الفصل السابع
وضع شعب الله
وننتقل في هذا الفصل إلى ف 9- 11 التي تتكلّم بشكل خاص عن امتيازات شعب الله الذي لم يؤمن بمرسل الله، فطرح سؤالاً قاسياً على أشخاص مثل بولس: أين هي أمانة الله؟ هل خان الله عهده؟ بعد أن نطرح السؤال في إطار البنية وتسلسل الأفكار في 9- 11، سوف نفهم أن عدم إيمان اليهود يدخل في مخطّط الله: سينالون الرحمة كما نالها الوثنيون.
1- إمتيازات شعب الله
تعالج ف 9- 11 مسألة خطيرة: فالمسيح المخلّص المسيحاني الذي أنبىء به لشعب الله في العهد القديم، لم يقرّ به ذاك الشعب في أكثريته. وهكذا وجد نفسه مرذولاً وخارج كنيسة المسيح. كيف نفسّر مثل هذا الواقع الغريب؟ هل تخلّى الله عن الوعد المعطى لإبراهيم؟ وهل تستطيع الكنيسة، في مثل هذه الظروف، أن تعتبر نفسها وريثة هذا العهد؟
كان هذا الوضع مؤلماً بالنسبة إلى المسيحية الأولى عامة وبولس، مرتدّ طريق دمشق، خاصة. بعد هذا، وجب على الكنيسة أن تتخذ قرار القطع مع شعب اسرائيل، ومرات المقاطعة. هنا نتذكّر ما كتبه بولس في 1 تس 2: 13- 16 من قول قاسٍ أملته ظروف الرسالة، ومن نداء إلى التوبة في خطّ أنبياء العهد القديم. "فإنكم، أيها الإخوة، قد صرتم مماثلين لكنائس الله التي في اليهودية، التي في المسيح يسوع، إذ قد أصابكم أنتم أيضاً من مواطنيكم، ما أصابهم من اليهود، الذين قتلوا الرب يسوع، والأنبياء، واضطهدونا نحن أيضاً. الذين لا يرضون الله البتّة، وقد صاروا أعداء لجميع الناس، إذ يمنعونا من أن نكلّم الأمم ليخلصوا. فهم يستتمّون خطاياهم على غير انقطاع، والسخط قد حلّ عليهم حتى النهاية". أجل، كان على اليهود أن يكونوا حملة الإنجيل، فإذا هم يضعون أمامه الحواجز كما فعلوا مع يسوع، وكما رفضوا في الماضي نداءات الأنبياء. رفض شعب اسرائيل الإنجيل فجعل نفسه خارج الخلاص الذي لم يزل يقدّم له.
هنا نتذكّر مثلاً أش 1: 4 ي: "ويلٌ للأمّة الخاطئة، الشعب المثقل بالاثم، المجرمين، البنين الفجّار. إنهم تركوا الرب، واستهانوا بقدوس إسرائيل، وارتدّوا على الأعقاب... فتبقى إبنة (مدينة) صهيون (أورشليم) كمظلّة في كرم، كمبيت في مقثأة...". ونتذكر يسوع في مت 23: 13 ي: "ويلٌ لكم أيها الكتبة والفريسيون والمراؤون، لأنكم تغلقون في وجه الناس ملكوت السماوات فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون... تأكلون بيوت الأرامل... أيها الحمقى والعميان".
بما أن لا علاقة ظاهرة بين 9- 11 وما يسبق هذه الفصول، رأى بعض لناس فيها ملحقاً ألّف فيما بعد. بل ذهب بعضهم يميلون بهذه النصوص (روم 9- 11؛ مت 23؛ 1 تم 2: 13- 16) عن معناها لكي يسهّلوا الحوار مع لشعب اليهودي. ولكن مجمل الشرّاح اليوم يرون رباطات عميقة وخفية بين روم 9- 11 وما سبقها. ففيها قدّم بولس "إنجيل الله" الذي يعلنه كتتمة للعهد القديم (1: 2: وعد به على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدسة عن ابنه). بل قدّم هذه المفارقة بأن لاإيمان (كفر، عدم إيمان) اليهود يبرز بشكل أوضح أمانة الله لمواعيده الخلاصية (3: 5 ي). وأخيراً، إنّ عبارة "اليهودي أولاً" التي تتكرّر ثلاث مرّات (1: 16؛ 2: 9- 10) يجب أن تشرح هنا، كما نجد "برّ الله" و"برّ لإيمان" في 9: 30- 10: 10.
إذا أردنا أن نفسّر ف 9- 11 تفسيراً صحيحاً، يجب أن نتذكّر أنها تفكير لاهوتي حول مسيرة تاريخ الخلاص (كما في ف 1- 8)، وأنها تتطلّع إلى الدور المحدّد لجماعة إسرائيل في تاريخ البشرية الديني. نحن لسنا هنا أمام المصير الأبدي لكل إنسان، بل أمام مصير الجماعة كجماعة تسلّمت مهمة تهيئة الدرب ليسوع المسيح. بعد أن أعلن بولس بقوّة لا تضاهى أن الخلاص يقدّم لكل إنسان، أن "المجد والكرامة والسلام" تعطى لكل من يعمل الخير، وأن الله "لا يأخذ بالوجوه" (لا يحابي، لا يفضّل أحداً على إحد. بل ينظر إلى القلب)، وأنه إله الجميع (1: 14- 16؛ 2: 10- 11؛ 3: 29- 30). بعد أن أعلن هذا، أحد بنوع من تجديف أمام فكرة تقول بوجود فئتين من الناس (كانوا يقولون في الماضي: اليهود وغير اليهود. ويقولون الآن: غير اليهود واليهود): بعضهم معدّ للسعادة الأبدية، والآخرون محكوم عليهم بالهلاك الأبدي. فالمشكلة المطروحة هي التالية: كيف نوفّق كفر اليهود مع ثبات (عدم تبدّل) مخطّطات الله؟
إنّ الرفض المأساوي الذي أظهره أكثر اليهود تجاه الوحي النهائي الذي حمله المسيح، جعل الرسول يعلن: "إن لي في قلبي غماً شديداً ووجعاً لا ينقطع، ولقد أودّ أن أكون أنا نفسي "محروماً" عن المسيح من أجل إخوتي، ذوي قرباي بحسب الجسد" (9: 2- 3). هذا يدلّ على حزن عميق وألم متواصل، كما يدلّ على تعلّق قوي بإخوته. وهو يستعدّ لأن يقوم بأعظم التضحيات من أجل ارتداد شعبه.
