الفصل الأول
بولس وأهل فيلبي
أسّس بولس كنيسة فيلبّي في ثاني رحلاته الرسوليّة. وابتعد عن هذه الجماعة العزيزة على قلبه. فأرادت أن تعبّر عن حبّها له واهتمامها بأموره، فأرسلت له مع ابفروديتس، أحد أفرادها، مساعدة ماليّة، ساعدته على الخروج من ضيقته، فكتب لها هذه الرسالة التي هي أبعد ما تكون عن المقال اللاهوتي كما هو الحال بالنسبة إلى الرسالة إلى العبرانيين أو الرسالة إلى أفسس.
نتعرّف إلى مدينة فيلبّي والكنيسة التي تأسّست فيها. كما نتعرّف إلى الزمان الذي فيه دوّنت فل والمكان الذي منه أرسلت. وفي النهاية نقول كلمة سريعة في اللاهوت الذي يميّز هذه الرسالة.
1- مدينة فيلبّي
في زمن بولس، كانت فيلبّي متربّعة على تلّة تجاه سهل مكدونية الشرقية، وإلى الشمال الشرقيّ من اليونان الحالي. أحاطت الجبال بهذه المدينة من ثلاث جهات، فلم تكن مفتوحة إلاّ على الغرب. هناك يمرّ نهر "انجيتس" بين جبليَ أوربلوس وبنجيس. إتصلت فيلبّي ببحر إيجه بطريق تعبر جبل سنبولون فتصل إلى مرفأ نيابوليس (اليوم: كافالا) بعد ثلاث أو أربع ساعات من السير على الأقدام. هذا ما فعله بولس مع رفاقه على ما يرويمما لوقا في أع 16: 12.
يعود إسم فيلبّي إلى فيلبّس الثاني، ملك مكدونية ووالد الاسكندر الكبير. في سنة 358/ 357، حوّل مكاناً مغموراً إلى مدينة محصّنة. كانت المنطقة غنيّة بمعادن الذهب، فاستفاد منها الصندوق الملكي. في سنة 169 ق. م.، قهر بولس اميليوس فونا (الروماني) برسيس، ملك مكدونية، فصارت البلاد مقاطعة رومانيّة وخسرت وحدتها. وصارت فيلبّي جزءاً من أولى مناطق مكدونية الأربع مع عاصمتها أمفيبوليس (أع 17: 1). وبعد سنة 148، إرتبطت مكدونية ارتباطاً وثيقاً برومة، وصارت فيلبّي محطة وصل هامة على الطريق الاغناطية، وهي الطريق الستراتيجيّة التي تربط الشرق بالغرب، عبر بيزنطية (في تركيا الحالية) ودورازو (في ألبانيا الحالية).
خلال قلاقل داخليّة طبعت العالم بطابعها في القرن الأول ق. م.، انتصر أوكتافيوس (سيصبح الامبراطرر أوغسطس) وأنطونيوس (الذي تعلّق فيما بعد بكليوباترة، ملكة مصر) في سهل فيلبّي سنة 42 على قاتليَ يوليوس قيصر، بروتوس وكاسيوس. وبعد نهاية المعركة، حوّل أنطونيوس المدينة إلى مستوطنة (أع 16: 12)، بمعنى أن المولود فيها يكون مواطناً رومانياً يتمتّع بما يتمتّع به ابن رومة نفسها. وكمّل أوغسطس عمل شريكه بعد أن انتصر عليه في أكسيوم سنة 31 ق. م. حينئذ أحلّ فيها قدامى الحرب، فصارت فيلبّي مستوطنة عسكريّة وسمّيت مستوطنة يوليا أوغسطا فيلبّي.
