الفصل الثاني
رسالة أم رسائل إلي فيلبي
كان بولس سجيناً حين كتب إلى المسيحيّين في فيلبّي. إنه يذكر "قيوده" في 1: 3، 14، 17. ويتطلّع إلى الاستشهاد والموت كأمر ممكن (1: 20- 21؛ 2: 17). غير أنّ هذه التعليمات لا تُقرأ إلاّ في الفصلين الأولين. لا شكّ في أننا نستطيع أن نكتشف في 4: 14 إشارة إلى "محنة" شاركه فيها أهل فيلبّي. ولكن يبقى أنّ هذه الرسالة التي يعتبرها الشّراح مدوّنة بيد بولس، قدّمت إشارات جعلت بعض الشّراح يرون فيها لا رسالة واحدة، بل عدّة رسائل دوّنت إلى جماعة فيلبّي ثم ضمّت بعضها إلى بعض في رسالة واحدة.
بعد أن نتوقّف عند أصالة وكمول فل، ندرس النظريّة التي تتحدّث عن رسائل ثلاث قد جمعت في رسالة واحدة هي اليوم الرسالة إلى فيلبّي كما نقرأها في نصّ العهد الجديد.
1- أصالة وكمول فل
قبل أن نطرح هذه الأمور العلميّة نودّ أن نقول إنّ النصّ الكتابيّ هو كلمة الله، سواء كانت فل رسالة واحدة منذ البداية، أم ثلاث رسائل ضمّت في رسالة واحدة. البحث العلميّ يبقى للعلماء ويّقدّم بشكل فرضيّة، أما كلمة الله التي نقرأها في الإيمان، فنستمع إليها بخشوع ونحاول أن نجسّدها في حياتنا وأعمالنا وأقوالنا.
أ- أصالة فل
حين نتحدّث عن الأصالة (authenticité)، نريد أن نشدّد على صحة نسبة الرسالة إلى بولس الرسول. في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هاجم بعض الشّراح هذه الرسالة واعتبروا أنّ بولس لم يكتبها. أمّا الآن، فلا نجد أحداً يشكّ بأصالتها ونسبتها إلى بولس. كيف نتخيّل كاتباً "كاذباً" يكتب مثل هذه الرسالة "المفكّكة"، التي تعود إلى وضع غير واضح وإلى تعليم غير منسّق. فالتعليم الذي نجده في فل ينبع من قلب الرسول الذي لا يهتمّ بأن يقدّم "مقالاً" لاهوتياً على ما في أف أو عب أو روم.
ثم إنّ بولس يبدو متردّداً في هذه الرسالة (1: 21 ي). يدلّ على تواضعه، فلا يستند إلى سلطته الرسوليّة (1: 1). فمن هو "الكاتب" الذي سيختفي وراء مثل هذا الشخص؟
إذن فل هي رسالة أصيلة ولو حاول بعض العلماء أن يعودوا إلى الحاسوب ليقابلوا كلمات هذه الرسالة مع كلمات غل، روم، 1 كور، 2 كور. ثم إنّ بوليكربوس الأزميري (القرن الثاني) لمّح إلى رسائل كتبها بولس إلى أهل فيلبّي، كما أورد مقاطع هامّة من فل في ما كتبه إلى المؤمنين.
ب- كمول فل
حين نتحدّث عن الكمول (intégrité)، نريد أن نقول إنها واحدة مع كل أجزائها، وانه لم يقع تبدّل فيها ولا تحوّل. هي هي كما صدرت من يد بولس ولم تشوّه إطلاقاً. لم تُجزَّأ ولم يُنتقص منها.
