الفصل الثاني والعشرون
حكمة مسيحية للزمن الحاضر
5: 15- 20
هذا المقطع الصغير يبدو استعادة وخاتمة للتحريض السابق الذي انتهى بنداء إلى الصلاة. وهو ينقسم قسمين. الأول (آ 15- 17) يدعونا إلى الانتباه لسلوكنا. والعبارة الأساسيّة هي: "العقلاء والجهلاء". ويأتي التطبيق: لا تبذّر وقتاً ثميناً. إنتبه إلى الزمن الرديء. تعرّف إلى مشيئة الربّ. الثاني (آ 18- 20) يحدّثنا عن ملء الحياة الذي في الروح. وبه ترتبط ثلاث تعليمات. أهربوا من السكر الذي يقود إلى النجاسة. صبّوا جهدكم في الصلاة الليتورجية. عيشوا حياة يرافقها فعل الشكر المتواصل.
ونستطيع أن نستخلص من هذا المقطع أربعة مواضيع متداخلة، كان لم يعالجها الكاتب بالقدر عينه. الأول: المسيحيّ هو إنسان مملوء بالحكمة والفهم بفضل وحي سّر المسيح. الثاني: إنه يستطيع أن يفيد من الزمن وإن كان رديئاً. ففيه يكتشف مشيئة الربّ. الثالث: المسيحيّ إنسان ينيره الروح فيؤمّن له ملئاً آخر غير ملء السكر الذي تمنحه الخمر. الرابع: إن الروح القدس يجعل المسيحيّ ثابتاً في الصلاة الليتورجيّة، ويُدخله في صلاة شكر متواصلة يرفعها إلى الآب بواسطة الإبن، بواسطة ربّنا يسوع المسيح.
1- الحكمة الدنيوية والحكمة المسيحية
توجّه الرسول إلى المسيحيين الذين لم يعودوا أطفالاً، بل نموا في المسيح، فطلب منهم ألاّ يسلكوا كالجهّال وكأناس لا عقل لهم. بل كأشخاص بالغين، عقلاء ومتنبّهين.
إن بولس يرذل حكمة العالم ويقابلها بجهالة الصليب، وذلك لكي يعود بنا إلى حكمة أسمى. فحكمة العالم لم تقدر أن تتعرّف إلى الله، فصارت جهالة حقيقيّة. وهكذا صارت جهالة الله أحكم من حكمة البشر. الحكمة الحقّة هي حكمة الله. هي سّرية وقد ظلّت زمناً طويلاً خفيّة. وقد كُشفت لنا يوم صار المسيح يسوع لنا حكمة وبرّاً وفداء. أما اللغة التي نتكلّم بها فليست لغة الحكمة البشريّة، بل لغة روح الله (1 كور 1: 17- 2: 16).
إن تعليم أف يواصل تعليم 1 كور ويكمّله. فحكمة الله هذه، السّرية والخفيّة، قد أعلنت لنا في يوم من الأيام سّر المسيح، وهكذا كشفت عن نفسها. وحين أوحى المسيح بنفسه وأعطانا حياة جديدة هي حياته، أعطانا حكمة وفهماً، بل صار هو نفسه حكمتنا وفهمنا. إذن، الجهّال والذين لا عقل لهم هم الوثنيّون الخطأة والذين لا معرفة عندهم.
وإذ دعانا بولس إلى الحكمة والتعقّل عبر كلام عن السّر الموحى، إلتفى وتحريضات يسوع الذي طلب من تلاميذه أن يتحلّوا بالحكمة والفطنة. أن يكونوا عقلاء بالنسبة إلى العالم. أن يبحثوا دوماً عن ملكوت الله. أن يعيشوا في السهر الدائم. قال لتلاميذه: "ها أنا أرسلكم مثل الخراف بين الذئاب. فكونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام. إحذروا الناس" (مت 10: 16- 17). وقال في مثل من أمثاله: "فمن هو الخادم الأمين الحكيم الذي أوكل إليه سيّده..." (مت 24: 45). وأعطانا مثل العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات (مت 25: 1 ي).
