الفصل الرابع والعشرون
نصائح أخيرة
إرتبط ف 6 مع ف 5، بل مع ف 4، فكوّنت هذه الفصول الثلاثة الأخلاقيّة المسيحية في أف. فصلنا ف 5 عن ف 4. ونفصل ف 6 عنهما من أجل ترتيب العمل. ولكننا رأينا أن 5: 22 ينتهي عملياً في 6: 9، لنبدأ بعده ما يتعلّق بالجهاد المسيحيّ وأسلحة الروح.
نتحدّث عن موضوع الخضوع لدى الأولاد والعبيد وما يقابل هذا الخضوع لدى الآباء والأسياد (6: 1- 9). ثم نتوقّف قبل الخاتمة (6: 21- 24) عند جهاد الإيمان وأسلحة النور (6: 10- 20).
1- خضوع في جوّ مسيحي (6: 1- 9)
أ- الأولاد والآباء (آ 1- 4)
نلاحظ في آ 1 غياب "في الربّ" عند عدد من الشهود (مثلاً الفاتيكاني). قد زيدت العبارة في خطّ كو 3: 20. إن هذا التحريض بتأسّس على الوصايا العشر. وزيادة "في الربّ" تعطيه رنّة مسيحية.
إن أف تبعت كو، فانتقلت من الزوجين (تحدّثت كو فقط عن العلاقات الزوجية) إلى العائلة. إختلف التحريض عن تي 2: 6 (عِظ كذلك الفتيان أن يتعقّلوا) و1 بط 5: 5 (كذلك أنتم أيها الفتيان) اللذين توجّها إلى الفتيان ودعياهم إلى إكرام الشيوخ. أما أف فوجّهت نداءين: واحد للأولاد تجاه والديهم، وواحد للوالدين تجاه أولادهم. يُعتبر الآباء متسلّمي السلطة.
يعني هذا المقطع أن تعليم أف يتوجّه إلى كل الأعمار في الجماعة. إذا قابلناه مع كو 3: 20- 21، نرى أن اسم المسيح غاب. فلا يبقى إلا اسم الربّ ربما في البداية، وفي الخاتمة: "ربّوهم في الربّ".
الآباء هم مسؤولون عن التربية وقد نالوا تحريضاً مزدوجاً. واحد سلبيّ على ما في كو 3: 21: لا تحنقوا أولادكم (روم 10: 19). وآخر إيجابيّ يبدأ مع "بل": "ربّوهم بالتأديب والموعظة".
ب- العبيد والأسياد (آ 5- 9)
في آ 8، "مهما عمل من الخير" تستعيد النصّ الموسّع في كو 3: 23- 24.
إن هذا المقطع (6: 5- 9) يجد ما يوازيه في كو 3: 22- 4: 1؛ 1 تم 6: 1- 2؛ تي 2: 9- 10؛ 1 بط 2: 18- 25 (يهتم بالعبيد المؤمنين)؛ فلم 1 ي. تختلف الاعتبارات من رسالة إلى أخرى، ولكن النظرة هي هي. في نظام العلاقات بين البشر، السيد يمتلك السلطة في خطّ الزوج والوالد. ولكنه يدخل في خضوع يجعل كل الحالات البشريّة نسبيّة، وينظّم بين الجميع علاقات تبادل على مستوى آخر.
تشكّل آ 8 إنتقالة بين الكلام الموجّه إلى العبيد (آ 5- 6) وذاك الموجّه إلى الأسياد (آ 9). بدأ النصّ بالحديث عن العبيد، ولكنه في النهاية جعل الأسياد والعبيد أمام الربّ الواحد في خطّ الإيمان العماديّ (1 كور 12: 13: إنّا جميعاً اعتمدنا بروح واحد... عبيداً كنّا أم أحراراً).
ويختلف هذا المقطع (آ 5- 9) عن سابقه (آ 1- 4) بعودته إلى المسيح (كطاعتكم للمسيح، كعبيد المسيح)، إلى الربّ (آ 7، كما تخدمون الربّ). هناك الوجه الإيجابيّ (آ 5، مثل المسيح، آ 6، مثل عبيد المسيح). وهناك الوجه السلبي: لا مثل الذين يرضون البشر. وتصرّفوا كأنكم تخدمون الربّ (آ 7)، هذا هو الوجه الإيجابيّ. والوجه السلبيّ: "لا الناس" (لا كأنكم تخدمون الناس).
وينتهي هذا المقطع بمديح ينشد الربّ الواحد الذي لا يحابي الوجوه. وهكذا نكون أمام مواقف المؤمنين الواحد تجاه الآخر في إطار بيت مسيحيّ، في إطار عيلة الله.
2- جهاد الإيمان وأسلحة النور (6: 10- 20)
أ- دراسة النصّ
في آ 10، نقرأ في النصّ الغربي "تولويبون" الذي يدلّ على توالي البرهان: الآن، إذن. أما المضاف إليه (تولويبو) فيعني: "الزمن الباقي". إن السينائي والإسكندراني... والمخطوطات الجرّارة والسريانية واللاتينية تزيد "يا إخوتي" بتأثير من فل 3: 1. "تشدّدوا يا إخوتي". هكذا تدلّ الاختلافة على أننا أمام توسّع جديد.