* فل هي تجميع وتركيب
في القرن السابع عشر هاجم الشّراح كمول فل. وبعد هذا توقّف كل جدال في هذا المجال حتى منتصف القرن العشرين. ولكن بعد هذا الوقت ظهرت عدّة دراسات تقول إنّ فل هي تجميع وتركيب لنصوص كانت في الأصل مستقلّة. لن نورد التقطيعات (الطريقة التي قطعت، جُزِّئت الرسالة) المختلفة التي تدور حول مسألتين أساسيّتين: القطع الذي نلاحظه في 3: 1. "وبعد أيها الأخوة، إفرحوا في الرب"... وهنا يأتي القطع وتبديل الموضوع: "لا تزعجني الكتابة إليكم في الأمور نفسها، ففي تكرارها سلامة لكم". والمسألة الثانية هي الحديث الذي نجده في 4: 10- 20. هل هذا وقت الشكر عن المدد الذي أرسله الفيلبيّون إلى بولس؟
* القطع في 3: 1
أن يكون هناك قطع (أو: توقّف) في 3: 1، فالأمر واضح. فالتحريض على الفرح (3: 1 أ) يتبعه تحذير قاسٍ جداً (3: 1 ب). واللهجة اللاذعة في ف 3 تتعارض مع لغة المودّة التي نجدها في ف 1- 2. لا شك في أنّ هذا العنف لا يتوجّه إلى الفيلبيّين أنفسهم، بل إلى خصوم محدّدين. ومع ذلك فالفصلان الأولان يجعلاننا لا نستشفّ خطرأ قريباً على الجماعة، كما أننا لا نجد شيئاً في ف 3 حول مصير الرسول (وهذا جزء كبير من ف 1- 2). إذا تذكّرنا أنّ بوليكربوس تحدّث عن عدّة رسائل لبولس إلى الفيلبيّين، نتساءل هل انتمى ف 1- 2 وف 3 إلى رسالة واحدة أم إلى رسالتين مختلفتين؟
* ما هو الردّ على هذه البراهين
إنّ الذين يدافعون عن وحدة فل يقولون إنه مرّ بعضُ الوقت بين تدوين ف 1-2 وف 3- 4. وإنّ بولس حين وصل إلى مقال الخصوم احتدّ بعض الشيء، ونسي علامة الوصل. ثم إنّ بداية الرسالة ليست بعيدة عن كل جدال. مثلاً، نقرأ في 1: 28: "غير متخوّفين في شيء من الذين يقاومونكم". بعد هذا، لا نطلب في فل منهجيّة منطقيّة للكتابة: فبولس "يتحدّث" مع الفيلبيّين الأعزّاء على قلبه، فيقول الأمور كما ترد في ذهنه دون أن يبحث عن نظام وترتيب. وقد يكون بولس بدأ بإملاء القسم الأول، ثم دوّن بيديه القسم الثاني. ومهما يكن من أمر، فالتقليد المخطوطيّ متّفق كل الاتّفاق بشأن الرسالة إلى فيلبّي. وهذا هو البرهان الأهم من أجل التشديد على وحدة فل.
* ردّ على الردّ
ماذا نقول في كل ذلك؟ كان التردّد مشروعاً لو أنّ ف 1-2 هما حديث لا هدف محدّداً له. إنما القراءة المتفحّصة لهما تدلّ على أنّ بولس وضع أمامه هدفاً معيَّناً وتابعه بشكل متماسك. وانطلاقاً من الخطوط الكبرى التي يعلنها في المقدّمة (1: 3- 11)، نراه يعطي أخباراً عن وضعه الخاصّ (1: 12- 26)، ثم رأيه حول تطوّر الوضع في فيلبّي (1: 27-2: 18). بعد هذا، يُنهي كلامه بنظرة إلى المستقبل (2: 19- 30).
من جهة ثانية، يبدو تقديم البراهين في ف 3 بشكل متراصّ، وهو لا يخلو من بعض العمق اللاهوتيّ. إذن، نحن هنا أمام كتلتين متجانستين ومتماسكتين. وينفسخ هذا التماسك حين نحاول أن نجمع بين هاتين الكتلتين الأدبيّتين. فنحصل حينئذٍ على تجميع غير منسّق. هذا مع العلم أنّ "الفجوة" في 3: 1 واضحة جداً، وأنّ جميع المحاولات التي قام بها الشّراح ليردموها ظلّت مصطنعة. أما البرهان المتين الوحيد من أجل كمول فل فيكمن في القرابة بين مواضيع ف 3 و1: 27- 2: 18. ولكن هذه مسألة يجب أن تجد حلّها خارج وحدة الرسائل، كما سنبيّن في ما بعد.
* مسألة 4: 10-20
إنّ هذه المقطوعة (4: 10- 20) تكفي نفسها بنفسها وهي ترتبط بالسياق بشكل متراخٍ. فيها يشكر الرسول أهل فيلبّي على المساعدة التي أوصلوها إليه في سجنه. ولكن هل هذا هو موضع الشكر في الرسالة؟ أفي النهاية؟ هذا ما نشكّ فيه لا سيّما إذا انتبهنا أنّ 1: 3- 11 و2: 19- 30 تشيران إلى معونة شكرَ الرسولُ أهل فيلبّي بسببها. ثم إنّ 2: 19- 30 يدلّ على أنه مضى وقت طويل بين وصول أبفروديتس حامل المعونة وتدوين هذا المقطع. هل انتظر بولس كل هذا الوقت لكي يعبرّ عن شكره لأحبّائه؟ ثم إنّ 2: 19- 30 تجعلنا نظنّ أنّ المبادلات كانت متواترة بين بولس وفيلبّني (لي رجاء أن أبعث إليكم تيموتاوس). لهذا، فمعظم الشّراح الذين يرون في فل رسائل متميّزة في الأصل يجعلون الرسالة ثلاث رسائل. ف 1- 2؛ ف 3؛ 4: 10- 20. هذا الأخير هو بطاقة (أو رسالة موجزة) سبقت باقي الرسالة، وفيها أرسل بولس شكره حين تسلّم المعونة التي وصلت إليه.