قالت آ 15: "أسلكوا في الحكمة". بدا القول بشكل عام فافترق عمّا في كو 4: 15 التي تدعونا إلى الحكمة في معاملة الذين في الخارج، في خارج الكنيسة، أي غير المؤمنين. يمكننا أن نقرأ: إسهروا بانتباه. نحن أمام معرفة وعلم. كيف يجب أن نسلك؟ بحكمة وتعقّل.
2- إغتنموا الزمن الحاضر
إستغلّوا الوقت الحاضر. إغتنموا الفرصة السانحة. إستفيدوا من الوقت الذي يُعطى لكم. نحن أمام عبارة تعني: إشترى في السوق، إشترى بأفضل الشروط، كان وكيلاً متنبّهاً. وما يجب أن نشتريه ونستغلّه أنضل استغلال هو الزمن، هو الوقت. لا يُطلب منا أن نقتصد به، بل أن نملأه، أن نستعمله بالفطنة المطلوبة، سواء كرّسناه للعمل أو للراحة، للصلاة أو لعمل المحبّة. فالمسيحي يرى في كل ثانية من الزمن الحاضر مناسبة لجمع الغنى الذي تحدّث عنه يسوع. "إجعلوا لكم أموالاً لا تفنى، وكنزاً في السماوات لا ينفد، حيث لا يدنو لصّ ولا يفسد سوس" (لو 12: 33).
لهذا رفع بولس الصوت عالياً ضدّ المسيحيّين الذين يعيشون في البطالة، ويتدخّلون في كل شيء (1 تس 2: 10- 12). ونحن نضيّع وقتنا أيضاً إن قضينا نهارنا في السفاهات والسخافات والهزل (أف 5: 4). فالمسيح طلب منا أن نكون خدماً أمناء وصالحين يعملون من أجل سيّدهم حتى في غيابه (مت 25: 14- 30).
إستعاد بولس تعليم كو 4: 5، فشدّد هنا على الحقبة الحاضرة، التي تمتدّ منذ مجيء المسيح، والتي هي حقبة الخلاص والنعمة. لقد تمّ الزمان وحقّق الآب مخطّط لطفه، حقّق سّر مشيئته الذي كشفه لنا (أف 1: 9- 10).
في الواقع، يجد المسيحيّ نفسه في وضع صعب، لأنه ينتمي إلى حقبتين، أو بالأحرى إلى عالمين. هو منذ الآن في الدهر المسيحاويّ. ومع ذلك، فهو يقيم في زمن العالم الذي يجب أن يحذر منه. ففي يوم العنصرة أعلن بطرس أننا في حقبة الأيام الأخيرة، في الأزمنة المسيحاويّة، في مطلع يوم الربّ (أع 2: 17). قد نكون في حقبة جديدة. بل في تتمّة حقبة سابقة: ملء الأزمنة (غل 4: 4)، اكتمال الأزمنة (أف 1: 10). هذه الحقبة هي في الواقع المهلة الأخيرة قبل المجيء الثاني. إنها وقت ثمين، لا يجب أن نبذّره.
في العرض البولسيّ، إرتبط هذا الإعلان بقرب مجيء الربّ. وهذا الكلام يتوجّه إلينا اليوم فيدعونا إلى المخافة والمحبّة. فالمسيحيّ الذي يعيش دوماً في زمن العالم، يعرف أن نعمة المسيح تطلقه في زمن الملكوت فينتظر في كل لحظة ملء نور الربّ كما انتظره بولس فقال في روم 13: 11: "تناهى الليل واقترب النهار. فلنطرح أعمال الظلام ونحمل سلاح النور".