بعد هذا، عدّد الرسول في 9: 4- 5 امتيازات الشعب الأول في مخطّط الخلاص.
* إنهم إسرائيليون. إنهم ينتمون إلى أمّة تسلّمت رسالة. هنا نتذكّر معنى كلمة "اسرائيل" كما ترد في يو 1: 31، 47، 49؛ 3: 10؛ 12: 13. نقرأ بلسان يوحنا المعمدان: "ولكن لكي يظهر لإسرائيل جئت أنا أعمّد بالماء". وقال يسوع عن نتنائيل: "هوذا في الحقيقة إسرائيلي لا غش فيه". فأجابه نتنائيل: "رابي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل". فعندما يكون يسوع ملك إسرائيل يصبح ابن الإنسان حقاً تجاه ابن الله. ويأتي تنبيه روم 9: 6: "فما جميع الذين من إسرائيل هم اسرائيل". لا يكفي أن يولد الإنسان في شعب خاص ليكون من شعب الله. فرباطات اللحم والدم لا تكفي. هناك رباط الإيمان. ونقرأ في غل 6: 16: "السلام والرحمة على جميع الذين يسلكون هذه الطريقة، وعلى إسرائيل الله. هذا ما يدلّ على الكنيسة المسيحية.
* التبني. إنه صورة مسبقة عن تبنّي الله للمسيحيين على مثال المسيح: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك". تبنّيتك. نقرأ في روم 8: 15: "والحال أنكم لم تأخذوا روح العبودية للمخافة، بل أخذتم روح التبنّي الذي به ندعو أبّا، أيها الآب". نحن نشترك في حياة يسوع الحميمة وفي علاقته مع الآب فنهتف نحن كما يهتف هو. وفي غل 4: 5: "والدليل على أنكم أبناء، كون الله أرسل إلى قلوبنا روح إبنه ليصرخ فيها أبا، أيها الآب". وفي أف 1: 5: "حدّد الله... أن نكون له أبناء بيسوع المسيح".
* المجد. أي حضور الله الملموس في خيمة الإجتماع، في الهيكل. ومع ذلك يبقى هذا الإله خفياً ومتسامياً. تحدّث أشعيا، حزقيال، دانيال عن هذا الحضور الذي هو استباق لظهور الرب في نهاية الأزمنة.
* العهود. يذكر الكتاب المقدّس عدداً من العهود: مع إبراهيم، مع يعقوب، مع موسى، مع داود... وقد رأى بعض الشرّاح أن نتحدّث عن العهد (في صيغة المفرد) (هذه الصيغة موجودة في مخطوطات قليلة) لنكون في خطّ بولس الذي يقابل العهد القديم مع العهد الجديد. ولكننا نحافظ على الجمع، فنفهم رغبة بولس بأن يتذكّر تاريخاً طويلاً، هو تاريخ علاقات شعبه بالله.
* الإشتراع (الناموس): نحن هنا أمام الشريعة الموسوية بحصر المعنى. أما في 3: 19 (كل ما يقول الناموس) و31 (أفنبطل إذن الناموس بالإيمان؟ حاشا، بل نثبت الناموس) فيدل "الناموس" على الكتاب المقدّس. وبالرغم مما قيل في 5: 20 (تدخّل الناموس لكي يكثر المعاصي)، وبالرغم من إلغاء الشريعة الموسوية (7: 1- 6: كان الناموس يأسرنا. تخلّصنا منه) التي حلّ محلها حسب غل 6: 2 "شريعة المسيح" (أتموا ناموس المسيح) التي تتلخّص في المحبة. بالرغم من كل هذا، تبقى هذه الشريعة الموسوية خيراً من عند الله.
* العبادة: قبل كل شيء العبادة الذبائحية في هيكل أورشليم. وربما أيضاً شعائر العبادة في المجامع التي توزّعت في كل موضع من الإمبراطورية الرومانية. كانت هذه العبادة خيراً، وقد توجّهت إلى "العبادة الروحية" (في المسيحية) التي سيتحدّث عنها بولس في 12: 1- 2.
* الوعود. وليس فقط الوعد المعطى لإبراهيم وإسحق ويعقوب، بل الوعود التي نقرأها في النبوءات المسيحانية (رج روم 1: 2).
* الآباء. إبراهيم، إسحق، يعقوب، أبناء يعقوب الإثنا عشر. ثم الوجوه الكبيرة في تاريخ الشعب. مثلاً، سمّي داود "أباً" في أع 2: 29. ونفهم حين نقرأ سفر الرؤيا حول 24 شيخاً، أن آباء العهد الجديد قد سبقهم آباء العهد القديم، فألّفوا معاً كنيسة الله الواحدة.
* ولكن تبقى الميزة الرسولية لشعب اسرائيل أنه أعطى للعالم المسيح الذي يرتبط بطبيعته البشرية بالنسل المختار. ويزيد الإفتخار في أن يسوع هو في الوقت عبنه "فوق الجميع، إله مبارك للدهور".
