الفصل الخامس عشر
مسيرة مخطط الله
حين نتحدّث عن تاريخ الخلاص، ننسى أنه ليس شيئاً مجرّداً وخارجاً عن الزمن. فمن تحدّث عن السوتيريولوجيا وكأنها تصوير للتبرير ونتائجه في النفس، يخطىء خطأ كبيراً. السوتيريولجيا هي شهاد على المكانة الفريدة التي يحتلّها المسيح في تاريخ البشرية الديني. لهذا نتوقف عند مسيرة مخطّط الله، مع إبراهيم المؤمن، مع المسيحي في مسيرته إلى الله، مع نظرة إلى مخطّط الله ومخطّط البشر.
1- إبراهيم وأشخاص العهد القديم
عاد بولس مراراً إلى مجمل تاريخ الخلاص. وتذكّر أشخاصاً لهم مكانهم في مسيرة تاريخ الخلاص كما تراها التوراة: آدم، إبراهيم، سارة، اسحق، يعقوب، عيسو، موسى، فرعون، داود... إن التعليم البولسي يُعلن وحدة هذا التاريخ، ويشجب مسبقاً نظرية مرقيون والغنوصية، التي تعارض بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد. هذا لا يعني أن الرسول يتحدّث عن تواصل تاريخي بين التدبير القديم وإله العهد الجديد. فالرباط الذي يكتشفه بين التدبيرين ليس من هذا النوع. من جهة نحن أمام مواعيد الله. ومن جهة ثانية أمام تحقيقها في المسيح. ما يهمّ بولس ليس تعاقب زمني للأحداث بل علاقتها مع المسيح. وهدف الإيرادات العديدة للعهد القديم هو الدلالة بأن المرور من العالم اليهودي إلى العالم المسيحي لا يعني تبديل ديانة. فالديانة المسيحية تُتمّ ديانة إسرائيل بشكل لا يُعقل، بشكل يتعدّى امكانيّة انتظار البشر.
وما له معناه في هذا المجال هو الدور الرئيسي المعطى لإبراهيم في روم كما في غل. قد نعجب من الأمر للوهلة الأولى، لأن هذا "الأب" لم يلفت كثيراً إنتباه التقليد التوراتي المأخوذ في إجماله، لم يلفته كما لفته شخص موسى مثلاً. ونلاحظ في المزامير التعارض بين ندرة ذكر ابراهيم (يُذكر فقط في مز 47 ومز 105) وتواتر ذكر موسى أو المعجزات التي اجترحها. غير أن بولس (في روم 4؛ غل 13) ينتزع ابراهيم من نظام الشريعة ويرى فيه مقدّمة لتدبير زمن النعمة والخلاص المجاني الذي أعطي بالإيمان بالمسيح. وما ينتج من كل البرهان البولسي هو أن الإنجيل لا يستند إلى حدث منعزل ومصطنع، يتدخّل فجأة دون أن يكون هناك شيء يهيّئه. إنه جزء من مخطّط. وهو يدلّ على أمانة الله تجاه ذاك الذي أعطى له مواعيده. ما بدأه الله مع ابراهيم قد أتمّه في المسيح.