* تحديد قسمة الرسالة
إذا وضعنا جانباً 4: 10- 20، فما تبقّى من ف 4 يتكوّن من تحريضات وتوصيات تصلح لأن تكون خاتمة لإحدى الرسائل المذكورة أعلاه. هنا يختلف الشّراح الذين يعتبرون فل مركّبة من ثلاث رسائل. غير أننا نستطيع أن نكتشف في تحريضات وتوصيات ف 4 أربعة أجزاء مختلفة. أ- آ 1- 3؛ ب- آ 4- 7؛ ج- آ 8– 9؛ د- آ 21- 23.
ترتبط (ب) بالفصلين الأولين اللذين يستعيدان موضوع الفرح الذي يغيب من ف 3، بعد اقطع في 3: 1 أ. ثم إننا نجد في الحالتين إشارة إلى الصلاة وفعل الشكر (4: 6= 1: 3 ي= 2: 12 ي) وقرب الرب (4: 4= 1: 7، 11= 2: 16). أما الجزء الأول (آ 2-3) فلا نستطيع أن نفصله عن آ 4- 7 دون أن نعقّد تدخّل الكاتب الأخير للرسالة، ونتجاهل التوافق اللافت لموضوع الجهاد لأجل الإنجيل المتواتر في ف 1- 2، والحاضر في 4: 3 (= 1: 5، 7، 12، 16؛ 2: 22)، والغائب من ف 3. وفي الختام، إنّ 4: 1- 7 ينتمي إلى الرسالة المكوّنة من ف 1- 2.
أما 4: 8- 9 (ج) فهو تكرار بالنسبة إلى بداية ف 4، ويوافق لغة 3: 1 ب- 21، لا سيّما في ما يخصّ النموذج الذي يقدّمه الرسول (4: 9= 3: 17 ي. ولكن رج 1: 29 ي). أما التحيّة في 4: 21- 23 (د) فهي ترتبط مع عبارة "بيت قيصر"، إمّا بقصر الوالي في 1: 13، وإمّا بالبطاقة في 4: 10- 20 الذي يفترض (في ما يخصّ سجن الرسول) سياقاً مشابهاً للفصل 1-2.
وهكذا نصل إلى التقسيم التالي:
أ- 4: 10- 20 (أو: 4: 10- 23).
ب- 1: 1- 3: 11+ 4: 2- 7+ (4: 21- 23).
ج-3: 1 ب- 4: 1+ 4: 8- 9.
أما التسلسل الكرونولوجي لهذه الرسائل الثلاث فيبدو كما يلي: الرسالة أ هي سابقة للرسالة ب بسبب طبيعتها (بطاقة شكر قصيرة). أما الرسالة ج فلا تتحدّث عن السجن. إذن، قد تكون كُتبت قبل سجن الرسول. ولكننا في هذه الحالة لا نفهم أن لا تكون الرسالتان أ و ب تأثّرتا بالهجوم العنيف الذي نجده في ف 3 (= ج). وإلاّ، نفترض أن لا تكون كل هذه الرسائل قد وُجّهت إلى فيلبّي. لهذا يبدو أنّ بولس حين كتب الرسالة ج، كان قد ترك السجن وتطرّق إلى حالة خطرة في جماعة فيلبّي، وهي حالة نكتشف جذورها في الرسالة ب.
ج- تجميع وتركيب فل
كل فرضيّة حول الطابع المركّب للرسالة إلى فيلبّي، تفترض عملاً تدوينياً: أخذ كاتبُ هذه الرسائل الثلاث وجعلها رسالة واحدة. فرسائل بولس أخذت تدور في الجماعات، وقُرئت خلال شعائر العبادة، فكوّنت شيئاً فشيئاً مجموعة ستكون في أساس اللائحة القانونيّة للعهد الجديد. من قام بعمليّة التجميع هذا؟ أمر لا نعرفه. غير أننا أمام مسيرة بطيئة. وفي داخل هذه المسيرة نحدّد موقع تدوين فل. وما هو معقول، هو أنه بمناسبة انتقال كتابات الرسول، امتلكت جماعة فيلبّي ثلاث رسائل قصيرة، فجمعتها في رسالة واحدة لتكون قريبة بحجمها من سائر الرسائل البولسيّة.
