الفصل الثاني
تحية وسلام
1: 1- 2
بولس رسول المسيح يسوع. هذا العنوان يتبع النموذج البولسي. يبدو اسم بولس وحده ولا يرافقه شخص آخر كما في روم 1: 1 والرسائل الرعائية (1 تم 1: 1؛ 2 تم 1: 1؛ تي 1: 1: من بولس عبد الله ورسول المسيح يسوع). أما في سائر الرسائل، فيضمّ إلى شخصه مرافقيه في الرسالة. في 1 كور 1: 1 هناك "سوستانيس الأخ". وفي 2 كور 1: 1 يرافقه "تيموتاوس الأخ". في كل 1: 2 نقرأ: "من جميع الأخوة الذين معي". في فل 1: 1 تبدأ الرسالة: "من بولس وتيموتاوس عبدَي يسوع المسيح".
1- دراسة النص وتحليله
نلاحظ أولاً اختلافتين بسيطتين في آ 1. نقرأ عادة "المسيح يسوع". ولكننا نجد في عدد من المخطوطات (من السريانية البسيطة مثلاً) "يسوع المسيح". وتأثّر بعض النسّاخ بما في فل 1: 1 فزاد لفظة "جميع"، قال: "إلى جميع الأخوة القدّيسين".
ونلاحظ ثانياً مسألة كبيرة جداً: غياب عبارة "في أفسس" في أقدم المخطوطات (بردية 46، السينائي، الفاتيكاني) كما في كتب الآباء مثل اويجانس وغيره. سنعود إلى هذه المسألة في معرض التفسير.
هذا على مستوى الدراسة، فماذا نقول في التحليل؟
تخضع التحيّة الرسائليّة في العالم القديم لنموذج محدّد: المرسِل مع ألقابه إذا وُجدت، المرسَل إليه وصفاته، التمنّيات. نجد النموذج اليوناني الكلاسيكي في إيجازه في يع 1: 1: ومن يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح". هنا نتذكّر رسالة القائد الروماني إلى الوالي فيلكس: "من كلوديوس ليسياس" (أع 23: 26).
إن النموذج البولسي يبدو ثابتاً في التصميم متبدِّلاً في التعبير. وهو يقابل رسمة شرقيّة انتشرت في البلاط الفارسي، فوصل إلينا مثالاً عنها في دا 4: 1 حسب ترجمة تيودوسيون. ونجد نماذج عن هذا المثال في محيط ساميّ. مثلاً: رؤيا با 78: 2.
هذا النموذج مهمّ لمن يريد أن يعالج النصّ. فالقارىء لا يدخل في مراسلة شخصيّة، بل يقف أمام تعليم يرتدي سلطة (سلطة الرسول بولس هنا)، ويتوجّه من أجل القراءة العلنيّة: قراءة خلاله الاحتفال الليتورجي. نقرأ في كو 4: 16: "وبعد أن تُتلى هذه الرسالة عندكم". فالطابع الرسمي للرسالة يبدو واضحاً منذ البداية، ويبرز في المقابلة بين اللغة الليتورجيّة واللغة السياسيّة.
2- تفسير النصّ
أ- بولس رسول المسيح (آ 1)
أولاً: بولس
بولس هو الإسم اللاتيني الذي أُخذ من عائلة امليا وعنى "الصغير" (أو: القصير). هل يتوافق هذا الاختيار مع قامة بولس؟ هذا ما نجهله رغم ما نقرأه في 1 كور 2: 3: "حضرت إليكم في ضعف وخوف وارتعاد كثير". بل هو يتوافق في اللفظ مع شاول أو" المسؤول" (أي الذي سأله والداه أو طلباه من الله). نجد شاول وبولس، نجد كذلك يشوع وياسون، سيلا وسلوانس. لم يحلّ "بولس" محلّ "شاول"، فالإسمان يدلاّن على التزام بولس المزدوج: إنه رسول المسيح يسوع، إنه رسول الأمم (الوثنية).
مهما كان الجدال حول صاحب أف، فتدوين الرسالة ارتبط بسلطة الرسول وحده، فلم يرافقه شخص أرسلها معه. فحتَّى في كو التي لم يبشّرها بولس، نقرأ: "ومن أخينا تيموتاوس" (كو 1: 1).
قد يقدّم بولس نفسه ولا يذكر لقباً. هذا هو الوضع في 1 تس 1: 1 (من بولس وسلوانس وتيموتاوس) و2 تس 1: 1. وقد يسمّي نفسه "عبد" المسيح يسوع (روم 1: 1؛ فل 1: 1) أو "رسول" يسوع المسيح (1 كور 1: 1؛ 2 كور 1: 1؛ غل 1: 1). أما في أف فيسمّي نفسه "سجين" (أو: أسير) يسوع المسيح (3: 1).
