الفصل الخامس
التبرير والخلاص
نبدأ هنا فندرس بنية الرسالة إلى رومة، علّنا نكتشف المواضيع الأساسية التي توسّع فيها الرسول. فنكتشف ثلاثة أقسام كبيرة: التبرير والخلاص (ف 1- 8)، وضع شعب اسرائيل (ف 9- 11) الذي جعل نفسه خارج خلاص الله حين رفض المسيح، القسم الإرشادي (ف 12- 15). أما ف 16، ففد سبق لنا ودرسناه.
1- مطلع الرسالة (1: 1- 17)
أخذ بولس بالعادة الرسائلية في أيامه، فبدأ في 1: 1- 7 بتقديم نفسه إلى قرّائه وبإرسال التحية إليهم. في 1: 8- 15 شكر الله من أجل إيمان الجماعة المسيحية في رومة، التي تجتذب أنظار سائر الكنائس بسبب موقعها في قلب الإمبراطورية. بعد هذا، عبرّ الرسول عن رغبته الحارّة بأن يزور هذه الجماعة. "إني أشتاق أن أراكم لأفيدكم شيئاً من المواهب الروحية لتأييدكم" (آ 11).
لقد رأى الشرّاح منذ زمن بعيد الأهمية الرئيسية لما في 1: 16- 17، الذي يعلن الموضوع العام للرسالة. إن عبارة "أنا لا أستحي بالإنجيل" هي إعلان يدلّ على تمسّك بإيمانه وأمانته. هنا نتذكّر تحذير يسوع: "من يستحي بي وبكلامي" (مر 8: 38 وز). قد يكون بولس عرف هذا القول بواسطة التقليد، فعبرّ عنه بطريقته الخاصة. ثم إنّ التأكيد بأن "الإنجيل هو قوّة الله لخلاص كل مؤمن"، يحيلنا إلى موضوع أساسي، موضوع كلمة الله التي نراها من الوجهة الديناميكية والوجهة العقلية. هي تبني تاريخ الخلاص، وفي الوقت عينه تجعل هذا التاريخ مفهوماً. سوف نرى فيما بعد المكانة الجوهرية التي يحتلّها فكر بولس في روم حول تاريخ الخلاص. هنا نتذكّر بشكل خاص أش 40- 55 الذي هو المرجع النبوي الرئيسي لكي نفهم نظرة بولس إلى "برّ الله". "هو قوّة الله لخلاص كل مؤمن". هذا ما يشدّد على وجهة الشمولية فيه. كل إنسان مدعوّ إلى الإيمان. وحين يؤمن إيماناً حقيقياً ينال الخلاص.
إنّ العبور من "اليهودي أولاً ثم اليوناني" لا يفهم فقط في معنى يقول إن الإنجيل كُرز به أولاً لليهود ثم لليونانيين. فبولس يذكر الدور المميّز الذي لعبه اليهود في تاريخ الخلاص. أما إيراد حبقوق (2: 4: البار بالإيمان يحيا) فسنعود إليه فيما بعد. إنّ الإنجيل هو وحي برّ الله، قوّة الله التي تخلّص المؤمن. والحياة لا تتوقّف عند هذا العالم، بل لها رنّة اسكاتولوجية، بل هي تفتحنا على الآخرة.
وبرّ الله ليس تلك العدالة التي تجازي كل واحد بحسب أعماله. بل هو البرّ الخلاصي، بل هو إرادة الله التي تتمّ مواعيد أُعطيت لنا بصورة مجانية. وهذا البرّ ليس محصوراً بإنسان من الناس أو بفئة من البشرية. إنه يتوجّه إلى كل إنسان، يتوجّه إلى جميع الشعوب.
"برّ الله يتجلّى بإيمان إلى إيمان". هي عبارة يصعب علينا فهمها. وقد قيل أيضاً: "من الإيمان إلى الإيمان". نحن نجد مثل هذه العبارة في 2 كور 2: 16: "لهؤلاء نعمة موت للموت، ولاولئك نعمة حياة للحياة". وفي 3: 18: "ونحن جميعاً، والوجه سافر، نعكس كما في مرآة مجد الربّ، فنتحوّل إلى تلك الصورة بعينها" (رج 4: 17). ماذا تعني هذه العبارة في روم 1: 17؟ من أمانة الله إلى إيمان المؤمن. أو: من إيمان الواعظ إلى إيمان السامع. أو: من الإيمان القديم إلى الإيمان الجديد. أو: الذي يأتي من الإيمان ويُنقل إلى الإيمان. أو: الذي فيه الإيمان هو الكلمة الأولى والأخيرة. هذا يعني أن الإيمان هو الشرط الضروري الوحيد لهذا الإيمان.
