الفصل الخامس
محبة الرسول وصلاته
1: 7-11
هنا تفيض محبّة الرسول، فيدلّ على تعلّقه بأهل فيلبّي. إنه يريد أن يربحهم إلى المسيح ويدعوهم إلى الوحدة التي تهدّدها "البدع". عند ذاك يتحوّل التحريض إلى صلاة يعبّر فيها الرسول عن محبّته لأهل فيلبّي وعن ثقته بعمل الله فيهم. وتتحدّث هذه الصلاة عن "الحبّ". لا تلك الفضيلة المجرّدة. بل حبّ أهل فيلبّي لرسولهم. وهو حبّ يبقى ناقصاً إن نقصه الفهم والإدراك. وحبّ أخوي وجماعيّ ما زال "غائباً" بعض الشيء من "كنيسة" فيلبّي.
1- محبّة الرسول (1: 7- 8)
حين نقرأ عن المبادرات التي قام بها الرسول من أجل تحرّره (1: 12- 26)، نفهم أنه فعل ما فعل من أجل أهل فيلبّي (1: 24). وحين نقرأ عن التحريضات على التواضع والوحدة (1: 27- 28)، يجب أن لا نفهمها دروساً أخلاقيّة أو توبيخاً، بل على أنها ثمار محبّة أب لأبنائه. وهذه المحبة التي يكفلها الله تتجذّر في الجهاد من أجل الإنجيل، وهو جهاد يجعله حبّ المسيح فينا.
أولاً: تعلّق الرسول بأهل فيلبّي
إن العمل الذي حقّقته النعمة في الفيلبيّين، والخيرات المنتظرة، هي موضوع شكر الرسول. ولكن ما يلهم في الأعماق هذا الشكر والرجاء الذي يرافقه هو المحبّة. فبدون المحبّة يبدو كل شيء سريع العطب، يبدو كل شيء سطحياً. ولكن ما يوحّد الرسول وأهل فيلبّي هو حبّ قويّ، حبّ روحيّ، لا حبّ نظريّ لا يرتبط بواقع الإنسان. حبّ ينظر إلى البعيد ويرفع إلى العلى. فموضوعه ليس أولاً الخيرات المباشرة، الخيرات المحسوسة والعابرة، بل الخيرات الروحيّة والأبديّة. وهذا الحبّ لا يتأسّس على رباطات الجسد، بل على رباطات الروح في الإيمان والمعموديّة والعمل المشترك في خدمة الإنجيل.
هو حبّ فاعل، لأن لا شيء يوقفه حتى الخوف من السجن والموت. حبّ مليء بالحنين مع الرغبة لدى الرسول بأن يرى أحبّاءه. محبّة في أحشاء الربّ يسوع، كمحبّة الأم لأبنائها. حبّ بولس للمسيحيّين هو في الوقت عينه حبّ علويّ وفائق الطبيعة، وحبّ بشريّ جداً. من جهة، هو يحبّهم بحبّ المسيح، ومن جهة ثانية، وصلت محبّته لهم إلى مستوى العواطف والإحساس.
ثانياً: أحملكم في قلبي (آ 7)
تبدأ آ 7 مع أداة "كاتوس" (كما) التي نجدها مراراً في مطلع رسائل القديس بولس. نقرأ في 1 كور 1: 5: "فكما أن لنا نصيباً وافراً من آلام المسيح". وفي كو 1: 6- 7: "وصلت إليكم كما وصلت إلى العالم"؛ رج 1 تس 1: 5؛ 2 تس 1: 3. إن هذه الأداة "كما" لا تتعلّق فقط بما في آ 4 أو آ 6، بل بما في آ 3- 6. فما قيل في الآيات السابقة يدلّ على مجموعة من الاستعدادات تبدر من الكاتب إلى مراسليه. وفعل "فرونيو" (افتكر) لا يتوقّف عند عالم العواطف. فهو يعبّر في الوقت عينه عن واقع عميق جداً وعن نتائجه العمليّة والملموسة. قد نستطيع أن نتحدّث عن "مشروع" نعبّر عنه في عمل محدّد. تتواتر هذه اللفظة في فل (10 مرات من أصل 25 نجدها في رسائل بولس)، فتتخذ لوناً خاصاً نجده هنا. إنه موقف مسيحيّ تجاه مسيحيّين، ولكنه لا يستبعد أحداً.