وعى سكان المدينة أنهم "رومان" (أع 16: 21). ولكنهم في الواقع تألّفوا من خليط من البشر. هناك السّكان الأصليّون، ثم قدامى الجيش الروماني الذين انتصروا على أنطونيوس في أكسيوم، وعدد من المهاجرين من إيطاليا. تنوّع السكّان فتنوّعت شعائر العبادة عندهم: فمع عبادة الامبراطور ووظيفتها الموحّدة، شكّلت عبادات محليّة (جاءت من تراقية) ويونانيّة وأناضوليّة ومصريّة وسوريّة، فسيفساء تلفيقية، بدت بجانبها الديانة التوحيديّة اليهوديّة، في وجه "حقير" جداً. لم يكن لها مجمع لأن عدد المؤمنين لم يتجاوز العشرة رجال.
هكذا بدت فيلبّي حين وصل إليها بولس ليجعل منها أول مدينة أوروبيّة تتقبّل الإنجيل. ما الذي حدث لهذه المدينة بعد ذلك، لا يهمّ موضوع الرسالة إلى فيلبّي. حافظت المدينة على مكانتها في القرون الوسطى. ولكن دمّرها الأتراك فصارت اليوم تلاً من الركام.
2- الجماعة المسيحية في فيلبّي
إن الحقبة التي شكّلت بالنسبة إلى المسيحيّة تأسيس جماعة فيلبّي، هي مهمّة جداً. ففيها وُضعت أولى بذار الإنجيل في أرض أوروبيّة. لهذا أبرز صاحب سفر الأعمال تبشير هذه المدينة، فروى كيف نال بولس وهو في ترواس من أعمال أسية الصغرى (أي: تركيا الحاليّة) رؤية ليليّة. بدا بولس كالآباء في ترحالهم، فوجّهه الله بشكل يفوق الطبيعة البشريّة. "وقف به رجل مكدونيّ يطلب إليه قائلاً: أعبر إلى مكدونية وأغثنا" (أع 16: 9).
فعبر بولس شمالي بحر إيجه برفاقة سيلا وتيموتاوس. وبعد وقفة في جزيرة ساموتراكية، وصلوا إلى نيابولس. حينئذٍ أخذوا الطريق الاغناطيّة ووصلوا إلى فيلبّي. وبعد بضعة أيام، انضم بولس ورفاقه إلى جماعة يهوديّة صغيرة كانت تصليّ خارج المدينة "يوم السبت على مجرى ماء". لم يكن هناك إلاّ بعض النسوة. فوجّه إليهنّ بولس كلامه. وكان بينهن امرأة اسمها ليدية. أصلها من تياتيرة في ليدية (في آسيا الصغرى. قد تكون أخذت اسمها من اسم المقاطعة التي وُلدت فيها). كانت تتاجر بالارجوان، ولهذا كانت غنيّة جدّاً. لم تكن يهوديّة، بل وثنيّة تعبد الله الواحد. كانت تتعاطف مع العالم اليهودي وتمارس بعض شرائعه.
هذه المرأة تقبّلت الانجيل بفرح. فبعد أن سمعت كرازة بولس، اعتمدت هي وأهل بيتها. بل طلبت من المرسلين أن يدخلوا بيتها ويقيموا فيه. وبعبارة أخرى، صار بيتها "كنيسة" تجتمع فيها جماعة فيلبّي يوم الأحد (أع 16: 11- 15).
كنا نتمنّى أن يواصل سفر الأعمال خبره كما بدأ، فيقدّم لنا ملاحظات حول السفر. ولكن ما نقرأه في أع 16: 16- 40 يطرح عدداً من الأسئلة على المؤرّخين. يروي لوقا طرد الشيطان من خادمة فيها روح عرافة، وسجن بولس وسيلا وخروجهما العجيب من السجن بفضل هزّة أرضية (تدلّ على حضور الله وتدخّله)، وعماد السجّان وأهل بيته، والإفراج عن الرسولن بأمر من القضاة الذين توسّلوا إليهما بأن يتركا المدينة.
