الفصل الأول
البشارة في تسالونيكي
في سنة 50 وخلال الرحلة الرسوليّة الثانية، وصل بولس إلى تسالونيكي، عاصمة مقاطعة مكدونية الرومانيّة. جاء من فيلبّي يرافقه سيلا (سلوانس) وتيموتاوس، ولم يقم في المدينة إلا وقتاً قصيراً بسبب القلاقل التي حرّكها اليهود ضدّه. فأرسل تيموتاوس يستخبر عن هذه الكنيسة الفتيّة التي تركها على عجل. فعاد إليه يحمل الأخبار الطيّبة. وقد يكون جاءه بعض المسؤولين، أو رسالة منهم، فعبرّ الرسول عن فرحه وأعطى التوجيهات من أجل هذه الكنيسة. فكانت هذه الرسالة أولى رسائل بولس، بل أول ما وصل إلينا من أسفار العهد الجديد، وذلك بعد عشرين سنة على موت المسيح وقيامته.
نتوقّف في هذا الفصل عند ثلاث محطات. الأولى، كيف وصل الانجيل إلى تسالونيكي؟ الثانية، من البشارة إلى تسالونيكي حتى الرسالة الأولى. والمحطة الثالثة، بنية الرسالة الأولى إلى التسالونيكيين.
1- الانجيل في تسالونيكي
نتعرف أولاً إلى مدينة تسالونيكي. ثم نرافق بولس وسلوانس (سيلا) وتيموتاوس في تأسيسهم كنيسة تسالونيكي
أ- مدينة تسالونيكي
تسالونيكي هي اليوم سالونيك، وهي المدينة الثانية في اليونان الحديث (بعد أثينة). كانت عاصمة مكدونية التي صارت سنة 146 ق م مقاطعة رومانيّة. أسّسها بعد سنة 300 أحد قوّاد الاسكندر الكبير وأعطاها اسم امرأته (تسالونيكي) التي كانت أخت الاسكندر من أبيه. تقع المدينة في خليج ترمابيك وتستند إلى سلسلة من التلال. تمرّ فيها الطرق الرومانيّة من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال: الطريق الاغناطيّة التي هي امتداد طريق أبيا المنطلقة من رومة باتجاه البنطس. والطريق التي تنطلق من اخائية نحو الشمال فتصل إلى الدانوب.
بعد سنة 42 ق م صارت تسالونيكي مركز قنصل يمثّل تمثيلاً مباشراً مجلس الشيوخ الرومانيّ في المقاطعات الشرقية من الامبراطوريّة. وفي حرب اكسيوم سنة 31، سارت في ركاب اوكتافيوس الذي صار الامبراطور اوغسطس سنة 27 ف م، فنالت لقب المدينة الحرّة. فاستفادت كل الإفادة من السلم الروماني والامكانيّات التجارية المقدّمة لها. وهكذا صارت بفضل مرفأها والطرق التي تمرّ فيها ملتقى تجارباً يستغلّ المحصولات الزراعيّة وغنى المناجم في مكدونية.
كان يديرها "مجلس الشعب" (ديموس)، فيهيّىء القوانين والقرارات، وسلطة مؤلّفة من خمسة أو ستة أشخاص يكوّنون "مجلس وزراء" مصغّراً. هذا ما يقوله أع 17: 5- 8 في هذا الشأن: فغار اليهود وحشدوا رجالاً أشراراً من أهل السوق... وبلبلوا المدينة، ثم أتوا بيت ياسون وطلبوا بولس وسيلا لكي يخرجوهما إلى الشعب. وإذ لم يجدوهما جرّوا ياسون وبعض الاخوة إلى حكّام المدينة...".
لم يكن سكّان تسالونيكي متجانسين: فقد جاء الاستيطان الرومانيّ بعدد من الايطاليين. واجتذب الشرقيّين أملٌ بأن يقتنوا الثروة فجاؤوا من سورية ومصر ومن العالم اليهوديّ... وقد وجد بولس مجمعاً يدلّ على تجذّر اليهود في تسالونيكي أكثر منه في فيلبّي. فحسب أع 16: 13، كان موضع الصلاة في فيلبّي الهواء الطلق. ويبدو أنه لم يكن مجمع لليهود في اثينة، لأن أع لا يشير إلى أي اتصال فيها بين اليهود وبولس.
