الفصل الحادي عشر
نكون دوما مع الرب
4: 13- 18
حين طُرد بولس من تسالونيكي "بيد اليهود الذين غاروا منه" (أع 17: 5- 10)، ترك كنيسة فتيّة وسريعة العطب. وذهابه من المدينة لم يضع حداً للصعوبات التي هزّت الجماعة الجديدة. لهذا بدا الرسول قلقاً، ولكنه لم يستطع أن يعود إلى تسالونيكي (2: 18؛ 3: 1). لهذا عزم على إرسال تيموتاوس ليثبّت إيمان المسيحيّين (3: 2). عاد تيموتاوس حاملاً أطيب الأخبار، ولكنه لم يحلّ جميع المسائل ولا سيّما ما يتعلّق بمجيء الربّ. في هذا الموضوع، أراد بولس أن يتم ما هو ناقص في إيمان التسالونيكيين (3؛ 10؛ رج 4: 13- 5: 11). واسترعى انتباهه موضوعان يبدأ كل منهما بالاداة "باري دي": أما في ما يتعلّق (ما هو من أمر) الراقدين (4: 13). أما في ما يتعلّق بالأزمنة والأوقات (5: 1). حين مجيء الربّ، ماذا سيكون مصير المسيحيّين الذين ماتوا قبل ذلك الوقت؟ ومتى تحصل عودة الرب هذه؟
1- الرجاء المسيحيّ
"لا نريد أيها الاخوة أن تجهلوا ما هو من أمر الراقدين. لئلا تحزنوا كغيركم ممّن لا رجاء لهم".
أ- نحن أبناء الرجاء
حزنَ المسيحيّون في تسالونيكي بسبب موتاهم. ولهذا حاول بولس أن يثبت أن المسيحيين الذين يظلّون أحياء حين مجيء الربّ، لن يكونوا أفضل من الموتى. فلا ينضمّون وحدهم إلى مُلك مسيحاويّ يسبق قيامة الموتى. فنحن "جميعاً" نذهب إلى لقاء الرب، أحياء أو قائمين من الموت.
وإذ أراد الرسول أن يردّ على هذا السؤال الذي يحرّك الجماعة، أوضح بعض النقاط الرئيسيّة في الإيمان المسيحيّ. بدأ فحدّد بشكل ضمنيّ ما هو المسيحيّ: هو ابن الرجاء. قال في آ 13 ب: "لا يجب أن تحزنوا كسائر الناس والذين لا رجاء لهم"، أي مثل "الوثنيّين الذين لا يعرفون الله" (4: 5).
وهكذا انقسمت البشريّة قسمين: من جهة الوثنيون والذين استُبعدوا من مواطنيّة اسرئيل، وكانوا غرباء عن عهود الموعد، وما كان لهم رجاء ولا إله في هذا العالم" (أف 2: 12). ومن جهة ثانية، المسيحيّون "الذين سبقوا فأناطوا رجاءهم بالمسيح" (أف 1: 12) وقبلوه على أنه "رجاء المجد" (كو 1: 27).
لا شكّ في أن هناك مسيحيين ترجّوا حياة في الآخرة، انتظروا عالماً فيه يتمّ تفتّحهم بعد الموت. ولكن انتظارهم لم يعرف الثبات يوماً، كما لم يمتلك "كفالة" بأنه يتحقّق على مثال ما يمتلك الرجاء المسيحيّ المتجذّر في الإيمان بالمسيح القائم من الموت. وإذ أراد بولس أن يؤسّس رجاء التسالونيكيّين، ذكّرهم حالاً بالسّر الفصحيّ.
ب- رجاء مؤسّس على الإيمان
إن المسيحيّ يؤمن قبل كل شيء أن "يسوع مات ثم قام" (آ 14)، يؤمن "بذلك الذي أقام من بين الأموات، يسوع ربّنا الذي أسلم لأجل زلاتنا، وأقيم لأجل تبريرنا" (روم 4: 24- 25). وارتدّ التسالونيكيون إلى الإيمان المسيحيّ لينتظروا يسوع المخلّص الذي "أقامه من الموت" (1: 10) الله الحيّ.