مهما يكن من أمر هذه الأخبار وما فيها من نفحة أدبيّة جميلة، لا شكّ في أن أوّل إقامة لبولس في فيلبّي لم تخلُ من الألم ولا من الاضطهاد. وهو بنفسه يشهد على ذلك مرّتين. مرّة أولى في 1 تس 2: 2 قال: "فإنّا بعد أن تألمّنا وأُهِنّا في فيلبّي، كما تعلمون، تجرّأنا في إلهنا على أن نكلّمكم بإنجيل الله في جهاد جمّ". ومرّة ثانية في فل 1: 30. فبعد أن حدّث بولس أهل فيلبّي على النعمة التي أعطيت لهم بأن يتألّموا من أجل يسوع، قال: "تجاهدون الجهاد عينه الذي رأيتموه فيّ وتسمعون به عني الآن". هذا الجهاد هو الاضطهاد الذي قاساه بولس في تأسيس كنيسة فيلبّي.
ما رواه لوقا يتوافق مع كلام بولس. بدأ المرسلون بالتبشير، ولكن فسدت الأمور بسرعة، فأجبروا على ترك المدينة والتوجّه إلى تسالونيكي (أع 17: 1).
متى تأسّست جماعة فيلبّي؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار الوجهة التقريبيّة في الكرونولوجيا البولسيّة، نستطيع الاقول بدون مخاطرة، إن كنيسة فيلبّي قد تأسّست سنة 50. وهكذا تكون المسيحيّة قد وصلت إلى أوروبا عشرين سنة بعد موت يسوع وقيامته.
وسيكون لبولس أن يمرّ أيضاً مرّتين في فيلبّي. الأولى، خلال الرحلة الرسوليّة الثالثة. عبر مكدونية وزار فيها الكنائس المحليّة وأقام في فيلبّي. نقرأ في 1 كور 16: 5: "وسوف آتيكم بعد اجتيازي في مكدونية". وفي 2 كور 2: 13: "لم تكن لي راحة في روحي... فودّعتهم وانطلقت إلى مكدونية". وفي 7: 5: "منذ قدومنا إلى مكدونية، لم يكن لجسدنا راحة قطّ". فالصعوبات القاسية التي أصابت الرسول هناك، لا يمكن أن يكون سببَها هذه الكنائس التي افتخر بولس بشجاعتها وسخائها (2 كور 8: 2: فاض فرحهم في ما امتحنوا فيه من الضيق الكثير، وفقرهم الشديد قد طفح بغنى سخائهم).
ويذكر سفر الأعمال مرور بولس الثاني في مكدونية في 25: 6. فبدلاً من أن يتوجّه إلى جنوب اليونان (رج أع 18: 18)، أجبر على أن يتوجّه إلى مكدونية بسبب مؤامرة دبّرها اليهود عليه. قال لوقا: "أمّا نحن فأقلعنا من فيلبّي، بعد أيام الفطير". بعد ذلك، توجّه بولس إلى أورشليم وسوف لن يترك المدينة المقدّسة إلاّ سجين يسوع المسيح.
3- أين كتبت فل
أ- رسائل الأسر
ويطرح السؤال: أين دوّن بولس فل، ومن أي موضع أرسلها؟ إذا عدنا إلى أع، نعرف سجنين لبولس. واحد في قيصريّة البحريّة (أع 23: 33- 26: 32)، وآخر في رومة (أع 28: 16- 1 3). مع العلم أن سجن رومة هو امتداد لسجن قيصريّة. أما إذا عدنا إلى رسائل السجن (أو: رسائل الأسر)، فلا نجد إشارة إلى مواضع سجن بولس.