نشير إلى أنّ هذا التدوين تمّ بصدقٍ، فلا نجد أثراً لأيّ تحريف أو دسّ نصّ لم "يدوّنه" الرسول. فالنصوص هي مقدّسة ولا بدّ من التعامل معها بكل احترام. وإذ أراد المدوّن الأخير أن يجعل من الرسائل الثلاث رسالة واحدة، جعل في النهاية كل المقاطع التحريضيّة التي اعتاد بولس أن ينهي بها رسائله. وهكذا بدت رسمة هذا العمل التدوينيّ واضحة: مقدّمة (1: 1- 12). جسم الرسالة (1: 12- 4: 1). تحريضات وتوصيات (4: 3- 23). وضمّ كلُّ من هذه الفصول أجزاء تقابل الرسائل الأولانيّة. في هذا المنظار، صارت الرسالة أ (4: 10- 20) عنصراً دخل في مجموعة التوصيات التي تنهي فل.
2- الرسالة ب
تبدو الرسالة أ (4: 10- 20) قصيرة. كان الرسول في السجن، فأرسل إليه أهل فيلبّي ما يكفي حاجاته بواسطة ابفروديتس (4: 18؛ رج 2: 25 ي). كان بولس مشغولاً بأمور ملحّة، فأرسل بطاقة قصيرة يشكر لهم هذه المساعدة. غير أننا نحسّ ببعض التحفّظ في كلام الرسول.
أما الرسالة ب (1: 1- 3: 1 أ+ 4: 21-23). فهي تشكّل الجزء الأكبر في فل. ما زال بولس في السجن (1: 7، 13 ي)، ولكن في أي ظروف؟ إنّ تحديد ذلك مهمّ جداً لكي نفهم النصّ فهماً صحيحاً، ونعرف وضع قرّاء الرسالة. لهذا نبدأ فنحدّد معنى هذين الإطارين.
أ- وضع الرسول
* بولس سجين
يعتبر الشرّاح عامّة أنّ الرسول المسجون يتعرّض للموت ولا يعرف المصير الذي ينتظره. لهذا قد تكون هذه الرسالة وصيّة يرسلها بولس إلى الجماعة التي أسّسها. فيؤكّد فيها مرة أخرى أنّ المهمّ هو تقدّم الإنجيل (1: 5، 7، 12، 16، 27؛ 2: 22)، والتواضع الذي يميّز الجماعة المسيحيّة (2: 1 ي). في هذه النظرة، بدا سجنه ذا فائدة (1: 12). وإنّ الفرح بتقدّم عمل الله يتغلّب على الآلام الشخصيّة (1: 4، 25؛ 2: 2، 29؛ 4: 1؛ 1: 18؛ 2: 17؛ 2: 28؛ 3: 1).
يستند هذا التحليل إلى 1: 21-24 و2: 17 حيث نكتشف تلميحات إلى موته القريب. ولكن هناك من يقول (دون أن يقنعنا) إنّ بولس كان قد ترك السجن حين كتب هذه الرسالة. بل هو كتبها كسجين، والتلميحات إلى المحكمة (1: 13)، لا يمكنها أن تعود إلى مثول بولس أمام غاليون في كورنتوس (أع 18: 12- 17). ولكن بعض الشّراح يشكّ في أن نكون تجاه رسالة وداعيّة. بل نجد ترقّبات بأن يرى بولس أبناءه من جديد (1: 25- 27؛ 2: 12، 24). ونحن نفهم الباعث على الفرح في إطار خلاص من السجن ولا في إطار تهديد بالموت.
لا شكّ في أن الوضع الذي يفرضه 1: 12- 26 ليس بالسهل. وإن آ 21- 24 تفترض أن الرسول ينتظر حكم الأعضاء في المحكمة، دون أن يعرف إن كان يُعتبر بريئاً أو يُحكم عليه بالموت. ولكن أسلوب هذه الآيات لا يجد ما يوازيه عند بولس إلاّ في الجدالات البلاغيّة. إذن، يمكننا أن نتساءل: ما نجده هنا ليس وصفاً نفسياً، بل دفاعاً بلاغياً ولاهوتياً لموقف اتّخذه بولس. وتبدو هذه الفرضيّة معقولة حين نعرف أن آ 15- 18 جعلت القارىء في إطار هجوميّ.