تحدّثنا فيما سبق عن تعليم بولس المركّز على تاريخ الخلاص داخل "بنية زمنية". ونحن نستطيع أن نقول الشيء عينه عن 9- 11. الطرح الأول (9: 6- 29): عودة إلى مواعيد الله في الماضي. الطرح الثاني (9: 30- 10: 21): عودة إلى كفر اليهود في الزمن الحاضر. الطرح الثالث (ف 11): عودة إلى مخطّط الله حول مستقبل الشعب المختار من أجل رسالة خاصة. ونستطيع القول إن هذه الطروح الثلاثة قد تترتّب حسب الرسمة الأدبية: أ، ب، أأ (بمعنى أن أأ تعود إلى أ). أ= كفر شعب إسرائيل من جهة الله. ب= كفر شعب إسرائيل من جهة المسؤولية البشرية. أأ= ثم من جهة الله. هذا يعني أن الطرح الأخير يستعيد الطرح الأول ويكمّله. ويعني أيضاً أننا إذا أردنا أن ندرك فكر الرسول، وجب علينا أن نحافظ على الطروح الثلاثة معاً فيكمّل الواحد الآخر.
2- كفر اسرائيل ومواعيد الله
نبدأ هنا فندرس الطرح الأول (9: 6- 29): إرتباط كفر (لاإيمان) إسرائيل مع مواعيد الله التي لا تتبدّل، مع برّ الله الثابت. إن كفر قسم كبير من إسرائيل لا يدلّ على أن "كلمة الله سقطت" (آ 6)، فشلت. ففي التوراة، ولا سيّما في الأسفار النبوية، ينشد الكاتب كلمة الله الفاعلة والتي لا عودة عنها. ويُقال من وقت إلى آخر أن كلمة هذا النبي أو ذاك لم تسقط. نقرأ في 1 صم 3: 19: "وكبر صموئيل وكان الرب معه. ولم يدع شيئاً من جميع كلامه يسقط على الأرض" (كما لا نسمح أن يسقط الخبز على الأرض). هذا يعني أنه لم يهمل كلمة من كلمات الله (رج يش 21: 45؛ 23: 14؛ 1 مل 8: 56؛ 2 مل 8: 10). أجل، لا يمكن لكلمة الله إلا أن تفعل فعلها (أش 55: 10)، وقد دوّنت أسفارٌ لتدلّ على تحقيق الأقوال النبوية التي تلفّظ بها الله من أجل شعبه.
وإليك برهان بولس الرسول. إن اسرائيل المعدّ لينعم بالمواعيد لا يتطابق مع كل نسل إسرائيل بحسب الجسد. فبين أبناء إبراهيم، كان إسحق وحده وارثاً لعطيّة الله المجانيّة، كان موضوع اختيار واضح من قِبَل الله. هذا يعني أنه ليس من حقوق تنتج عن اللحم والدم (أي: القرابة بحسب الجسد). وأن الدخول إلى الجماعة المسيحانية يرتبط برضى الله. وهذا ما يبرهن عنه أيضاً بشكل حاسم وضع عيسو ويعقوب اللذين ميّزهما الله قبل ولادتهما: إنهما يمثّلان شعبين مختلفين. وهكذا بدأ الرسول فأكّد (آ 12)، أن الله اختار يعقوب (بني إسرائيل) وما اختار عيسو (بني أدوم) دون النظر إلى استحقاقهما. إختاره ليحمّله المواعيد المسيحانية. وانتقل في آ 13 مع النبي ملاخي إلى حقبة ما بعد المنفى، إلى زمن اقترف فيه الشعبان الشقيقان جرائم مماثلة. ومع ذلك غفر لبني إسرائيل، أما بنو أدوم فعاقبهم بيد نبوكدنصر ساعة سقط شعبهم وزالت. هذا هو المعنى الأصلي لنصّ ملاخي (ق أش 27: 7- 8): في ما يلي من تاريخ الشعبين الشقيقين، بدا الله أميناً لمخطّطه الأول بأن يظهر رضاه لشعب، لا لآخر، رغم أصلهما المشترك.
ونقول الآن: إن لم يرتبط الدخول إلى المملكة المسيحانية بالإنتماء إلى اسرائيل حسب الجسد، بل باختيار الله الحرّ، فلا نتّهم الله بعدم الأمانة لكلمته: إنه في عمله هذا يتوافق مع المعنى العميق لمواعيد الخلاص القديمة.
ولكن حين يختار الله من يريده، أفلا يكون جائراً؟ أجاب بولس (9: 14- 18) بمثلَيْ موسى وفرعون: ينطبق المثل الأول على المسيحيين، والثاني على اليهود الكافرين. وبما أن الموضوع هو دخول (أو: عدم دخول) مجموعة لا إلى المجد السماوي، بل إلى الإيمان المسيحي، نخطىء إن نسبنا إلى الرسول فكرة قضاء الله الأبدي فنرسل الأشخاص إلى السماء أو إلى جهنم بشكل مطلق. فهذه الفكرة غريبة كل الغربة عن هذا النص الذي ندرس والذي يتوخّى إعلان برّ الله المتدخل في التاريخ. ونقول أكثر من ذلك. إن كان بولس قد رأى خلال عودته إلى موسى (آ 15)، في دعوة المسيحي موهبة مجانية من قبل رحمة الله، فالطريقة المختلفة التي بها يقدّم وضع فرعون (آ 17) يدل أنه رغم آ 18، لا نستطيع أن نقول يقسيّ من يشاء. فهمّه بالأحرى هو أن يبرّر الله من كل اتهام بالجور في وضع كفر اليهود، فيدلّ على أن هذا الكفر، وإن كان مخطئاً (رج 9: 30- 10: 21)، قد سمح به الله من أجل تنفيذ مخططاته الخلاصية. كما انه (حسب آ 17) سمح لغايات مماثلة (أي: لإظهار قدرته الخلاصية) بتقسية قلب فرعون مع ما في هذه التقسية من خطأ (هذا يعني أن الفرعون مسؤول عن قساوة قلبه، وأن الرب الذي لا يغلبه الشّر أدخل هذه القساوة في مخططه).