إن قراءة الكتاب المقدس التي أتاحت للرسول أن يُعلن هذه الحقيقة هي قراءة مواهبية (كارسمية، حسب موهبة خاصة). وهي تتجاوز بشكل كبير إمكانيّة التأويل الحرفي. وهي أيضاً كرستولوجية بمعنى أن مجيء المسيح وحده سمح بها. وفي هذا المجال ليس العهدُ القديم هو الذي ينير العهد الجديد، بل العهد الجديد القديم. غير أن هذه القراءة تلتقي والمعنى العميق لأخبار لسفر التكوين. فهذه الأخبار تبيّن لنا ابراهيم قبل كل شيء كرجل صاحب إيمان خارق. فهو منذ البداية يترك كل شيء، ويذهب بناء على أمر غير مفهوم جاءه من العلاء، ويلتصق بدون تردّد بكلمة الله، مهما بدت محيرّة. ثم إن هذه الأخبار التي تأتي بعد تك 1- 11 الذي يعني البشرية كلها، تمنعنا من إخضاع ابراهيم لموسى. بل تدلاّن على العكس بوضوح. تدلاّن على أن اختيار ابراهيم هو في خدمة مخطّط إلهي أولاني لا يتبدّل، مخطط خلاص لجميع البشر. فالكلمات الأولى التي وجّهها الله لابراهيم تؤكّد أن "جميع عشائر الأرض سوف تتبارك فيه" (تك 12: 3. يرد حرفياً في غل 3: 8- 9 وبشكل قريب في روم 4: 17- 18 مع عودة إلى تك 17: 5- 6). في هذا المنظار يبدو اختيار إسرائيل كتراجع ستراتيجي: ما أستطاع الله أن يتوجّه إلى البشرية كلها بسب إرادة البشر السيئة. إختار إسرائيل بواسطة إبراهيم، ولكن لكي يخلّص جميع البشر. وهكذا يعطينا بولس في غل 3 وروم 4 مفتاحاً ثميناً جداً من أجل قراءة العهد القديم.
نرى بعض الإختلاف بين تقديم غل وروم لشخص ابراهيم. شدّدت غل على الرباط بين ابراهيم والمسيح، الذي هو النسل الحقيقي لابراهيم. أما روم (4: 17- 25) فشدّدت على المقابلة بين إيمان إبراهيم والإيمان المسيحي بما فيه من كمال. في 4: 19، يجب أن نفهم: لم يضعف إبراهيم في إيمانه حين عرف أن جسده وحشا سارة الأمومي قد أصابهما الموت. وعى الصعوبات البشرية التي تجعل التحقيق مستحيلاً على مستوى البشر، صعوبات يصطدم بها الوعد الإلهي فتجعل ابراهيم يتعلّق به. لا شكّ في أن الإيمان يرتكز على علامات، ولكنه يظلّ مبهماً غامضاً. لقد كشفت كلمة الله الحقيقة دون ان تنيرها. وبقدر ما نكتشف الصعوبات التي تقاوم الإيمان وكما هو الأمر مع ابراهيم، بهذا القدر يكون الإيمان كاملاً.
فالإيمان الذي يعطينا ابراهيم مثالاً عنه، ليس في النهاية محض قبول لحقائق مجرّدة. بل له طابع شخصي رفيع. إنه لقاء مع الله الحي الذي يعرف كل شيء، يقدر على كل شيء، الذي إليه نستسلم فنمجّده، كما فعل ابراهيم (4: 20). لقد آمن ابراهيم بالله الذي يكلّمه، ولم يؤمن أولاً بالمواعيد. فالإيمان لا ينشأ من رؤية ينعم بها المؤمن. بلى من رؤية ذاك الذي به نؤمن.
2- مسيرة الايمان المسيحي
وشدّد الرسول أيضاً (4: 17، 19) على سمة أخرى من إيمان إبراهيم لا تُبرزه فقط كإيمان مثالي، بل كتسبيق نمطي للإيمان بالمسيح، كثمرة للفداء سابقة لأوانها. آمن إبراهيم أن الله يستطيع أن يردّ الحياة لجسد ميت بسبب الشيخوخة، سواء كان جسده أو جسد زوجته. إذن تبرّر بالإيمان بالله الذي يقيم الموتى. والمسيحيون يخلصون بدورهم بالإيمان بالمسيح الذي مات وقام، كما تعلن العبارة الكرازية في 4: 25: "أسلم لأجل زلاتنا، أقيم لأجل تبريرنا".
وترد مراراً عبارة "الآن" في روم. وهي تتضمّن أكثر من معنى زمني عادي. إنها تعبرّ عن الحضور الآني للحقيقة الكاملة التي أفتتحها تدخّل المسيح الحاسم بعد تهيئات لم تنتهِ سبقت التجسّد الفدائي. نقرأ في روم 3: 21، 26: "أما الآن فقد اعتلن برّ الله... في الزمان الحاضر". في 5: 9، 11: "وقد برّرنا الآن بدمه.. الذي به نلنا المصالحة". في 6: 19، 21، 22؛ 7: 6؛ 8: 1؛ 11: 5، 30، 31؛ 13: 11؛ 16: 26. وهكذا قد نتساءل عن عدد الحقبات في هذا التاريخ الطويل لخلاص البشرية.