إنّ 1: 16- 17 هو قول نبوي. وهو قريب من إعلانات أخرى حول مجانية الخلاص في يسوع المسيح، نجدها في الأناجيل. نقرأ في مت 1: 21 عن يسوع "الذي يخلّص شعبه من خطاياهم". فماذا يستحقّ الخاطىء لكي يخلص؟ هو لا يستحق سوى العقاب الأبدي. ومع ذلك فالرب يقدّم له الخلاص. هنا نتذكر روم 3: 23- 24: "فالجميع قد خطئوا فأعوزهم مجد الله. والجميع بنعمته يتبرّرون مجاناً بالفداء الذي بالمسيح يسوع" (رج 5: 6- 9: مات عنا ونحن بعد خطأة). ونقرأ في مر 16: 15- 16: "من آمن واعتمد يخلص". كما في لو 19: 9- 10: "اليوم حصل الخلاص لهذا البيت". وحتى في أي 11: 13- 17 كما في السبعينية نكتشف إيمان البار وثقته بخلاص يتمّ له بالحكمة الإلهية. وكان بولس قد أعلن في 1 كور 1: 18- 21 مخطّط الله بأن يخلّص المؤمنين بقدرة الله وحدها: "حسُن لدى الله أن يخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة".
إنّ القول النبوي في 1: 16- 17 يعلن الأقسام الثلاثة في 1: 18- 15: 13. أولاً، 1: 18- 8: 39؛ ثانياً، ف 9- 11؛ ثالثاً: 12: 1- 15: 13. سوف نرى فيما بعد أن القسم الثاني (ف 9- 11) يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقسم الأول. وأنّ القسم الثالث يرتبط بالقسم الثاني والقسم الأولى.
سوف ندرس على التوالي بنية 1: 18- 8: 39. كما ندرس في هذا القسم الأولى النقائض الثلاث الأساسية. بعد هذا، نعود إلى بنية القسم الثاني وأفكاره الرئيسية. وفي النهاية نعود إلى القسم الثالث (12: 1- 15: 13) بوجهته الإرشادية والتحريضية. أما في هذا الفصل، فنتوقّف عند القسم الأول لندرس بنيته ومواضيعه.
2- بنية روم 1- 8
حتى وإن قلنا إن ف 1- 8 لا تنفصل كلّياً عن ف 9- 11، إلاّ أنّ الشرّاح يقرّون أن هذه الفصول الثمانية الأولى تمثّل في حدّ ذاتها وحدة أدبية وتعليمية، كما تمثّل مع ف 9 موضوعاً جديداً، أقلّه بصورة نسبيّة. ولكن ما هي بنية ف 1- 8؟
أ- آراء الشرّاح
أولاً: المعايير التعليمية
إنّ الأسلوب المتبع عادة لاكتشاف بنية روم 1- 8 هو اللجوء إلى المعايير التعليمية. فتدرّج الأفكار يقودنا لكي نميّز توسّعين متعاقبين. ولكن الإختلافات الهامة تبرز حين نحاول أن نعرف في أي موضع محدّد يتمّ العبور من موضوع تعليمي أول إلى موضوع ثانٍ يشكّل تكلمة له.
* علامة القطع هي بين ف 5 وف 6. من 1: 18 إلى 5: 21: الخطيئة والتبرير. ثم ف 6- 8: التقديس ونموّ الحياة المسيحية.
* علامة القطع هي في نهاية ف 4. في 1: 18- 4: 24: حديث عن التبرير، في ف 5- 8: تختلف وجهات الخلاص المسيحي ووضع الإنسان المبرّر.
* دور ف 5. هناك اختلاف حول طريقة فهمه. ما هو دوره؟ هناك من يربطه بما سبق، وآخرون بما لحق. وفئة ثالثة قسمته إلى جزئين. الأول (آ 1- 11) هو خاتمة ف 1- 4. والثاني (آ 12- 12) هو تهيئة للفصول 6- 8.
* واقترح عدد من الشرّاح بإلقاء الضوء على التدرج في أفكار ف 1- 8 بواسطة إيراد حب 2: 4. لا شك في أن الكلمات التي تعبرّ عن برّ الإيمان أو التبرير بالإيمان، ترد مراراً بين 1: 18 و4: 24، وتصبح نادرة فيما بعد. وهذا ما يقابل الشقّ الأول في نص حبقوق: "من هو بار بالنظر إلى الإيمان". أما الكلمات التي تدلّ على "الحياة"، فتتجاوب مع لفظة "يحيا" التي تنهي إيراد حبقوق. هي غائبة تقريباً في ف 1- 4 ومتواترة في ف 5- 8. هذا يعني أننا نختار: من هو بار بالإيمان يحيا. لا: البار يحيا بالإيمان.