نحن لا نتردّد في القول إن بولس رأى الله يسمح (ولا يريد) بتقسية قلب فرعون. فلقد كان الرسول اعتبر بمثابة تجديف أن ننسب بشكل مباشر الخطيئة إلى الله. ولغته بما فيها من قساوة جعلته يستعيد العهد القديم كما هو، دون أن يفصل عمل الله (السبب الإلهي، هو السبب الأول) عن عمل الإنسان (السبب البشري، السبب الثاني). فالله لا يكون إلا السبب الظرفي لقساوة القلب، بمعنى أن الأنوار التي يعطيها (مثلاً، الآيات التي تمت أمام فرعون) لم تنِرْه، بل جعلت ذاك الذي قرّر أن يقسّي قلبه، أن يترسّخ في خطيئته. لهذا ينسب الكتاب قساوة قلب فرعون تارة إلى الله (خر 4: 21؛ 7: 3؛ 9: 12؛ 10: 1، 20، 27)، وطوراً إلى فرعون نفسه (خر 7: 13، 22؛ 8: 11، 15، 28؛ 9: 7).
إن مثلَيْ موسى وفرعون يتجاوبان، كل من موقعه، مع وجهة خاصة من الأسئلة. وكفرُ اليهود لا يرتبط بإرادة الله (أي: لم يرده الله)، شأنه شأن موهبة الإيمان. وهكذا نستطيع أن نقدّم النتيجة التالية: إن كان الله يمنح أو يرفض نعمة النداء في الظروف التي أشار إليها مثلاً موسى وفرعون (أي: إن لم يكن للإنسان حقّ بالدعوة المسيحية، وإن كان الرب رتّب اللانداء حسب غايات تليق به)، فهو لا يجور حين يرحم من يشاء و"يقسيّ"من لا يشاء.
ويأتي سؤال جديد في آ 19 في خط البرهان: إن لم يقاوم أحد مشيئة الله، وأن ظنّ أولئك الذين يقاومونه أنهم يحقّقون مقاصده، فلماذا يوبّخ الله الإنسان؟
قدّم بولس على هذا السؤال ثلاثة أجوبة متوازية، وهي تشكّل رفض جواب كما تنطوي على فكرة أساسية واحدة تقول: الإنسان هو عدم أمام الله. (1) لا يستطيع الإنسان أن يطلب حساباً من الله (آ 20: من تراك، أيها الإنسان، حتى تعارض الله؟) كما حاول أن يفعل أيوب. (2) طالب الحساب من الله يشبه إناء من خزف يسأل صاحبه لماذا صنعه هكذا (آ 20 ب- 21: أو ليس للخزاف سلطان على الطين؟). (3) لا حق للإنسان أن يجادل الله حول مخطّط خلاصي يتضمن تجلّيين لصفاته الإلهية: تجلّ لبرّه العقابي (الغضب) تجاه اليهود الكافرين الذين أطال أناته عليهم. تجلّ "لغنى مجده" تجاه المسيحيين. فالرسول مهتمّ، كما قلنا، بأن يبيّن أن الله أمين تجاه كلمته، وأن طرقه هي هي لا تتغيرّ.
هنا (آ 25- 29) يصوّر الرسول سلوك الله الرحيم تجاه الأمم التي دُعيت إلى الإيمان، بواسطة نصّين مأخوذين من هو 2: 25؛ 2: 1. كما ينير وضع اليهود الحاضر الذين تبقى منهم "بقية"، بواسطة نصّين من أش 10: 22- 23؛ 1: 9.
لا نأخذ التشبيه مع الخزّاف عن طريق الإستعارة. فالله لا يتلاعب بالإنسان، كما يفعل الخزّاف مع الطين. أخذ بولس هذه الصورة من حك 15: 7 (إن الخزّاف يعنى بعجن الطين الليّن ويصنع منه كل إناء). فما أراد أن ينسب إلى الخلاّق سلوكاً إعتباطياً ومتقلّباً تجاه خلائقه. لا شك في أنّ الأواني الثمينة والأواني البسيطة (آ 21) تمثل الأدوار التي يقوم بها البشر في تحقيق مخطّطات الله. ولكننا لا نجد تلميحاً إلى مصير الأفراد الأبدي. فالخزّاف صنع حتى آنية الهوان، لا ليحطمها، بل ليجعلها للخدمة. لذا، ليست صورة عن الهالكين. وليست مقابلة "لآنية الغضب" (آ 22، أي اليهود) التي يقابلها الرسول مع "آنية الرحمة" الذين هم المسيحيون: آنية الهوان قد صنعها الخزّاف كذلك، وهو مسؤول عنها. أما آنية الغضب فقد صارت كذلك بخطيئتها (إنها مسؤولة). إختلفت آنية الغضب عن آنية الرحمة التي هيّأها الله منذ القديم لمجده، ولكنها لم تعدّ من أجل الهلاك. إنها على العتبة، وهي تستعدّ للهلاك.
إذا عدنا إلى 2: 4 وأناة الله تجاه اليهود (آنية الغضب)، نرى أن هذه الأناة تتوخّى عودتهم إلى التوبة. لهذا رأى عدد من الشرّاح أننا في 9: 22 أمام الأناة الإلهية نفسها. إنها تهدف بأن تعطي لاسرائيل مهلة للتوبة. ولكن بولس يقول الآن بوضوح إن الله قد تحمّل اليهود المتمرّدين بأناة كبيرة لكي يدلّ على غضبه، أي على برّه وما يحمل معه من عقاب (برّه العقابي). نحن هنا أمام وجهة تكمّل وجهة 2: 4 (لطف الله يدعوك إلى التوبة). إن ظلّ عقاب الله بعض المرّات الدواء الوحيد، فهو مرتّب دوماً نحو التوبة. وإذ يعرّف الله (كما يقول الرسول) ببرّه العقابي، فهو يعرّف أيضاً "بقدرته". وبسبب التقابل بين 9: 22 و9: 17، نحن أمام قدرة الله الخلاصية: ومقاومة فرعون لله في زمن الخروج تجعل تدخّل الله الخلاصي ساطعاً كالشمس. ومقاومة اسرائيل المتمرّد لله، تلعب اليوم الدور عينه في مخطّط الله: إن الله يخلّص رغم الإرادة السيئة لدى البشر.