إن 2 تم تقدّم بولس في ليلة موته (4: 6- 7). مهما يكن من أمر هذه الرسالة وأمر الرسالتين الرعائيتين الأخريين، فيبدو أن 2 تم قد دوّنت في رومة التي هي بحسب التقليد موضع استشهاد بولس. وإن كو وأف وفلم تقع خلال الأسر عينه. وهذا ما نكتشفه حين نقابل فلم مع كو من جهة، أف مع كو من جهة أخرى. ويرى معظم الشّراح أن موضع كتابة أف، كو، فلم، هو رومة. لا براهين نجدها في هذه الرسائل. ولكن لا بدّ من إبعاد هذه الرسائل عن رسائل بولس الكبرى بسبب تطوّر الفكر من روم، 1 كور، 2 كور، غل، فل، إلى كو، أف.
وتبقى الرسالة إلى فيلبّي التي تختلف عن كو وأف، فتقف في خطّ الرسائل الكبرى. اعتبر الشّراح الأقدمون، وحتى نهاية القرن التاسع عشر، أن فل دوِّنت في رومة. ولكن تحوّلت الآراء اليوم وتعدّت موضع تدوين فل. هل كتب بولس رسالة واحدة إلى فيلبّي؟ ولكن تفتيت الرسالة لا يفرض نفسه. سوف نعود إلى "الرسائل الثلاث" في فصل لاحق. ولكن مهما يكن من أمر، يجب أن تبتعد فل عن كو، أف، فلم، وبالتالي يجب أن نتحدّث عن سجن آخر جاء قبل سجن رومة بزمن طويل.
ب- كُتبت فل في أفسس
هنا برزت فرضية سجن ثالث، لا يكون في رومة ولا في قيصريّة، بل في أفسس. فيها سُجن بولس وبعث منها برسالة إلى أهل فيلبّي.
نحن نعرف أن بولس أقام ثلاث سنوات في أفسس (مدينة في أسية الصغرى، أي تركيا)، خلال رحلته الرسوليّة الثالثة (أع 19: 1- 20: 1). وسفر الأعمال الذي يروي لنا ما حصل لبولس في تلك المدينة، لا يقول شيئاً عن سجن له في أفسس. غير أن 1 كور التي دوِّنت ولا شك في نهاية إقامة بولس في أفسس (فصح 57)، تذكر المخاطر التي حلّت بكاتبها من أجل الإنجيل: كان كلام بولس البرهان بأنه يؤمن بقيامة الموتى. قال: "ونحن أيضاً، لِمَ نخاطر كل ساعة بأنفسنا؟... وإن كنتُ لأغراض (لأسباب) بشريّة قد حاربت الوحوش في أفسس، فأي نفع يعود عليّ؟ إن كان الأموات لا يقومون، فلنأكل ونشرب فإنّا غداً نموت" (1 كور 15: 30- 32).
هذا "الصراع ضد الوحوش" قد فهمه عدد من الشرّاح بطريقة حرفيّة. قالوا: هناك فجوات في أع: قد يكون لوقا جهل أن بولس حارب الحيوانات المفترسة في ملعب أفسس! في الواقع، لا نستطيع أن نفهم 1 كور 15: 32 بهذا الشكل. لأن هذا النوع من الصراع كان محصوراً بالمحترفين (على مثال ما يحدث في صراع الثيران في إسبانيا).
أما إذا فهمنا هذه العبارة في المعنى العام، أي أن يُرمى بولس للوحوش كما حدث لأغناطيوس الانطاكي (رسالة إلى أفسس 1: 2؛ إلى الترليين 10) أو في استشهاد بوليكربوس (3: 1)، إذا فهمنا العبارة بهذا الشكل، يكون بولس قد خرج حياً من هذا الخطر. هنا لا ننسى أن بولس هو مواطن رومانيّ، وهو بالتالي لا يخضع لمثل هذا العذاب. لهذا، يجب أن نرى في هذه العبارة صورة (رج 2 تم 4: 17: أنقذت من فم الأسد؛ اغناطيوس الانطاكي إلى رومة 5: 1) عن المعاملات القاسية التي أصابت الرسول وهو في أفسس. ولكن هذا لا يفرض بالضرورة أنه ألقي في السجن في تلك المدينة.