وأساس هذه "الاستعدادات" الواجبة نجده في قلب الرسول، على مستوى الإرادة والعمل أكثر منه على مستوى العاطفة. فانطلاقاً من هذا المركز الحيويّ الذي يلامسه الروح، تنتظم الحياة المسيحيّة (رج 2 كور 3: 3). لا يكتفي بولس بأن يتحدّث عن عادته تجاه الفيلبيّين، بل هو يشدّد على موقفه تجاههم. فهم مشاركون مشاركة حميمة في النعمة التي أعطيت له من أجل خدمة الإنجيل والرسالة (1: 5، 12، 18). وبما أن بولس قد مارس هذه الرسالة في السجن حيث شارك في آلام المسيح (3: 10)، فأهل فيلبّي شاركوه في هذه الرسالة بواسطة صلواتهم والمساعدة التي أرسلوها إليه.
وإن رسالة بولس يجب أن تُمارس أيضاً في "الدفاع عن الإنجيل وتأييده". أيكون هناك تلميح إلى الاستشهاد؟ بل إنّها "أبولوجيا" (دفاع) تدلّ مراراً في العهد الجديد على مرافقة المتهمّ أمام المحكمة (أع 19: 33؛ 22: 1؛ 25: 16). إذن، يشير بولس إلى مثوله القريب أمام المحكمة بعد أن كشف عن مواطنيته الحقيقيّة: ليس مواطناً رومانياً وحسب. إنه مواطن السماء. غير أن هذا المثول سيكون بدفاعه أمام قضاته وتحريره الممكن، "تأييداً" للإنجيل. فلا شك بأن أهل فيلبّي الذين شاركوه حتى الآن مشاركة حميمة في عمله، سيتابعون هذه المشاركة في الأحداث التي تنتظره.
هنا نلاحظ أن الرسول يعتبر قيوده لا على أنها ألم، بل على أنها نعمة. ونلاحظ أيضاً أن فل تختلف عن فلم 9. فبولس لا يقدّم نفسه بشكل مباشر على أنه سجين (دسميوس). هو يتكلّم فقط عن قيوده (1: 13، 14، 17). ليس هذا من قبيل الصدف. وقد رأى بعض الشّراح في هذا الكلام رفضاً لأيّ تلميح إلى السجن، واحتفاظاً بفكرة عامة عن الآلام.
ثالثاً: أحبّكم جيعاً (آ 8)
هنا نجد الكفالة الأخيرة لعمق المحبّة التي يكنّها الرسول لأهل فيلبّي: الله والمسيح. "الله يشهد". إن اللجوء إلى القسَم في رسائل بولس ليس متواتراً. لهذا حين يرد، فهو يدلّ على جديّة الموضوع الذي يُطرح. مثلا، روم 1: 9: "والله يشهد لي أني أذكركم كل حين"؛ 2 كور 1: 23: "ويشهد الله عليّ أني امتنعت عن المجيء إلى كورنتوس"؛ 1 تس 2: 5، 10: "يشهد الله أنّا ما أضمرنا طمعاً... الله شاهد كيف عاملناكم".
الشكل الذي يرد فيه القسَم ليس حسب قسَم الرابانيّين الذي يذكر اسم الله. بل هو يرتبط بالعهد القديم كما في النص السبعينيّ (تك 31: 44؛ 1 مل 12: 5- 6؛ 20: 23- 48). أما الفعل المستعمل (ابيبوتيو) فيدلّ على عمق الحبّ الذي يربط الرسول بإخوته في المسيح.
وحين نعود إلى مختلف الاستعمالات البولسيّة، لا سيّما في 2: 26 (شديد الحنين إليكم)، نعتبر أنه يجب أن نفهم عبارة آ 8 كما يلي: "أنا أرغب فوق كل شيء أن أراكم جميعاً" (رج 1: 25 ي؛ 2: 12، 23). وإن هذه الرغبة الحارّة تنبع من "أحشاء المسيح" نفسه. إذن، لا نستطيع أن نتصوّر حبّاً يأخذ بمجامع القلب مثل هذا الحبّ (2: 1). وهذا ما يعبّر عنه أحد الشرّاح فيقول: ليس بولس هو الذي يحيا في بولس، بل يسوع المسيح. لهذا يتحرّك بولس لا بأحشاء بولس، بل بأحشاء المسيح.
1- ثمار المحبّة (1: 9- 11)
أولاً: ماذا يطلب الرسول
إن موضوع طلب بولس من أجل الفيلبيّين، هو الأمر الجوهريّ الذي يستطيع أن يقودهم إلى هذا الهدف الذي يرجو أن يراه محقّقاً في يوم المسيح يسوع. هو يطلب من أجلهم نمواً في المحبّة (1 تس 3: 12: يزيد الربّ محبّة بعضكم لبعض ولجميع الناس). فالمحبّة هي المعيار الرئيسيّ لعمل الله في البشر. هذه المحبّة كان الرسول قد شدّد على أهمّيتها الكبرى في 1 كور 13: حيث لا محبّة لا يوجد شيء. وإن وُجدت المحبّة وُجد كل شيء. "فالمحبّة هي رباط الكمال" (كو 3: 14). وهي ثمرة الروح القدس كما نقرأ في غل 25: 22؛ رج روم 5: 5؛ 1 يو 4: 7.