كان يهود تسالونيكي من القوّة بحيث استطاعوا أن يفرضوا نفوسهم على حكام المدينة (17: 6- 8)، فنظّموا القلاقل ودفعوا المال لرجال أشرار. وهكذا اتهموا الرسل بالفتنة، بل لاحقوهم ونجحوا حتى إلى مدينة قريبة هي بيرية (أع 17: 13 ي).
وهذا الطابع المتفرّع للسكّان جعل العبادات والآلهة تتكاثر. وقد بقيت لنا مدوّنات عديدة تشهد على شعائر العبادة لما لا يقل عن عشرين إلهاً. فالسلام الذي عمّ البلاد جعل السكان يؤلّهون الامبواطور. وعُبد ديونيسوس بشكل خاص في تسالونيكي وقد ارتبطت عبادته برجاء في حياة مقبلة (رج 5: 1- 11). ووجد معبدٌ لسيرابيس الاله المصريّ. واجتذب العالم اليهوديّ عدداً من النفوس التي هربت من هذه الديانة التلفيقية والآلهة المتعددة، فطلبت تعليماً متكاملاً ودستوراً أخلاقياً محدّداً.
ب- تأسيس كنيسة تسالونيكي
نقرأ في أع 17: 1- 8 أن بولس وسلوانس (سيلا) وتيموتاوس قد أسّسوا الكنيسة في تسالونيكي. وكان ذلك في نهاية صيف 50. عمل بولس كعادته فأعلن الانجيل لليهود في إطار جماعة السبت التي تلتئم في الكنيس (أو: المجمع). وحدّد لوقا الزمان، "خلال ثلاثة سبوت". وارتكز هذا الاعلان على الكتب المقدّسة أي على العهد القديم.
ومضمون التعليم كان: "ينبغي للمسيح أن يتألّم وأن يقوم من بين الأموات". إذا كان هذا الاعتراف الإيمانيّ مطبوعاً بأسلوب لوفا (رج ما قاله يسوع لتلميذي عماوس في لو 24: 26: ينبغي على المسيح...)، فهو يقدّم العناصر الجوهريّة التي هي العودة إلى الكتب المقدسة والإشارة إلى الحدثين الأساسيين اللذين هما موت يسوع وقيامته.
بما أن قصد الله تمّ في يسوع، فهو حقاً المسيح الذي ينتظره اليهود. وسيقدّم هذا الاعلان لليهود ذريعة لكي يتّهموا بولس والمسيحيّين لأنهم تجاوزوا قرارات الامبراطور واعتبروا أن هناك ملكاً آخر هو يسوع. فالمسيح هو الممسوح بالزيت، وهو بالتالي الملك. وهكذا هاج الجمع وحكّام المدينة (أع 17: 7- 8).
إن هذه الحاشية القصيرة في أع تعطينا بعض المعلومات عن نتائج هذه الرسالة. حين ترك المرسلون المدينة، تركوا وراءهم مجموعة هامة من المسيحيّين. كان منهم اليهود، ولكنهم كانوا عدداً قليلاً. يقول أع 17: 4: "اقتنع بعض منهم". وهذا ما تثبته 1 تس: لا يرد العهد القديم بشكل صريح (كما كتب). ثم إننا نجد أقسى كلام قاله يسوع في اليهود: "قتلوا الربّ يسوع والأنبياء، واضطهدونا نحن أيضاً. الذين لا يُرضون الله البتة وقد صاروا أعداء لجميع الناس. إذ يمنعوننا من أن نكلّم الأمم (الوثنيّة) ليخلصوا، فهم يستتمون خطاياهم على غير انقطاع، والسخط قد حلّ عليهم حتى النهاية" (2: 15- 16).
ومع اليهود نجد في كنيسة تسالونيكي عدداً من عابدي الله، من المتقين وخائفي الله: هم أناس غير يهود آمنوا بالله الواحد وأخذوا بعدد من القواعد الأخلاقيّة في العالم اليهوديّ "وانضمّ أيضاً جمهور كثير من اليونانيين": هم أهل تسالونيكي الذين انتموا إلى هذه الديانة أو تلك. ويتابع نصّ أع (17: 4): "وعدد غير قليل من السيّدات الشريفات". هذا ما أشار إليه لوقا مراراً ليدلّ أولاً على دور هذه السيّدات الهامّ في الجماعات التي أسّسها بولس (مثلاً ليدية في أع 16: 14). وليدلّ ثانياً على أن المجموعات المسيحيّة الأولى لم تتألّف من سفالة القوم على المستوى الاجتماعيّ.
