه في الثبات على ما قال الرب: "من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص".
إذن، تعبرّ صورة الحرب الروحيّة تعبيراً رائعاً عمّا اكتشفناه في فعل الشكر (1: 3 ي)، وفي تصوير الجماعة المسيحيّة: إن الدخول في الإيمان لم يجعل أهل تسالونيكي في وضع من السهولة والرخاء، في سعادة متراخية. بل عكس دلك. لأن الحرية المسيحيّة، شأنها شأن كل حرية، تعاش في الجهاد. فطريق الخلاص قد رسمه الرب يسوع نفسه، فكان موته بالنسبة إلى المؤمنين نداء إلى الايمان وانفتاحاً على الرجاء والمحبّة. وكل هذا "بربنا يسوع المسيح الذي مات لأجلنا لكي نحيا جميعاً معه، ساهرين كنا أم نائمين".
"يسوع الذي مات من أجلنا". عبارة إيمانية تسلّمها بولس من التقليد المسيحيّ. وعبارة "من أجلنا" نجدها في خبر الافخارستيا (1 كور 11) حيث يقول: "تسلّمت من الرب ما سلّمت إليكم". فموت المسيح يسوع يرتبط بخلاصنا وفدائنا، بتحررّنا من الخطيئة.
وننهي هذه المقطوعة مع "السهر والنوم" لا على المستوى الأدبي بل على مستوى الاستعارة، حيث نام تعني رقد في الرب، مات. وسهر تعني: ما زال على قيد الحياة. لهذا، فالجوهريّ ليس أن نكون أحياء ساعة مجيء ربنا. فالمسيح قد مات لأجلنا لكي نحيا معه جميعاً. هذا هو الخلاص الذي هيّأه الرب لنا. وهكذا يوجّهنا هذا التحريض إلى قمة وجّهنا إليها التحريض السابق (4: 17): "نكون مع الرب على الدوام". ولكن حلّ فعل "نحيا" محل فعل "نكون"، لأن موضوع الرجاء هو حياة ووجود. وهكذا نكون قد وصلنا إلى قيامة المؤمنين من الموت إلى حياتهم مع ذلك الذي مات وقام من أجلهم.
ج- الطلب الأخير (آ 11)
مثل هذا التعليم يلهم المسيحيين كلام التعزية بعضهم لبعض. وبالنسبة إلى 4: 18، زاد بولس تحريضاً يقول: "ليبنِ احدكم الآخر". إن موضوع البناء سيكون أحد المواضيع الرئيسيّة في الاكليزيولوجيا البولسيُّة: الكنيسة واقع تاريخيّ يبنيه الله والبشر معاً.
نحن هنا في بناء شخصيّ متبادل. ولكن المؤمن يبني نفسه داخل الكنيسة التي فيها يعيش حياة من الايمان والرجاء والمحبة. كل هذا يفتح الطريق أمام التحريضات التالية التي تقول لنا بما يقوم بناء الكنيسة.
خاتمة
إن تعليم يسوع حول أحداث النهاية يجد ذروته في نداء إلى السهر. وهذا الموقف الذي يعارض النوم، يدلّ على المسيحيّ الذي ينتظر عودة ربّه. هذا ما وجدناه في الخطبة الاسكاتولوجيّة (مر 13: 33- 37 وز)، وفي عدد من الامثال التي تتحدّث عن انتظار مجيء المسيح (مت 25: 1 ي؛ لو 12: 35- 46). وتأتي صورة الليل والظلمة والرقاد، مع صورة النور والنهار، فتدعونا لكي نصحو كما من السكر ونقوم بحرب يكون فيه الايمان سلاحنا (قد يكون السيف)، والمحبّة درعنا، والخوذة رجاء خلاصنا.