3- زمن الملكوت وإرادة الله
ولكن زمن الملكوت يبرز من الأزمنة الرديئة ويتواجد معها. فالمسيحيّون ما زالوا غارقين في عالم وثنيّ فاسد وضال، وقد رسم بولس لوحة تعيسة عنه (فل 2: 15). فالرسول يستحلف مراراً المرتدّين الجدد بأن لا يسقطوا من جديد في نجاسات حياتهم السابقة. ثم إن هذا العالم الجاهل والخاطىء، بدأ يُظهر عداء عنيفاً ضدّ الكنيسة الفتيّة. وهذا ما نراه في مهمّات بولس الرسوليّة سواء مع اليهود أو مع الوثنيّين. ولقد كتب أف خلال سجن طويل قيّده في رومة.
وما يدلّ على الشرّ في قلب هذه الحقبة، هو الحضور السّري لقوّات شّريرة وللشيطان نفسه. هذا ما يعطي أف طابع التشاؤم خصوصاً حين تقول: "تسلّحوا بسلاح الله الكامل لتقدروا أن تقاوموا مكايد إبليس. فنحن لا نحارب أعداء من لحم ودم، بل أصحاب الرئاسة والسلطان والسيادة على هذا العالم، عالم الظلام والأرواح الشّريرة".
يبدو الزمن على أنه زمن الشرّ. لذلك يجب أن نتمسّك بكل ظرف لنتمّ مشيئة الله. فلنتميّزها في رداءة الأيام. ولنتحلّ بالوعي اللازم. إكتشفنا إرادة الله في ف 1، ويجب أن نحقّقها الآن في حقل طاعتنا الشخصيّة والجماعيّة.
لقد تدشّنت الحقبة الحاضرة بمجيء المسيح على الأرض. فعلى المسيحي أن يتنبّه لحضور يسوع الذي يدلّنا على مشيئة الله. وهذه المشيئة نحن نعرف هدفها: تقديسنا (1 تس 4: 3). ومقابل هذا، نحن نتقدّس حين نعمل مشيئة الله. نقول في الصلاة الربيّة: "ليتفدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" (مت 6: 9- 10).
صار التقدير أيضاً العمل الخاص للمسيح الذي "أحبّ الكنيسة، وبذل نفسه لأجلها لكي يقدّسها" (5: 25). وبمختصر الكلام نستطيع القول إن إرادة الربّ هي في الوقت عينه علامة تقديسنا ووسيلته والمحيط الذي فيه يتمّ.
4- السكر الروحي والمحبّة المسيحية
إن التحذير من السكر يترافق مع الدعوة إلى السهر. رج 1 كور 15: 34 وخصوصاً 1 تس 5: 6 الذين يزيد نداء للاستعداد للحرب. غير أن هناك سكراً من نوع آخر هو سكر بالروح.
فبالروح يتمّ ملء وحيّ سّر المسيح (3: 2- 5). وملء معرفة إرادة الربّ يعود ببولس إلى الحديث عن الدور الذي يلعبه الروح في الحياة المسيحيّة وفي الصلاة. فلا أحد يستطيع أن يدعو اسم الربّ أو يعرف الآب إلاّ في الروح وبالروح. نقرأ في 1 كور 12: 3: "لا يستطيع أحد أن يقول إن يسوع ربّ إلاّ بإلهام من الروح القدس". وفي روم 8: 15: "الروح... يجعلكم أبناء الله وبه نصرخ إلى الله: أبّا، أيها الآب".
كيف انتقل بولس من إرادة الربّ إلى السكر الذي يقود إلى الخلاعة، وإلى فيض ملء الروح؟ هنا نفكّر في 1 تس 4: 3- 8 حيث موهبة الروح القدس الآتية من الله تنقلنا من النجاسة إلى التقديس. فحين نميل عن سكر الخمر، نصل إلى السكر الروحيّ الذي يعطيه الروح القدس لإنسان استولى عليه. ففي صباح العنصرة، إجتمع الحجّاج اليهود أمام العلِّية وسمعوا الرسل يتكلّمون في اللغات فظنّوهم سكارى. هدّأهم بطرس مستنداً إلى نبوءة يوئيل، وأفهمهم أنه ظهور الروح الذي نالوا ملئه. والمسيحيّون يقدرون أن يتوقوا إلى هذا الملء عينه، إلى السكر الروحيّ عينه.