إن هذه اللوحة التي ترسم نتائج الرسالة تتيح لنا أن نفترض أن بولس لم يكتفِ بأن يحدّث اليهود والمتعبّدين (خائفي الله) الذين يؤمّون المجمع، ثلاثة سبوت فقط. فقد كانت إقامته في تسالونيكي أطول من ذلك الوقت. هنا نتذكّر أن أهل فيلبّي أرسلوا إليه عوناً على دفعتين (فل 4: 15- 16). ولكننا لا نستطيع أن نذهب أكثر من ستة أسابيع. فعلى بولس أن يكون في كورنتوس قبل أن تغلق طريق البحر في الشتاء، في 11 تشرين الثاني من كل سنة.
إذن، امتدت إقامة المرسلين من نهاية الصيف حتى الحادي عشر من تشرين الثاني، وانتهت كما انتهت إقامتهم في فيلبّي: فردّة الفعل من الجماعة اليهوديّة فرضت عليهم أن يتركوا المدينة. فذهبوا إلى بيرية، حيث حدث لهم ما حدث في تسالونيكي: أسّسوا جماعة مسيحيّة. ولكنهم لقوا الاضطهاد. فأجبروا على الذهاب من بيرية وانطلقوا إلى أثينة.
2- من البشارة إلى 1 تس
بماذا تتميّز الحقبة التي امتدّت من حمل الانجيل إلى أهل تسالونيكي إلى زمن تدوين 1 تس؟ أي من منتصف سنة 50 حتى سنة 51. كيف بدا وجه الكنيسة في ذلك الوقت؟
أ- معلومات من أع
إذا عدنا إلى أع 17: 5 ي نرى أن اليهود التسالونيكيين غضبوا حين رأوا نجاح رسالة بولس وسيلا، فأدوا مالاً إلى بعض الرعاع ودفعوهم لكي يثيروا القلاقل في المدينة. ثم نسبوا هذه القلاقل إلى "شيعة" هذا التعليم الجديد، والى واعظيهم. ومثُل بعض المسيحيين أمام مجلس الشعب وأجبروا على دفع "كفالة" لكي يستعيدوا حريّتهم. فلم يبقَ لبولس وسيلا إلا أن يغادرا المدينة ليجنّبا التلاميذ انزعاجاً أكبر.
ويروي أع 17: 10 ي أن الرسل ذهبوا إلى بيرية التي تبعد بضعة كلم إلى الغرب من تسالونيكي. ولكن اليهود لاحقوهم إلى هناك بحقدهم. فخلقوا لهم الصعوبات التي خلقوها لهم في تسالونيكي. فغادر بولس المدينة على عجل وذهب إلى أثينة مع بعض الرفاق. وظل سيلا وتيموتاوس في بيرية. ولما أعاد بولس مرافقيه إلى مدينتهم (أع 17: 16 ي)، أوصاهم بأن يعلموا سيلا وتيموتاوس بأنه ينتظرهما في أثينة: فعليهما أن يأتيا إليه بأسرع ما يكون.
لم يعلن بولس الإيمان في المجمع في أثينة (قد لا يكون هناك مجمع)، بل ذهب إلى الساحة العامّة، فاستمع إليه عدد من الفلاسفة الابيقوريين (بحث عن السعادة في السيطرة على اللذة) والرواقيين (يشدّدون على الانسان الذي هو مواطن العالم، وعلى تعليم أخلاقيّ يستند إلى سلطة الارادة)، وفرضوا عليه أن يشرح موقفه أمام مجلس حكّام المدينة.
ثم غادر بولس أثينة، ومضى إلى كورنتوس (أع 18: 1 ي). حين نقرأ الحاشية المكرّسة لتأسيس كنيسة كورنتوس، نفهم أن سيلا وتيموتاوس انضمّا إلى بولس في كورنتوس، لا في أثينة كما طلب منهما. نقرأ في 18: 5: "ولما قدم سيلا وتيموتاوس من مكدونية، انقطع بولس للكلمة شاهداً لليهود بأن يسوع هو المسيح".
ب- معلومات من 1 تس
هذا ما نجده في أع. فماذا في الرسالة الأولى إلى تسالونيكي؟ حسب 2: 17 ي، كان الانفصال قاسياً، عنيفاً. ولكن "بالوجه لا بالقلب". فقد قامت علاقات قويّة بين مؤمني هذه المدينة وبين بولس ورفيقيه. ظنّ بولس أن هذا الانفصال سيكون قصيراً، "حيناً من الوقت"، لأنه عزم على العودة في أقرب وقت ممكن (2: 18: عزمنا أن نأتي إليكم مرّة بل مرّتين).