ج- كُتبت فل في رومة
إذن، هل كتب بولس فل في رومة؟ في 1: 13 يعلن: "صارت قيودي في المسيح معروفة في دار الولاية كلّه وسائر الأنحاء). هل نحن أمام إشارة واضحة تدلّ على موضع تدوين فل؟ نشير أولاً إلى أن "برايتوريون" (دار الولاية) دلّت في الأصل على خيمة القائد في المعسكرات الرومانيّة. وتعطي الأخبار الإنجيلية (عن الآلام) لهذه اللفظة معنى متفرّعاً: قصر الوالي بيلاطس (مر 15: 16؛ مت 27: 27؛ يو 18: 28، 33). وهناك والٍ آخر اسمه فستوس قد جعل بطرس مقيّداً في "دار هيرودس، في قصر هيرودس" (أع 23: 35).
غير أن "برايتوريون" قد يدلّ أيضاً على حرس الأمبراطور أو الوالي (أو: الحاكم)، ويدلّ على مقام ممثّل رومة. والحال أننا نجد فرَقاً حاكميّة (مرتبطة بالحاكم الروماني) لا في رومة فقط، بل في مدن أخرى من الامبراطوريّة، مثل أفسس وغيرها. إذن، لا تتيح لنا "برايتوريون" التي نقرأها في فل 1: 13، أن نستخلص أيّة نتيجة. وكذا نقول عن "بيت قيصر" في 4: 22. هذه التسمية تدلّ على خدم مرتبطين بالامبراطور، وهم موجودون حيث للامبراطور أملاك وقرى.
إذن، ليس من برهان مقنع يدلّ على أن فل كتبت في رومة. ثم لا ننسى أن رومة تبعد 1300 كلم (4 أو 5 أسابيع من السفر) عن فيلبّي. أما الرسالة إلى فيلبّي فتفترض رواحاً ومجيئاً متواصلين بين هاتين المدينتين (بين بولس وأهل فيلبّي): عرف المسيحيون بسجن بولس، فأرسلوا إليه من فيلبّي ابفروديتس. لما وصل هذا إلى بولس، مرض مرضاً خطيراً، وعرفت جماعة فيلبّي بمرضه. كل هذا قد ذُكر في 2: 25- 26، وهو يفترض أقلّه خمسة أشهر من التبادل بين بولس وكنيسة فيلبّي...
كانت الطريق قصيرة بين فيلبّي وأفسس: عشرة أيام عبر بحر إيجه. هل يمكن أن نترك رومة ونعود إلى أفسس كموضع تدوين فل؟
ثم إن هناك مشاريع بولس: فهو يرجو بعد نجاته من السجن أن يأتي شخصياً ليزور الفيلبيّين (2: 24). أما حسب روم 15: 23- 24، فقد كان بولس يخطّط للذهاب إلى إسبانيا بعد أن يترك رومة. فإذا كانت فل قد دوّنت في رومة، فيجب أن نفترض أن بولس ترك المشاريع المتعلّقة بإسبانيا، أنه تخلّى عن انطلاق وإلى الغرب، وعاد أدراجه نحو الشرق. قد يكون الرسول بدّل مشاريعه بعد أن وصل إلى رومة كسجين لا كإنسان حرّ.
لن نتوقّف عند الفرضيّة التي تتحدّث عن قيصريّة كموضع محتمل لتدوين فل. وهكذا نستطيع العودة مع درجة كبيرة من المعقول إلى أفسس كالموضع الذي فيه دوّن بولس رسالته وبعث بها مع أبفروديتس. فإذا أخذنا بهذه الفرضيّة تكون فل قد دوّنت مع الرسائل الكبرى. إما قبل 1 كور و2 كور. يعني سنة 53/ 54. وإما بعد هاتين الرسالتين (وهذا أقرب إلى المعقول)، أي سنة 56/ 57. فالمواضيع المطروحة في الرسالة الكبرى، ولا سيّما المتعلّقة بالصراع مع العالم اليهوديّ والختان، تجعلنا نقول إن زمن تدوين فل قريب جدّاً من تدوين 1 كور، 2 كور.