إذا عدنا إلى 3: 25- 26، نجد حقبتين مميّزتين في تاريخ الخلاص: الزمن الماضي مع "صبر الله". والزمن الحاضر، زمن تدخّل المسيح الفدائي الذي يدلّ بشكل ساطع على برّ الله الخلاصي. هنا نقارب مع أع 17: 30- 31: "لقد أغضى الله عن أزمنة الجهل، وها هو الآن يُنذر جميع الناس، في كل مكان، أن يتوبوا، لأنه قد حدّد يوماً سيدين فيه المسكونة بالعدل، بالإنسان الذي عيّنه، مقدّماً للجميع ضمانة إقامته من بين الأموات" (القيامة هي الضمانة).
هل نفهم هذه العبارة الأخيرة: لقد أراد الله أن يبيّن عدله من أجل مغفرة الخطايا المقترفة؟ أو: بالنظر إلى التسامح تجاه خطايا اقترفت في الماضي؟ إن الخطايا الفردية لم تكن تُعاقب. فالسؤال لا يُطرح على مستوى الأفراد. بل نحن أمام نظام تحيا في ظلّه البشرية. وتجاه هذا التدبير هناك تدبير آخر، تدبير الزمن الحالي الذي فيه يغفر الله الخطيئة بالإيمان بدم يسوع.
إفترض الشرّاح مراراً ان بولس (في 5: 13- 14) جعل الحقبة التي تسير من آدم إلى موسى، هي مرحلة خاصة في تاريخ البشرية. وخاصتها تقوم في أنها تفلت من القاعدة التي بموجبها يتمّ العقاب بقدر إعلان الشريعة. فساعة لم تتحدّث فريضة إلهيّة عن هذا العقاب ضد الخطأة، كما كان الأمر بالنسبة إلى آدم في الفردوس الأرضي، واليهود تحت نظام الشريعة الموسوية، في تلك الساعة ساد الموت على البشر بين آدم والمسيح. وكان الإستنتاج: أصاب الموتُ البشر بالنظر إلى تضامنهم مع آدم الخاطىء. وهكذا نصل إلى البرهان على الخطيئة الأصلية.
ولكن يصعب علينا أن ننسب إلى الرسول مثل هذا البرهان. فقد صوّر بولس في بداية روم العقوبات الإلهية الهائلة ضد الأصنام والوثنية. فهل يستطيع أن ينسى تلك التي تذكرها التوراة بين آدم وموسى (مثلاً الطوفان ودمار سدوم)؟ لقد سبق له وعلّم أن للأمم شريعة أدبية مكتوبة في قلوبهم (2: 15). وقد عرفوا قضاء الله الذي يعلن أن من يعمل هذه الأعمال يستوجب الموت (1: 32). فهل استطاع أن ينسب إلى الله الذي يعرف ما في القلوب، فكرة قانونية لدى قاضٍ بشري لا يعرف وضع الضمائر.