لقد أسّس بولس على واقع يقبل به المؤمن ولا يجادل فيه، أسّس على قيامة المسيح، تأكيداً لواقع آخر سيأتي فيما بعد: إن المسيحيين الذين ماتوا وهم متّحدون بالمسيح، سوف يقومون. وهكذا تكون في فكر بولس علاقةٌ وثيقة بين قيامة المسيح وقيامة المسيحيّين المدعوّين إلى المشاركة في مجده.
ج- الإيمان بالقيامة
نندهش للوهلة الأولى حين نقرأ برهان بولس: فإن كنا نؤمن أن يسوع مات ثم قام، كذلك (لنؤمن) بأن الذين رقدوا في يسوع سيحضرهم الله معه" (مع يسوع) (آ 14). إن طريقة تقديم الجملة أمرٌ له معناه. انتظرنا الجملة التالية: "إذا كنا نؤمن... كذلك نؤمن أن الموتى سيقومون". لم يهتّم بولس بالمنطق الداخليّ لفعل الإيمان، بل بمدلول السّر الفصحيّ، سّر موت يسوع وقيامته. لهذا كانت الجملة التالية: وإذا كان يسوع قد مات وقام، كذلك يقوم في يسوع كل الذين ماتوا فيه". لقد ارتبطت قيامة المسيحيّ بقيامة المسيح بشكل لا ينفصل. وهكذا نلامس أحد أعمق المواضيع البولسيّة، وهو موضوع اتحادنا بالمسيح حتى المشاركة في الحياة الواحدة. "لست أنا حياً بعد، بل هو المسيح يحيا فيّ" (غل 2: 20).
أن تكون قيامة المسيح موجّهة إلى قيامتنا، هذا ما نجد معناه في عبارة "من أجلنا" (أو: من أجلكم) داخل الكرازة الفصحيّة. وكذلك تربط 1 تس قيامة المسيح بنجاتنا من الغضب الاسكاتولوجيّ (1: 10). فيؤكّد بولس في هذه الرسالة أن المسيح "مات لأجلنا لكي نحيا جميعاً معه، ساهرين (أي: أحياء) كنا أم نائمين" (راتدين، مائتين) (5: 10). فالربّ الذي يعترف به إيمانُنا، قد "أسلم (مات) من أجل زلاّتنا، وأقيم من أجل تبريرنا" (روم 4: 25). وهكذا ارتبطت قيامة المسيح بسيادته على الكون والتاريخ (روم 10: 9؛ أع 2: 32- 36). والمسيح القائم من الموت يمارس سيادته اليوم فيُشرك تلاميذه في حياته المجيدة.
وهذه المشاركة في حياة المسيح المجيدة يتحدّد موقعها في منطق السّر الفصحيّ، لأننا صرنا "كائناً واحداً مع المسيح" في المعموديّة (روم 6: 5). فإذا كان المسيح قد مات عن الخطيئة، فعلينا أن نموت عن الخطيئة. وإن كان قد قام إلى حياة جديدة موجّهة كلّها إلى الله (روم: 6: 10)، فيجب أن تكون تلك حالنا أيضاً. "تعمّدنا في المسيح يسوع" (روم 6: 2) فصرنا نؤلّف كائناً واحداً معه. فكيف لا نقاسمه مصيره؟ فالمؤمن يشارك منذ حياته على الأرض، في الحياة الجديدة التي يحياها الربّ القائم من الموت. "حياتي الحاضرة أحياها في الايمان بابن الله الذي أحبّني وبذل نفسه عني" (غل 2: 20).
ومثل هذا الاتحاد مع المسيح الذي يعيش إلى الأبد (6: 9) يتمّ منذ اليوم في الإيمان. ولكن في نهاية هذه الحياة حيث يموت المسيحيّ تدريجياً عن الخطيئة، في تلك النهاية، يشارك بكل شخصه في حياة الربّ الجديدة، مشاركة أبديّة. وقيامة الجسد تُتمّ العمل الذي بدأ في حياة الإيمان. وتتفجّر من المسيح القائم من الموت حياةٌ جديدة تجتاح شخص المؤمن طوال حياته على الأرض لتحوّل حتى جسده في مجيء ربّنا. حينئذٍ يتحقّق اتحاد الحياة التام مع الربّ القائم من الموت.