4- لاهوت فل
اعتبر النشيد الكرستولوجي (2: 6- 11) منذ زمن بعيد درّة ثمينة في قلب فل. فما يميّز هذه الرسالة يكمن في "عناد" بولس بأن يرفض كل هرب إلى خارج تاريخ البشر، وهو هرب "تقدّمه" نظرة إلى الموت "مع المسيح" (1: 21- 24). أو تجربة حياة مسيحيّة "مجيدة" (ف 3)، بمجد فارغ، أو مجد يُفرغ الحياة من الصليب. أما في نظر بولس، فيجب أن "نغطس" من جديد في تاريخ البشر وزمانهم، أن نعمل في هذا التاريخ وننطلق دوماً إلى الأمام.
في هذا العالم تجسّد يسوع وعمل، فقلبَ التاريخ البشريّ دون أن يلغيه، حوّله تحويلاً كلياً لكي يجعل فيه ملكوته (2: 10- 11). غير أن هذا الملكوت ليس حقيقة مجرّدة. إنه يُعاش، يتجسّد في تاريخ البشر الذين أصابهم في الصميم تأثيرُ الصليب والقيامة (3: 4 ي)، فجعلهم يتحرّكون (3: 12 ي)، ويتوقون إلى هدف لم يأتِ بعد. فبما أن لا خلاص إلاّ في التاريخ، اهتمّ الرسول بأن يعلن الإنجيل بلا كلل (1: 12- 26)، وحرّض الجماعة المسيحيّة على الهرب من "فردوس" مصطنع، ليبنوا حياة أخلاقيّة ملموسة (1: 27- 2: 5؛ 2: 12- 16؛ 4: 2- 9). ولكن هذا التاريخ الذي صار جديداً، ما زال مطبوعاً بالحدث الذي ولّده. بل هو هذا الحدث الذي نعيشه في الكرازة الرسوليّة وفي حياة الجماعة المسيحيّة.
لهذا، فالانجيل الذي نعيشه في التاريخ، يتميّز أولاً بديناميّته، التي هي ديناميّة قيامة المسيح (3: 10). والرسالة كلها تهتزّ بالفرح أمام النظرة إلى انطلاقة جديدة للعمل الرسوليّ (1: 12- 26). كما نحسّ بالسخط وعدم الرضى تجاه تزييف الانجيل (ف 3). وفي كلا الحالين، نأخذ قوّة لكن نواجه الموت والسجن والخيانة، ونقبل بدمار سنوات من العمل والصلاة. وهذه القوّة عينها تتيح لنا المثابرة والصمود، والسير إلى الأمام، فنتحدّى الصعوبات والانشدادات، ونرفض الهرب والمساومات.
وكما أن القيامة تتجذّر في ليل الصليب، كذلك تنبع قوّة المسيحيّ من المشاركة في آلام المسيح والتشبّه بموته (3: 10: نأخذ فينا صورة موته. نأخذ موتاً مثل موته). لهذا، لا تعرف الرسالة من علامة فارقة إلاّ التواضع والضعف. ولهذا، تتأسّس أخلاقيّة الجماعة المسيحيّة على الموت عن الذات وعلى الحبّ الذي يجعل الإنسان يعتبر الآخر أفضل منه (2: 3).
وهكذا يُدفع المسيحي إلى أن يعيش يوماً بعد يوم المعنى الحقيقيّ للتقلّبات التي يُحدثها موت المسيح في تاريخ البشر: كل شيء هو عطاء مجانيّ من عند الله. كل شيء هو عمل عجيب من أب يُخرج القوّة من والضعف، والحبّ من المنازعات، والحياة من الموت (2: 9- 13؛ 3: 8 ي).