استحالت العودة على بولس. فقرّر وهو في أثينة أن يرسل تيموتاوس. هنا تكمّل 1 تس معلومات أع الذي يبسّط الأمور حين يتحدّث عن انفصال رفاق الرسالة ولقائهم من جديد. فبحسب أع، انفصل بولس عن سيلا وتيموتاوس في بيرية، ولن يلتقي بهما إلا في كورنتوس. أما 1 تس فتفترض أنهما انضمّا إلى بولس في أثينة كما طلب منهما بولس. ومن أثينة أرسل بولس تيموتاوس إلى تسالونيكي. فما نقرأه في 3: 1- 2 هو واضح جداً: "لم نعد نستطيع أن نحتمل، ففضلنا البقاء وحدنا في أثينة (نحن أي بولس وسيلا) وبعثنا تيموتاوس أخانا".
وحين عاد تيموتاوس وانضمّ إلى رفيقيه، ترك بولس همومه جانباً وأطلق العنان لفرحه. ونحن نستطيع الآن أن نتصوّر العواطف التي توالت في قلب الرسول. أجبر على أن يترك تسالونيكي قبل وقت حدّده، ومُنع من العودة، فعاش عدّة أسابيع لا يطيق الاحتمال لأنه لا يعرف ما وصلت إليه مجموعة المسيحيين التي كوّنها. ونحن نقرأ في 3: 1 و3: 5: ما عدت أطيق. يجب أن يعود أحدٌ إلى هناك، ولو كره بولس أن ينفصل عن رفيقيه، ليسند المعمّدين الجدد في تسالونيكي فيبقى ايمانهم ثابتاً. أجل، ما يهمّ بولس هو إيمان هذه الجماعة الفتيّة. ولفظة "بستيس" ترد 4 مرّات في 3: 2، 5، 7، 10.
لماذا هذا الخوف والقلق عند رجل مثل بولس عُرف بشخصيته؟ لأن الهوة كانت واسعة بين سامعي الرسول، والعدد الكبير منهم جاء من الوثنيّة (1: 9)، وبين التعليم الذي قدّمه لهم. ثم إن دخولهم في الإيمان لم يمطر عليهم بركات الأرض بل المحن القاسية التي قد تهدّد هذه الجماعة الفتيّة بالجحود والتخلّي عن الإيمان.
ولكن كانت الأمور عكس ما توقّع الرسول: فقد وصلت إليه أخبار سارّة: أيمانهم حيّ. محبّتهم فاعلة، وهم ثابتون في الربّ. حينئذ تحوّلت التعزية عنده إلى إعجاب أمام معجزة عمل الله. وهذا ما يلوّن بلونه رسالة لا تهجّم فيها على أحد، ولا خيبة أمل في تحريضاتها ونداءاتها إلى التقدّم الروحي، بل هدوء وحنان وثقة وأمل بالمستقبل.
في هذا الجوّ دوّن بولس 1 تس، فوضع فيها فعلَي شكر: 1: 2 ي: "إنا على الدوام نشكر الله من أجلكم...". وفي 2: 13 ي: "ولذلك نحن أيضاً لا ننفكّ نشكر الله". وسيقول بوليس ورفيقاه إنهم لا يستطيعون أن يؤدّوا لله الشكر الذي يليق به بسبب الفرح الذي في قلوبهم. "أي شكر نستطيع أن نؤدّيه لله من أجلكم، على كل ما نالنا من الفرح بسببكم أمام إلهنا" (3: 9)؟
هذه الصرخة تأتي بعد مقطع طويل (2: 17- 3: 10) مكرّس كلّه لفرح الرسل وللحديث عن الباعث على هذا الفرح: فما حرّك هذا الفرح هو الأخبار التي تلقاها بولس (ورفيقه سيلا) بعد أن عاد تيموتاوس من المهمّة التي كلّف بها. "قدم تيموتاوس إلينا من عندكم، وحمل إلينا الأخبار الحسنة عن إيمانكم ومحبّتكم" (3: 6).
حين تلقّى بولس هذه الأخبار، استعاد الحياة (3: 8) بعد أن كاد يموت من الخوف. فالفرح الذي دفعه إلى كتابة هذه الرسالة بمثل هذه التعزية جاء بعد قلق حقيقيّ أمام هذا الوضع الصعب. ولكن بعد الآن، لا مكان للقلق. وهكذا أخذ بولس القلم: "من بولس وسلوانس وتيموتاوس إلى كنيسة التسالونيكيين".