بولس هو الرسول (أو: السلّيح، شليحو في السريانية) والمرسَل والموفد. هو بالنسبة إلى من يرسله "ذاته الأخرى". تلك هي العلاقة بين بولس ويسوع الناصريّ منذ اللقاء في طريق دمشق.
وقال النصّ: "بمشيئة الله"، فربط عمل المسيح بمبادرة الله. فالدائرة المسيحاويّة التي تشكّل الرسالةُ فيها جزءاً لا يتجزأ، لا تنفصل عن الوعد المعطى لإبراهيم. نحن نجد هذا التشديد عينه في 1 كور 1: 1؛ 2 كور 1: 1؛ كو 1: 1. وتبدو هذه المبادرة الإلهيّة أكثر بروزاً في روم 1: 2 (سبق فوعد به على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدّسة) وغل 1: 1 (لا من قبل البشر، ولا بانسان).
إنّ لقب "رسول" مهمّ جداً، لاسيّما وأنّ بعض الذين بشرّهم بولس اعترضوا عليه: فقد اعترضت بعض الأوساط المسيحيّة على لقب "رسول المسيح". واعترض الرفاق القدامى من الفرّيسيين على عبارة "بمشيئة الله". وتسمية بولس كرسول، والبُعد الخاص لهذه التسمية في أف، سيتوسّع فيهما الرسول مطوّلاً في 3: 1- 13.
ثانياً: إلى القدّيسين والمؤمنين
إن تسمية قرّاء أف تدلّ على الطريقة التي بها فهصت الجماعة نفسها. والاختلافات بين رسالة ورسالة تعلّمنا الشيء الكثير. هنا نجد صفتين مستعملتين بشكل موصوف: "القدّيسين"، "المؤمنين". القدّيسون هم الذين أخذهم الله بيده، حرّرهم من أي انتماء، وكرّسهم من أجل خدمته. إنّ لهذه اللفظة ماضياً بيبلياً عريقاً، قبل أن تدلّ بشكل خاص على أعضاء الكنيسة. إن لفظة "قدّيسين" حلّت محلّ لفظة "إخوة" (رج كو 1: 1: الإخوة الأمناء في المسيح).
على مستوى الإيمان، هناك المعنى السلبي: من يستحقّ أن نثق به. والمعنى الإيجابي: أولئك الذين يؤمنون. هناك الله الذي نتكل عليه. وهناك الذين جعلوا ثقتهم في المسيح يسوع. إذا توقّفنا عند النصّ المعتمد حالياً، يرتبط "القدّيسون" بمكان من الأمكنة هو "أفسس". كما تدلّ لفظة "المؤمنين" على انتماء إلى المسيح. إنّ المؤمنين يقيمون في المسيح منذ الآن كما يقول حرف الجرّ اليوناني.
ثالثاً: الذين في أفسس
نقرأ في روم 1: 7: "إلى جميع أحبّاء الله الذين في رومة، المدعوّين القدّيسين". وفي فل 1: 1: "إلى جميع القديسين في المسيح يسوع، الذين في فيلبي. أما في كو 1: 2 فنقرأ: "إلى القدّيسين الذين في كولسي". دمجت أف بين روم وفل وبين كو فقالت: "إلى القدّيسين الذين في أفسس". ولكن نتساءل: هل بولس هو صاحب أف؟ وهل وجّهت هذه الرسالة إلى كنيسة أفسس؟ ففي 1: 15 الذي يبدو مأخوذاً من كو 1: 4- 9، نفهم أنّ الكاتب يتوجّه إلى مؤمنين لم يعرفهم من قبل: "سمعت بإيمانكم في الرب".
وإذا عدنا إلى وضع النصّ نجد أنّ عبارة "إلى أفسس" قد شكّلت صعوبة بالنسبة إلى الكنيسة في الأجيال الأولى. والاختلاف بين المخطوطات يزيد المسألة تشعّباً.
* أقدم مخطوط للرسالة إلى أفسس هو بردية 46. نقرأ فيه: "إلى القدّيسين الذين هم والمؤمنين". وهكذا غابت "كنيسة خاصة" تتوجّه إليها الرسالة. أما عبارة "الذين هم" فهي معروفة، فنقرأها مثلاً في روم 13: 1؛ أع 5: 17. وهكذا تصبح أف 1: 1: "إلى القدّيسين والمؤمنين في يسوع المسيح".
* ويتبع المخطوط البازي البردية 46. ولكن هناك اعتراضات: ما هذه الصيغة الغريبة في تحية تبدأ الرسالة؟ ثم، إن كانت البردية 46 هي أقدم مخطوط فليست المخطوط الأصلي. وقد يكون الناسخ نسي كلمة "إلى أفسس".