فالتفسير الذي نأخذ به (من هو بار) يتوافق مع تعليم روم، الذي بحسبه لا ينشأ البرّ الذي يمنح الحياة الأبدية، لا ينشأ أساساً من الأعمال، بل من الإيمان. وهناك ملاحظتان تثبتان هذا التأويل. نجد توافقاً بين آ 16 وآ 17: "كل من يؤمن" يقابل "البارّ بالإيمان". أما "وعد الخلاص" فيقابل "يحيا". فالحياة التي يريد بولس أن يتحدّث عنها، ليست فقط حياة الإيمان. إنها كالخلاص واقع اسكاتولوجي. إذن، نحن أمام الحياة الأبدية، ولكن كما تدشّنت على هذه الأرض. وعن هذه الحياة تتحدّث مراراً روم. في 2: 7: "الحياة الأبدية للذين، بالصبر على العمل الصالح، يطلبون المجد والكرامة والخلود". في 5: 17، 18، 21: "سيملكون في الحياة بواحد، هو يسوع المسيح... يكون لجميع الناس تبرير الحياة... كذلك النعمة تمتلك بالبرّ للحياة الأبدية، بيسوع المسيح ربنا" (6: 4، 10، 11، 13، 22، 33؛ 7: 10؛ 8: 2، 6، 13؛ 10: 5؛ 12: 1).
ثانياً: ظواهر على المستوى الأدبي
إستند عدد كبير من الشرّاح إلى المعايير التعليمية. وقلّة منهم إلى ظواهر تدلّ على المستوى الأدبي. إنهم يرون أن النظرات المعروفة في بنية روم 1- 8 قد فُرضت من الخارج، ولم تأخذ، بما فيه الكفاية، بعين الإعتبار بطرق الكتابة. بل بدت مجرّدة لتليق بإنسان كان واعظاً ومرسلاً قبل أن يكون لاهوتياً يعالج الأمور من وراء مكتبه.
إنّ الدراسات التي تسير في هذا الخطّ ترى في ف 6- 7 (حيث تكثر الأسئلة: فماذا نقول إذن؟ أو نستمرّ على الخطيئة لتكثر النعمة؟) بل في قسم كبير من ف 5- 8، أجوبة بسيطة على اعتراضات المؤمنين أكثر منه عرضاً عقائدياً كتب من أجل العرض. ولماذا البحث في روم 1- 11 عن تصميم للأفكار، حين فكّر بولس أوّل ما فكّر في "تاريخ خلاص"؟ إن المجموعة الكبرى التي تبدأ في 3: 21 وتنتهي في 11: 36، تتميّز بالتناوب بين أجزاء عقائدية وأخرى برهانية.
وبدت في هذا الخطّ نظرتان. الأولى ترى في روم 1- 11 ثلاثة أجزاء، ويتكوّن كل جزء من طرح، وطرح معاكس، وطرح جامع: الزمن الماضي، زمن الشريعة والوعد (1: 18- 4: 25). الزمن الحاضر، زمن النعمة والتبنّي (ف 5- 8). الزمن المقبل، زمن الرحمة والملء (ف 9- 11). الثانية تميّز ثلاث نظرات زمنية: الزمن المقبل، زمن الخلاص الإسكاتولوجي (5: 1- 11 و8: 18- 39: أ- أأ). الزمن الحاضر، زمن الوجود المسيحي (6: 1- 14؛ 6: 15- 7: 8: ج- جج). العلاقة بين الحاضر والمستقبل (5: 12- 21؛ 7: 7- 8: 39: ب- بب).
ب- العلاقة بين روم وغل
أوردنا كل هذه الوجهات المختلفة في بنية ف 1- 8، لكي ندرك صعوبة المسألة وتشعّباتها. ونحاول أن نصل إلى حلّ يكون مرضياً. أما الطريق فالقرابة بين روم وغل.
أولاً: موضوع العلاقة
هناك قرابة لا شكّ فيها بين غل 3: 1- 6: 10 وبين روم 1- 8. وهي ستساعدنا على اكتشاف بنية القسم الأول في روم. إن خلاصاً مبنياً بناء زمنياً كان موضوع تعليم يسوع والكرازة الأولانية، وسيكون موضوع تعليم رسول الأمم في روم كما في غل. إنّ بولس يرى أن المسيرة الزمنية للخلاص هي إطار متين فيه تتسجّل الحياة المسيحية والفكر اللاهوتي.