في آ 12، وضعت برديّة 46 والفاتيكاني والبازي "أنتم" (المخاطب الجمع) محلّ "نحن" (المتكلّم الجمع). قالوا: ليست حربكم. بدل: ليست حربنا. في السينائي والبازي نقرأ "ظلمة هذا الدهر" بدل "عالم الظلمة هذا"، فنرى عبارة شائعة. وحذفت برديّة 46 "في الفضاء" متهرّبة من تحديد مكان قوى الشرّ. ولكن يجب المحافظة على هذه العبارة.
في آ 19، لا نجد لفظة "الإنجيل" بعد "سرّ" في الفاتيكاني، 010، 012. إن قلنا فقط "لأعرف السّر" لم يعدْ محدّداً لا باسم صاحبه (الله، المسيح)، ولا بمضمونه. فإذا أخذنا بهذا الموقف فهمنا كلمة سّر في علاقة مع وظيفة بولس الرسوليّة، إذن انطلاقاً من 3: 1- 15. ولكن نستطيع أن نقول "سّر الإنجيل" فنبتعد عن تعليم باطنيّ ونعتبر أن الإنجيل سيزيل السّر الذي ظلّ مخفياً منذ الدهور وكُشف الآن في الكنيسة.
ب- تحليل النصّ
بعد التحريضات المتعلّقة بالحياة اليوميّة، بعد لائحة العلاقات بين الأشخاص، وساعة تصل الرسائل إلى التحيّات والسلامات والتوصيات الأخيرة، إستعادت أف أنفاسها وانطلقت في توسّع جديد: تركت كو التي تبعتها، وقدّمت لنا مقطعاً أصيلاً. فتحت من جديد آفاقاً واسعة عرفناها منذ البداية، هي آفاق الكون كله.
إن التعليم عن السلام وعن جمع البشريّة في واحد لا ينتهي عند سراب خادع: فساعة الإيمان هي ساعة الجهاد. أنشد المسيح على أنه رأس العالم ورئيس الكنيسة. فوجب قبل النهاية أن ننزع القناع عن الخصم، عن سيّد عالم الظلمة، بواسطة فعل إيمان بالله. لقد خضعت أف لجوّ الأدب الجلياني كما نجده في الأناجيل الإزائية، حيث الكلمة الأخيرة تعلن المقاومة الأخيرة.
نحن أمام توسّع بسيط مع تعليمتين: نداء إلى الحرب، حضّ على السهر. ويأتي سلاح الله في ثلاثة أوقات: نداء لارتداء أسلحة الله للحرب الأخيرة ضدّ إبليس (آ 10- 13). تفاصيل العتاد الحربي (آ 14- 17). نداء إلى الصلاة والدعاء من أجل الرسول. هنا نستعيد نصّ كو 4: 2- 3 الذي تركناه منذ بداية هذا المقطع (آ 10- 20).
كل هذا يُكتب في صيغة المخاطب المتكلّم (أنتم، إلبسوا، إتخذوا، صلّوا). غير أن المتكلّم الجمع يظهر في آ 12. هذه العودة تبرز تأكيداً يجمع الكاتب مع قرّائه أمام طبيعة المصارعة الخاصّة. وفي آ 19- 20 نجد صيغة المتكلّم المفرد (أنا، أتكلّم، أعرف): هو الرسول يتكلّم فيطبع الجملة بطابعه ويقدّم الانتقالة إلى التحيّة الأخيرة في الرسالة.
تتضمّن آ 11- 20 أربعة أفعال في صيغة الأمر: إلبسوا، إتخذوا (سلاح الله)، قاوموا، إقتبلوا (خوذة الخلاص). ثم صيغة المصدر واسم الفاعل مع لفظة "كل" (6 مرات) وأداة "لكي" (3 مرّات).
نحن في جوّ من المواجهة. الخصوم هم: إبليس (آ 11). قوّات الظلمة (آ 12). يوم الشّر (آ 13). الشّرير (آ 16). السلاسل (آ 20). والحلفاء هم: الربّ (آ 10). الله (آ 11، 13، 17) وأسلحته. الروح (رج آ 17 مع برّ، حقّ سلام) الذي يلهم الصلاة في آ 18. أما الأفعال فتتحدّث عن الدفاع: قاوم، ثبت، كافح، أطفأ سهام (نار) الشرير. وهناك الأسلحة الدفاعيّة: ترس، خوذة، درع. وتنحصر الأسلحة الهجوميّة في آ 15- 17 مع تلميح إلى الإنجيل وسيف الكلمة. وكل هذا يجد صداه في الشهادة التي أدّاها بولس: "أتكلّم بجرأة. أعرّف سّر الإنجيل. أنادي به في جرأة".
عادت أف إلى العهد القديم. وبشكل خاص إلى أش 59: 16- 18: "شهر للنصر ذراعه واتخذ العدل سنده، ولبس الحقّ درعاً والخلاص خوذة على رأسه، وجعل الانتقام ثوباً والغيرة رداء له". وعاد أيضاً إلى حك 5: 15- 23: "يجعل الخلق كلهم سلاحه للانتقام لهم (الأبرار) من الأعداء. يلبس الحقّ درعاً، والعدل خوذة، ويتخذ القداسة ترساً لا يُقهر. وتكون شدّة غضبه سيفه المصقول، والعالم جيشه في مقاتلة الجهّال".
هي معركة اسكاتولوجيّة يقوم بها الربّ ضدّ أعداء شعبه. أما في أف فالمعركة صارت معركة الحياة اليوميّة. والمواجهة هي مع أعداء من لحم ودم، هي مع ضعفنا، مع الشّر الذي فينا وفي العالم. يبقى علينا أن نتسلّح بسيف الروح الذي هو كلمة الله.