وتساءل الشرّاح: هل يخضع تجلّي الغضب تجاه اليهود الكافرين، لظهور الرحمة تجاه المسيحيين، أو هل يترافق معه؟ لقد عاتب الله آنية الغضب لأنهم أرادوا ذلك، لكي يبرز بواسطة هذه الظلال، غنى مجده الذي ظهر في آنية الرحمة المهيّأة لمجده.
3- كفر إسرائيل والمسؤولية البشرية
لماذا لم يؤمن شعب إسرائيل بأكثريته؟ إنه مسؤول عن هذا اللاإيمان (9: 30- 10: 21). يطرح بولس السؤال في 9: 30 (فماذا نقول إذن)، فيستخرج النتيجة ممّا سبق. هذا في الظاهر. ولكن في الواقع، أراد بولس أن يعالج مسألة كفر اليهود لا من زاوية صفات الله وندائه الحرّ، بل من زاوية المسؤولية البشرية. فبين هاتين الوجهتين نجد سّر وجود الإنسان المرتبط كلياً بالله، والمسؤول في الوقت ذاته عن نفسه. ونزيد أن بولس لا يتعمّق في هذه المسألة بطريقة مجرّدة، بل يقف على مستوى تاريخ الخلاص.
أوصلنا الطرح السابق إلى المفارقة التالية (9: 30- 31): إن الأمم (الوثنية) التي لم تكن مهيّأة مثل إسرائيل لأن تطلب البرّ بالحماس نفسه، أي بالإستقامة في علاقتها مع الله، قد أدركت هذا البرّ حين آمنت بيسوع. أما اليهود الذين طلبوا البرّ باندفاع كبير (10: 2) فلم يحصلوا عليه. لماذا؟ لأنهم تصوّروا (9: 30- 31) أن أعمالهم تبرّرهم. ونسوا أنّ الجوهر هو الإيمان (نذكر هنا أن نظام الإيمان يسبق نظام الشريعة الموسوية الذي وجب عليه أن يخضع له، 4: 1 ي). ولهذا، حين جاء المسيح وطلب منهم أن يتعلّقوا به كالمخلّص الوحيد، رفضوا أن يؤمنوا رغم البراهين التي قدّمها عن رسالته. وفي الآلام، إصطدموا بحجر العثار الذي قال فيه أشعيا بأنه يميّز الناس ويدينهم (أش 28: 16؛ 18: 4؛ رج 1 بط 2: 6- 11).
ويقول 10: 1- 4 الشيء عبنه، ولكنه يلج إلى عمق المسألة. فالإعتبار في 10: 1 يعود إلى 9: 1- 3، ويبيّن مرة أخرى الصعوبة التي يحسّ بها بولس حين يطرح هذه المسألة المؤلمة (إن منية قلبي وابتهالي إلى الله لأجلهم، هما أن يخلصوا). ما نقص اليهود هو غيرة مستنيرة تستند إلى التأمل في علاقة الإنسان بالله. لم يكونوا متواضعين بما فيه الكفاية (10: 3) فرفضوا أن يخضعوا (10: 3) لنظرة الله حين قدّم لهم، بواسطة المسيح، البرّ الحقيقي والحياة البنويّة الحميمة مع الآب المشروطة بغفران الخطايا. رفضوا أن يتقبّلوا من يسوع "برّ الله" هذا، وتمسّكوا ببرّ نفسهم وبممارستهم للشريعة. هكذا استبعدوا نفوسهم من نشاط المسيح الخلاصي، من يسوع الذي هو "غاية" الشريعة ومبدأ تبرير لكل من يؤمن.
وخيار اليهود لبرّ يرتكز على الأعمال، دفع الرسول إلى أن يرسم في 10: 5- 13 موازاة متعارضة بين برّ حسب الشريعة وبرّ حسب الإيمان. وهذا التعارض لا يبدو متوازناً كل التوازن: القسم الأول يرد في آ 5 (كتب موسى عن البرّ الذي من الناموس). أمّا القسم الثاني (برّ حسب الإيمان) فيتضمّن ما يبقى من المقطع.
وإليك المعنى العام لهذا المقطع الصعب. إنّ البرّ الذي ينبع من الشريعة، والذي يعارض نظام الإيمان والنعمة (كان على البرّ أن يتكيّف مع هذا النظام)، هو ثقيل جداً وبعيد عن متناول الإنسان: إنه يطلب من الإنسان ممارسة دقيقة للشريعة، وهذا ما يبدو مستحيلاً من دون نعمة الله (8: 7- 25). أما البرّ الذي ينبع من الإيمان، فيسهل علينا أن ندركه. نحن لا نحتاج الصعود إلى السماء لنطلب مخلّصاً هناك. فالإبن تجسّد. ولا نحتاج النزول إلى الجحيم لنعيده من بين الأموات. فالله أقامه. فبالمسيح وفي المسيح صار هذا الخلاص قريباً جداً. يكفي أن نعترف بفمنا أن يسوع هو الرب، وأن نؤمن بقلبنا أن الله أعاده إلى الحياة: فالإيمان بوجهتيه (تعلّق القلب الحميم والإعلان الخارجي) هو ما يخلّص جميع البشر دون تمييز بين شعب وشعب. وهذا حسب الكتب المقدّسة التي ما زال الرسول يوردها ويبيّن أنها تمّت الآن.