في غل 3: 1- 6: 10، الخطّ الذي يوجّه فكر الرسول ويدرّجه، هو النظرة إلى تاريخ الخلاص، كما تمثّلتها المسيحية الأولى. من هذا القبيل نكتشف ثلاث مراحل. أولاً: حقبة التهيئة في العهد القديم كما صوّرها غل 3 إنطلاقاً من إبراهيم. ثانياً: حقبة مجيء الإبن المتجسّد إلى هذا العالم، ليضع حداً لعبودية "عناصر العالم" في البشرية كلها (4: 1- 20). ثالثاً: حقبة إحلال "أورشليم العليا" محلّ المجمع (العالم اليهودي)، بعد أن أحياها الروح الذي هو ينبوع حرّية (4: 21- 6: 10). ويبدو هذا التقسيم المثلّث واضحاً مع التأكيد العلني الذي هو في قلب الرسالة: "لما بلغ ملء الزمان، أرسل الله إبنه مولوداً من إمرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، وننال التبني" (غل 4: 4- 5). هذا التدخّل الإلهي الرئيسي في تاريخ البشرية الديني، قد تحدّد في الزمن وشكّل الحقبة الثانية. ما جاء قبله يقابل الحقبة الأولى، وما جاء بعده، الحقبة الثالثة.
ونستطيع الآن أن نعود إلى روم 1- 8. ونقول إنه من الخطأ أن نعتبر روم مجرّد توسّع في غل التي كانت لها الرسمة الأولى. روم هي مؤلّف جديد يتجاوب مع تصد آخر تحدّثنا عنه فيما قبل. فإن كان الأمر هكذا، يجب أن نلاحظ أن المراحل الثلاث في تاريخ الخلاص التي اكتشفناها في غل 3: 1- 6: 10 تجد ما يقابلها في روم 1- 8. مع العلم أنّ روم توسّع النظرة مع صعود مثلّث إلى بدايات البشرية عينها.
نترك التحليل المفصّل لتسلسل الأفكار في روم إلى القسم المخصّص للسوتيريولوجيا (أي: تاريخ الخلاص)، ونكتفي الآن بالإشارة إلى التوافق التام بين روم وغل في عرضهما لتاريخ الخلاص.
ثانياً: المرحلة الأولى والمرحلة الثانية
إنّ المرحلة الأولى في هذا التاريخ، وهي تهيئة التدبير المسيحي بيد الله، تشير (كما في غل) إلى مثال إبراهيم (روم 4)، وتعود حتى خلق العالم (1: 20: منذ خلق العالم، تُدرك قدرة الله وأزليته)، فتبيّن لنا أولاً كيف أنّ الأمم واليهود وجدوا نفوسهم مستعبدين للخطيئة (1: 18- 3: 20). ثم تعلن فيما بعد أن الله (الآب) قد قرّر أن يخلّص مجاناً جميع البشر بالإيمان بالمسيح: توسع يبدأ في 3: 21 وينتهي في 4: 25، بل 5: 11، لأن 5: 1- 11 يختتم كل ما سبق. "نفتخر بالله بربنا يسوع المسيح الذي به نلنا الآن المصالحة" (5: 11).
وتصوّر المرحلة الثانية في تاريخ الخلاص في روم 5: 12- 7: 6: إنها تشير إلى الحدث نفسه الذي قرأناه في غل 4: 1- 20. أي: التجسّد الفدائي الذي تقدّمه بشكل جديد جداً. ففي 5: 12- 21، يتأمّل الرسول في البشرية التي اجتمعت كلها في شكل من الأشكال، في البدايات، في آدم الخاطىء. ثم يضع مقابل ذلك استجماع جميع البشر في المسيح الفادي: كما أن بإنسان واحد... كذلك... هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تحاول المقطوعة (6: 1- 7: 6) أن توضح طبيعة وثمار الإتحاد (يصبح المؤمن مع المسيح جسداً واحداً) الذي يجعل المسيحيين متضامنين مع المسيح الذي مات عن الخطيئة مرة واحدة، وبحياته يحيا لله (6: 10). إن هذه المقطوعة تعلن على التوالي تحرّرنا من الخطيئة (6: 1- 14)، وواجبَ الإنسان المحرّر أن يكونَ في خدمة البرّ (6: 15- 23)، وتحرّرنا من الشريعة الموسوية (7: 1- 6).