هناك رباط بين آ 15- 18 من جهة وبين آ 21- 24 من جهة ثانية مع الأداة "غار" التي نقرأها في آ 19 (فإني أعلم). ثم، من هم الأشخاص المذكورون في 1: 15 (يكرزون بالمسيح بروح الحسد والخصام)؟ إنهم واعظون مسيحيّون حقيقيّون. فبولس لا يلومهم من الناحية العقائديّة.
* بولس وخلاصه من السجن
هنا نقدّم فرضيّة تاريخيّة قد يبدو لها بعض السند وإن كانت ضعيفة. كان بولس سجيناً منذ بعض الوقت، وقد عزم على أن ينجو من سجنه كاشفاً عن صفته كمواطن رومانيّ. غير أنّ هذه المبادرة لم تلقَ الترحيب في الجماعة المسيحيّة: بعضهم اتهّم بولس بالتخاذل والجبن، واعتبروا أنّ الاستشهاد هو الدعوة الحقيقيّة لتلميذ المسيح، لرسول الصليب. لهذا دافع بولس عن نفسه في 1: 12- 26 ودلّ على أنّ همَّه الوحيد هو الانجيل.
ولقد كانت نتائج عمله على قدر آماله: فحين كانت محاكمته تتعثّر، استيقظ قصر الوالي كله بما كشفه بولس من تعليم (آ 12- 13). والجماعة المسيحيّة التي تربّطت بسبب سجنه، استعادت الشجاعة لتقوم بعمل الكرازة (آ 14). وأولئك الذين لاموه على مبادرته، أخذوا يبشّرون بالإنجيل بكل صدق دون أن ينسوا الصليب، ولو كانت نواياهم موضع شكّ (آ 15- 18). والمثول أمام القضاة سيكون بجديّته مناسبة فريدة لتمجيد المسيح (آ 19- 20). في الواقع، كان الاستشهاد هو الحلّ الأسهل (آ 21- 24). أما الآن ففُتح حقل جديد للرسالة والعمل.
* نقاط تفسيريّة
بعد هذه النظرة السريعة إلي مبادرة بولس، نستطيع أن نضيف بعض نقاط التفسير. قيل ثلاث مرّات (آ 15، 16، 18) عن الوعّاظ السيّئي النيّة أنهم يبشّرون بـ "المسيح". وإعلان المسيح في نظر بولس لا يمكن أن يكون إلا إعلان الصليب. في آ 17، تحدّدَ طرحُ هؤلاء الوعّاظ بشكل واضح: "ظنّوا أنّ المضايق قد تصدر عن قيودي". وفي آ 22، أكّد بولس أنه لا يعرف ماذا يختار: الموت أو الحياة (لا ماذا يتمنّى، بل ماذا يختار). فكيف نفسّر هذا الاختيار في إطار التفسير التقليديّ؟
* الفرضيّة من الوجهة التاريخيّة
ما قيمة هذه الفرضيّة؟ نستطيع أن نسندها إن لم نقل بأنّ بولس كان سجين رومة. فمواطنيّة الرسول الرومانيّة كانت تجعله في خارج العاصمة، بمأمن من الحكم بالموت (رج أع 25: 11)، إلاّ إذا كان بولس قد عزم على إخفاء هويّته الحقيقيّة. والحال، إن التبادلات بين بولس وفيلبّي (والرسالة هي صدى لهذه التبادلات) تدلّ على أنّ السجن دام مدّة طويلة. كما أنّ 1: 21- 24 كشف على أنّ نيّة الرسول كانت "تمجيد المسيح" (آ 20) بموته وآلامه.
غير أنّ الوضع تعثَّر في الواقع، وكادت المحاكمة تمرّ دون أن يدري بها أحد. فالجماعة المحليّة تعيش في الخوف (آ 14). وجاءت أخبار تبعث على القلق من جماعات أخرى مثل جماعة فيلبّي (آ 25 ي). لهذا بدّل الرسول موقفه، ودفعه اهتمامه بالانجيل إلى أن يكشف مواطنيّته الحقيقيّة ليخرج من السجن. والأمر معقول جداً. فسفر الأعمال يحدّثنا عن ثلاثة مساعٍ مماثلة (16: 37 ي؛ 22: 25؛ 25: 11). ولكن هذا التحوّل أثار لدى بعض المسيحيّين ردّة فعل معادية. "ما همّ! فالمسيح يبشّر به على كل وجه" (آ 18).