3- بنية 1 تس
نجد في 1 تس العناصر التي نجدها في رسائل ذلك الزمان. كما نجد بنية داخليّة تبرز وحدتها الأدبيّة. ونحن نكتشف فيها قسمين.
أ- قسمان كبيران في 1 تس
إن اسلوب الموازاة يتيح لنا أن نكتشف قسمين كبيرين في 1 تس. الأوّل (1: 1- 3: 13) يبدأ بالعنوان والشكر. والثاني (4: 1- 5: 28) يدعو المؤمنين لكي يسلكوا السلوك الذي يُرضي الله. وما يدفعنا إلى تمييز هذين القسمين هو ما نجده في 4: 1: "وبعد أيها الإخوة". هذه العبارة يستعملها بولس لكي يبدأ موضوعاً جديداً. ونحن نجدها في فل 3: 1 (وبعد أيها الاخوة، صلّوا لأجلنا). وينتهي قسما هذه الرسالة بصلاة تتوازى مواضيعها هنا وهناك.
نقرأ في 3: 11، 13: "وليهدِ طريقنا إليكم إلهنا وابونا نفسه... وليثبّت هكذا قلوبكم بغير لوم في القداسة لدى إلهنا وابينا عند مجيء ربنا يسوع المسيح". وفي 5: 23: "وليقدّسكم إله السلام نفسه تقديساً كاملاً وليحفظ أرواحكم ونفوسكم وأجادكم بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح".
توجّهت الصلاة في 3: 11- 13 إلى الله والى ربّنا يسوع المسيح. وأعطيت التوصيات التالية "من قبل الربّ يسوع" (4: 2)، فعبرّت عن إرادة الله (4: 3). وجاءت الصلاة "ليجعلكم الربّ تنمون" (3: 12) فأنبأت بنموّ جديد يطلبه بولس في 4: 1، 10. وعبارة "المحبة بعضكم لبعض وللجميع" (3: 12) أعلنت تحريض 4: 9- 10. و"في القداسة" (3: 13) أشارت إلى الموضوع الرئيسي في التحريض حول القضايا الجنسيّة. فجاءت الكلمات في 4: 3- 4، 7: "إن مشيئة الله أن تقدّسوا نفوسكم بأن تمتنعوا عن الزنى، فيعرف كل واحد أن يحفظ إناءه في القداسة والكرامة... فإن الله لم يدعُنا إلى النجاسة، بل إلى القداسة".
ب- القسم الأول (1: 1- 3: 13)
ما يحدّد القسم الأول هو التضمين. أي نقرأ في النهاية ما سبق وقرأناه في البداية. هناك تقابل بين 1: 1- 5 و3: 6- 13، وبشكل خاص بين القسم الأول من فعل الشكر (1: 2- 3) واستعادة موضوع فعل الشكر والصلاة الأخيرة.
نجد في هذا القسم الأول أمراً خاصاً لا نجده في سائر الرسائل البولسيّة: لا فعلَ شكر واحد، بل فعلان. وهما يتوسّعان بشكل موازٍ على مستوى الألفاظ والمواضيع. "نشكر الله على الدوام" (1: 2- 2: 13). تقبّل الكلمة وفاعليّتها (1: 5= 2: 13 ب). صرتم مقتدين (1: 6= 2: 14). غضب الله (1: 10= 2: 13 ب). تذكير بعلاقات الرسل مع التسالونيكيين خلال إقامة الرسل في تسالونيكي وبين الذهاب من تسالونيكي وزمن تدوين الرسالة (1: 1- 12= 2: 17- 3: 10).
وعلى أساس هذه الموازاة نستطيع أن نقسم القسم الأول إلى مجموعتين. المجموعة الأولى (1: 2- 2: 12) مع ذكر للكنيسة (1: 1= اكلاسيا) والدعوة داخل الكنيسة (كاليو، 2: 12). وكل من فعلَي الشكر هذين ينقسم إلى جزئين. 1: 2- 10 ثم 2: 13- 16. وكل جزء يبدأ بـ "نشكر الله". وينتهي بـ "سخط الله". ويروي 2: 1- 12 ما حدث حين مرّ الرسل في تسالونيكي. نقرأ في 1: 9: "كيف كان دخولنا إليكم". وفي 2: 1: "قدومنا (دخولنا) إليكم". ويتابع 2: 17- 3: 10 الخبر في الزمن، فيصوّر قلق الرسول وتعزيته بين انطلاقه من تسالونيكي وإرسال الرسالة. ويحيط بهذه القطعة الأخيرة مواضيع أدبيّة: رغبة في مشاهدتهم. الفرح. المجيء. وتبدو المقابلات واضحة بين 2: 17- 20 و3: 9 ب- 13.