ثالثاً: المرحلة الثالثة
تصوّر المرحلة الثالثة في تاريخ الخلاص في روم 7: 7- 8: 39. فالقسم الثالث من غل (4: 21- 6: 10) المخصّص للحياة" الروح التي يعيشها أعضاء أورشليم العليا، يقابله في روم تصويران متتابعان للإنسان الساقط والمستعبد للحم والدم وللخطيئة (7: 7- 25)، وللإنسان المحرّر بواسطة الروح القدس (ف 8). إن 7: 7- 25 هو نصّ شامل إلى آخر حدّ من الشمول. عاد بولس مرة ثالثة إلى أصول البشرية. فنحن نقرأ في 7: 7- 11 صورة عن مأساة عدن، تقابل الصورة التي نجدها في 8: 9- 21 (لستم في الجسد، بل في الروح). في كل هذا المقطع، يتجاوز الرسول تاريخ البشرية كله وهو يفكّر أن ما حصل في الفردوس الأرضي (تك 3) أو ساعة إعطاء الشريعة الموسوية، يتكرّر بشكل من الأشكال في حياة كل إنسان حين يكون أمام شريعة إلهية وضعية.
وخلاصة القول، إنّ جميع البشر يحتاجون إلى هذا التحرّر المتدرّج الذي يقوم به الروح (ف 8). ونحن نستطيع أن نجمل المضمون العام لهذا الفصل في تأكيدات ثلاثة: افتُدي الإنسان بالمسيح فصار روحياً وانتصر على البدن (اللحم والدم، ضعف الإنسان) والخطيئة والموت، شرط أن يحيا حياة الروح (آ 1- 17). فالذين لهم "باكورة الروح" ما زالوا يتألّمون، ولكن آلامهم (بل آلام العالم كله) هي آلام مسيحاوية مثل آلام يسوع (آ 18- 25). فالتلاميذ يجدون في محنهم عوناً من الروح الذي يتشفّع من أجلهم، ومن الآب الذي يوجّه آلامهم داخل مخطّط حبّه من أجلهم: أي: أن يصبحوا شبيهين بابنه الوحيد، وأن يتمجّدوا معه (آ 26- 30). وينهي نشيدُ الثقة الغالبة كل هذا التوسّع: فالتلميذ يعرف منذ الآن أنه قد انتصر. وهو متأكّد من حبّ الله ويسوع له.
لم يتوافق فكر بولس مع منطق مجرّد، بل التصق التصاقاً حميماً بمسيرة تاريخ الخلاص. وفي التوسّعات الثلاثة التي اكتشفناها في غل وفي روم، عبّر بولس عن كلّ العمل الخلاصي الذي تمّ في المسيح، فبدا لنا وكأنه يكرّر في المرحلة الثالثة ما قاله في المرحلتين السابقتين.
خاتمة
إن مسيرة الأفكار في ف 1- 8 ترضي الشرّاح الذين يبحثون عن بنية تتوافق مع نظرة العهد الجديد إلى تاريخ الخلاص. هنا نعود إلى قسمة لوقا لتاريخ الخلاص في المسيح عبر إنجيله وسفر الأعمال. ما بدأه يسوع قد تابعه التلاميذ. وهكذا نقول هنا إن عمل الروح المقدّس هو امتداد لعمل المسيح. وتدخّل الروح، كان جاء بعد تدخّل يسوع في الزمن، لا ينفصل عن التدخّل الأول.
وهذا ما نكتشفه أيضاً حين نقابل غل 3: 1- 6: 10 مع روم 1- 8. في غل، إرتبطت عطية الروح الذي يصرخ أبّا في قلب المسيحيين، بالمرحلة الثانية، المرحلة الاسكاتولوجية (غل 4: 6). أما في روم، فترتبط بعطية مشابهة بالمرحلة الثالثة، المرحلة البتفماتولوجية (مرحلة الروح القدس) (روم 8: 15). وهكذا يقول لنا بولس إن مرحلة تقابل مرحلة. ماذا كان إيراد حبقوق (رج روم 1: 17: الذي هو بارّ بالنسبة للإيمان) يعلن كل ما يلي حتى نهاية ف 8، نكتشف قسمين. قسم أول مخصّص للشقّ الأول من الإيراد (الذي هو بارّ بالنظر إلى الإيمان، 1: 18- 5: 11). وقسم ثانٍ مكرّس للشقّ الثاني من الإيراد (يحيا، 5: 12- 8: 39): يعيش المسيحي "في المسيح" (5: 12- 7: 6). ويعيش أيضاً يكفي الروح" (7: 6- 8: 39). أجل، ما اكتشفه بولس (في غل وفي روم) هو اجتياح الروح كحدث خلاصي يشكّل امتداداً لتدخّل المسيح، كما أن العنصرة في تاريخ الخلاص تتبع آلام المسيح وسّره الفصحي.