نلاحظ أن الرسول يطلب المحبّة ولا يطلب شيئاً غيرها. هو لا يطلب فقط المحبّة تجاه الله أو المحبّة تجاه القريب. هو يطلب فقط المحبّة وهذا يكفيه. ولا يطلب المحبّة بمقدار، بل لا يريد حدوداً للمحبّة: يريدها أن تنمو شيئاً فشيئاً، بشكل مطلق وبطريقة غير محدّدة. فالحبّ لا يحدّه "مكيال" بشريّ. الحبّ هو الله، والله محبّة (1 يو 4: 8).
حين يكون الحديث عن المحبّة، فعلى المسيحيّ أن يتوق إلى تجاوز متواصل. أن تتجاوز محبّته كل ما يمكن أن يعيشه الآن. فالمحبّة هدف نتوق إليه قبل أن تكون واقعاً نمسك به ونحصره بين أيدينا. المحبّة فينا وهي أبعد منا، لهذا نجري وراءها. نمتلكها ولا نمتكلها، نسعد بها، ونتوق إلى سعادة أكبر في امتلاكها.
في هذا المجال كتب بولس في 1 تس 4: 9- 10: "وأما المحبّة الأخويّة فلا حاجة بكم أن يُكتب فيها إليكم، لأنكم، أنتم بأنفسكم، قد تعلّمتم من الله أن يحبّ بعضكم بعضاً. وذلك ما تصنعونه نحو جميع الإخوة الذين في مكدونية كلها. وإنّما نحرّضكم، أيها الأخوة، أن تمضوا في ذلك على الازدياد" (أي أن تنمو فيها يوماً بعد يوم).
مثل هذا الواقع الإلهيّ الذي هو المحبّة، لا يمكن أن يبقى بدون ثمار في الإنسان. بل هناك ثمار لا تنفصل عن المحبّة، وهي التي يطلبها الرسول حين يطلب المحبّة.
ثانياً: المعرفة الحقيقيّة (آ 9)
لسنا هنا أمام المعرفة العلميّة، ولا أمام معرفة الرياضيّات، ولا أمام الحقائق المجرّدة التي يصوغها العقل والمنطق. الكلمة اليونانيّة هي "ابيغنوسيس" أي المعرفة السميا، سوبر معرفة. وهي تُستعمل في رسائل السجن. في كو 2: 2؛ أف 1: 17؛ 4: 13. فتدلّ على معرفة سّر المسيح والفداء. لقد صاغ الرسول لفظة خاصّة ليدلّ على هذه المعرفة، لأننا لا نستطيع أن نلج سّر المسيح عبر طرق عقلانيّة محضة. نحن بحاجة إلى الحبّ، لأن الحكمة البشريّة لا تستطيع أن تسبر سراً لا نستطيع الوصول إلى قراره. لهذا قال بولس في روم 11: 33: "ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه"!
أجل، إن المعرفة العقلانيّة لا تكفي، لهذا نحتاج بالضرورة إلى معرفة عن طريق الخبرة، معرفة عمليّة، معرفة تقودنا إلى العمل. ولا نستطيع أن نبلغ إلى ذلك إلاّ بنعمة إلهية، نعمة "محبّة الحقيقة" (2 تس 2: 10)، بنور عطايا الروح القدس. يتحدّث اللاهوتيون عن معرفة تتفجّر من تحوّل داخلي في النفس التي تصبح شبيهة بالله، عن استنارة القلب بالحبّ. "خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الإنسان الجديد الذي يسير نحو المعرفة الحقّة (ابيغنوسيس) متجدّداً على صورة خالقه" (كو 3: 9- 10؛ رج أف 1: 17- 18؛ 3: 14- 19).
ثالثاً: الإدراك التام
نجد هنا كلمة "ايستاسيس". لا ترد إلاّ هنا في العهد الجديد، ولكنها ترد مراراً في العهد القديم. مثلاً، أم 1: 7، 22؛ 9: 9؛ 10: 14؛ 14: 6؛ 18: 15... هي تعني الفهم والمعرفة على المستوى العلميّ. تعني أن ندرك إدراكاً مباشراً وبالحدس مشيئة شخص محبوب. وهي معرفة تساعدنا على اكتشاف ما يرضيه أو لا يرضيه. هي نوع من إحساس مرهف وجهوزيّة تامة بالنسبة إلى أقلّ رغباته.