بعد هذه المقابلة بين البرّين (10: 5- 13)، نعود في 10: 14- 21 إلى البرهان عن مسؤولية اليهود الكافرين في خطيئتهم. فبعد تأكيد الآيات السابقة (من يؤمن بالمسيح يخلص) نجد في آ 14- 17 سلسلة من الأسئلة تهدف إلى تثبيت الشروط الواعية للمجيء إلى الإيمان بيسوع لدى الذين لم يعرفوه ولم يسمعوه شخصياً. هم لا يستطيعون أن يعرفون إلا بالكرازة. وهذه الكرازة لا يقوم بها أي شخص كان. بعد أن تتحقّق هذه الشروط، نستطيع أن نتهم شخصاً بالكفر واللاإيمان. وكما تقول آ 17 التي هي الخاتمة المنطقية لما سبق، "الإيمان يلد من الكرازة"، والكرازة تتمّ بناء على أمر المسيح.
وفي آ 18 يبدأ الهجوم المباشر على اليهود المتحجّرين. إستعمل بولس مز 19 وكيّفه حسب فكرته، فبيّن (في آ 18) أن لا عذر لليهود إن جهلوا التعليم الإنجيلي. فقد كُرز به "حتى أقاصي الأرض"، أي في كل حوض البحر المتوسّط. أما الآيات التي تلي (آ 19- 21) فتعني أنه إن لم يفهم إسرائيل فلأنه لم يرد أن يفهم كعادته: فالله هدّد بأن يحلّ محله أمّة جاهلة (تث 32: 21). أما أشعيا (65: 1- 2) فشهد أن الله قد وجده من لم يطلبه، وفشل لدى شعبه المتمرّد.
4- كفر اسرائيل ومخطط الله
ونصل وإلى القسم الرابع، وهو علاقة كفر إسرائيل بمخطّط الله الذي يهمّه أن يؤمّن في النهاية الخلاص لشعبه (ف 11).
من الواضح أن بداية ف 11 تعود إلى مخططات الله كما تحدّث عنها ف 9، وتستعيد موضوع "البقية" الذي عالجه 9: 27- 29. يتألّف هذا التوسيع من ثلاث مقطوعات، حيث تعالج كل مقطوعة موضوعاً مختلفاً (11: 1- 10؛ 11: 11- 24؛ 11: 25- 32). وينتهي كل هذا بمديح ختامي يتناول روم 9- 11.
أ- المقطوعة الأولى (11: 1- 10)
تبيّن المقطوعة الأولى أن كفر إسرائيل كان جزئياً، وكان قد أعلن عنه مسبقاً. ما يدلّ على أنه كان جزئياً هو ارتداد بولس نفسه، وارتداد "بقية": هي مجموعة اليهود الذين صاروا مسيحيين، فكانوا على مثال "البقية" في زمن إيليا النبي، وهكذا ظهر طابع اختيار النعمة الذي لا يقف شيء في وجهه. والتذكير "بالبقية" في زمن إيليا هو أكثر من تصوير لما يحدث في زمن الرسول حيث دخلت أقلية من اليهود في الكنيسة. ففكرة "البقية" التي هي رئيسية في الكرازة النبوية، تريد أن تبيّن أنّ العدد الصغير لليهود المرتدّين إلى المسيحية، ليس مخالفة لمخطّط الله. أما استشهادات الكتاب المقدّس في آ 8- 10، فهي تبرز أن عناد اليهود الذين رفضوا أن يؤمنوا، قد أعلن في الكتب المقدّسة. وهذا العناد لا يفاجىء الله، لا سيما وأن النصوص البيبليّة تبيّن أن هذه التقسية (للقلوب) مرتبطة بالسببية الإلهية. ولكن يجب أن نتذكّر لدى قراءة هذا النصّ أن الله لا يقسيّ إلاّ الناس الذين اتخذوا قرارهم بأن يقسّوا قلوبهم. بهذه الطريقة صارت المواهب التي أعطاها الله لشعبه "فخاً وشكاً" (آ 9)؛ ينبوع دمار، لا ينبوع خلاص.
ب- المقطوعة الثانية (11: 11- 24)
تبيّن المقطوعة الثانية أن كفر اليهود هو مؤقت. وإن كان هدفه، في المخطط الإلهي، تسهيل ارتداد الوثنيين، فلا يجب أن يحرّك الكبرياء عند الوثنيين. يجب أن نعرف الآن (لا كما في 11: 1- 10) إن كان الله رذل كل شعبه، بل إذا كان اليهود قد رذلوا بشكل نهائي. أعلن بولس أن الواقع هو غير ذلك، أن الله لم يرذل شعبه بشكل نهائي. وقدّم ثلاثة اعتبارات تعود بنا إلى الشيء ذاته.
* الإعتبار الأول (آ 11- 15)
إذا كان الله قد رتّب كفر اليهود من أجل خلاص الوثنيين (هذا ما دفع الرسل للتوجّه إلى العالم الوثني وساعد الكنيسة على التحرّر من الفرائض الموسوية التي كانت أكبر حاجز لدخول الوثنيين إلى الإيمان)، فارتداد الوثنيين سيثير بدوره "غيرة" اليهود ويساعد على قبولهم في الكنيسة.
* الإعتبار الثاني (آ 16- 21)
ظلّ الشعب اليهودي، رغم كفره، شعباً مقدساً، إما بسبب أعضائه الذين انضموا إلى المسيح فكانوا الباكورة، وإما بسبب الآباء الذين كانوا الجذور. فإن افتخر الوثنيون بوضعهم المسيحي فاحتقروا اليهود، فهم ينسون أنهم بفضل إسرائيل نالوا الخلاص، أنهم غصن برّي طعّم على شجرة قديمة، أنهم يتعرّضون لأن يُقطعوا بأسرع من الأغصان الطبيعية.