2- القيامة
أ- قيامة آدم الثاني
لم تؤثّر قيامة يسوع فقط على شخصه. فالمسيح قام على أنه "بكر الراقدين" (1 كور 15: 20). لقد أراد الله أن يجعل من ابنه آدم الثاني، وأب بشرية جديدة، فيعيد خلق الانسان على صورة الله (كو 3: 10). "وكما أن الخطيئة والموت انتقلا إلى جميع البشر بخطيئة إنسان واحد، كذلك نعمة الله وموهبته قد صارتا وافرتين للكثيرين بنعمة إنسان واحد هو يسوع المسيح" (روم 5: 15).
فإن كانت هناك من فعلة وجب على المسيح أن يقوم بها لخير البشر، وليس من أجل خيره وحده، فهي القيامة. فالمسيح يقوم أفضل قيام بوظيفته كآدم الجديد في عطاء البشر حياته الفصحيّة، موته وقيامته. والمسيح حين قام بلغ إلى حياة جديدة شخصيّة. صار "روحاً محيياً" (1 كور 15: 45؛ روم 8: 1- 11). صار ينبوع حياة للذين يشكّلون نسل آدم الثاني، صار روحاً يقوم نشاطه الأساسيّ بأن ينقل الحياة.
ونجد الفكرة عينها في 1 تس 4: 14 وفي 1 كور 15: 13- 16. "إذا كان المسيح قام، فالموتى سيقومون" (هذا هو المعنى العميق لما في تس 4: 14). "وإن كان الموتى لا يقومون، فالمسيح لم يَقُم أيضاً". فالقيامتان ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بحيث لا نستطيع أن نطرح الأولى دون أن نؤكّد على الثانية، ولا أن نزيل الأولى دون أن ننكر الثانية. هذا ما جعل بولس يرى المسيحيّ وقد قام من بين الأموات، وقد جلس عن يمين الآب، لأن ذاك هو الوضع الحاضر للربّ (أف 2: 5- 6). بعد هذا نفهم بسهولة لماذا أسّس الرسل على الايمان بالقيامة الرجاء القائل بأن الموتى "الراقدين في يسوع سيقومون لينضمّوا إلى المسيح القائم من الموت" (آ 14). فالايمان بالمسيح القائم يُنشىء الايمان في حياة أبديّة معه.
ب- حياة من الاتحاد مع الربّ
إن آ 13- 18 تقدّم على دفعتين الاتحاد مع المسيح على أنه هدف قيامة المسيحيّين وحدث المجيء العظيم: فالآب يأخذ مع يسوع المسيحيّين (آ 14) الذين سيكونون بعد ذلك "مع الرب كل حين" (آ 17). ما معنى هذه الكلمات؟ وفي أي شكل يتحقّق هذا الاتحاد؟
في المقاطع العديدة من العهد الجديد حيث نجد عبارة "نكون مع المسيح" أو "مع الربّ"، نكتشف مواضيع معروفة في العالم الجليانيّ. "أن نكون مع المسيح" يعني دوماً العالم الآتي. فليست القضيّة أن نتذوّق في هذا العالم الجديد حتميّة الربّ وحضوره، بل أن نشارك في حالته الجديدة. والقائمون من الموت الذين قبُلوا في الوليمة المسيحانيّة (لو 14: 15؛ مت 8: 11- 12؛ 26: 29) ينضمّون إلى مجد (روم 8: 17- 30) ذاك الذي أقيم "مسيحاً وربّاً" في قيامته (أع 2: 26؛ فل 2: 9- 11). حينئذٍ يحوّل الربّ يسوع "جسد شقائنا ليجعله على صورة جسد مجده" (فل 3: 21). وهكذا يحقّق بينه وبين أخصّائه اتحاداً تاماً (كوينونيا، 1 كور 1: 9). ففي حياة من التجلّي سعيدة، يملك جميع القائمين من الموت مع الربّ يسوع (مت 25: 34؛ لو 12: 32؛ روم 5: 17؛ رج دا 7: 18، 22، 27). فالمسيح القائم من الموت يمارس سيادته على الأحياء والموتى حين يضمّهم إليه في ممارسة سلطانه.
3- هتاف بوق الله
"نعلن لكم على قول الربّ أنّا نحن الأحياء... لن نسبق الأموات الراقدين" (آ 15).