نقرأ في 2: 17- 20: "اجتهدنا بوفرة لكي نرى وجهكم... ما رجاؤنا وفرحنا إلا أنتم أمام الرب يسوع في مجيئه. أنتم مجدنا وفرحنا". ونقرأ في 3: 9 ب- 13: "على كل ما نالنا من الفرح الذي فرحناه بسببكم وطلبنا بوفرة كبيرة أن نرى وجهكم في مجيء ربنا يسوع المسيح.
في هذا القسم الأول، عبرّ بولس عن فكره في الماضي وفي الحاضر. فدلّ في الحاضر على حالة الجماعة حين يكتب. وهذا ما ألهمه فعل شكر حارّ تكرّر أكثر من مرّة. وعاد إلى الماضي فذكر ما حصل خلال عمل المرسلين في تسالونيكي وكيف وُلدت الكنيسة بفضل خدمتهم. ولن يعود إلى صيغة المضارع إلا في الصلاة الأخيرة التي تعلن القسم الثاني الموجّه نحو مستقبل الكنيسة.
ج- القسم الثاني (4: 1- 5: 28)
هذا القسم هو استعادة لمختلف النقاط التي يودّ فيها الرسول أن يرى حياة المسيحيين في تسالونيكي تنمو وتتقدّم. وترد هذه النقاط المختلفة بدون ترتيب منطقيّ. بل هي تبدأ بـ "وأما" (في ما يتعلّق).
في 4: 1- 2 نجد المقدّمة العامة التي أعلنت عنها الصلاة السابقة: أن تزدادوا. أن تنموا. وفي 4: 3- 8: الأخلاق الجنسيّة والزواج المسيحي. وفي 4: 9- 12: حول المحبّة الأخويّة. "وأما المحبّة الأخويّة فلا حاجة". وفي 4: 13- 18: عن الذين رقدوا. جميعهم سينضمّون إلى الرب. وفي 5: 1- 11: حول زمان عودة الرب والحرب المسيحيّة. وفي 5: 12- 13: حول إكرام المسؤولين. وفي 5: 14- 22: تحريض في شأن الحياة المسيحيّة والعبادة. وفي 5: 23 ترد الصلاة الأخيرة. وفي 5: 24- 28 التحيّة والتمنيّات.
نلاحظ بشكل خاص المكانة التي احتلّها التعليمان الفقاهيان حول قيامة الموتى ويوم الرب (4: 13- 5: 11): ومع هاتين الفقاهتين تأخذ التحريضات الرسوليّة حول الحياة المسيحيّة كلَّ مداها. ويكون نظر بولس إلى مستقبل الجماعة نظرين: في المستقبل المباشر، تُدعى الجماعة إلى أن تنمو في الايمان والمحبّة والرجاء. وبالنسبة إلى المستقبل الاسكاتولوجيّ أي في يوم الربّ، تُترجم أعمال الجماعة.
خاتمة
هكذا بدت 1 تس. فالرسول لا يهتمّ بمسألة تعليميّة كبيرة. فهو يعبرّ عن العواطف التي تربطه بجماعة أسّسها وأجبر على مغادرتها على عجل. بعد فترة من القلق، ها هو الفرح يغمر قلبه بعد أن وصلت إليه الأخبار الطيّبة. حين عرف إيمان هذه الكنيسة الفتيّة، انفجر قلبُه فرحاً. وما احتاج أن يصحّح ضلالاً، لأنه يعرف أن الاخوة في تسالونيكي هم في الطريق الصحيح وقد قاوموا المحنة خير مقاومة. فلم يبقَ له إلا أن يدعوهم إلى الثبات في هذا الخط، وأن يزدادوا وينموا. وهكذا وبانتظار مجيء المسيح، يتابع الانجيل جريه. فيفيض قلب الرسول فرحاً وثقة وحرارة يعبرّ عنها في هذه الرسالة التي تتوجّه من القلب إلى القلب، التي هي رسالة أب إلى أبناء تواجههم الصعاب القاسية.