* الإعتبار الثالث (آ 22- 24)
تطعّم الوثنيون على زيتونة غريبة بواسطة رحمة الله، فعليهم أن يستلهموا هذا الحنان الإلهي نفسه في علاقتهم مع اليهود، وأن لا ينسوا أن اليهود يستطيعون أن يطعّموا إن هم عادوا إلى المسيح، وأن العبور من العالم اليهودي إلى العالم المسيحي هو أكثر طبَعية من العبور من الوثنيّة إلى المسيحية.
كيف نفهم القول في آ 15 (إن كان انتباذهم مصالحة للعالم، فماذا يكون قبولهم سوى عبور من الموت إلى الحياة)؟ حسب آ 12 وآ 15، إن مشاركة إسرائيل التامة (الملء، على مستوى الكمية وعلى مستوى النوعية تقابل سقوطهم وانحطاطهم) في الخلاص يجب أن تكون لكنيسة المسيح انتصاراً كبيراً، "حياة تنطلق من الموت"، أي حياة تعاد إلى الأموات. يرى عدد من الشرّاح في هذه الآية مجرّد إستعارة: إن عودة الشعب (إلى المسيح، إلى الكنيسة) هي عمل عجيب جداً، وتجّلٍّ ساطع لقدرة الله، لهذا نسميها قيامة كما في حز 37 (العظام اليابسة تعود إليها الحياة. هكذا الشعب) أو في لو 15: 24، 32 وعودة الإبن الضال (كان ميتاً فعاش). غير أن بولس يحدّد موقع دخول مجمل الوثنيين إلى الجماعة المسيحية قبل ارتداد إسرائيل. وهذا ما يدفعه إلى القول بأن هذا الإرتداد يكون خاتمة تاريخ الخلاص. وهكذا نكون في قيامة الأموات العامّة. ولكن العبارة ليست واضحة كل الوضوح، وهذا ما يمنعنا من أي استنتاج ثابت عن علاقة كرونولوجية دقيقة بين ارتداد اليهود والقيامة الأخيرة للأموات.
ج- المقطوعة الثالثة (11: 25- 32)
إن هذه المقطوعة تفتح أمامنا طريقاً معرية: فكفر إسرائيل يتبعه تعلّق مجمل الشعب بيسوع. في ف 11، كان بولس قد استشفّ مراراً هذا "الإرتداد" (11: 11، 12، 15، 23، 24). وها هو الآن يعلنه بشكل واضح جداً، ويرمي بواسطة هذا الإعلان إلى أن يجعل الوثنيين المرتدين يقيمون في التواضع. إنه يسمي هذا الحدث "السّر". وهي لفظة (ترد 20 مرة في رسائل مار بولس، رج روم 16: 25) تدلّ لا على "خفيّة" محفوظة للمتدرّجين، بل على حقيقة بدأت مستورة ثم عُرفت فقط بفضل وحي إلهي يرتبط بشخص المسيح. ونحن هنا أمام وجهة هامة من مخطط الله الخلاصّي في العالم. والإعلان الذي ينقله الرسول لا يفهمه جميع الشرّاح بشكل واحد. وهم يجادلون بشكل خاص حول معنى آ 26 (وهكذا يخلص جميع إسرائيل) وآ 31 (عصوا الآن من أجل رحمتكم لهم، لكي يرحموا هم أيضاً بتوبتهم). "جميع إسرائيل" يقابل "البقية" (آ 5) و"بعض من إسرائيل" (آ 25). لسنا أمام اليهود ننظر إليهم فرداً فرداً، بل أمام إسرائيل كمجموعة. والرباط ليس على مستوى الزمن، بل على مستوى السببية بين كفر إسرائيل وارتداد الوثنيين (آ 11). ولكن هناك من فهم "جميع إسرائيل" في معنى الكنيسة التي تضمّ جميع المؤمنين سواء جاؤوا من العالم اليهودي أو من العالم الوثني.
كتب بولس في 11: 25- 26: "لا أريد، أيها الإخوة، أن تجهلوا هذا السّر... وهو أن تصلّباً عرى بعضاً من إسرائيل، إلى أن يدخل ملء الأمم". قال بعضهم: اسرائيل يعني الشعب المختار. وقال آخرون: شعب الله الجديد.
في هذا القول لا يمكن أن يكون للفظة "إسرائيل" معنى غير ذاك الذي في العبارة السابقة مباشرة، حيث يدور الحديث حول قساوة قلب قسم من إسرائيل، أي قسم من الشعب المختار وحده. وهكذا فعبارة "جميع إسرائيل" تتعارض مع بقية اسرائيل وبعض اسرائيل. ثم إننا نجد في هذه العبارة رنة يهودية تقابل "ملء الوثنيين".
والآن كيف نقرأ آ 31؟ "كما أنهم عصوا الآن أيضاً على أثر الرحمة التي مورست تجاهكم، لكي يكونوا هم الآن أيضاً موضوع الرحمة". أو: "وهم أيضاً في الزمن الحاضر قد عصوا بفضل الرحمة التي مورست تجاهكم لينالوا هم أيضاً رحمة في الزمن الحاضر". إن عبارة "بفضل (على أثر) الرحمة التي مورست" هي تتمة للكلام السباق: اليهود قد "عصوا". وبعبارة أخرى، يرى الرسول في ارتداد الوثنيين عذراً لليهود لئلا يدخلوا في الإيمان المسيحي. وهذا الدخول سيتمّ فيما بعد بفضل رحمة الله وحدها.