ويقرأ 2: 17 الذي يفهم في إطار الاستشهاد المحتمل. ولكن التفسير سيبيّن أنّ هذه الآية تستطيع أن تتّخذ معنى آخر.
ب- جماعة فيلبّي
رغم لهجة المودّة في فل، من الواضح أنّ الجماعة المسيحيّة في فيلبّي تعرف المصاعب والمشاكل. والنداءات إلى التواضع وإلى التفكير بالغير (2: 1 ي) تدلّ على مزاحمات في داخلها، على الخلافات والحسد. ونستطيع أن نذهب أبعد من ذلك. فإذا قرأنا 1: 27- 2: 18 رأيناه يشبه 3: 1 ب- 4: 1. لهذا نظنّ أنّ الخصوم الذين جاؤوا من الخارج والذين هاجمتهم بعنف الرسالة ج، قد بدأوا عمل الدعاية حين كتب بولس الرسالة ب. ونجد تثبيتاً لهذا الطرح في 1: 28 الذي يطرح مسألة تفسيريّة جديّة.
سنعود إلى الخصوم في ما بعد، حين نتحدّث عن الرسالة ج. غير أننا نقول إنّ الرسالة ج تجعلنا أمام وعّاظ متجوّلين، مسيحيّين متهوّدين، وقد قدّموا نفوسهم كنماذج "مجيدة" يجب الاقتداء بها، لأنها تعارض النموذج الذي يقدّمه رسول الصليب بما فيه من "تعاسة". لهذا نفهم أن يكون عملهم أثار القلاقل والخصام. كما نفهم أن يكون النشيد الكرستولوجي (2: 6- 11) قد جاء ردّاً على هذا الوضع. فليس للمسيحيّ إلا "نموذج" واحد ممكن، وهذا النموذج يجذّر الحياة المسيحيّة في تاريخ محدّد. وهذا التاريخ يسير من الانحدار إلى الرفعة، من الشقاء إلى المجد. وقد وعدنا المسيح حقاً بهذا المجد، ولكن الوصول إليه يمرّ في ذلّ الصليب وحقارته.
ج- جواب الرسول
* فرح ومودّة وسهر
ما يميّز الرسول هنا هو الفرح والمودّة والسهر. هناك الفرح لأنّ بولس يختبر مرة أخرى ديناميّة الإنجيل. وهناك المودّة لأنّ ما فعله الفيلبيّون من أجله أعاد الحياة إلى صداقة قديمة. لهذا ما أراد الرسول أن يستند إلى سلطته الرسوليّة (1: 1). وأعطى في مطلع طويل (1: 3- 11) كل الضمانات في ما يتعلّق بعواطفه. وهذه العواطف تعني جميع قرّائه دون استئناء. كل هذا يدلّ على موقف الرسول الذي هو السهر. وعى المشاكل الخطيرة المطروحة في فيلبّي، فاعتبر أنّ الإقناع يفعل أكثر من كل تسلّطية لا تعرف المساومة. ولكن في هذا المجال، دلّ التطور من الرسالة ب إلى الرسالة ج أنّ الطريق "الناعمة" لم تنجح كل النجاح.
د- التصميم
ونستطيع أن نقدّم التصميم التالي:
- العنوان (1: 1- 2): توجّه بولس بتواضع وحرارة إلى جميع الفيلبيّين.
- مطلع (1: 3- 11): تأكيد جديد واحتفاليّ لمودّة بولس لأهل فيلبّي.
يجب أن ننظر إلى كل شيء على نور عمل الله في يسوع المسيح، على نور الصلاة والشكر.
- الوضع الشخصيّ للرسول (1: 12-26). مهما قال الحسّاد (1: 15 ي)، فعمل الرسول من أجل خلاصه من السجن، كان الباعثَ الوحيد له تقدّمُ الإنجيل. في هذا المجال، بدأت تتحقّق أمال الرسول (آ 12 ب).
- الوضع في فيلبّي (1: 27- 2: 18). لقد تزعزعت وحدة الكنيسة بفعل خصوم يبدو الصليب (الذي هو علامة الخلاص) بالنسبة إليهم بدون معنى، والإيمان بدون جهاد ولا تعب (1: 27- 30). وهكذا اقتُلعت الجماعة المسيحيّة ممّا يميّزها، فلم تعد إلاّ جماعة مثل سائر الجماعات حيث يحاول كل واحد أن يستخدم الآخر لكي يرتفع (2: 1- 4). لهذا، يجب تجذير الجماعة من جديد في التاريخ الذي ولّدها والذي يستطيع أن يحملها: هو تاريخ التنازل الإراديّ والعجيب لدى ذاك الذي لم يُرد شيئاً لنفسه، فتسلّم كل شيء من الله (2: 6- 11). ولكن هذا التاريخ يحرّكنا ويفرض نفسه علينا. إذن، يُدعى الفيلبيّون أن يتركوا السراب الحاضر وأن "يعملوا لخلاصهم بخوف ورعدة". حينئذ يكون الفرح كاملاً عند الرسول وعند جماعة فيلبّي (2: 12- 18).