وفي سياق كلامنا، هي معرفة دينيّة تجعلنا ندخل بكلّيتنا في المخطّط الإلهي، في السّر الذي يشكِّل هذه المعرفة السميا (كو 1: 9- 10). هكذا يستطيع أهل فيلبّي أن "يتبيّنوا الأفضل"، أن يميّزوا بين الخير والشرّ (1 تس 5: 21؛ 1 كور 11: 28؛ 2 كور 13: 5؛ غل 6: 4)، أن يوجّهوا حياتهم توجيهاً مستقيماً عبر عقبات هذا العالم.
رابعاً: نقاوة القلب (آ 10)
كان الكلام السابق: أن نمتحن مختلف الأمور ونختار، أن نميّز القيم الحقّة. وها هو النصّ يطلب منا أن نكون "أنقياء وبلا لوم". فالمحبّة لا تكتفي بأن تنيرنا حول مشيئة الله. إنها تُشعل قلوبنا غيرة لكي نتمّ هذه المشيئة. وهي أيضاً نار تُحرق كل نجاساتنا وخطايانا (1 بط 4: 8؛ يع 5: 20؛ رج أم 10: 12).
وهكذا لن يكون للمسيح أن يوجّه أيّ لوم إلى أهل فيلبّي، في يوم الدينونة، في يوم المسيح. تعود هذه النظرة إلى عودة المسيح وإلى الدينونة فتعطي هذا المقطع أفقه الحقيقيّ.
خامساً: ثمار البرّ (آ 11)
إن توقّفنا عند الثمار السابقة من نقاوة وفضيلة لا لوم فيها، أحسسنا أننا على. المستوى السلبيّ. ولكن نتيجة المحبّة هي في النهاية إيجابيّة إلى أقصى حدود الإيجابيّة. فكما أن الشمس تجعل الثمر ينضج، كذلك المحبّة تقود الإنسان إلى ملء النضوج، إلى الكمال. بعد هذا، سيكتب بولس إلى أهل أفسس أنهم يدخلون إلى "ملء الله " بمعرفة محبّة المسيح (أف 3: 19). فالفكرتان تتكاملان، لأن ملء المسيحيّ وكمال تفتّحه، يكمنان في الدخول إلى ملء الله. وعندما تتفتّح جميعُ الأعضاء، يتوصّل جسد المسيح السّري إلى "الإنسان البالغ الناضج الذي يحقّق ملء المسيح" (أف 4: 13).
ولكن حين نقرأ هذه الجملة عند بولس، نحسّ ببعض الانزعاج. فكأن هذا الكمال يبدو مجهوداً به يحاول الإنسان أن يقتني البرّ البشريّ. يبدو المؤمن وكأنه فريسيّ يعمل فيعتبر نفسه باراً بفضل عمله. مثل هذا التفسير يعارض كل المعارضة تعليم الرسول. لهذا، فهو يقول: "ثمار البرّ التي في يسوع المسيح". التي نحملها بفضل المسيح. ونحن لا نفهم "ثمر البرّ". بمعنى ثمر يقوم في البرّ، برّ الإنسان، بل بمعنى ثمر يُنتجه البرّ. فبرّ الله يُعطى للإنسان.
وهكذا نجد من جديد المواضيع الكبرى التي نجدها في روم، وقد استعادتها فل في منظار "يوم المسيح": فالإنسان المبرّر بدم المسيح يُعلن باراً حين يمثل أمام الديّان السامي. عند ذاك ينال الخلاص حقاً. هنا نتذكّر روم 5: 10: "وإذا كان الله صالحنا بموت ابنه ونحن أعداؤه، فكم بالأولى أن نخلص بحياته ونحن مُصالحون".
خاتمة
إن باعث الحبّ الأخير هو مجد الله وحمده. فالكتاب المقدّس بشكل عام، والقدّيس بولس بشكل خاص، يعلّمنا ديانة مركّزة على الله لا على الإنسان. وقد نقترف خطأ فادحاً يصل بنا إلى العبث، إن حاولنا أن نشدّد على مركزيّة الإنسان في التجسّد الفدائي، وحبّ الله للبشر.
فمجد الله يبقى قبل كل شيء الهدف الأخير للخليفة وحياة كل إنسان. وإذ يحقّق الإنسان هذه الغاية يحقّق نفسه ويجد ملء سعادته. لا نتعجّب من ذلك، لأن الله محبّة ولأن المحبّة هي من الله (1 يو 4: 7- 8). والحبّ الذي ينعش المسيحيّ يمثِّل منذ الآن في ذاته فيض مجد الله. لهذا، فهو في النهاية يؤول إلى تمجيد الله.
إن كنه الحبّ هو أن يريد خير الكائن المحبوب، وأن يمتدح من يحبّ. وحبّ الله "الذي أفيض في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا" (روم 5: 5)، يجعل فينا عطشاً مستمراً ورغبة حارة في أن نمجّد الله قبل كل شيء ونُنشد على الدوام تسابيحه.