ولكن ربط عدد من الشرّاح "بفضل الرحمة التي مورست نحوكم" بالعبارة التالية: "لكي ينال اليهود هم أيضاً الرحمة". هذا التفسير يتوافق مع ما قيل في 11: 11، 14، وما يتضمن نصّ 11: 26. ففي 11: 11، أكّد الرسول أن الدور الذي لعبه في المخطط الإلهي ارتدادُ الوثنيين هو إثارة الغيرة لدى اليهود ودفعهم للإرتباط بالمسيح. وهكذا نكون أمام نتيجة غريبة عما اكتشف بعضهم من معنى في آ 31. يقولون: إن عمق العناد وقساوة القلب لدى اليهود هو نتيجة ارتداد الوثنيين. ثم إن 11: 14 تستعيد مرّة أخرى فكرة المزاحمة التي عبرت عنها آ 11. ونجد الشيء عينه في آ 26 وإن بشكل ضمني. نحن هنا أمام مدلول سببي وزمني: بعد دخول مجمل الوثنيين إلى الكنيسة، وبفضل هذا الدخول (هكذا) يتم "ارتداد" جميع إسرائيل.
وضعنا لفظة "ارتداد" بين مزدوجين. ففي 11: 15 يتحدّث النصّ عن "قبول" (إدخال جديد) اليهود في جماعة المؤمنين بعد أن استبعدوا (نبذوا) عنها. لا شكّ في أننا نجد في 2 كور 3: 16 تلميحاً مباشراً إلى ارتداد اليهود، أما في روم فلا نجد لفظة ارتداد. لقد رأى بولس في ديانة المسيح تتمة لديانة الشعب الأول كما أرادها الله (رج روم 11: 26- 27؛ ق أش 59: 20- 21؛ 27: 9). لهذا فهو لا يتحدّث عن تبديل في الديانة. ونذهب أبعد من هذا فنقول: أعلن الرسول في 11: 28- 29 أن اليهود "محبوبون" (من الله) بسبب الآباء، "لأن مواهب الله ودعوته بلا ندامة". فهل يُعقل أن تزول المواعيد التي أُعطيت لهم؟ إنها تجد كمالها في يسوع المسيح.
وهناك الفكرة المقابلة: إن خلاص إسرائيل الذي يتحدّث عنه 11: 26 يرتبط (بواسطة أش 59: 20- 21) بتدخل إلهي مقبل، ويتضمن الإقرار بالطابع المسيحاني ليسوع وبلاهوته، وقبول التعليم الإنجيلي. على هذا المستوى، يجب أن يرتدّ اليهود، شأنهم شأن غيرهم. وكما أن قساوة قلب اليهود (المنسوبة إلى الله في 11: 7- 10) هي ثمرة إرادة بشرية رديئة وحرة، كذلك لا يتم ارتداد كل اسرائيل (المنسوب إلى تدخل الله في 11: 26) إلاّ بانقلاب داخلي حرّ، بتعلّق العقول والإرادات البشرية تعلّقاً حراً بالمسيح.
وتفسير 11: 31 يقودنا إلى التفكير بأن رحمة الله التي ستغمر في النهاية جميع اليهود ستجري من الينبوع نفسه الذي ينعم به الوثنيون: الإعتراف بيسوع كالمخلّص الوحيد. ففي 11: 17، 19، 20، دُعي اليهود الذين لم يقبلوا يسوع كالمسيح "أغصاناً مقطوعة" بسبب عدم إيمانهم (كفرهم). هذا ما كان أش 28: 16- 17 قد قاله: إن شعب الله في حقبة النعمة، هو في أساسه جماعة روحية ترتكز على الإيمان بالمسيح. و"اسرائيل الله" الذي يتكلّم عنه غل 6: 16 يتألّف من كل الذين تعلّقوا بالمسيح (يهود أو وثنيون)، ولا يتألّف إلا منهم.
ويشكل مديح حكمة الله (11: 33- 36) خاتمة لتعاليم حول مخطّط الله الخلاصي نقرأه في ف 9- 11 (المرتبطة مع ف 1- 8). هذا النشيد الشعري يتألّف من تعجّبين (يا لعمق غنى الله! كم أحكامه لا تُسبر!) ومن ثلاثة أسئلة متوازية تستلهم أش 40: 13، 28 وعدداً من النصوص الحكمية. "من عرف فكر الرب (إر 23: 18؛ أي 15: 8)؟ من كان له مشيراً (أش 40: 13)؟ من أسلفه عطاء فيردّ إليه (أي 41: 3)؟ أمّا الآية الأخيرة (منه، به، إليه) فتدلّ على فكر بيبلي وتعبير يعود إلى العالم الرواقي.
سنعود إلى هذا النصّ الذي فيه يعبرّ بولس عن إعجابه المليء بالسجود حين يتأمّل في حكمة الله الرحومة التي تعمل من أجل خلاص البشرية كلها رغم عصيان البشر.
خاتمة
في ف 1- 8، بيّن بولس أن التعليم عن التبرير بالإيمان يتوافق مع العهد القديم (رج 1: 17؛ 3: 21؛ 4: 1- 25). وفي ف 8- 9، بيّن أن هذا التعليم يتوافق أيضاً مع مخطّط الله تجاه اسرائيل. وهذا ما يتيح له أن يجيب على سؤال مؤلم يقضّ مضجعه: جهل إسرائيل (الشعب الذي هو موضوع الإختيار والوعد) تحقيق الوعد في يسوع المسيح، فصار بكفره وعدم أمانته خارج الخلاص. فهل فشلت كلمة الله؟ كلا (9: 6). إن المرحلة الحالية في مخطّط الله توافق المراحل السابقة. فداخل الشعب المختار تبقى مجانية الإختيار كما هي داخل العالم الوثني. الله يدعو ونحن نجيب على الدعوة فنصبح من شعبه. هنا لا فرق بين يهودي ووثني. الطريق الوحيد الذي يوصل إلى المسيح هو الإيمان بنعمة الرب يسوع. وبهذا الإيمان، وليس بشيء آخر، يخلص اليهود والوثنيون (رج أع 15: 11). كل البشر مرّوا في الخطيئة والعصيان. وكلهم يستطيعون أن يلجأوا إلى رحمة الله. بدأ الوثنيون وآمنوا، وسيأتي في النهاية دور اليهود الذين ينالون الخلاص كما نالته الأمم قبلهم.