- مسائل شخصيّة مباشرة (2: 19- 3: 1 أ+ 4: 2- 7+ 21- 23). ما استطاع الرسول أن يذهب الآن إلى فيلبّي، فاقترح إرسال تيموتاوس إليها (2: 19- 24). أما ابفروديتس، موفد الفيلبيّين، فيفضّل الرسول أن يراه يعود إلى بيته بسبب حالته الصحيّة السيّئة (2: 25- 30). وتنتهي الرسالة ببعض التوصيات الشخصيّة (4: 2- 3)، وبتحريض جديد على الفرح (4: 4- 7)، وبالسلامات (4: 21- 23).
3- الرسالة ج
نقرأ هذه الرسالة في 3: 1 ب- 4: 1+ 4: 7- 8.
أ- خصوم الإنجيل في فيلبّي
* مجموعة أم مجموعتان
المسألة الأولى التي تُطرح الآن هي: هل نحن أمام مجموعة واحدة من الخصوم أم مجموعتين مختلفتين؟ إنّ آ 18 ب قد تُفهم هجوماً على تراخٍ يتعارض مع الشريعانية التي تفترضه آ 2 ي. إذاً، يواجه بولس في فل فئتين: اليهود أو المتهوّدون من جهة و"الفالتون" أو المسيحيّون ذوو التصرّف الملتصق بالمادة، أو الذين سقطوا فجحدوا إيمانهم خلال الاضطّهاد من جهة أخرى.
في الواقع، إنّ مثل هذا التمييز لا يبدو واضحاً في النصّ. والبراهين تتلاصق فتتحدّث عن الاسكاتولوجيا والموت والقيامة في آ 10 ي كما في آ 20 ي. وصورة الجري التي تبدأ في آ 12 تمتدّ في آ 17- 18 مع فعل "باريبتاين" (سلك). ثم إنّ تفسير آ 18- 19 يطبّق هذا القول على الموقف اليهوديّ. وهكذا يكون بولس أمام فئة واحدة يواجهها.
* ارتباط بالعالم اليهوديّ
أول ما يميّز الهرطقة الفيلبيّة هو ارتباطها بالعالم اليهوديّ. هذا ما يبرز في التوسّع في البداية وفي التلميح إلى الختان في 3: 2 ي (احذروا البتر... الختان الصحيح هو نحن). هل نحن أمام اليهود أم المتهوّدين؟ ما زال السؤال موضوع جدال. أما النتيجة فهي هي: هل يمارس الوثنيّون الفرائض اليهوديّة؟ هل يجب أن يمرّوا في الديانة اليهوديّة (والختان) لكي يدخلوا في المسيحيّة فيكون خلاصهم كاملاً؟ هرطقة فرضت نفسها أيضاً في غلاطية، ونحن نجد الجواب عنها في أع 15: 11 مع كلام بطرس: "بنعمة الرب يسوع نؤمن أن نخلص نحن مثل أولئك".
* ارتباط بالخارج
هؤلاء الناس الذين يهدّدون جماعات فيلبّي ليسوا من داخل الجماعة، بل من خارجها. فنحن لا نرى أية محاولة من الرسول ليجعلهم ينكرون تعليمهم أو ينضمّون إلى الآخرين. إنهم خارج حلقة قرّاء الرسالة. ومع ذلك فهم يقدّمون نفوسهم كمثال يُحتذى به. ويلفت نظرنا تشديدُ بولس على تقديم نفسه كالمثال الذي يُقتدى به: "كونوا مقتدين بي" (آ 17؛ رج 1: 30). أما المثال الذي يقدَّم إلى الفيلبيّين فيرتبط بالكمال، ولفظة "ثالايوس" (كامل، كمّال) تنتمي إلى لغة هؤلاء الدعاة.