في الواقع، إن قول 5: 12 (وهكذا إجتاز الموت إلى جميع الناس، لأن جمعيهم خطئوا) يضمّ الخطايا الشخصية مع المشاركة في خطيئة آدم. ثم إن آ 13- 14 لم تكتب لتبرهن أن البشر ماتوا بين آدم وموسى لسبب واحد وهو أنهم خطئوا في آدم. إن هدف آ 13- 14 هو أن يردّ على اعتراض قد يستخرجه قارىء روم من 4: 15: "لأن الناموس ينشىء الغضب. فإنه حيث لا يكون ناموس لا يكون تعدّ". أي: لا تكون خطيئة ضد شريعة وضعية. ما يريد الرسول أن يقوله هنا هو أن الشريعة كونها مميّزة عن الوعد والنعمة التي ارتبطت بها، تحرّك غضب الله. إنها تكتفي بأن تظهر للبشر الخير دون أن تمنحهم القوة لإتمامه. فإن لم يحفظها البشر قادتهم إلى التعدّي والخطيئة. ولكن أنستطيع أن نستنتج أن الحقبة الممتدة بين آدم وموسى، أي السابقة للشريعة الموسوية، كانت حقبة لا تحمل تعدّياً يثير الغضب الإهلي، وإن عرفت الخطيئة؟ ولكن كل قارىء للتوارة يعرف أن العكس هو الحقيقة. لهذا يعلن الرسول أن الموت وبالتالي الخطيئة سادا خلال هذه الحقبة التي لم يكن فيها وصيّة إلهية وضعية تشبه وصيّة الفردوس الأرضي أو التشريع الموسوي. وبعبارة أخرى، إن حقبة سيادة الخطيئة والموت إمتدت بدون انقطاع من آدم حتى يسوع المسيح.
إذا كان هذا هو مدلول 5: 13- 14، نستطيع أن نستنتج أن الرسول يميّز فقط ثلاث حقبات في تاريخ البشرية الديني. الحقبة الأولى هي حقبة السعادة والخلود، التي تميّز (حسب تك) الحياة في الفردوس الأرضي، قبل خطيئة آدم. الحقبة الثانية تقابل سيادة الخطيئة والموت، وتضمّ الزمن الواقع بين خطيئة آدم ومجيء المسيح، بما فيه النظام الموسوي. والحقبة الثالثة هي حقبة سيادة النعمة والبرّ والحياة الأبدية (آ 21)، وتد بدأت مع برء يسوع المسيح، مخلّص البشر الوحيد، إلى هذا العالم.
لا يصوّر الرسول الحقبة الأولى، لأنه يفترض أن معطيات سفر التكوين معروفة. ولكنه يتوسّع مطوّلاً في الحقبتين الثانية والثالثة. أما بالنسبة إلى الثالثة التي هي الحقبة الحاسمة، فبولس يعرف أنها تتحقّق تدريجياً. فاجتياح الروح المرتبط بسّر التجسّد الفدائي، يقوم شيئاً فشيئاً بعمله المحرّر الذي يصل أيضاً إلى الخليقة المادية التي ما زالت غارقة في تنهّدها من أجل ولادة سّرية (8: 22). ولكن يبقى أن النور حلّ منذ الآن محلّ الظلمة، فلم يعد المجيء بعيداً في عين الإيمان: "لقد تناهى الليل واقترب النهار" (13: 12). فالتعارض بين الظلمة والنور، بين الليل النهار للدلالة على التعارض بين النظام القديم والنظام الجديد، أمر معروف في التوراة، وقد توسّع فيه أهل قمران بشكل صراع بين قوّتين.
ونصل الآن إلى أصعب ما في فكر بولس عن مخطّط الله الخلاصي، وهو: الوجهة الماورائية لتفكيره. نكتفي هنا بأن نلفت النظر إلى بعض نصوص لها مدلولها الخاص. الأول: 3: 3- 8؛ الثاني: 5: 20 (حيث كثرت الخطيئة). الثالث: 8: 28 (كل لشيء يسعى لخير الذين يحبّون الله) الرابع: 11: 32 (أغلق على الجميع في المعصية لكي يرحم الجميع).
في 3: 3- 5، عرض بولس مشكلة خطيرة. لقد سُلّمت إلى اسرائيل "أقوال الله"، أي قبل كل شيء (إن لم يكن حصراً) المواعيد المسيحانية. ولكن الشعب المختار كان مرات عديدة خلال تاريخه الماضي، خائناً لإله العهد. إذن، هل نستنتج أن المواعيد التي حملها لم تعد بذي قيمة؟ كلا، يعلن الرسول. فخيانة البشر تبرز بالأحرى أمانةَ الله لكلمته، وصدقه، وبرّه الخلاصي الذي أنبأت بتدخّله من أجل الخطأة أسفارُ العهد القديم.