نحن نعرف توبيخ بولس في 1 كور 11: 17- 33؛ لا يجب أن يبلبل مسيرةَ الليتورجيا سكرُ الذين أفرطوا في الطعام والشراب. والسكر الروحيّ الذي يليق وحده بعشاء المحبّة المسيحيّة يظهر فقط في نشيد مفرح من المزامير والمدائح والترانيم. فالصلاة فينا هي عمل الروح الذي يجتاحنا. وهي أيضاً "كلمة المسيح التي تقيم فيكم بوفرة" (كو 3: 16).
5- صلاة باسم ربّنا يسوع المسيح
يعلمنا النصّ بمضمون الصلاة في الجماعة المسيحيّة، وهي صلاة كبرى تنتهي بالمناولة. كانت هناك صلاة جوقة مرتّبة: مزامير من الكتاب المقدّس. مزامير مسيحيّة. مدائح احتفظت رسائل بولس الرسول ببعض آثارها. وهناك صلوات أصحاب المواهب، وترانيم يلهمها الروح فيتلوها هذا المؤمن أو ذاك. قبلَ بها بولس، ولكن نصح بعدم الإكثار منها، وأخضعها للمحبّة والبنيان. تحدّثت 1 كور 12: 7 عن موهبة للخير العام. وطلبت 14: 26 بأن يكون كل شيء للبنيان.
وتنطلق صلاة المسيحيّ من الجماعة الليتورجيّة فتمتدّ إلى كل ساعات النهار. وليس من حدث إلاّ ويستطيع أن يحرّكها. فبولس يدعونا إلى الصلاة "في كل وقت وفي كلّ مناسبة" (دائماً على كلّ شيء، في كلّ وقت وعلى كلّ حال). هنا نلتقي مع الاعتبارات حول الوقت الذي لا نبذّره، ومشيئة الله التي نتميّزها في كلّ لحظة. والرسول نفسه لا يتوقّف أبداً عن الصلاة، سواء كتب أو حرّض. وقد تتحوّل دروسه ونداءاته بشكل طوعيّ إلى صلاة.
تأمّل بولس في سّر المسيح. فكان تأمّله ينبوعاً يتفجّر منه دوماً فعلُ الشكر. وإن رسائله تشهد مراراً على توجيه صلاته نحو المديح وعرفان الجميل. وهذا الشكر لا يعني فقط الموهبة التي وصلت إلينا بالمسيح، بل يستند إلى هذه العطيّة ويعبّر عن نفسه بواسطتها. والدعاء لاسم الله في العهد القديم قد حلّ محلّه منذ الآن الدعاء لاسم الربّ يسوع. فالمسيحيّ يتوجّه إلى الله كما إلى الآب ويدعو ابنه يسوع المسيح. في الماضي كان الله يتجلّى في الرعد والبرق أو في نسيم صامت. وجاء ابن الله بيننا وصار إنساناً من مريم العذراء. إنه مخلّص البشر منذ أيام آلامه وقيامته. وحين تدعوه الكنيسة ربًّا فهي تعلنه كذلك منذ يوم العنصرة.
وصلاة الشكر التي تمنّاها بولس صعدت نحو الآب بواسطة الإبن. إنها كلمة المسيح وهي تُتلى باسمه، وفي الوقت عينه هي أنّات الروح فينا. هي تمدح الآب في ابنه. تمدحه من أجل إرادة الربّ التي نتعرّف إليها في كلّ لحظة، من أجل إرادته بتقديسنا مع ذبيحة المسيح. هذه الصلاة هي متواصلة. إنها في الوقت عينه مديح وعمل الثالوث، الآب والابن والروح القدس.