تقديم
ونتابع مسيرتنا مع القديس بولس. فبعد تفسير الرسائل إلى كورنتوس وغلاطية، وبعد الدراسة اللاهوتيّة حول الرسالة إلى رومة التي كانت بعنوان "الإنجيل قدرة الله"، ها نحن ندخل في الرسالة إلى أفسس التي كان يمكن أن نعنونها "غنى المسيح الذي لا حدّ له". أو: "الحياة المسيحية في الكنيسة".
تبدو الرسالة إلى أفسس محاولة أصيلة بالنسبة للرسالة إلى رومة. فهي تقدّم لنا ما وصل إليه فكر بولس بعد تطوّر حصل عنده على أثر الأحداث والظروف التي رافقت حياته. كان بولس قد كتب روم في كورنتوس سنة 57- 58. بعد ذلك ذهب إلى أورشليم ماراً في مكدونية وعلى شاطىء آسية الصغرى، أي تركيا الحالية. ولمّا وصل إلى أورشليم في عيد العنصرة، في أيار 58، أوقفه الرومان على أثر قلاقل في الهيكل. سُجن سنتين في قيصريّة، على شاطىء البحر في فلسطين، ثم نُقل إلى رومة سنة 60- 61. خلال هذه الحقبة نضج فكره فقدّم لنا ما سمّيت "رسائل من السجن".
حين أقام بولس في رومة، برز حدث فرض عليه تعبيراً جديداً يقدّم جواباً عن صعوبات تعليميّة جديدة. هي الأزمة الكولسيّة بما فيها من تيّار يهودي متأثّر بالغنوصيّة.
ما شعر به بولس عند مسيحيّي آسية هؤلاء، هو فقدان مفهومهم للمسيح. سحرتهم نظرة إلى العالم تعطي أهمية كبرى للملائكة والقوى الكونيّة، وتتطلّع إلى ممارسات شبيهة بما في العالم اليهودي. أين المسيح في كلّ هذا؟ حينئذ دعاهم بولس إلى البلوغ إلى معرفة سامية لقصد الله. فحين يفهمون من هو المسيح، يحدّدون موقع كل شيء بالنسبة إليه، وتستنير حياتهُم كلّها بنوره. عند ذاك تكفيهم المشاركة مع المسيح، وتخسر الفلسفة والممارسات العالميّة كل وهج أمام أعينهم.
وهكذا قدّم بولس في أف وظيفة المسيح في الكون وفي التاريخ. وتبرز أصالة هذه الرسالة بالنسبة إلى السابقات، في ثلاث نقاط رئيسية. الأولى: ليس المسيح فقط رئيس الكنيسة. إنه يسمو على الكون كلّه. إنه موجود منذ الأزلي. إنه أساس الخليقة كلّها وهو الذي يصالحها مع الله في التاريخ. في النقطة الثانية، يشدّد بولس على الوجهة الجماعيّة للخلاص. وهكذا تبرز بوضوح الكنيسة التي هي جسد يتميّز عن الرأس. وحين يدخل البشر في هذا الجسد، يشاركون في خيرات الرأس. والنقطة الثالثة تتحدّث عن تجميع كل البشر في المسيح، أكانوا من اليهود أم من الأمم الوثنيّة. هذا التجميع هو سّر الله أي قصد الله الذي ظلّ خفياً فكُشف في شخص يسوع وأعلنته الكنيسة. هذا السّر هو حكمة علويّة لا ندركها إلاّ بمعرفة يمنحها الله لنا بنعمة مجانيّة من عنده.
ذاك هو الغنى الذي تقدّمه إلينا الرسالة إلى أفسس. فبعد المدخل، نبدأ مع التحيّة والسلام ونتعرّف إلى نصوص هذه الرسالة التي فيها يعرض بولس بهدوء فهمه لسّر المسيح والكنيسة. أما الهدف النهائي فهو أن يجمع الله في شخص المسيح كلّ ما في السماء وفي الأرض، وكلّ هذا على حسب رضى مشيئته ومن أجل تسبيح مجده.