* السينائي والفاتيكاني يجعلان أل التعريف أمام اسم الفاعل، ولكننا لا نجد مفعولاً: القديسين، الذين هم (حقاً)، المؤمنين في المسيح. إذن، لا بدّ من اسم مكان لكي نكمّل المعنى. هل ضاع اسم المكان صدفة واتفاقاً، أم هل أسقط عمداً؟
* إنّ مجمل سائر المخطوطات ومجمل الترجمات وعنوان النصّ وتوقيع الناسخ حتى في السينائي والفاتيكاني، والتقليد الآبائي بشكل عام... كلّ هذا يتضمّن عبارة "الذين في أفسس" أو "الأفسسيين".
* رفض مرقيون (كما يقول ترتليانس) هذه التسمية وجعل مكانها "إلى اللاودكيين" كما في كو 4: 16: "تلك التي نسمّيها إلى الأفسسيين" يسمّيها الهراطقة إلى اللاودكيين. مهما كان هذا النصّ قديماً، إلاّ أنّ التصحيح المطروح لا يجد له أساساً في الرسالة.
ماذا نقول في كل هذا؟
نحن أمام رسالة دوّارة توجّهت إلى جماعات مختلفة. كانت هناك فسحة بيضاء يدوّن فيها اسم هذه الكنيسة أو تلك. نحن أمام رسالة عامّة لا تتوجّه إلى كنيسة محدّدة دون غيرها من الكنائس. نحن أمام رسالة توجّهت إلى كنائس آسية الصغرى (= تركيا)، والإشارات الملموسة في هذه الرسالة تدلّ على الوضع في هذه الكنائس ولاسيّما ذكر "تيخيكس، الأخ الحبيب، والمعاون الأمين في الرب" (6: 21؛ رج كو 4: 7؛ أع 2: 4؛ 2 تم 4: 12).
ب- نعمة لكم وسلام (آ 2)
إن السلام حسب النموذج البولسيّ يتوسّع في التحيّة القديمة الموجزة، وينبع من المباركة اليهوديّة (رج 2 كور 1: 1). النعمة، الرحمة والحنان، السلام. وهذا ما يدلّ على ملء ملكوت الله. وتبرز هذه العبارة الشائعة في أف بشكل خاص بقدر ما سوف يشكّل إعلان السلام قلب التعليم ولاسيّما في ف 2: "لأنه (أي المسيح) هو سلامنا. هو الذي جعل من الشعبين واحداً، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة" (آ 14).
واختلف بولس عمّا اعتادت عليه الرسائل، فلم تصدر التحيّةُ من المرسِل.
فالمرسِل يكتب باسم شخص آخر، من قبل آخر. إنه وسيط بين هذا الآخر والقارىء ثم إنه لا يعبرّ عن تمنٍّ من التمنّيات، بل يشارك في موهبة نالها هو بدوره: لقد نال النعمة والسلام.
"من قبل الله أبينا والرب يسوع المسيح". هذه العبارة التي نجدها أيضاً في 1 كور 1: 3، تكرّس توسّعاً مزدوجاً بالنسبة إلى ما نجده في العالم اليهودي. حل محل اسم "يهوه" (الرب الذي هو) لقب الآب. وهذا ما نجده في آ 3: "تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح". ثمّ إنّ ترجمة "يهوه" بالربّ، قد انتقلت إلى يسوع المسيح الذي هو مساوٍ لله الآب في الجوهر.
جعل النصّ ضمير المتكلّم الجمع "نا" مع الآب، فقال "أبينا" على مثال ما نجد في العهد القديم مع لفظة "الله" إلهنا. فالله هو إله إبراهيم وإسحق وإسرائيل. هو إله شعب من الشعوب. ولهذا ينادونه إلهنا. هذا لا يعني أننا نمتلك الله ونجعله في خدمتنا دون غيرنا. بل يدلّ على الالتزام تجاهه، على الإقرار بفضله، على إعلان الإيمان به والثقة بتدخّلاته من أجلنا.
خاتمة
إنّ النعمة والسلام تأتيان من الله. هذا ما عرفه بولس قبل ارتداده. والآن، ارتبط الرب يسوع المسيح بالله الآب (مع عبارة واحدة "من قبل" تجمع بين الإثنين، لأنهما متساويان)، فدلّ بولس المسيحي بهذا الإرتباط على المكانة التي يحتلّها الرب. بعد أن رفعه الآب "وأعطاه الإسم الذي يفوق كل إسم" (فل 2: 9). إنّ النعمة الإلهيّة والسلام يُعطيان بشكل سامٍ في خلاص يُعلنه الإنجيل ويقدّمه الله والمسيح معاً. والنعمة التي تكمن وراء هذا الخلاص (2: 5، 8) تسمّى أيضاً "نعمة الله" (3: 2)، "نعمة المسيح" (غل 1: 6). والسلام الذي ينشئه هذا الخلاص (2: 14- 17؛ 6: 15) يسمّى أيضاً "سلام الله" (فل 4: 7)، "سلام المسيح" (كو 3: 15).