أ- على قول الربّ
بعد أن أعلن بولس إيمانه بقيامة المسيح، ويقينَه بأن الموتى سينضمّون إلى مجد الربّ، زاد تفصيلاً قليل الأهميّة على المستوى اللاهوتيّ الصرف، ولكنه رئيسيّ في هذا المجال وهو: في الوقت عينه سيتّحد الموتى والأحياء مع الرب "في وقت مجيئه" (آ 15- 17). ما معنى هذه العودة إلى "كلمة الربّ" التي تبدأ هذا التوسّع؟ هل نحن أمام أسلوب في الكتابة يعطي قوّة لفكر بولس؟ أو هل أراد أن يماهي بين فكره وفكر قد يعبرّ عنه الربّ في مثل هذا الظرف؟ هل نحن أمام تلميح إلى وحي شخصيّ؟ أم أمام كلمة ليسوع لم ترد في الأناجيل (اغرافون)؟ كلها فرضيّات لا يهمّنا أن نختار بينها. ولكن يبقى شيء أكيد وهو أن بولس يريد أن يُسند إلى سلطة الله التفاصيل التي يعطيها عن مجيء الربّ. ما يريد أن يقوله هو أن هذه التفاصيل ليست وليدة مخيّلته.
ب- كلنا أحياء وأموات
في هذه الآيات التي تستند إلى "قول الرب"، يجب أن نميّز عناصر ذات أهميّة مختلفة. فما يلامس سيناريو المجيء له مدلوله: نحن أمام حدث مجيد يهمّ الكون كلّه، ويذكّر بتيوفانيات (ظهورات) الربّ التي يعرفها قارىء العهد القديم. ولكن ليس هذا إلاّ إطاراً تيوفانياً.
لهذا يجب بالحريّ أن نتوقّف عند "الاحداث": فالربّ يسوع ينزل من جديد في وسطنا (آ 16). فيقوم الموتى (آ 16). وجميع الذين كانوا متّحدين مع المسيح (في الحياة أو في الموت) يرون نفوسهم في الوقت عينه وقد انضموا إلى الربّ على الدوام (آ 17). وفي هذا التصوير للمجيء يصوّر بولس عمداً المصير الواحد الذي ينتظر الموتى والأحياء. "نحن الأحياء لا نسبق الذين رقدوا" (آ 15). "وفي الوقت عينه نذهب معهم إلى لقاء الربّ" (آ 17).
في هذه النظرة، لا يعود المسيحيون يرون الموت كانقطاع يؤثّر على علاقات الانسان بالمسيح. فموت المسيحيّ، شأنه شأن كل موت، يحدّد تبديلاً في الحالة في أوجه عدّة. ولكن إن مات المسيحيّ وهو أمين للمسيح، فهو يبقى متّحداً به في الحياة وفي الممات. وهذا الاتحاد هو ثابت لا يتبدّل. وهو سينتظر عودة الربّ، شأنه شأن الأحياء، لكي ينضمّ إلى مجده. والروح الذي يسكن فيه (روم 8: 11) يقيم جسده فيحوّل هكذا الشخص البشريّ على صورة خالقه (كو 3: 10).
ما لفت انتباه الرسول أكثر من مصير الراقدين الذي تحدّث عنه ليردّ على مخاوف التسالونيكيين (آ 12)، هو الاتحاد التامّ بين المسيحيّين والربّ: "نكون مع الربّ على الدوام" (آ 17). ويدقّ هذا الهتاف كصيحة فرح حيث يمثّل "على الدوام" (بنتوتي) موضعاً مميّزاً في رأس الجملة. مثل هذا المنظار يحمل إلينا التعزية والشجاعة. "فعزّوا إذن بعضكم بعضاً بهذا الكلام" (آ 18).
خاتمة
"لا نسبق الذين رقدوا" (آ 15). بالنظر إلى الظروف (آ 13) التي ولّدت توسّع آ 13- 18، يبدو أنه يجب أن نرى في هذه الكلمات مرمى المقطع كلّه. غير أننا فضّلنا أن نتوقّف عند القيم اللاهوتيّة التي يستند إليها في النهاية فكر بولس: يتأسّس الرجاء المسيحي على الايمان بقيامة المسيح (آ 14). والمعمودية تضمّ على الدوام مصير المسيحيّ إلى مصير المسيح: فالمسيحيّ الذي يموت متّحداً بالمسيح يظلّ كذلك في الموت، في القيامة، في مقاسمة الربّ مجده الأبديّ. مثل هذه النظرة الإيمانيّة تؤسّس رجاء لا يُقهر، رجاء يستطيع أن يحوّل موقف كل إنسان أمام الموت.