3- مخطّط الله ومخطّط البشر
وخاف بولس من تفسير خاطىء لهذه المفارقة فأشار إلى تمييز مهمّ بين مستويين: مستوى مخطّطات الله. مستوى الخطيئة على المستوى السيكولوجي والبشري (3: 5- 8). ومع أن الخطيئة أبرزت برّ الله المخلّص وأمانته، إلا أنها تستحق أن تعاقب. إن كان الله يستخرج الخير من الشر، فهذا لا يسمح لنا أن نصنع الشر ليخرج منه الخير.
وهذا التمييز الثمين الذي اكتشفناه في 3: 3- 8 سيعيننا على تفسير 5: 2 (تدخّلت الشريعة الموسوية لكي تكثر الزلّة. ولكن حيث كثرت الخطيئة هناك طفحت النعمة) تفسيراً صحيحاً. فالهدف النهائي للشريعة الموسوية لم يكن دفع الإنسان إلى الخطيئة. فهذا التشريع كان في حدّ ذاته خيراً. ولكن بما أن الذين نعموا به فصلوه مراراً (بغير حقّ) عن نظام النعمة والإيمان الذي سبقه (رج ما قيل عن ابراهيم في ف 4)، كانت النتيجة كثرة المعاصي التي جعلت البشر مذنبين. غير أن هذه النتيجة المؤلمة لم تفاجىء الله. فمخطّطه الخلاصي قد استعدّ لأن يستخرج من هذا الوضع خيراً عميماً، هو: فيض النعمة. فالنعمة ستقف في الميزان مع الخطيئة الأصلية، ومع الخطايا الحالية التي سبّبتها الشريعة، وتتفوّق على هذا كله.
وقبل أن يتفحّص بولس مختلف حقبات مخطّط الله الخلاصي، قبل أن يتفحّص المعرفة السابقة والتهيئة الأولى إلى المجد النهائي، يعلن: "إن الله يجعل كل شيء يؤول لخير الذين يحبّونه" (8: 28). الله هو فاعل الفعل. وفي هذا "الكل" الذي يجعله الله يؤول للخير، نضع "آلام الزمن الحاضر" (كما في 8: 18) والذنوب التي اقترفها المضطهدون ضد تلاميذ المسيح (8: 33: من يشكو مختاري الله) بل الخطايا التي اقترفها المسيحيون انفسهم. فكرة توافق تعليم روم العام، وإن لم تبرز في سياق 8: 28.
ونقرأ تأكيداً رئيسياً في 11: 32: "الله أغلق على الجميع في المعصية، لكي يرحم الجميع". لا نخطىء ضد فكر بولس والتعليم المسيحي فنقول إن الله أراد عصيان البشر! أو نقول بأن الله اقنع البشر بعصيانهم. ما يظنّه بولس في خطّ الكتاب المقدّس هو أن معاصي البشر كلها حرّة. وما يريد أن يقوله الآن هو أن الله قد توقّع هذه الخطايا، توقّع أيضاً أنه سيُخرج منها خيراً كبيراً: سجن جميع البشر في معصيتهم كما في سجن، حصرهم في ضعفهم لكي يفهموا أنهم مدينون بخلاصهم لرحمة الله وحدها. هذا القول يسري أولاً على الجماعات، على قسمَي البشرية، على اليهود والأمم. ويسري أيضاً على الأفراد دون أن نستطيع التأكيد بأن هناك شخصاً واحداً قد حُكم عليه بالهلاك الأبدي.
لأن لفظتي "معصية" و"رحمة" تحيلاننا إلى الآيات التي تسبق مباشرة 11: 32، فعلى ضوء هذه الآية يجب أن نفسّر ما قيل في ف 9- 11 عن كفر اسرائيل. نحن نخطىء إن اعتبرنا أن الله وحده قسّى اسرائيل، وأنه وحده ينقذ شعبه من هذه التقسية، بحيث لا تهتم الكنيسة بارتدادهم! فمع أننا نقرأ أش 6: 10، فالنبي الواعظ توخّى أن يعلّم سامعيه. وإن يسوع تكلّم لكي يفهمه الناس، رغم ما نقرأ في مر 4: 11- 12 (رج أش 6: 10) و4: 33 عن كلام يسوع بالأمثال. ويستعيد الإنجيل أش 6: 10 لا ليقول لنا إن الله يجعل الناس عمياناً بالعمى الروحي، وصمّاً بالنسبة إلى كلمته. ولا نستطيع أن نستنتج من 11: 7- 10 أن الله هو وحده سبب كفر إسرائيل بينما يؤكّد ف 10 على مسؤولية إسرائيل الكاملة في هذا الكفر.