* فل و2 كور
هناك تشابه بين الجدال في فل 3 و2 كور. نحن هنا أيضاً أمام خصوم، أمام وعّاظ متجوّلين يفتخرون بأصلهم اليهودي (11: 22 ي)، ويهتمّون بشكل خاص بالعهد القديم. والتشابه حاضر أيضاً على مستوى الألفاظ: "ارغاتيس"، عامل (فل 3: 2؛ 2 كور 11: 13. "هبرايوس (فل 3: 5؛ 2 كور 11: 22)، عبرانيّ. نحن هنا في جوّ الدعاية اليهوديّة أو دعاية المتهوّدين. ولا ننسى أنّ دعاة المسيحيّة المتهوّدة في كورنتوس قدّموا نفوسهم (شأنهم شأن دعاة الديانات والفلسفات في ذلك العصر) كممثّلين للألوهة، وأعطوا كفالة لصفتهم "الرسوليّة". في الانخطافات والأعمال الخارقة.
* المعجزات والقيامة
مثل هذا اللاهوت تأسّس على كرستولوجيا ساحرة في الخارج، هي كرستولوجية المعجزات والقيامة. في الواقع، دلّت على "انحطاط" الكرستولوجيا والتعليم عن يسوع المسيح: فمع عثار الصليب ونظرة إلى مسيرة الإيمان نحو عالم لم يأتِ بعد، أُبعد المسيح من أجل "مجد" هؤلاء "الرسل". وهكذا ضاع مجدُ الله الذي تتحدّث عنه فل أكثر من مرّة.
ما نلاحظه هو أنّ بولس يواجه في فل الأخطار عينها التي وجدناها في كورنتوس. هو يتحدّث عن "أعداء الصليب" (آ 17). ويشدّد على آلام المسيح وموته، ومسميرة المسيحي في خطّ هذا الموت والآلام (3: 10 ي، 21؛ رج 1: 28 ي؛ 2: 12 ي). وهو لم يحصل على المجد بعد، فالمجد سوف يأتي (3: 11، 20- 21). وبالنسبة إلى بولس ليس هناك إلاّ مثال واحد: المسيح (2: 6- 11). أو أناس يسيرون بتواضع في خطى المعلّم (3: 17).
ب- ردّ بولس: تصميم الرسالة ج ومضمونها
إذن، لم يعد بولس في السجن. أما الوضع في فيلبّي فقد صار خطيراً جداً (أقول مرة ثانية، 3: 1 ب، 18). لهذا بدت اللهجة متحمّسة، بل عنيفة (الكلاب، 3: 2)، ومليئة بالقلق (بدموع، 3: 18). إذن، لا يبدو البرهان تقليدياً جافاً. فالرسول يحذّر بشكل احتفاليّ الفيلبيّين من تصرّفات هؤلاء المتطفّلين (آ 1 ب- 4 أ) الذين لا تهمّه ألقابهُم "المجيدة" (آ 4 ب- 6).
أما إنجيل الصليب فيمثّل انقلاباً في القيم، وهذا ما تدلّ عليه فقاهة الخلاص بالإيمان وبرّ الله (آ 7- 11). ثم إنّ الحياة المسيحيّة تتسجّل في الزمن وفي التاريخ وهي تبدو بشكل مسيرة إلى هدف لم نبلغ إليه بعد، ولكنه أكيد جداً (آ 12-16).
أما 3: 17- 4: 1 فهو يستعيد هذه النقاط المختلفة (الاقتداءالرسول، تحذير أهل فيلبّي، تصوّر المجد الآتي). وإنّ 4: 8- 9 يختتم الرسالة بنداء ملحّ إلى موقف عاقل، إلى موقف واثق بنعمة الله.
خاتمة
قدّمنا نظريّة الشّراح التي تتحدّث عن ثلاث رسائل إلى أهل فيلبّي. وهذه الرسائل قد جُمعت على يد أحد تلاميذ بولس في رسالة واحدة. ولكن هل يعني أننا تخلّينا عن فكرة الرسالة الواحدة؟ كلا. فإن كانت الرسائل دُمجت فلماذا دمجت؟ فإن قيل لنا لأنها قصيرة وقد تضيع، نجيب بأن هناك رسائل قصيرة في العالم القديم قد حُفظت من الضياع. وعلى مستوى العهد الجديد، هناك فلم، 2 يو، 3 يو، يهو. ثم من يتجرّأ على اقتطاع أجزاء من رسائل اعتبرها المؤمنون كتاباً مقدّساً (رج 1 بط 3: 16)؟
وهكذا يبقى الموضوع مفتوحاً وإن كنا نميل إلى القول بأن فل هي رسالة واحدة كتبها بولس على مراحل قبل أن يرسلها إلى هذه الجماعة العزيزة على قلبه.