قد تختلف اللفظة بين نصّ وآخر، ولكن المعصية في 11: 32 تجعلنا نفكّر في تجاوز آدم في 5: 19. لسنا هنا أمام الصدفة والإتفاق، لأن ما قيل في 11: 32 يتلاقى مع 5: 12- 21. فالفكرة الرئيسية في هذا المقطع الأخير هو أن الله لم يسمح بتضامن جميع البشر مع معصية الإنسان الأول إلا لأنه نظر إلى التضامن المعاكس، تضامن البشر مع طاعة المسيح الفادي البطولية، تضامن لا يُقابل به تضامن، تضامن أفاد البشرية أكثر مما آذاها تضامُنها مع آدم.
ولكن ما يسري على اللوحة التناقضية في 5: 12- 21، يسري أيضاً على اللوحتين اللتين نجدهما في 1: 18- 5: 11 و7: 7- 8: 39. فالعنصران الأولان هما الخطيئة الشاملة (1: 18- 3: 20) وشقاء كل إنسان ساقط ما لم يحرّره الروح (7: 7- 25)، وهدفهما أن يُعظّما الخلاص الذي حمله المسيح، هذا الخلاص الذي كان منذ البدء الهدف الأول في مخطّط الله.
ونستطيع أيضاً أن نقول فيما يخصّ الصورة المعتمة في البداية، ما يلي: بسبب التوازي بين وحي برّ الله الخلاصي في 1: 17 ووحي الغضب في 1: 18. وبسبب التقابل بين 1: 18 و3: 21، يترافق ظهور الغضب والبرّ في قسم كبير من مسيرتهما. فالغضب يبدو خاضعاً للبرّ، والله لا يعرّي جراح البشرية إلا لكي يشفيها. وانجيل المسيح يبرز الشقاء الأدبي في بشرية تركت وحدها أمام دينونة الله وحكمه. وحين نكرز على البشر بيسوع المصلوب والقائم من الموت، فنحن نجعلهم في خط التبرير، وفي الوقت عينه نجعلهم يعون ذنوبهم.
وخلاصة القول، إن النظرة الماورائية والنظرة السيكولوجية في 3: 3- 8 و11- 32، تشرفان بشكل واضح بعض الوضوح على كل التوسّع التعليمي الذي يمتدّ من 1: 18 إلى 11: 32. وهذا ما يحرّك في قلب بولس النشيد إلى الحكمة الإلهية في 11: 33- 36. لقد اجتاز تاريخ البشر خطيئة الإنسان المبتعد عن الله فاخترقته من جهة إلى جهة. وأجتازه أيضاً فاخترقه عمل رحمة الله الذي يذهب إلى عمق شقائنا الأدبي فيطلب الأفراد والجماعات ليردّهم إليه على طريق الحياة والسعادة.
خاتمة
من كل ما قلنا نستطيع أن نستخلص أن تعليم روم تعليم إيجابي جداً. هذا ما كان يمكن أن نتوقّعه لدى قراءة حبقوق في روم 1: 17. فما أراد الرسول أن يبيّنه قبل كل شيء هو فيض الحياة الذي ينعم به الإنسان، كل إنسان، مهما كان خاطئاً، بعد أن تبرّر بالإيمان بالمسيح: "من هو بار بالنظر إلى الإيمان يحيا". والإنحدار إلى اعماق الشقاء البشري، كان هدفه في نظر الرسول أن يحعلنا ندرك (عن طريق التعارض) عظمة التحرّر الذي أتمه المسيح وطابعَ حبّ الله العجيب الذي تجلّى على الجلجلة.